تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٥٥٥

ولا يسمّى تقريرا ، وقولنا : « عمّا اطّلع عليه » احتراز عن سكوته عمّا لم يطّلع عليه بالأسباب العاديّة المتعارفة ، لعدم كشفه عن رضاه فلا يسمّى تقريرا أيضا ، وقولنا : « من فعل إلى آخره » ، بيان للموصول قصد به تعميم التعريف بالقياس إلى موارد المعرّف ، فإنّه قد يتحقّق في فعل فعل بحضرته أو في عصره واطّلع عليه كشرب التتن أو شرب القهوة مثلا ، وقد يتحقّق في ترك شيء اطّلع عليه كما لو ترك أحد الأذان قبل صلاته ، أو القنوت في صلاته ، وقد يتحقّق في قول سمعه كما لو سئل عن مسألة فأجاب غيره ، وقد يتحقّق في اعتقاد اطّلع عليه سواء تعلّق بحكم فرعي ، كما لو سأله أحد عن البئر مات فيها فأرة أيّ شيء يطهّرها؟ « فقال : ينزح منها سبع دلاء » فقول السائل : « أيّ شيء يطهّرها؟ » يكشف عن اعتقاده بالتنجيس ، أو بحكم اصولي كما لو اطلع من أحد باعتقاده عينيّة صفاته تعالى أو بكفر المجسّمة ، فسكوته مع تمكّنه من الردع يكشف في الأوّل عن جواز الفعل بمعنى عدم حرمته ، وفي الثاني عن جواز الترك بمعنى عدم وجوبه ، وفي الثالث عن صدق القول بمعنى مطابقته في الواقع ، وفي الرابع عن صواب الاعتقاد بمعنى حقّيّته ، وقولنا : مع تمكّنه من الردع » احتراز عن سكوته عمّا لا يتمكّن من الردع عنه لمانع من خوف ضرر أو تقيّة أو غير ذلك ، فإنّه لا يكشف عن الرضاء فلا يسمّى تقريرا ، وزاد بعضهم قيد « احتمال العود » إليه (١) احترازا عمّا لا يحتمله مع كونه صغيرة مع عدم وجوب الردع حينئذ ، إذ لا محلّ له مع عدم احتمال العود.

والأولى ترك هذا القيد لأنّ عدم العود إلى الصغيرة [ يقتضي ] عدم صيرورتها كبيرة ولا يخرجها عن الحرمة ، ويجب عليه الردع عن الحرام حال الاشتغال بها وإن كان صغيرة لو كانت في زمان يسعه الردع عنها.

وأضعف من التقييد المذكور القول باعتبار عدم كون الفاعل جاهلا بحكم ما فعله بحضرته أو في عصره لو كان هو الحرمة ، لأنّه لا تكليف عليه باجتنابه فلا يجب على المعصوم ردعه عن ذلك ، فإنّ المعصوم يجب عليه ردع العالم والجاهل عمّا حرم في الواقع ، غير أنّه في الأوّل من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفي الثاني من باب تنبيه الغافل وإرشاد الجاهل ، وكلاهما واجبان عليه كما هو مقتضى منصبه ، وقد يعبّر عنهما بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعنى الأعمّ ، والجامع بينهما الردع عن الباطل بل هو

__________________

(١) أي زيادة قيد « احتمال العود » إلى الفعل الذي فعل بحضرته أو في عصره.

٤٦١

جامع بين الأفعال والتروك والأقوال والاعتقادات.

وبما قرّرناه يتبيّن : أنّ التقرير الّذي يتمسّك به لكونه حجّة ، ينضبط بكون مورده مورد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإرشاد الجاهل ، فإنّ الكلّ واجب عليه ، وعصمته دليل على أنّه لا يخلّ بالواجب من غير عذر.

والأولى أن يقال : إنّ تقرير المعصوم حجّة في كلّ مورد يجب عليه الردع عن الباطل ، وقضيّته أن يشترط حجّيّته بشروط وجوب الردع ، من الاطّلاع والتمكّن من الردع واحتمال التأثير وعدم المصلحة في تركه.

ومن هنا يعلم أنّ العمدة في دليل حجّيّة تقريره عصمته ، كما أشرنا إليه فإنّه لكونه معصوما لا يخلّ بما وجب عليه ، فسكوته عن الواقعة مع تحقّق شروط وجوب الردع عنها على تقدير البطلان إنّما هو باعتبار عدم وجوب الردع عنها ، وذلك يكشف عن رضاه بها ، وهو يلازم الجواز فعلا كانت أو تركا ، أو الحقّيّة قولا كانت أو اعتقادا.

ثمّ إنّ سكوته عن الردع قد يعلم كونه في محلّ اطّلاعه على الواقعة.

وقد يعلم كونه في محلّ عدم اطّلاعه على الواقعة ، وقد يحتمل الأمران.

وأيضا قد يعلم كونه في محلّ تمكّنه من الردع عنها ، وقد يعلم كونه في محلّ عدم تمكّنه من الردع عنها وقد يحتمل الأمران.

وأيضا قد يعلم كونه في محلّ احتماله تأثير ردعه ، وقد يعلم كونه في محلّ علمه بعدم التأثير وقد يحتمل الأمران ، ولا إشكال في صور العلم بل الإشكال في صور الاحتمال الّتي هي صور الشكّ.

فتارة في اطّلاعه على الواقعة ، واخرى في تمكّنه من الردع ، وثالثة في احتماله للتأثير ، فهل يوجد في المقامات الثلاث أصل يرجع إليه لإحراز أحد طرفي الشكّ أو لا؟

أمّا المقام الأوّل : فالظاهر وجود الأصل في جانب العدم وهو أصالة عدم اطّلاعه على الواقعة ، ولا ينافي نفي اطّلاعه بالأصل ما ورد في صفة الإمام أنّه عالم بما كان وما يكون ، لأنّ الظاهر أنّ علومهم إراديّة مع أنّ المراد نفي الاطّلاع من جهة الأسباب العاديّة لا العلوم الغيبيّة الّتي هي من صفات الإمام.

وأمّا المقام الثاني : فلا إشكال في أنّ الأصل فقاهة واجتهادا يقتضي التمكّن.

أمّا الأوّل : فلأصالة عدم طروّ المانع من خوف أو موجب ضرر آخر.

وأمّا الثاني : فلأنّ الأصل في أفعال كلّ فاعل مختار كونها اختياريّة ، والظنّ يلحق

٤٦٢

الشيء بالأعمّ الأغلب ، ومنه سكوت المعصوم عن الردع فإنّه على تقدير استناده إلى عدم التمكّن من جهة المانع كان اضطراريّا وهو موضع شكّ ، والأصل يقتضي كونه اختياريّا ، وإنّما الإشكال في حجّيّة تقرير احرز بالأصل.

فقد يتوهّم : كونه حجّة حيث فرّق بين الأصل المذكور في المقام الأوّل والأصل في المقام الثاني ، في أنّ نتيجة الأوّل مع عدم حجّيّة التقرير ، ونتيجة الثاني حجّيّته ، وفيه : نظر بل منع لأنّ تقرير المعصوم ليس كقوله في الحجّيّة ، فإنّ مناط حجّيّة قوله الظهور اللفظي وإن احرز بمعونة أصل عملي أو اجتهادي ، بخلاف تقريره ، فإنّ مناط حجّيّته الكشف عن رضا المعصوم باعتبار عصمته الباعثة على استحالة إخلاله بما وجب عليه من دون عذر ، وهذا حكم عقلي ولذا عدّ التقرير من الأدلّة اللبّيّة ، ومن دأب العقل أنّه ما لم ينسدّ عنده في قضايا حكمه باب الاحتمال لا يحكم بشيء ، واحتمال عدم التمكّن من الردع لا يرتفع بشيء من الأصلين كما لا يخفى ، فالوجه عدم الحجّيّة ولو فرض اندراج الظنّ الحاصل منه بضميمة الأصل الاجتهادي في حجّيّة مطلق ظنّ المجتهد ، فهو ليس من حجّيّة تقرير المعصوم في شيء.

وأمّا المقام الثالث : فلا يوجد فيه أصل يحرز به أحد طرفي الشكّ ، فسكوته نظرا إلى قيام احتمال علمه بعدم تأثير ردعه في الارتداع لا ينافي الحرمة ، فلا يكشف عن رضاه الملازم للجواز الواقعي ، فلا يكون تقريره حينئذ حجّة.

والسرّ فيه : أنّ تقرير المعصوم كفعله في السقوط عن الحجّيّة حيث صار مجملا باعتبار عدم معلوميّة وجهه ، والتقرير عند قيام الاحتمال الغير المنافي لحرمة ما فعل بحضرته أو في عصره ـ كاحتمال علمه بعدم تأثير ردعه ـ مجمل لا يكشف عن الرضا فلا يكون حجّة ، وحيث خرج عن الحجّيّة باعتبار طروّ الإجمال فلا فرق فيه بين كونه مجملا من جميع الجهات كما لو احتمل في سكوته علمه بعدم تأثير ردعه كما عرفت ، أو من بعض الجهات فيخرج عن الحجّيّة في محلّ إجماله وله صور كثيرة :

منها : سكوته على من ترك القنوت في صلاته واحتمل في حقّه النسيان ، فإنّه لا ينافي وجوبها في حال التذكّر ، فلا يدلّ على رضاه بجواز تركه مطلقا.

ومنها : سكوته على من لبس الحرير في الحرب مع احتمال كونه لضرورة الحرب ، فالقدر المتيقّن منه دلالته على الرضا في خصوص حال الحرب لا سائر الأحوال.

٤٦٣

ومنها : سكوته على من كفّر في صلاته واحتمل في حقّه التقيّة ، فلا يدلّ على جوازه في غير حال التقيّة.

ومنها : سكوته على من أكل لحم الإرنب مع احتمال كونه لأجل الاضطرار إلى أكله لسدّ الجوع ، فلا يدلّ على إباحته مطلقا حتّى في غير حال الاضطرار.

ومنها : سكوته على من أكل طين الأرمن مع قيام احتمال كونه للتداوي ، فلا يدلّ على إباحة أكله في غير مقام التداوي.

[ منها ] : سكوته على من شرب الفقّاع واحتمل في حقّه الجهل بالموضوع ، فلا يدلّ على إباحته في حقّ العالم.

ففي الجميع يجب الاقتصار على القدر المتيقّن والتوقّف في غيره ، لمكان إجمال التقرير بالقياس إلى ما عدا المتيقّن ، ومرجع الجميع إلى عدم حكم العقل بالنظر إلى الإجمال الناشئ عن الاحتمال ، فليتدبّر.

ثمّ إنّ من تقرير المعصوم فيما فعل في عصره واطّلع عليه ، وتمكّن من ردعه ولم يردع السيرة الّتي يتمسّك بها الفقهاء في أبواب الفقه من العبادات والمعاملات ، فمن الاولى ما تمسّكوا به للصلاة في الصحاري المتّسعة ، ومن الثانية ما تمسّكوا به للمعاملة المعاطاطيّة ، فإنّ مناط حجّيّتها كشفها عن تقرير المعصوم من النبيّ أو الإمام ، ولذا يعتبر فيها كونها قديمة مستمرّة من زمن النبيّ أو أعصار الأئمّة عليهم‌السلام ، فلو كانت حادثة في الأزمنة المتأخّرة عن أعصارهم لا عبرة بها ، وكذلك ما شكّ في حدوثها وقدمها.

ومن السيرة الكاشفة عن التقرير الكاشف عن رضا المعصوم الملازم للواقع بناء العقلاء الّذي لا يزال العلماء يتمسّكون به في الجملة ، فإنّ موارد التمسّك به مختلفة ، فقد يتمسّك به في الامور اللغويّة ومنه بناء العقلاء على ذمّ العبد التارك لامتثال أمر مولاه ، فإنّه يكشف عن فهمهم الوجوب من الأمر ، فيثبت به كون الأمر حقيقة في الوجوب ، وقد يتمسّك به في المطالب العقليّة ، ومنه بناء العقلاء على مدح من أحسن على المسيء وذمّ من أساء على المحسن ، فإنّه يكشف عن حكم العقل باستحقاق الأوّل للمدح والثاني للذمّ ، فيثبت به حسن الإحسان وقبح الإساءة.

وقد يتمسّك به في الأحكام الشرعيّة كجواز أخذ الماء واستعماله من الأنهار المملوكة في الصحاري والأملاك من دون مراعاة إذن مالكيها ، وهذا الأخير من السيرة الكاشفة عن

٤٦٤

التقرير الكاشف عن رضا المعصوم دون الأوّلين ، فيعتبر فيه الاتّصال بأزمنة المعصومين.

تنبيهان :

أحدهما : لو فعل أحد في حضور المعصوم فعلا كما لو اغتسل مرتمسا في نهار رمضان مثلا ، ونهى عنه غير المعصوم وسكت هو عنهما معا ، فقد يتوهّم أنّ هذا من تعارض التقريرين تقريره الفاعل على فعله ، والناهي على نهيه ، فالأوّل يكشف عن جواز الفعل المستلزم لكون نهي الناهي في غير موقعه ، والثاني يكشف عن كون النهي في موقعه المستلزم لعدم جواز الفعل ، ولا يخفى ما بينهما من التدافع للزوم التناقض ، فلابدّ من الأخذ بأحدهما وطرح الآخر رفعا للتّعارض ، والوجدان يساعد على تقديم التقرير على النهي الكاشف عن عدم جواز الفعل ، وإنّما اكتفى الإمام في الردع عنه بنهي غيره لحصول الغرض به ، نظرا إلى كون وجوب الردع عن المحرّم من باب النهي عن المنكر من الكفائي الّذي يسقط بفعل البعض عن غيره ، والأوجه هو منع انعقاد التقرير بالنسبة إلى الفعل نظرا إلى الحكمة المذكورة.

ثانيهما : قد يتوهّم وقوع التعارض بين تقرير المعصوم وردعه فيما صدر في حضوره فعل من أحد ثمّ صدر ذلك أيضا من واحد آخر وسكت المعصوم عن الأوّل وردع الثاني ، فالأوّل يدلّ على جواز ذلك الفعل والثاني على حرمته ، وهذا محال للزوم التناقض فلابدّ من ترجيح الردع اكتفاء بردع أحد الفاعلين عن ردع الآخر لحصول الغرض ، نظرا إلى المشاركة في التكليف ، وربّما يمكن الجمع بكون من قرّره حكمه الظاهري هو الجواز لابتلائه بموجب التقيّة ، وكون الثاني حكمه الواقعي هو المنع والحرمة لعدم ابتلائه بموجب التقيّة فليتأمّل.

* * *

٤٦٥

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

ـ تعليقة ـ

في الأدلّة العقليّة

واعلم أنّهم قسّموا طرق الأحكام الشرعيّة إلى الأدلّة الشرعيّة كالكتاب والسنّة والإجماع والأدلّة العقليّة المنقسمة إلى الأقسام الآتية ، وانتساب الدليل في القسم الثاني إلى العقل كما هو مفاد « ياء » النسبة إنّما هو باعتبار استناد ثبوت الملزوم في الملازمة الّتي بينه وبين الحكم الشرعي أو ثبوت نفس الملازمة أو ثبوتهما معا إلى العقل ، ويقابله الدليل الشرعي وهو ما لا مدخليّة للعقل فيه أصلا ، بأن يستند أحدهما أو كلاهما إلى الشرع فقط.

وتوضيح المقام : أنّ الدليل بحسب عرف المنطقيّين وإن كان مركّبا عبارة عن مجموع مقدّمتي القياس ، إلاّ أنّه في لسان الاصوليّين ـ على ما تنبّه عليه غير واحد من المحقّقين شاع ـ إطلاقه على المفرد وهو الأوسط ، سواء كان لازما للأصغر وملزوما للأكبر ، أو لازما لهما ، أو ملزوما لهما ، أو ملزوما للأصغر ولازما للأكبر على ما هو الضابط المقرّر في الأشكال الأربعة ، ومنه إطلاقه على الأربع المعروفة في أدلّة الأحكام الشرعيّة لكونها بأسرها مفردات بهذا المعنى.

ولا ينافيه تعريفهم له ب « ما يمكن التوصّل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري » بتوهّم أنّ النظر المأخوذ فيه عبارة عن ترتيب امور معلومة للتأدّي إلى مجهول ، فلا يكون إلاّ في المركّب.

إمّا لأنّ بناء التعريف على مصطلح أهل المنطق ، فإنّه غير مهجور عندهم لشيوع إطلاقه عليه أيضا في لسانهم.

أو لصدق النظر بهذا المعنى مع انضمام الغير إليه إذ هو على هذا الاصطلاح ممّا لا مناص

٤٦٦

عنه لاستحالة التأدّي والتوصّل بدونه ، ولا ملازمة بين أخذ التركيب في مفهوم النظر وبين أخذه في معنى الدليل لبناء كلّ على الاصطلاح ولا مشاحّة فيه ، فتأمّل.

والأوجه الأوّل ، فدليل حدوث العالم عند المنطقي هو مجموع قولنا : « العالم متغيّر ، وكلّ متغيّر حادث » وعند الاصولي هو « المتغيّر ».

ومن الأعلام من مثّل مكان الأوسط بالأصغر حيث قال ـ في تضاعيف مسألة التقليد في اصول الدين عند شرح الدليل ـ : « فالعالم عند الاصوليّين دليل على إثبات الصانع وعند المنطقيّين العالم حادث وكلّ حادث له صانع » (١) وهذا يقتضي أن يكون دليل حدوث العالم أيضا عند الاصوليّين هو العالم.

وهذا بظاهره غير سديد لأنّ « العالم » من حيث هو ملزوم للحدوث ، ومن المستحيل نهوض الملزوم دليلا على لازمه في موضع الشكّ في لزومه له.

وغاية ما يمكن أن يقال في توجيهه هو : أنّ العالم من حيث إنّه متغيّر دليل ، وهذا أيضا لا يتمّ ، لأنّ المتغيّر له اعتباران : اعتبار كونه لازما للعالم ، واعتبار كونه ملزوما وإنّما يكون دليلا إذا اخذ بالاعتبارين لا بالاعتبار الأوّل فقط.

ومرجع التوجيه إلى فرض « المتغيّر » باعتبار كونه لازما للعالم دليلا وهو خلاف الاصطلاح.

وبعبارة اخرى : أنّ الأوسط قد يؤخذ باعتبار الملازمة بينه وبين الأصغر ويتولّد منه الصغرى ، وقد يؤخذ باعتبار الملازمة بينه وبين الأكبر ويتولّد منه الكبرى ، وإنّما يكون دليلا في مصطلح الاصولي إذا اخذ بالاعتبارين معا.

بل لنا أن نقول ـ بالنظر إلى ظاهر إطلاقاتهم ـ : إنّه يكون دليلا إذا اخذ بالاعتبار الثاني فقط ، كما يفصح عنه إطلاقهم الدليل على الأربع الّتي كلّها أوساط مأخوذة بهذا الاعتبار لا غير ، كما يعلم وجهه بأدنى تأمّل.

وكان السرّ في إحداث هذا الاصطلاح أنّ العمدة في التوصّل والجزء الأعظم من المركّب إنّما هو الأوسط بالاعتبارين بل بالاعتبار الثاني ، حتّى أنّ بعضهم سمّاه بالجزء المقوّم ، فغلب اسم الكلّ على جزئه الأعظم ، مراعاة لمناسبة أنّ محطّ نظرهم في مباحث الفنّ هو الأدلّة الأربع المأخوذة بالاعتبار المذكور ، فالأوسط المأخوذ بهذا الاعتبار ملزوم في الملازمة بينه وبين الحكم الشرعي في أدلّة الأحكام الشرعيّة فهو مع هذه الملازمة إن كانا

__________________

(١) القوانين ٢ : ١٩٦.

٤٦٧

بحيث احرز أحدهما أو كلاهما بالعقل يقال له : الدليل العقلي ، وإلاّ يقال له : الدليل الشرعي.

وهذا البيان في الكتاب والسنّة واضح ، لاستناد ثبوت الملزوم فيهما ـ باعتبار كونه كلام الله أو قول امنائه أو فعلهم أو تقريرهم ـ إلى الشرع.

وكذا الإجماع على طريقة أصحابنا القائلين بحجّيته من حيث الكشف عن قول المعصوم تضمّنا أو التزاما عقليّا أو عاديّا ، فإنّ الملازمة حينئذ معتبرة بين الإجماع الكاشف والحكم الشرعي ، فصحّ استناد الملزوم وهو الإجماع الكاشف إلى الشرع ، لأنّ النسبة يكفي فيها أدنى ملابسة.

وأمّا على طريقة العامّة القائلة بحجّيّته لذاته ومن حيث هو ، فثبوت الملزوم وهو الإجماع بمعنى الأقوال المحترمة من الامّة وإن لم يكن مستندا إلى الشرع حيث لا التفات لهم إلى جهة الكشف ، إلاّ أنّ الملازمة بينه وبين الحكم الشرعي تثبت عندهم بالشرع ، كما يعلم ذلك بملاحظة استدلالهم لإثباتها بجملة من الآيات والروايات.

لا يقال : إنّ الضابط المذكور بالقياس إلى الأدلّة غير متحقّق في الكتاب والسنّة ، فإنّ كلام الله تعالى كقول امنائه أو فعلهم أو تقريرهم إنّما يكشف عن الحكم الشرعي لملازمة واقعيّة أثبتها العقل بواسطة استحالة الكذب عليه تعالى وعليهم ، مضافا إلى عصمتهم.

لأنّ الملازمة هاهنا بعد ما ثبت في المسائل الكلاميّة من وجوب حكمته وصدقه تعالى وامتناع الكذب وفعل القبيح عليه ووجوب عصمة امنائه الملزومة لصدقهم ، لا تفتقر إلى إثبات في لحاظ الاستدلال بها على الأحكام الشرعيّة ، لينظر في أنّ المثبت لها هل هو الشرع أو العقل ، بل هي بعد ثبوت الصفات المذكورة في المسائل الكلاميّة بالقياس إلى كلامه تعالى وقول امنائه وغيره ممّا ذكر ضروريّ الثبوت ، بل بمثابة القضايا الّتي قياساتها معها.

وبالجملة ليس الغرض من الأدلّة العقليّة المقامة على الصفات المذكورة إثبات الدليليّة لهذه الامور لتكون الملازمة الّتي هي الدليليّة مستندة في ثبوتها إلى العقل بل الغرض إنّما هو تحصيل المعرفة المعتبرة في تحقّق الإيمان أو كماله.

ثمّ إذا أخذنا بها في مقام الاستنباط كانت الملازمة بينها وبين الأحكام الشرعيّة من القضايا الّتي قياساتها معها من غير حاجة لها إلى إثبات بالشرع أو العقل.

وهو السرّ في عدم تعرّض الاصوليّين في المباحث الاصوليّة لإثبات هذه الملازمة ، كما تعرّضوا لها في الإجماع أو العقل أو غيرهما من الأدلّة الغير العلميّة.

٤٦٨

وتوهّم أنّ الملازمة حينئذ مستندة إلى الصفات المذكورة المستندة إلى الأدلّة العقليّة الكلاميّة فصحّ استنادها إلى العقل ، لأنّ المستند إلى المستند إلى شيء يستند إلى ذلك الشيء ، مضافا إلى أنّ المتكلّمين يستدلّون في إثبات العصمة لامناء الله تعالى بأنّه لولاها لارتفع الوثوق بقولهم في الإخبار عن الله تعالى أو عن رسوله ، وقضيّة ذلك كون النظر في مسألة إثبات العصمة إلى إثبات الملازمة بين قولهم وما يخبرون به من الأحكام والشرائع.

يدفعه : أنّ المراد من استناد ثبوت الملزوم أو الملازمة إلى الشرع أو العقل ما يكون أوّليّا ، وهو أن يكون الاستناد بدون توسّط شيء آخر ، وإلاّ كانت الأدلّة بأسرها عقليّة لانتهاء حجّية الجميع إلى العقل ، وليس النظر في الاستدلال المذكور في المسألة الكلاميّة إلى الاستدلال على الملازمة بدليل العصمة ، بل إلى الاستدلال على العصمة بملزوم الملازمة أو عينها ، وذلك لأنّه لمّا ثبتت في المطالب الكلاميّة أنّ غرضه تعالى ومقصوده الأصلي من إرسال الرسل ونصب الأوصياء إنّما هو تبليغ الأحكام والشرائع إلى العباد ، ولا يتمّ ذلك إلاّ بعصمتهم المانعة عن الكذب والخطأ والسهو والنسيان فلولاها لزم نقض الغرض ، لارتفاع الوثوق عن قولهم مع احتمال أحد المذكورات ، ودليليّة قولهم مثلا من لوازم هذه الفائدة بلزوم ضروريّ غير مفتقر إلى إثبات ولا استدلال.

ولو سلّم كونها عينها فاستناد ثبوتها إلى الشرع من حيث إنّها فائدة قصدها الله تعالى من إرسال الرسل ونصب الأوصياء أولى من استناده إلى العقل.

وبما قرّرناه في ضابط الدليل الشرعي ظهر أنّ ما عن الفاضل التوني في الوافية (١) وتبعه بعض الأعاظم من جعل ما ثبت فيه كلّ من الملزوم والملازمة بالشرع ـ كالملازمة بين القصر والإفطار ـ دليلا عقليّا ، ليس على ما ينبغي.

وقد يوجّه : بأنّ الملازمة في نحو ذلك وإن ثبتت بالشرع إلاّ أنّ اللازم يثبت بالعقل لحكمه بعدم انفكاك اللازم عن الملزوم بل استحالة انفكاكه ، ويزيّفه : أنّ الملازمة إذا ثبتت بالشرع فلا حاجة إلى حكم من العقل بعدم الانفكاك أو استحالته إلاّ من باب تأكيد حكم الشرع ، إذ الملازمة من الملزوم بمعنى استحالة انفكاك الملازم عن الملزوم أو عدم انفكاكه ، فاللازم يستند في ثبوته إلى الشرع ، ولو فرض هاهنا حكم من العقل أيضا كان تأكيدا لحكم الشرع ، وكذا الحال على تقدير كون القضيّة اتّفاقيّة ، فبعد حكم الشرع فيها بالملازمة

__________________

(١) الوافية : ٢١٩.

٤٦٩

لا معنى لحكم العقل حينئذ إلاّ من باب تأكيد حكم الشرع.

ولعلّ مبنى الاعتبار المذكور على توهّم كون الجهة في إثبات الدليل إلى العقل أو الشرع انتساب الحكم المستفاد منه إلى أحدهما ، وهو ـ مع بعده في نفسه وظهور خلافه من كلماتهم ـ لا يتمّ أيضا كما عرفت ، فالوجه في هذا النوع ونحو هذا المثال عدّه من الأدلّة الشرعيّة.

ثمّ إنّ الدليل العقلي على ما عرّفوه : « حكم عقليّ يتوصّل به إلى حكم شرعي ». وظاهر أنّ الدليل العقلي قسم من الدليل المطلق وأخصّ منه ، والمقصود من تعريفه معرفته من حيث الخصوصيّة الّتي بها يمتاز عن مشاركاته في الماهيّة لا من حيث الماهيّة المشتركة الموجودة فيه.

وقد يتوهّم أن قضيّة كونه أخصّ اشتمال تعريفه على ما اشتمل عليه تعريف الأعمّ مع زيادة ، وممّا اشتمل عليه تعريف الدليل كما تقدّم قيدا « الامكان » و « صحيح النظر » ولا معنى لإخلاء تعريف الدليل العقلي عن هذين القيدين.

ويزيّفه ـ بعد تسليم لزوم اعتبار هذين القيدين في تعريف الأعمّ ـ : أنّ عدم أخذهما في تعريف الأخصّ لا يخلّ بصحّته ، لما بيّنّاه من أنّ الغرض من تعريف الأخصّ معرفة الجهة المميّزة لا معرفة الجهة المشتركة لئلاّ يلزم تحصيل الحاصل ، نظرا إلى حصول المعرفة من هذه الجهة بتعريف الأعمّ.

وبالجملة تعريف الأخصّ إنّما يقصد به إيضاح حال المعرفة باعتبار الخصوصيّة المأخوذة فيه لا باعتبار الماهيّة الموجودة فيه.

فتعريف الدليل العقلي يقصد به معرفته من حيث كونه عقليّا لا من حيث كونه دليلا ، لحصول معرفته من هذه الحيثيّة بتعريف الدليل ، فلا يجب اشتماله على كلّ ما اشتمل عليه تعريف الدليل ، وقولنا : « حكم عقلي » في جنس هذا التعريف أعمّ من حكم العقل بما يرجع إلى إحراز الملزوم كحكمه بقبح الظلم والعدوان وحسن العدل والإحسان ، وحكمه بما يرجع إلى إثبات الملازمة كما في مقدّمة الواجب وضدّ المأمور به ، بناء على كون المسألة فيهما عقليّة باحثة عن الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّماته ، والملازمة بين الأمر بالشيء وحرمة ضدّه ، ونحوهما الملازمة بين حكم الأضعف وحكم الأقوى ، كما في التعدّي عن التأفيف إلى الضرب والشتم في الحرمة ، لحكم العقل بالملازمة بين حكميهما بناء على كونه من باب القياس لا مفهوم الموافقة ، فيشمل التعريف كلا قسمي الدليل العقلي من المستقلاّت والاستلزامات.

٤٧٠

فما سبق إلى بعض الأوهام من نقض عكسه بمثل وجوب المقدّمة وحرمة الضدّ وغيرهما من الاستلزامات ـ تعليلا بأنّ ظاهر عبارة التعريف تغاير الحكمين ليتوصّل بأحدهما إلى الآخر ، إذ يستحيل التوصّل بدونه ، وحكم العقل في الموارد المذكورة وهو الوجوب والحرمة متّحد مع حكم الشرع ، إذ ليس حكم المقدّمة والضدّ شرعا إلاّ الوجوب والحرمة ـ ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه ، إذ ليس حكم العقل في المسألتين وغيرهما هو الوجوب والحرمة ، بل حكمه بالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّماته أو حرمة ضدّه ، وبذلك يتوصّل إلى الحكم الشرعي وهو وجوب المقدّمة في مسألة طيّ مسافة الحجّ ، وحرمة الضدّ كالصلاة في المسجد مكان إزالة النجاسة عنه.

ولا ريب أنّهما متغايران ، وعلى تقدير كون حكم العقل في الموارد المذكورة هو الوجوب والحرمة يتطرّق المنع إلى اتّحاده مع حكم الشرع ، لوضوح أنّ حكم العقل فيها إنّما هو الوجوب أو الحرمة بمعنى مفهوم الوجوب والحرمة ، والحكم الشرعي الّذي يتوصّل إليه إنّما هو مصداق الوجوب والحرمة ، وهو المعنى الإنشائي الجزئي الحقيقي القائم بنفس الآمر.

وبذلك ظهر أنّه لا حاجة في التفصّي عن النقض إلى تكلّف الالتزام بالتغاير الاعتباري الحاصل باعتبار الحاكم ، بدعوى : أنّ وجوب المقدّمة من حيث إنّ الحاكم به العقل يغايره من حيث إنّ الحاكم به الشرع.

وقولنا : « يتوصّل به إلى حكم شرعي » معناه تأثير الحكم العقلي في التوصّل إلى الحكم الشرعي ، بحيث يسند إليه التوصّل في العقل والعرف إسنادا حقيقيّا.

وبهذا يندفع ما قد يورد على التعريف : من أنّ التوصّل به إلى الحكم الشرعي إن اريد به كون الحكم العقلي علّة تامّة للتوصّل انتقض عكس التعريف رأسا ، إذ ليس في الأحكام العقليّة ما يكون علّة تامّة للتوصّل ، إذ غايته كون الحكم العقلي إحدى مقدّمتي القياس الّذي يستحيل التوصّل بدونه.

وإن اريد به مجرّد المدخليّة في التوصّل انتقض طرد التعريف بالمقدّمات العقليّة المعمولة في تتميم الاستدلال بالدليل الشرعي الموصل إلى الحكم الشرعي كوجوب اللطف ، وقبح الخطاب بما له ظاهر وإرادة خلافه ، وقبح الإغراء بالجهل ، وقبح تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وقبح النسخ قبل حضور الوقت ، وقبح التكليف بما لا يطاق وغير ذلك.

وقلّما يتّفق في الأدلّة الشرعيّة ما لا حاجة في تتميم الاستدلال به إلى بعض هذه

٤٧١

المقدّمات ، فيلزم أن يصدق على الحكم المستفاد من الأدلّة الشرعيّة كونه ما يتوصّل إليه بحكم عقلي وهو باطل ، لأنّه لا يقال عليه : إنّه حكم مستفاد من الدليل العقلي.

وقولنا : « حكم شرعي » يراد به الحكم الفعلي الّذي يجب التديّن به وبناء العمل عليه ، سواء كان حكما واقعيّا كوجوب ردّ الوديعة وحرمة الظلم المتوصّل إليهما بواسطة الحسن والقبح العقليّين ، أو حكما ظاهريّا معلّقا على عدم ورود الشرع بالخلاف كإباحة تناول الأشياء النافعة الخالية عن أمارات المفسدة المتوصّل إليها بواسطة الحسن العقلي ، بمعنى عدم كون الفعل على صفة توجب استحقاق الذمّ.

لا يقال : قضيّة ذلك دخول موضوع مسألة الإباحة والحظر في عنوان مسألة التحسين والتقبيح العقليّين ، فيلزم كون الأشياء المذكورة من المستقلاّت العقليّة ، وهذا ينافي ما يوجد في كلام القائلين بالتحسين والتقبيح العقليّين من التصريح بكون هذه الأشياء ممّا لا يستقلّ العقل فيها بإدراك حسن ولا قبح.

ومن ذلك عبارة الفاضل الجواد قائلا : « الأشياء الغير الضروريّة عند المعتزلة قسمان ما يدرك العقل حسنها وقبحها وينقسم إلى الأحكام الخمسة ـ إلى أن قال ـ : وما لا يدرك العقل حسنها ولا قبحها لكنّها ممّا ينتفع بها ، كشمّ الورد وأكل الفاكهة مثلا ، فهذه قبل ورود الشرع ممّا اختلف في حكمها » إلى آخر ما ذكره (١).

لأنّا لا نسلّم أنّ كلّ القائلين بالتحسين والتقبيح العقليّين صرّحوا بذلك ، ولو صرّح به بعضهم فهو مبنيّ على مختاره في هذه الأشياء من منع إدراك العقل فيها حسنا وقبحا ، وستعرف أنّه أحد أقوال المعتزلة في تلك الأشياء تبعا للأشاعرة وهو لا ينافي كونها عند غيره ممّا يدرك العقل حسنها الملزوم للإباحة كما عليه أكثرهم أو قبحها الملزوم للحظر كما عليه جماعة منهم.

وممّا يشهد بذلك أيضا تعبيرهم عن عنوان مسألة الحظر والإباحة على مذهب الأشاعرة بمسألة « التنزّل » بمعنى أنّ الأشاعرة نازعوا العدليّة في مسألة التحسين والتقبيح العقليّين فأنكروا إدراك العقل فيها الحسن والقبح بالكلّية على طريقة السلب الكلّي قبالا لقول العدليّة بالإدراك على طريقة الإيجاب الجزئي.

ثمّ سلّموا الإدراك في الجملة من باب التنزّل والمماشاة وأنكروه في الأشياء النافعة

__________________

(١) شرح الزبدة ـ للفاضل الجواد ـ.

٤٧٢

قبل ورود الشرع ووافقهم جماعة من المعتزلة ، ولولا هذه الأشياء من جزئيّات عنوان مسألة التحسين والتقبيح بل كانت قسيما له لم يكن للتنزّل معنى كما لا يخفى.

ولو سلّم تصريح كلّهم بما ذكر أمكن كون المراد بالحسن المنفيّ في هذه الأشياء ما هو ملزوم الوجوب ، وهو كون الفعل على صفة توجب استحقاق المدح ، وهذا لا ينافي كونه ممّا يدرك فيه الحسن بمعنى ملزوم الإباحة.

وستعرف أنّ الحسن قد يطلق عندهم على ما يعمّه ، ومنه تفسير الحسن ب « ما لا حرج في فعله » ويرادفه ما في تهذيب العلاّمة من تفسيره ب « الفعل الّذي لا يكون على صفة تؤثّر في استحقاق الذمّ قبالا للقبيح وهو الّذي يكون على صفة تؤثّر في استحقاق الذمّ » (١).

وممّا بيّنّاه ظهر أنّ ما عرفت عن الفاضل لا يخلو عن اختلال ، إذ لو أراد بكون الأشياء المذكورة ممّا لا يدرك العقل حسنها ولا قبحها عند المعتزلة كونها كذلك عند جميعهم على معنى اطباقهم عليه فهو كذب وفرية ، وإن أراد كونه كذلك عند بعضهم فهو حقّ ، لكنّه خلاف ظاهر عبارته.

والعجب أنّه قدس‌سره بعد ما وافق الأكثر في هذه الأشياء بالقول بالإباحة أشكل عليه الأمر بالنظر إلى ما ذكره أوّلا فأورد على نفسه سؤالا يرجع إلى توهّم التدافع قائلا : « لكن يبقى شيء وهو أنّ الحكم بالحسن فيما نحن فيه لا يجتمع مع فرض أنّه ممّا لا يدرك بالعقل حسنه ولا قبحه ».

ثمّ تكلّف في دفعه بوجهين :

أحدهما : أنّ العقل لا يدرك الحسن والقبح بالنظر إلى خصوصيّاتها ويحكم حكما عامّا بالحسن بالنسبة إلى الجميع.

وملخّصه : أنّ العقل إذا لاحظ أكل الفاكهة مثلا بهذا العنوان الخاصّ لا يحكم فيه بشيء من الحسن والقبح وإذا لاحظه بعنوان أنّه ما اشتمل على المنفعة يحكم بحسنه فلا منافاة.

وثانيهما : أنّ العقل لا يدرك حسنها ولا قبحها ابتداءا أو مجرّدة عن ملاحظة شيء آخر ولا ينافي ذلك حكمه بالحسن عامّا بالنظر إلى الدليل.

ومحصّله : أنّ العقل لا يدرك حسنها ولا قبحها إدراكا ضروريّا بحيث لا يحتاج في إدراكه إلى النظر في وسط ، وهو لا ينافي إدراكه الحسن بطريق النظر.

__________________

(١) تهذيب الوصول إلى علم الاصول : ٥٢ ـ ٥٣ ( نقلا بالمعنى ).

٤٧٣

ولا يخفى ما في ذلك كلّه ، لمنع ظهور التدافع أوّلا فإنّ النفي في كلام بعضهم لا ينافي إثبات الآخرين ، ولو سلّم ظهوره فالوجه في دفعه ما أشرنا إليه من إبداء الفرق بين الحسن في القضيّة المنفيّة والحسن في القضيّة المثبتة ، ولا حاجة مع ذلك إلى تكلّف الوجهين.

وهل أصل البراءة المعمول فيما لا نصّ فيه وما في حكمه باعتبار تعارض النصّين أو إجمال النصّ من الأدلّة العقليّة أو لا؟

قضيّة ظاهر التعريف العدم ، لأنّه ما يتوصّل به إلى نفي الحكم الشرعي لا إلى إثباته ، ويؤكّده مقابلة الأصل للدليل على ما هو المعروف من طريقة الفقهاء والاصوليّين ، فهو ليس من المعرّف ليشمله التعريف ، وعليه فيكون ذكره في باب الأدلّة العقليّة استطرادا.

ويحتمل الشمول بجعل الحكم ـ بناء على التفسير المتقدّم ـ أعمّ من إثبات التكليف ونفيه ، وعليه مبنيّ نظر من عدّه من الأدلّة العقليّة كبعض الأعلام (١) لكنّ الإنصاف أنّه ليس من قبيل الدليل ليتكلّف لإدراجه في تعريف الدليل العقلي بل هو من قبيل المدلول ، سواء كان مدركه النقل لو استفدناه من عمومات الآيات والأخبار ، أو العقل لو تمسّكنا في إثباته إلى قبح التكليف بلا بيان وقبح العقاب من دون إقامة البرهان ، فهو على التقديرين قاعدة مستفادة من الدليل مفادها فراغ الذمّة عن التكليف المشكوك فيه ، فالدليل العقلي على التقدير الثاني هو دليل ذلك الأصل لا نفسه ، وهذا هو السرّ في مقابلة الأصل للدليل ، ومنه يظهر الحال في الاستصحاب إن قلنا به من جهة الأخبار النافية لنقض اليقين بالشكّ فيكون من القواعد الكلّية المستنبطة من الأدلّة الشرعيّة ومفاده وجوب إبقاء ما كان على معنى ترتيب آثارهم ، فيكون ذكره أيضا استطرادا.

نعم إن قلنا به من جهة العقل كما هو طريقة العامّة بناء منهم على حكم العقل بأنّ ما ثبت دام حكما ظنّيّا ، فوجه كونه من الأدلّة العقليّة ـ كما هو الظاهر من أهل هذه الطريقة ـ تعميم الحكم العقلي بالقياس إلى الظنّي منه ، ولعلّ ظاهر التعريف يأباه ، ومنه بان الوجه في كون القياس عند عامليه من الأدلّة العقليّة بناء على أنّ الموجب للتعدّي من الأصل إلى الفرع في الحكم إنّما هو عليّة الجامع الّتي حكم بها العقل بملاحظة إحدى طرق استنباط العلّة حكما ظنّيّا.

وربّما أمكن التأمّل في دخول نحو القياس والاستصحاب ـ من حيث إفادتهما الظنّ

__________________

(١) قوانين الاصول ٢ : ١٣.

٤٧٤

لا القطع ـ في المعرّف ، بناء على ثبوت الفرق بحسب الاصطلاح بين الدليل والأمارة بجعل الأوّل ما يفيد العلم والثاني ما يفيد الظنّ ، كما في كتب جماعة من العامّة منهم الحاجبي والعضدي وجماعة من الخاصّة منهم العلاّمة والعميدي.

قال في التهذيب : « الدليل ما يفيد معرفته العلم بشيء آخر إثباتا أو نفيا والأمارة ما يفيد ظنّه » (١).

وحكي نحوه عن المحقّق الطوسي في تجريده حيث قال : « ملزوم العلم دليل وملزوم الظنّ أمارة » (٢) ويمكن الذبّ بملاحظة إطلاقهم الدليل على الأدلّة الأربعة مع بناء الغالب من الغالب على الظنّ ولا سيّما أخبار الآحاد والإجماعات المنقولة ، فإمّا أن يقال : بأنّ الفرق المذكور إنّما كان بحسب الاصطلاح القديم وقد صار مهجورا عند المتأخّرين ، أو يقال : إنّه كان من اصطلاحات المتكلّمين وإنّما أورده علماء الاصول في كتبهم الاصوليّة تبعا بمناسبة إيرادهم جملة كثيرة من المطالب الكلاميّة فيها.

ثمّ إنّ تخصيص الحكم العقلي في تعريف الدليل العقلي بكونه موصلا إلى حكم شرعي مع أنّه قد يوصل إلى غير الحكم الشرعي إنّما هو لكون محطّ نظر الاصولي في مباحث الأدلّة العقليّة ما يكون موصلا إلى الحكم الشرعي ، وعدم تقييده بكونه فرعيّا تنبيه على أنّ الدليل العقلي كما يجري في الفروع كذلك يجري في الاصول بالمعنى الأعمّ من اصول الفقه واصول العقائد.

فمن الأوّل حجّية الظنّ وجواز العمل به ، المثبت بقبح التكليف بما لا يطاق بعد إحراز بقاء التكليف وانسداد باب العلم.

ومن الثاني وجوب معرفة الله المتوصّل إليه بواسطة وجوب شكر المنعم الّذي هو حكم عقلي ، ووجوب النظر في تحصيل معرفة الله ومعرفة النبيّ ومعرفة الإمام وغيرها من المعارف الثابت بوجوب دفع الضرر المظنون أو المحتمل بالاحتمال العقلائي الّذي معياره حصول الخوف في النفس ، وعدل الواجب تعالى وحكمته المثبتان بقبح الظلم وقبح ارتكاب القبيح ، وغير ذلك ممّا لا يحصى كثرة.

فالدليل العقلي المبنيّ على قاعدة التحسين والتقبيح العقليّين ـ عند مثبتيها ـ عامّ النفع كثير الفائدة ينتفع بفوائده في الفروع والاصول بقسميها ، قد حرم من فوائده من أنكر أصل

__________________

(١) تهذيب الوصول إلى علم الاصول : ٤٩.

(٢) كشف المراد : ٢٤٣.

٤٧٥

هذه القاعدة.

ثمّ إنّه قد أشرنا سابقا أنّ الحكم العقلي على قسمين ، وضابطه : أنّ العقل قد يحكم بدون توسّط خطاب الشرع ومن غير توقّف في حكمه على ملاحظته ، سواء ورد من الشرع خطاب أو لا ، كحكمه بوجوب ردّ الوديعة وحرمة الظلم وغيرهما ممّا يرجع إلى التحسين والتقبيح العقليّين فهو « المستقلاّت العقليّة » ، لاستقلال العقل في حكمه.

وقد يحكم بتوسّط خطاب الشرع كحكمه بوجوب المقدّمة بملاحظة الخطاب بذي المقدّمة ، وحرمة ضدّ المأمور به بملاحظة الخطاب بالمأمور به ، وغيرهما ممّا يرجع إلى حكم العقل بالملازمة بين الحكمين ، فهو « الاستلزامات العقليّة » وقرينة المقابلة تعطي التعبير عنها ب « غير المستقلاّت العقليّة » لعدم استقلال العقل فيها بالحكم ، والكلام في مصاديق هذا القسم وأنّ العقل هل يحكم أو لا يحكم وتحقيق ما هو الحقّ في كلّ قد تقدّم في مباحث الأوامر والمفاهيم.

وأمّا الكلام في القسم الأوّل فيقع في مقامات :

المقام الأوّل

في التحسين والتقبيح العقليّين

وقد اختلفوا في أنّ حسن الأشياء وقبحها هل هما عقليّان أو شرعيّان ، فالعدليّة من الإماميّة والمعتزلة على الأوّل والأشاعرة على الثاني ، والقضيّة في كلام الأوّلين تحتمل وجهين :

أحدهما : أنّ في الأشياء حسنا وقبحا لا يدركهما إلاّ العقل ، فيكون معنى القضيّة في كلام الآخرين بقرينة المقابلة أنّ فيها حسنا وقبحا لا يدركهما إلاّ الشرع ، وهذا غير صحيح لقضائه بكون الشرع على مذهب العدليّة معزولا عن إدراك حسن الأشياء وقبحها والضرورة قاضية ببطلانه ، بل الشارع الخالق للعقل الموجد للأشياء أولى بإدراك حسنها وقبحها لاستحالة الجهل عليه ، فكلّ حسن أو قبح في الأشياء أدركهما العقل فقد أدركهما الشرع أيضا بالضرورة ، وعليه مبنى الملازمة الآتية بين حكم العقل وحكم الشرع على ما هو لازم قول العدليّة كما ستعرفه.

وثانيهما : أنّ في الأشياء في حدّ أنفسها حسنا وقبحا يدركهما العقل ولا يتوقّف إدراكه لهما على ورود خطاب من الشرع بأمر أو نهي ، وحينئذ فالقضيّة في كلام الآخرين يحتمل وجهين :

٤٧٦

الأوّل : أنّ حسن الأشياء وقبحها لا يدركهما إلاّ الشرع والعقل معزول عن الإدراك ، وهذا مع أنّه خلاف صريح كلماتهم في تضاعيف المسألة لا يناسب اصول الأشاعرة ، لأنّ من اصولهم الفاسدة عدم كون أفعاله تعالى معلّلة بالأغراض ، بل هو تعالى يفعل ويحكم ويأمر وينهى لا لغرض ولا داع ، والبيان المذكور يقضي بكون أوامره تعالى ونواهيه معلّلة بما في الأشياء بحسب الواقع من الحسن والقبح اللذين أدركهما الشارع فأمر أو نهى بحسبهما.

الثاني : أنّه ليس في الأشياء في حدّ أنفسها ومع قطع النظر عن خطاب الشرع حسن أو قبح يدركهما العقل ، بل هما في لحوقهما الأفعال يتبعان خطاب الشرع ، فالفعل إذا أمر به الشارع يصير حسنا بأمره وإذا نهى عنه الشارع يصير قبيحا بنهيه.

وبالجملة حسن الفعل إنّما هو باعتبار كونه مأمورا به وقبحه إنّما هو باعتبار كونه منهيّا عنه ، لا باعتبار نفسه مع قطع النظر عن أمر الشارع ونهيه ، وهذا هو الصحيح المصرّح به في كلمات القوم.

ومن هنا قد يقرّر صورة النزاع بأنّهم اختلفوا في أنّ حسن المأمور به من موجبات الأمر ـ بمعنى أنّه ثبت بالأمر ـ أو من مدلولاته ـ بمعنى أنّه ثبت بالعقل والأمر دليل ـ كما عن التلويح ، وكأنّه يريد به ثبوته بالعقل في الجملة لينطبق على مذهب العدليّة القائلة بإدراك العقل حسن الأشياء أو قبحها على وجه الإيجاب الجزئي.

نعم قضيّة دلالة الأمر على حسن المأمور به وكشفه عنه عامّة على معنى أنّ كلّ فعل أمر به الشارع كشف عن أنّ فيه حسنا أدركه الشارع ، سواء كان بحيث أدركه العقل أيضا كما في مستقلاّته أو لا كما في غيرها.

هذا مع إمكان جعل قضيّة ثبوته بالعقل أيضا عامّة لكن بالقياس إلى العقول الصحيحة الكاملة ، وما يرى من اختلاف الأشياء في إدراك العقل الحسن أو القبح في بعضها دون آخر فإنّما هو باعتبار اختلاف العقول في مراتب الكمال والنقصان ، وإلاّ فالعقول الصحيحة الكاملة تدرك حسن جميع الأشياء وقبحها ، وهذا هو معنى ما تقرّر في الكلام من أنّه كان من أعلام نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ومعناه أنّه يأمرهم بما يحسّنه العقول الصحيحة وتشهد بكونه معروفا ، وينهاهم عمّا تقبّحه العقول الصحيحة وتشهد بكونه منكرا ، ويحلّ لهم ما تشهد بكونه طيّبا ، ومنه قصّة الأعرابي حيث أسلم من غير إعجاز ، وقد قيل له : عن أيّ شيء أسلمت؟ وماذا رأيت منه؟ فقال : ما أمر بشيء فقال

٤٧٧

العقل : ليته نهى ، ولا نهى عن شيء فقال العقل : ليته أباحه ».

ثمّ إنّ لكلّ من الحسن والقبح معاني ليس النزاع إلاّ في بعضها :

الأوّل : كون الشيء صفة كمال كالعلم والشجاعة والسخاء أو صفة نقص كالجهل والجبن والبخل ، وقد يعبّر بكونه كمالا أو نقصا بإسقاط الصفة بزعم لحوقهما الأفعال أيضا ـ كما يقال في العرف : « إطاعة المولى حسن ومعصيته قبيح » ـ وعدم اختصاصهما بمقولة الصفات ، وهو سهو إذ الحسن والقبح اللاحقان بالاطاعة والمعصية إنّما يراد بهما استحقاق فاعلهما المدح أو الذّم عند العقل ، وإن كان ولا بدّ من حملهما على المعنى المذكور فهما يلحقان الإطاعة والمعصية باعتبار ما يكشفان عنه ممّا هو من مقولة الصفات.

وبيانه : أنّ الإطاعة والمعصية مفهومان منتزعان عن متعلّقات الأوامر والنواهي باعتبار ما يلحقها من الامتثال أو تركه ، وهما كاشفان عن صفة نفسانيّة يعبّر عنها بحسن السريرة وسوئها ، واتّصافهما بالحسن والقبح بمعنى الكمال والنقص إنّما هو باعتبار هذه الصفة من باب وصف الشيء بحال متعلّقه ، أو وصف الملزوم بوصف اللازم.

وبالجملة فلا ينبغي التأمّل في كون الحسن والقبح بهذا المعنى من لواحق الصفات والملكات النفسانيّة.

الثاني : ملائمة الطبع كالطعام اللذيذ والماء البارد ، ومنافرة الطبع كالطعام على التخمة والدواء المرّ ، وكذلك الصوت الحسن وصوت الحمير.

الثالث : موافقة الغرض ومخالفته كقتل زيد لأعدائه وأحبّائه ، وقد يعبّر عنهما بموافقة المصلحة ومخالفتها بزعم الاتّحاد ، وليس كما زعم إذ الغرض عبارة عمّا يرجى ويتوقّع حصوله من فعل شيء وقد لا يكون مصلحة بل قد يكون خلافها كالغنى والفقر فإنّ الأوّل قد يكون مفسدة مع موافقته الغرض والثاني قد يكون مصلحة مع مخالفته الغرض ، فالغرض والمصلحة قد يجتمعان وقد يتفارقان ، والأولى جعل ما ذكر معنى آخر.

الرابع : كون الشيء بحيث لا حرج في فعله شرعا ويعمّ المباحات الشرعيّة ، وكونه بحيث في فعله حرج ويختصّ بالمنهيّات الشرعيّة.

وفي معناه ما في التهذيب والنهاية من : « أنّ الحسن ما للفاعل القادر عليه العالم به أن يفعله والقبيح ما ليس له فعله » (١).

__________________

(١) تهذيب الوصول إلى علم الاصول : ٥٢ ، نهاية الوصول إلى علم الاصول : الورقة ١٢ صفحة ٢ ( مخطوط ).

٤٧٨

الخامس : كون الفعل بحيث يستحقّ فاعله المدح أو الذمّ كما في كلام الأكثر.

وفي التهذيب : « الحسن الفعل الّذي لم يكن على صفة تؤثّر في استحقاق الذمّ والقبيح الّذي يكون على صفة تؤثّر في استحقاق الذمّ » (١) وكأنّه رام به تعميم ما يدركه العقل للأحكام العقليّة الأربعة ما عدا الحرمة العقليّة ونقض عكس الثاني وطرد الأوّل بالقبيح لذاته ، وهو السرّ في ترك الأكثر قيد « على صفة ».

وظاهر كلام المتعرّضين لذكر هذه المعاني كونها معاني متبائنة استعمل اللفظ في كلّ على الاستقلال على وجه يكون اللفظ بالقياس إليها من باب متكثّر المعنى ، حتّى أنّ بعض الأواخر تكلّم في حقيقتها ومجازها ، ودقيق النظر يعطي كون اللفظين بحسب العرف واللغة لمعنى واحد يعبّر عنه في الفارسية ب « خوب » و « بد » ولهذا المعنى وجوه واعتبارات ، والمذكورات أو غيرها ممّا لم نذكره وجوه له ، وسيلحقك زيادة تحقيق في ذلك.

ومحلّ النزاع من المعاني المذكورة أو من وجوه المعنى الواحد على ما هو المصرّح به في كلمات الفريقين إنّما هو المعنى الخامس ، المتضمّن لاستحقاق المدح والذمّ لإطباقهما على إدراك العقل للحسن والقبح للأشياء بالمعاني الاخر.

نعم ربّما يتوهّم من العلاّمة في التهذيب وقوع النزاع في المعنى الأوّل أيضا ، حتّى أنّه عند الاستدلال على مختاره من التحسين والتقبيح العقليّين أخذ العلم في أمثلة ما يحسّنه العقل والجهل في أمثلة ما يقبّحه (٢) وهذا غريب ويمكن إصلاحه بحمل العلم على تحصيله والجهل على ترك النفس جاهلا على معنى إبقائها على الجهل اختيارا ، فإنّ الأوّل ما يستحقّ فاعله المدح والثاني ما يستحقّ فاعله الذمّ.

ومنهم من أخذ في المعنى المتنازع فيه استحقاق الثواب والعقاب أيضا فقال : « الحسن والقبح كون الفعل بحيث يستحقّ فاعله المدح والثواب أو الذمّ والعقاب ». ولعلّ مبناه على تخيّل أنّ الحسن والقبح اللذين يثبتهما العدليّة يراد بهما ما يلازم الحكم الشرعي بملازمة هي بالقياس إليه بمثابة القضايا الّتي قياساتها معها ، ولذا لم يختلف العدليّة في أصل الملازمة ، بل الأشاعرة أيضا مطبقون معهم فيها على تقدير ثبوت الملزوم ، ونزاعهم إنّما هو في إثبات الملزوم وهو الحكم العقلي بالحسن والقبح ، وبعد ثبوته فالملازمة متّفق عليه بين الفريقين.

وأمّا ما يوجد في أصحابنا من التشكيك فيها أو إنكارها فأمر حدث من جماعة من

__________________

(١) تهذيب الوصول إلى علم الاصول : ٥٢.

(٢) تهذيب الوصول إلى علم الاصول : ٥٣.

٤٧٩

متأخّري المتأخّرين أوّلهم الفاضل التوني (١) تبعا للزركشي من أواخر الأشاعرة ، حيث رأى شناعة ما عليه أصحابه من إنكار التحسين والتقبيح العقليّين وكونه يشبه بإنكار الضروري ويرجع إلى تكذيب الوجدان ، فلم يتمكّن من موافقتهم فوافق العدليّة في إثبات الملزوم وأنكر الملازمة بينه وبين الحكم الشرعي ، وظاهر أنّ ما أدركه العقل من الحسن والقبح لا يلازم الحكم الشرعي بالملازمة المذكورة إلاّ بأن يدخل فيه استحقاق الثواب والعقاب ، وهذا كما ترى وهم فاسد.

أمّا أوّلا : فلأنّ المراد من الحكم العقلي ومسألة التحسين والتقبيح عند العدليّة ما يتوصّل به إلى الحكم الشرعي على وجه يكون الحكم العقلي دليلا والحكم الشرعي مدلولا عليه.

ومن البيّن وجوب تغاير الدليل والمدلول ، فلو دخل استحقاق الثواب والعقاب فيما أدركه العقل من الحسن والقبح لزم دخول الحكم الشرعي فيما أدركه العقل ، وكون المدلول من جملة الدليل ، وهو باطل.

وبيان الملازمة : أنّ استحقاق الثواب والعقاب اعتبار في جانب الحكم الشرعي ، لأنّه يترتّب على الإطاعة والمعصية وموافقة الخطاب ومخالفته ، فلو دخل فيما أدركه العقل لدخل فيه ملزومه.

وقضيّة بطلان اللازم عدم دخول الاستحقاق المذكور فيما أدركه العقل ، ولا ينافيه ما ذكر من أنّ المراد ممّا أدركه العقل ما يلازم الحكم الشرعي بالملازمة المذكورة ، لعدم ابتناء هذه الملازمة على دخول استحقاق الثواب والعقاب فيما أدركه العقل ، بل هي مبنيّة على مقدّمة اخرى هي بالقياس إلى الحسن والقبح العقليّين بمثابة القضايا الّتي قياساتها معها ، وهي محبوبيّة ما حسّنه العقل ومبغوضيّة ما قبّحه لله تعالى ، نظرا إلى أنّ المراد بالحسن والقبح اللذين يدركهما العقل في محلّ النزاع حكم العقل باستحقاق الفاعل للمدح والذمّ في نظر كلّ عاقل وحكمه ، ولا سيّما العقول الصحيحة حتّى الإله الخالق للعقول.

وإلى ذلك يشير ما عن العضدي تبعا للحاجبي من : « أنّ النزاع في حكم العقل بأنّ الفعل حسن أو قبيح في حكمه تعالى » (٢) فإنّ معناه ـ بناء على ظاهر العبارة ـ حكم العقل بكون الفعل بحيث يستحقّ فاعله المدح أو الذمّ في نظره تعالى وحكمه أي حكمه بكونه كذلك أو حكمه بالاستحقاق المذكور ، وحيث إنّ حكمه تعالى مطابق لعلمه فصحّ أن يقال

__________________

(١) الوافية : ١٧١.

(٢) شرح المختصر : ٦٩ ـ ٧٠.

٤٨٠