تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٥٥٥

الإرادة ، وما قد يتّفق من عدم صدور الفعل مع وجود الداعي فإنّما ينشأ ذلك من ضعف الداعي ، لوضوح أنّ لدواعي الأفعال بحسب القوّة والضعف مراتب كثيرة ، وإنّما يؤثّر في تحقّق الإرادة وصدور الفعل بالاختيار إذا بلغ حدّ القوّة.

وبالجملة فكلّ من الإرادة بالمعنى المتناول لترك الإرادة والفعل المتناول للترك فعل اختياري ، إلاّ أنّ الأوّل من أفعال النفس والثاني من أفعال الجوارح وكلاهما من آثار القدرة والاختيار ، لأنّه في حال التردّد كما كان بحيث إن شاء اختار الفعل وإن شاء اختار الترك كذلك يكون بحيث إن شاء أراد الفعل وعزم عليه وإن شاء أراد الترك وجزم به ، إلاّ أنّه لا يختار ولا يريد إلاّ ما هو راجح في نظره بوجود المرجّح في جانبه والداعي إليه.

وإلى هذا كلّه أشار بعض الفضلاء بقوله : « أنّ علّية الفاعل لصدور الإرادة منه بقدرته واختياره تتمّ عند وجود الداعي المعتبر ، وعلّيته لصدور الفعل منه كذلك تتمّ عند وجود الإرادة » ـ إلى أن قال ـ : « إذا عرفت ذلك اتّضح عندك معنى قوله عليه‌السلام : « لا جبر ولا تفويض ، بل أمر بين الأمرين » (١) فإنّ كون الدواعي الّتي تجري الأفعال الاختياريّة بحسبها موجودة في العبد بإيجاده تعالى على حسب ما فيه من الاستعداد الذاتي أو الكسبي يوجب نفي تفويض أمر الفعل إليه بالكلّية ، وصدور أفعاله منه على حسب تلك الدواعي بقدرته واختياره يوجب نفي إجباره تعالى عليها ، وأيضا كون أفعال العبد مستندة إلى إقداره تعالى له عليها حال صدورها منه يوجب نفي التفويض بمعنى استقلال العبد بها ، وصدورها منه بذلك الإقدار يوجب نفي الجبر لاستناده إلى قدرته المخلوقة فيه » انتهى (٢) والأصحّ الوجه الثاني.

وبالتأمّل في جميع ما قرّرناه يندفع الشبهة بسائر وجوه تقريرها ، فإنّ لزوم صدور الفعل ووجوبه من آثار القدرة والاختيار ، كما أنّهما من أجزاء العلّة التامّة لصدوره.

المقام الثاني

في أنّه إذا ثبت الحكم العقلي أعني الحسن والقبح اللذين أدركهما العقل فهل هو دليل على الحكم الشرعي ، على معنى ثبوت الملازمة بينهما بحيث ينحلّ إلى كبرى كلّية ، كما ينحلّ حكم العقل بالحسن والقبح إلى صغرى ضروريّة ، فينتظم قياس بطريق الشكل الأوّل هكذا : « ردّ الوديعة أو الظلم مثلا حسن أو قبيح عقلا ، وكلّ حسن أو قبيح عقلا واجب أو

__________________

(١) الكافي ١ : ١٦٠ ، ح ١٣.

(٢) الفصول : ٣٢٦.

٥٠١

حرام شرعا » أو لا؟ وجهان ، بل قولان ، أوّلهما المعروف بين العامّة والخاصّة المتّفق عليه بين الفريقين الأشاعرة والمعتزلة كما نبّهنا عليه سابقا ، بل المجمع عليه عند أصحابنا الإماميّة خلفا عن سلف إلى أن وصلت النوبة إلى الفاضل التوني (١) فحصل له التشكيك في الملازمة فأنكرها تبعا للزركشي من أواخر الأشاعرة ، وتبعه بعض من تأخّر عنه كالفاضل السيّد صدر الدين في شرحه للوافية وغيره.

ومن مشايخنا من ادّعى عليه إجماع المخالف والمؤالف محصّلا ومنقولا في حدّ الاستفاضة القريبة من التواتر إن لم نقل بكونه متواترا بسيطا ومركّبا ، على معنى أنّ كلّ من قال بحكم العقل قال بالملازمة بينه وبين حكم الشرع ، وكلّ من لم يقل به قال بها أيضا على تقدير حكم العقل.

وممّا يشهد بدخول الأشاعرة في الإجماع على الملازمة احتجاجهم لنفي التحسين والتقبيح العقليّين بآية نفي التعذيب قبل بعث الرسول ، لما عرفت من أنّه لا يتمّ إلاّ على تقدير تسليم الملازمة ، ليرجع الاحتجاج إلى الاستدلال على نفي الملزوم وهو حكم العقل بنفي اللازم وهو حكم الشرع كما هو مفاد الآية على تقدير صحّة دلالتها.

وأمّا تحرير هذا النزاع بحيث يرجع إلى حجّية إدراك العقل ووجوب متابعة القطع العقلي ثمّ إقامة الدليل على الحجّية ووجوب المتابعة كما في الضوابط ويظهر من كلمات بعض الأعلام في غير موضع من تضاعيف هذه المسألة فهو سهو واضح وغفلة ظاهرة ، لما أشرنا إليه سابقا من أنّ النزاع في الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع غير النزاع في حجّية إدراكات العقل وله موضع آخر في مباحث حجّية القطع.

ثمّ إنّ الّذي يظهر من تضاعيف كلماتهم كون الحكم الشرعي الّذي يلازمه الحكم العقلي عبارة عن الوجوب والحرمة وأخواتهما بالمعنى المصطلح ، المعبّر عنه بكون الشيء بحيث يستحقّ فاعله الثواب وتاركه العقاب أو تاركه الثواب وفاعله العقاب وهكذا ، وهذا بالنظر إلى ملزومه المنتسب إلى الشارع لا يخلو عن إجمال لكونه قابلا لأن يكون من آثار مجرّد المحبوبيّة والمبغوضيّة النفسانيّتين ، أو من آثار المجعول الواقعي ، أو من آثار الطلب الفعلي المعبّر عنه بالإيجاب والتحريم.

والفرق بين هذه الاعتبارات بأنّ الأخير مسبوق بالجعل والمحبوبيّة والمبغوضيّة ، كما

__________________

(١) الوافية : ١٧١.

٥٠٢

أنّ الجعل مسبوق بالمحبوبيّة والمبغوضيّة ، فيكون الأخير أخصّ من الأوّلين مطلقا ، والأوسط أعمّ منه وأخصّ من الأوّل مطلقا.

فالقول بأنّ الحكم العقلي يدلّ على الحكم الشرعي لابدّ وأن يرجع إمّا إلى أنّه يكشف عن المحبوبيّة والمبغوضيّة الملزومتين لاستحقاق الثواب والعقاب ، أو إلى أنّه يكشف عن المجعول الواقعي المستلزم لهما ، أو إلى أنّه يكشف عن الطلب الفعلي المستلزم لهما.

ولم نقف في كلامهم على تحرير لهذه المراتب ، ولعلّه لعدم ثمرة يعتدّ بها في الفرق بينها على ما سنقرّره.

ثمّ إنّهم ذكروا في هذا المقام أنّ « كلّما حكم به العقل حكم به الشرع » وظاهر الأكثرين كصريح البعض كون ذلك بيانا للملازمة بين الحكمين ، مرادا به إحراز الكبرى المذكورة ليتمّ بها دليليّة الحكم العقلي على الحكم الشرعي ، نظرا إلى استحالة التوصّل بمجرّد الصغرى المحرزة بحكم العقل ، وهذا بملاحظة أنّ حكم العقل ليس إلاّ مجرّد حكمه بالحسن والقبح بمعنى استحقاق المدح والذمّ يستدعي نوع تصرّف في محمول تلك القضيّة بإضمار أو استخدام ، فيكون التقدير : « أنّ كلّما حكم به العقل من حسن أو قبح فقد حكم الشرع بمقتضاه من إيجاب أو تحريم مثلا » لعدم صحّة عود الضمير إلى الموصول بالمعنى المراد منه ، وإلاّ كان ما حكم به الشرع هو الحسن والقبح ، ولذا فسّر السيّد الفاضل الشارح للوافية تلك القضيّة من باب بيان حاصل المعنى : « بأنّ كلّ فعل له جهة مقتضية لحكم خاصّ عند العقل فقد حكم الشارع عليه بمثل ذلك الحكم » ولو جعلت القضيّة لبيان وجه الملازمة ودليلها ـ كما هو أحد الاحتمالين ـ لم يحتجّ إلى إضمار ولا استخدام ، لكون المعنى حينئذ : « أنّ ما حكم العقل به من حسن أو قبح فقد حكم الشرع به أي بذلك الحسن والقبح ».

ومحصّله : أنّ ما حسّنه العقل أو قبّحه فقد حسّنه الشرع وقبّحه ، وذلك لأنّ الحسن والقبح بالمعنى المتنازع فيه ـ على ما ذكرناه عند تحرير محلّ النزاع في المقام الأوّل ونقلنا عن العضدي ـ هو حكم العقل بكون الفعل حسنا أو قبيحا في حكمه تعالى ، واللازم من ذلك كون كلّ حسن عند العقل محبوبا وكلّ قبيح عند العقل مبغوضا له تعالى ، واللازم من المحبوبيّة والمبغوضيّة جعل الوجوب والحرمة ثمّ الإيجاب والتحريم الّذي هو الحكم الشرعي الفعلي ، وهذا هو الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، إلاّ أنّه لم نقف من القوم على من التفت إلى هذا الاحتمال مع أنّه أقرب بالاعتبار.

٥٠٣

وعلى الاحتمال المشهور الّذي التفت إليه القوم فقد يذكر للحكم في جانب موضوع القضيّة احتمالان كون المراد من حكم العقل ما يكون فعليّا أو ما يكون شأنيّا ، فمعنى ما حكم به العقل إمّا ما حكم به فعلا أو ما حكم به شأنا ، وللحكم في جانب محمولها احتمالات ثلاث :

أحدها : حكم الشرع بمثل حكم العقل ، على معنى حكمه بما يكون مطابقا لحكم العقل وإن تغاير بكون الأوّل إرشاديّا والثاني مولويّا ، واللازم من هذا الاحتمال تعدّد كلّ من الحاكم والحكم.

وثانيها : أنّ ما حكم به العقل من وجوب أو حرمة فقد أمضاه الشرع وأجازه ، بأن يراد من حكم الشرع إمضاؤه بحكم العقل وتصديقه إيّاه فيه ، واللازم من ذلك تعدّد الحاكم دون الحكم.

وثالثها : أنّ حكم العقل بعينه هو حكم الشرع ، على معنى أنّه حكم الشرع بيّنه تعالى بلسان العقل ، ولازمه وحدة كلّ من الحاكم والحكم.

فالوجوه المحتملة في المقام ستّة ، وهذا بعد ما عرفت من أنّ حكم العقل في مسألة التحسين والتقبيح ليس إلاّ حكمه بالحسن والقبح ليس بسديد ، والقضيّة لا تتحمّل شيئا من الوجوه المذكورة.

نعم كان لها وجه لو كان ما حكم به العقل هو الوجوب والحرمة وغيرهما من الأحكام ، غير أنّه على ما عرفت خلاف الفرض ، لوضوح أنّ الكلام في الملازمة إنّما هو بعد الفراغ عن النزاع مع الأشاعرة الواقع في حكم العقل بالحسن والقبح بالمعنى المتضمّن لاستحقاق المدح والذمّ لا غير.

ثمّ إنّه قد سبق إلى بعض الأوهام جريان النزاع في الملازمة في الاستلزامات العقليّة الّتي يحكم فيها العقل بملاحظة خطاب الشرع كوجوب مقدّمة الواجب وحرمة ضدّ المأمور به وغيرهما أيضا ، وهذا في النظر الدقيق على خلاف التحقيق إذ المبحوث عنه في باب الاستلزامات ليس إلاّ ملازمة شيء لحكم شرعي ، كالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّماته ، وبينه وبين حرمة ضدّه ، أو الملازمة بين مقدّمية الشيء للواجب ووجوبه ، وبين ضدّية شيء للمأمور به وحرمته ، فإذا حكم العقل بتلك الملازمة ـ ولو من باب دلالة الإشارة ـ فلم يعقل ملازمة اخرى يكون أحد طرفيها الحكم الشرعي لينازع فيها ، وأيضا فإنّ المقصود بالبحث عن الملازمة هاهنا إثباتها ليثمر في التوصّل إلى الحكم

٥٠٤

الشرعي بالحكم العقلي ، ومرجع حكم العقل في الاستلزامات إلى إدراكه الحكم الشرعي وهو الوجوب أو غيرهما للمقدّمة أو الضدّ أو غيرهما لمقدّمات تترتّب عنده ، فالتوصّل إلى الحكم الشرعي قد حصل بإدراكه له بالفرض ، ومعه لا معنى للبحث عن الملازمة بين ما أدركه وبين الحكم الشرعي ، لأنّ ما أدركه نفس الحكم الشرعي المتوصّل إليه.

نعم لمّا كان ما أدركه هو الوجوب أو الحرمة أو غيرهما على الوجه الكلّي باعتبار كون معروضه « المقدّمة » أو « الضدّ » بعنوانهما الكلّي فهو ليس من الحكم الشرعي بالمعنى المبحوث عنه في الفقه ، وهو مصداق الوجوب والحرمة العارض لمثل طيّ مسافة الحجّ والصلاة في المسجد مكان إزالة النجاسة عنه بواسطة كونه مقدّمة للواجب أو ضدّا للمأمور به المضيّق ، ولكن اجراء حكم الكلّي فيما هو من مصاديقه لا يحتاج إلى ملازمة اخرى ، بل يكفي فيه اندراجه تحت ذلك الكلّي وكونه من مصاديقه.

نعم ربّما أمكن اجراء نزاع الأخباريّة في حجّية إدراكات العقل في الاستلزامات أيضا ، غير أنّه ـ بعد تسليمه على ما عرفت ـ نزاع اخر غير النزاع في الملازمة ، فالنزاع في الملازمة مخصوص بمسألة التحسين والتقبيح العقليّين واقع بعد الفراغ عن اثبات حكم العقل بالحسن والقبح.

ثمّ إنّ الملازمة بين الحكمين إمّا أن تكون بديهيّة ثابتة بالبداهة ، أو تكون نظريّة تثبت بواسطة مقدّمات نظريّة.

فإن اريد الأوّل فالحقّ أنّها ثابتة ، ولكن بين حكم العقل وحكم الشرع بمعنى المحبوبيّة والمبغوضيّة اللتين يترتّب عليهما استحقاق الثواب والعقاب ، وذلك لأنّه بعد ما ثبت حكم العقل بكون الفعل حسنا أو قبيحا في حكمه تعالى فيعلم بالبداهة أنّه بحيث يحبّه تعالى أو يبغضه ، كما هو شيمة كلّ عاقل حكيم حيث إنّه يحبّ ما يوجب في فاعله استحقاق المدح ويبغض ما يوجب في فاعله استحقاق الذمّ ، وأمّا ثبوت أزيد من ذلك من الجعل الواقعي أو الطلب الفعلي فيحتاج إلى إعمال مقدّمات نظريّة اخر ، ولعلّه كاف في مقالة الخصم المنكر للملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي بمعنى الوجوب والحرمة ، المفسّرين بكون الفعل بحيث يستحقّ فاعله الثواب وتاركه العقاب أو بالعكس ، بل قد يقال : إنّ حقيقة الحكم الشرعي هو المحبوبيّة والمغبوضيّة والإرادة والكراهة لا غير ، وأنّ غيرهما من المجعول الواقعي أو الطلب الفعلي المعبّر عنه ب « الإيجاب » و « التحريم » فإنّما يعتبر

٥٠٥

لكونه كاشفا عن الحكم ودليلا عليه وليس بحكم حقيقة وإن أطلق عليه اسم « الحكم » على ما صرّح به بعض المحقّقين.

وإن اريد الثاني فيمكن إثباتها أيضا بين حكم العقل والحكم الشرعي بمعنى المجعول الواقعي بل الطلب الفعلي أيضا بالعقل والنقل معا ، وأمّا إثباتها بينه وبين الجعل الشرعي بالعقل فيكفي فيه كون جعل الأحكام على طبق الجهات الواقعيّة الّتي منها الحسن والقبح المدركين بالعقل لطفا وكون اللطف واجبا على ما تقرّر في الكلام.

وأمّا إثباتها كذلك بالنقل فيكفي فيه ما ظهر من أحاديثنا من أنّه تعالى جعل لكلّ فعل حكما من الخمس المعروفة ، وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيّن حكم جميع الأفعال فحكم بوجوب كلّ ما فيه جهة مقتضية له وبحرمة ما فيه جهة مقتضية لها وهكذا ، وقد وصل إلينا بعض ذلك وبقي غيره محفوظا ومخزونا عند أهل البيت عليهم‌السلام ولم يظهروه لمصلحة لا نعلمها بالخصوص.

وأمّا إثباتها بينه وبين الطلب الفعلي المتعلّق بالفعل والترك المعبّر عنه ب « الإيجاب » و « التحريم » بالعقل فيكفي فيه استقلال العقل بقبح الأمر بالقبيح والنهي عن الحسن ، وحسن الأمر بالحسن والنهي عن القبيح.

وأمّا إثباتها كذلك بالنقل فيكفي فيه ما ورد في الكتاب والسنّة من أنّه تعالى لا يأمر بالسوء والفحشاء والمنكر ، وإنّما يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر ، وقال عزّ من قائل : ( وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ )(١)( قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ )(٢) فإنّ « الفحشاء » القبائح و « القسط » العدل وقال أيضا : ( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِ )(٣) وقال أيضا : ( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ )(٤) إلى غير ذلك ممّا لا يحصى كثرة.

وأمّا المنكرون للملازمة فإنكارهم إمّا أن يرجع إلى تخطئة العقل في إدراكه الحسن والقبح ، على معنى جواز كون ما حسّنه قبيحا وما قبّحه حسنا في الواقع ، وإنّما حكم بالحسن في الأوّل والقبح في الثاني خطأ في إدراكه ومعه يستحيل كونه منشأ للحكم

__________________

(١) الأعراف : ٢٨.

(٢) الأعراف : ٢٩.

(٣) الأعراف : ٣٢.

(٤) الأعراف : ١٥٧.

٥٠٦

الشرعي الواقعي ، أو يرجع إلى منع كون الحسن والقبح العقليّين من العلل التامّة للأحكام ، لجواز مصادفة حكمه بهما لفقد شرط أو وجود مانع ، كما يظهر من السيّد الفاضل في شرحه للوافية حيث قال ـ بعد تفسير القضيّة المشهورة بما تقدّم ـ : « بقي الكلام في أنّ ما يدركه عقولنا من الجهات هل هي علّة تامّة للأحكام؟ فنقول : لا شكّ أنّ بعض الأفعال يمكن أن يشتمل على جهة مقتضية لحكم لو لا معارضة جهة اخرى مقتضية لحكم مخالف لحكمها لها ، وقد يصير بعض الأزمنة أو الأمكنة أو اختلاف الأشخاص أو اختلاف حالات شخص واحد من أجزاء العلّة التامّة لثبوت الأحكام للأفعال ، فلو فرضنا أنّ عقلا أدرك في فعل فحكم بحسنه لا يجوز لنا أن نحكم بصدق حكمه ، لجواز غفلته عن معارضة جهة اخرى موجب للقبح مع رجحان الثانية على الاولى ، وهكذا حكم غفلته عن خصوصيّة الأزمنة والأمكنة وغيرهما.

نعم لو أحاط عقل بالعلّة التامّة فحكم باعتبارها بالحسن والقبح لقطعنا بحسن حكمه ، لأنّه حكم بوجود المعلول من جهة وجود علّته التامّة ، ولعلّ من الأحكام قلّما يكون كذلك ، إذ أكثرها ممّا لا سبيل للعقل إلى الإحاطة بجهاتها المقتضية لها ، فعلى هذا يمكن أن يكون شيء حسنا عند عقولنا وهو قبيح في الواقع وبالعكس ، وما هذا إلاّ لكون ما نظنّه علّة غير تامّة في الواقع لفقد شرط أو وجود مانع » انتهى.

ويندفع الأوّل : بأنّا نتكلّم على تقدير مطابقة حكم العقل للواقع ، وندّعي الملازمة فيما حكم العقل بحسنه أو قبحه على تقدير كونه كذلك في الواقع ، فالمسألة كبرويّة وما تقدّم على فرض تمامه كلام في الصغرى لا يوجب قدحا في الكبرى ، مع أنّ احتمال الخطأ في حكمه إنّما يجري في النظريّات الّتي ثبوت الحكم فيها منوط بإعمال مقدّمات نظريّة يكثر فيها الخلط والاشتباه ، وحكمه بالحسن والقبح في أكثر موارده منوط بسبب ضروري ، لما عرفت في تقرير الدليل عليه من أنّه بحكم العيان وضرورة الوجدان يدرك في بعض الأفعال كونه بحيث أوجب في فاعله استحقاق مدح العقلاء كالعدل والإحسان والصدق النافع ومجازاة المسيء بالإحسان ، وفي بعضها كونه بحيث أوجب في فاعله استحقاق ذمّ العقلاء كالظلم والعدوان والكذب الضارّ ومجازاة المحسن بالإساءة ، وتجويز الخطأ في نحو ذلك خطأ من مجوّزه ، خصوصا إذا كان مستند الحكم هو الوجدان ، مع أنّا نعلم بالبداهة كونه مصيبا في موارد حكمه كما في الأمثلة المذكورة ونظائرها.

٥٠٧

ويندفع الثاني : بأنّ من دأب العقل وديدنه أنّه لا يحكم في قضيّة إلاّ بعد الفراغ عن إحراز موضوعها بجميع خصوصيّاته ومشخّصاته وقيوده وحيثيّاته ، وبعد الإحاطة بجميع جهاته واعتباراته ، بل هذا طريقة كلّ حاكم في قضيّة حكمه من أهل العرف كان أو أهل الشرع ، ومن هنا ما قيل من أنّ مفهوم الصيغة إنّما يرد على مدلول المادّة بعد اعتبار قيودها وحيثيّاتها ، وحينئذ فإذا احتمل العقل في قضيّة مدخليّة خصوص زمان أو مكان أو غيرهما لا يتسارع إلى الحكم عليه بحسن ولا قبح ولا غيرهما إلاّ ويتحرّى إلى أن يتبيّن عنده المدخليّة أو عدم المدخليّة فيحكم بحسبهما ، وإن لم يتبيّن شيء من ذلك عنده فلا يزال متوقّفا في الحكم ، ولعلّ كثيرا ممّا لا حكم للعقل فيه من غير المستقلاّت من هذا القبيل ، فلم يبق في قضايا حكمه ما حكم فيه بحسن أو قبح واحتمل معه فقد شرط لجواز غفلته عن خصوصيّة الأزمنة أو الأمكنة أو غيرهما.

وأمّا احتمال غفلته عن وجود المانع فيما أدرك فيه جهة مقتضية لحكم خاصّ وهو جهة اخرى مقتضية لخلاف ذلك الحكم.

ففيه : أنّ الإنصاف أنّ ما يدركه العقل من الحسن والقبح قد يكون علّة تامّة للحكم الشرعي ، وقد يكون مقتضيا له قابلا لمصادفة ما يمنعه عن الاقتضاء ، ويتبع في ذلك الفعل المتّصف بهما ، فإنّه بعنوانه الخاصّ قد يكون علّة تامّة لحسنه أو قبحه كالظلم بالنسبة إلى القبح ولزمه كون الوصف أيضا علّة تامّة للحكم ، وقد يكون مقتضيا له كالكذب بالقياس إليه فلزمه كون الوصف أيضا بالقياس إلى الحكم كذلك.

ويعرف كونه من أيّ القسمين بعدم قبوله التخصيص في الأوّل ولذا لا يقال : « كلّ ظلم قبيح إلاّ الظلم الفلاني » وقبوله إيّاه في الثاني ، ولذا يصحّ القول : « بأنّ كلّ كذب قبيح إلاّ الكذب الفلاني ».

وبأنّه إذا اخذ معه جهة محسّنة أو جهة مقبّحة فإن أوجب انقلاب الموضوع وخروجه الموضوعي كان من الأوّل كقتل النفس مثلا ، فإنّه باعتبار كونه ظلما قبيح فإذا اخذ معه كونه على وجه القصاص أو كونه لأجل الارتداد خرج عن كونه ظلما ، وإلاّ بأن يفيد خروجه عن الحكم كان من الثاني كالكذب إذا اخذ فيه جهة النفع.

وبأنّ قيد الحيثيّة مع الأوّل يكون مستدركا ومع الثاني احترازيّا ، فإنّه في قولنا : « الظلم من حيث إنّه ظلم قبيح » لا يفيد شيئا ، وفي قولنا : « الكذب من حيث إنّه كذب قبيح » يفيد

٥٠٨

الاحتراز عن الكذب من حيث إنّه نافع.

ففيما كان الحسن أو القبح علّة تامّة للحكم باعتبار كون الفعل الموصوف بهما علّة تامّة لهما فلا إشكال معه في الملازمة كما اعترف به الفاضل المتقدّم ، وكذلك فيما كان مقتضيا له على المذهب الحقّ إذا اخذ مع الفعل الموصوف به قيد الحيثيّة ، والعقل أيضا إنّما يحكم عليه بالحسن أو القبح على هذا الوجه لا مطلقا ، لما عرفت من أنّه لا يحكم في القضيّة بشيء إلاّ بعد الإحاطة بجميع جهات موضوعها وإحرازه بجميع قيوده وحيثيّاته ، فإنّه في حكمه بقبح الكذب مثلا يلاحظ الكذب من حيث إنّه كذب ثمّ يحكم عليه بالقبح ، وهذا لا ينافي حسنه من حيث إنّه نافع في إنجاء نبيّ أو وصيّ نبيّ لأنّهما موضوعان متغايران بالفرض والاعتبار ، كما أنّ حكمه بحسن الصدق من حيث إنّه صدق لا ينافي قبحه من حيث كونه ضارّا لتعدّد موضوعيهما ، فغفلته عن الجهة المحسّنة في الأوّل والمقبّحة في الثاني إن صحّحنا جوازها لا تقدح في صدق حكمه المذكور ولا يوجب كذبه كما هو واضح.

نعم ربّما يحصل الغفلة في الصدق الضارّ والكذب النافع ، فيحكم بحسن الأوّل لملاحظته من حيث هو وقبح الثاني لملاحظته كذلك غفلة عن الجهة المقتضية للقبح في الأوّل والحسن في الثاني ، غير أنّه ليس غفلة من العقل لأنّ وظيفة العقل الحكم على الأشياء بعناوينها الخاصّة أو العامّة لا إجراء حكمه فيما هو من مصاديق أحد العنوانين ، بل من الناظر في حكمه لإجرائه فيما هو من مصاديق موضوعه حيث أجرى حكم أحد العنوانين فيما هو من مصاديق عنوان آخر غفلة.

ولا ريب أنّ ملاحظة المصاديق وتشخيص بعضها عن بعض لإجراء حكم كلّ عنوان في مصداقه الواقعي لا غير من وظيفة الناظر في الحكم لا من وظيفة الحاكم ، فحصول الغفلة للأوّل لا يوجب قدحا في صحّة حكم الثاني.

ومن هذا القبيل الغفلة فيما توارد عليه جهتان متزاحمتان كالصدق مثلا إذا تضمّن نفعا بإنجاء مؤمن عن القتل وإضرارا بإيقاع مؤمن آخر في القتل ، فغفل الناظر عن إحدى الجهتين وحكم بمقتضى الجهة الاخرى ، من دون مراعاة أنّ المورد من تعارض الجهتين فلا بدّ فيه من الترجيح ثمّ الحكم عليه بالوجوب أو الحرمة أو التسوية ثمّ البناء على التخيير والإباحة.

بل لنا أن نقول : إنّ الحكم بقبح الصدق الضارّ لجهة الضرر وحسن الكذب النافع لجهة

٥٠٩

النفع ليس باعتبار كون هذا أو ذاك في نفسه موضوعا لحكم العقل ، بل لاندراج الأوّل في عنوان « إضرار الغير » الّذي هو لذاته قبيح عند العقل واندراج الثاني في عنوان « إيصال النفع إلى الغير » الّذي هو لذاته حسن عند العقل ، وكذلك لطم اليتيم تعذيبا وتأديبا ، فإنّ قبح الأوّل وحسن الثاني إنّما هو لاندراجهما تحت القبيح والحسن الذاتيّين عند العقل وهما الظلم والعدل ، لكون الأوّل من الظلم والثاني من العدل ، فلو حصل خلط واشتباه بإجراء حكم الإضرار على ما ليس بضارّ في الواقع ، أو إجراء حكم النفع على ما ليس بنافع في الواقع ، أو إجراء حكم الظلم على ما ليس بظلم في الواقع ، أو إجراء حكم العدل على ما ليس بعدل في الواقع ، فهو ليس من العقل بل من الناظر في حكمه لإجرائه على ما هو من مصاديق موضوعه.

وعلى هذا القياس جميع الجهات المحسّنة أو المقبّحة للأفعال الخاصّة ، لرجوع الجميع إلى الوجوه ـ من الوجه بمعنى العنوان العامّ الأوّلي ـ الّذي يحكم العقل بحسنه أو قبحه لذاته ، وهو المراد من الوجوه والاعتبارات في عنوان قولهم : « أنّ الحسن والقبح بالوجوه والاعتبارات » وإطلاق « الوجه » على العنوان العامّ الأولي هو المعنى المعهود المصطلح عند الفقهاء والمتكلّمين ، ومنه الوجه المبحوث عنه في مباحث النيّة المعتبرة في العبادات ، يقولون : هل يعتبر فيها قصد الوجه أو لا؟

وما يوجد في كلامهم كثيرا من إطلاقه على الوجوب والندب فإنّما هو توسّع في الاستعمال لضرب من المجاز ، ولعلّه تسمية للمسبّب باسم السبب ، لكون الوجوب والندب في الأفعال الخاصّة مسبّبا عن العنوان العامّ الأولي الصادق عليها صدق الجنس على جزئيّاتها الإضافيّة ، ومنه أيضا ما في كلام المتكلّمين من أنّه يعتبر في حسن الفعل واستحقاق الثواب عليه وقوعه لوجوبه أو ندبه ، أو لوجه وجوبه أو ندبه.

وبالجملة وظيفة العقل في مستقلاّته إدراك حكم الكلّيات من حسن أو قبح ، كما أنّ وظيفة الشارع في غير مستقلاّت العقل بيان حكم الكلّيات ، وأمّا إجراء حكم كلّ كلّي على ما هو من جزئيّاته في المقامين فهو من وظيفة الناظر لا الحاكم عقلا كان أو شرعا ، فلو اتّفق غفلة واشتباه للناظر في الجزئيّات بإجراء حكم كلّي فيما هو من جزئيّات كلّي آخر للناظر لا يسند ذلك إلى الحاكم ، فتجويز الغفلة والاشتباه على العقل في موضوعات حكمه بالحسن والقبح أو في جزئيّات تلك الموضوعات هفوة وزلّة من مجوّزه فلا ينبغي الإصغاء إليه.

٥١٠

ثمّ إنّ الفاضل التوني (١) احتجّ على ما اختاره من منع الملازمة بوجوه :

أحدها : قوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً )(٢) فإنّه سبحانه تعالى أخبر بنفي التعذيب حتّى يبعث الرسول ، وليس المراد إثبات التعذيب بعد البعث وقبل تبليغ الحكم إلى المكلّف بل اثباته بعد التبليغ ، فالمسألة قد فرضت في الصورة الّتي حكم العقل بحكم ولم يصل من الشارع حكم ، فالتعذيب يكون منفيّا فلا يجوز الحكم على هذا الواجب العقلي والحرام العقلي بأنّه واجب أو حرام شرعا بل يكون مباحا ، لأنّ الإخبار من الله تعالى على نفي التعذيب إباحة منه سبحانه للفعل والترك ، هكذا قرّره السيّد الشارح رحمه‌الله.

والمعروف في ردّه هو : أنّ نفي التعذيب لا ينافي استحقاق العذاب لجواز العفو ، والواجب الشرعي هو ما يستحقّ تاركه العقاب لا ما عوقب عليه ، حتّى أنّ الفاضل المستدلّ في سابق كلامه فسّر الواجب الشرعي : « بما يستحقّ فاعله الثواب » وتاركه العقاب والحرام الشرعي عكس ذلك ، قبالا للواجب العقلي المفسّر بما يستحقّ فاعله المدح وتاركه الذمّ والحرام العقلي عكسه ، وهذا منه مع الاستدلال المذكور عجيب.

وأعجب منه أنّه في أثناء البحث تفطّن للردّ المذكور وضاق عليه الأمر بذلك فعدل عمّا ذكره أوّلا في شرح الواجب الشرعي إلى القول بأنّه ما يجوّز المكلّف العقاب على تركه ، ومع إخبار الله تعالى بنفي العقاب لا يمكن هذا التجويز.

وفيه : مع الغضّ عن أنّ ذلك خلاف ما عليه اصطلاح الأكثر في الواجب الشرعي ، أنّ تجويز العقاب على ترك الفعل معناه كون الفعل بحيث يجوز لله تعالى أن يعاقب عليه بالنظر إلى ذاته ، ولا ينافي ذلك عدم جوازه لئلاّ يلزم كذبه تعالى في إخباره بنفي العذاب ، فيقال في الواجب العقلي على تقدير استلزامه الواجب الشرعي أنّه بحيث يجوّز المكلّف العقاب عليه بالنظر إلى ذاته وإن لم يجوّزه بالنظر إلى إخباره تعالى بنفي التعذيب لئلاّ يلزم كذبه ، كما في سائر موارد إخباره تعالى بالعفو من غير مستقلاّت العقل.

ومع الغضّ عن ذلك أيضا نقول : إنّا ندّعي الملازمة بين كون الفعل واجبا أو حراما عند العقل ـ على معنى استحقاق المدح والذمّ عليه ـ وكونه محبوبا أو مبغوضا لله تعالى يترتّب عليه استحقاق الثواب والعقاب ، على معنى ترتّبه على موافقة ميله تعالى ورضاه ، وهذا يكفي في انعقاد الحكم الشرعي المبحوث عن الملازمة بينه وبين الحكم العقلي على ما

__________________

(١) الوافية : ١٧٢.

(٢) الإسراء : ١٥.

٥١١

عرفت ، سواء فسّرت الواجب الشرعي بما يستحقّ العقاب على تركه أو ما يجوّز المكلّف العقاب على تركه ، أو غيرهما ، إذ ليس الكلام في الملازمة بين الحكم العقلي وأمر اصطلاحي حتّى يغيّر الاصطلاح على حسب ما اقتضاه المذهب في الملازمة.

وبذلك يندفع أيضا ما ذكره السيّد الشارح في تفسير الواجب الشرعي من أنّه ما يوجب فعله الثواب من حيث هو إطاعة وتركه العقاب من حيث هو مخالفة ، وقال : « وقد مرّ أنّ إخبار الله تعالى بنفي التعذيب إباحة للفعل والترك ، فلا يكون ثمّة إطاعة ولا مخالفة فلا وجوب ولا حرمة ».

وحاصل الدفع : أنّه يكفي في صدق « الإطاعة » و « المخالفة » موافقة ميله تعالى ومحبوبه ومخالفته ، فيصدق على الفعل حينئذ أنّه ما يوجب فعله الثواب من حيث هو إطاعة وتركه العقاب من حيث هو مخالفة ، ويتطرّق المنع إلى كون إخباره تعالى بنفي التعذيب إباحة للفعل والترك لجواز الواسطة وهو العفو ، إذ ليس معنى ما يوجب تركه العقاب من حيث هو مخالفة ما يوجب تركه وجوب العقاب لئلاّ يجامع العفو ـ وإلاّ كان مدافعا لما علم بالضرورة من الدين وبالكتاب العزيز والسنّة المتواترة من عفوه يوم القيام عن ذنوب أهل الفسق في الجملة ، والإخبار به في الآيات المصرّحة به فوق حدّ الإحصاء ـ بل ما يوجب جواز العقاب وهذا لا ينافيه عدم وقوع العقاب ، فيجمع بين كون الواجب العقلي واجبا شرعيّا وبين مفاد الآية بأنّه ما يوجب تركه جواز العقاب من حيث هو مخالفة وأنّه ما يوجب تركه عدم وقوع العقاب من حيث إخباره تعالى بالعفو أو بعدم التعذيب الّذي هو أعمّ منه ومن انتفاء موجب جواز العقاب.

نعم يمكن أن يقال في دفع الردّ : إنّ نفي التعذيب وإن لم يستلزم نفي الاستحقاق عقلا غير أنّه يستلزمه عرفا ، فإنّ المنساق من نحو هذا الخطاب في متفاهم العرف إنّما هو نفي التعذيب على وجه الاستحقاق ، وبذلك يكون الاخبار به إباحة للفعل والترك.

وهذا حسن لو لا إمكان القول بظهور الآية في الورود للامتنان ، ولا يتمّ ذلك إلاّ بثبوت الاستحقاق وإلاّ فلا موجب للتعذيب ليكون نفيه امتنانا كما هو واضح.

لكنّ الإنصاف أنّ نفي التعذيب مع فرض الوجوب والحرمة الشرعيّين ربّما يؤدّي إلى نقض الغرض من إيجاب هذا الواجب وتحريم هذا الحرام ، لاستلزامه تجرّي المكلّف بترك الواجب وفعل الحرام تعويلا منه على عدم العقاب عليه ، ولا يكفي استحقاقه المعلوم لديه

٥١٢

بالفرض صارفا له عن ذلك كما لا يخفى والتحقيق في ردّ الاستدلال أن يقال : إنّ ظاهر الآية بملاحظة سابقها ولا حقها كونها منساقة بسياق قوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها )(١) و ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ )(٢) وقوله عليه‌السلام : « الناس في سعة ما لم يعلموا » (٣) و « ما حجب الله علمه عن العباد » (٤) و « رفع عن امّتي تسعة » (٥) وعدّ منها ما لا يعلمون ، وما أشبه ذلك من عمومات أصل البراءة فيما لا نصّ فيه كتابا وسنّة فيكون مفادها حينئذ نفي العقاب على مخالفة الواجبات الواقعيّة والمحرّمات الواقعيّة المستورة على المكلّف لجهالته بالحكم الشرعي بسبب عدم بلوغه إليه ، فلا يدخل فيه ما نحن فيه لعدم جهالة حكمه الشرعي بحكم الملازمة بينه وبين الحكم العقلي.

ومع الغضّ عن ذلك نجيب عن الاستدلال بالإهمال تارة أو التخصيص اخرى أو التعميم ثالثة ، وقد سبق بيان الجميع في ردّ استدلال الأشاعرة بالآية على نفي حكومة العقل.

وثانيها : جملة من الأخبار المختلفة المضامين :

منها : ما يدلّ على أنّه لا يتعلّق التكليف إلاّ بعد بعث الرسل ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيي من حيّ عن بيّنة.

ومنها : ما يدلّ على أنّه على الله تعالى بيان ما يصلح الناس وما يفسد (٦).

ومنها : ما يدلّ على أنّه لا يخلو زمان عن إمام معصوم ليعرّف الناس ما يصلحهم وما يفسدهم (٧).

ومنها : ما يدلّ على أنّ الله تعالى يحتجّ على العباد بما آتاهم وعرّفهم ، ثمّ أرسل إليهم رسولا وأنزل إليهم الكتاب ، فأمر فيه ونهى ، أمر فيه بالصلاة والصيام إلى آخره (٨).

والجواب عن الأوّل : يظهر ممّا مرّ ، فإنّ المراد به نفي التكليف حتّى يبعث الرسل في الواجبات والمحرّمات الواقعيّة المجهولة للمكلّفين بعدم بلوغ الحكم الواقعي إليهم ،

__________________

(١) الطلاق : ٧.

(٢) الأنفال : ٤٢.

(٣) المستدرك ١٨ : ٢٠ ، الباب ١٢ من أبواب مقدّمات الحدود ، الحديث ٤ ـ عوالى اللآلي ١ : ٤٢٤.

(٤) الوسائل ١٨ : ١١٩ ، الباب ١٢ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٨.

(٥) الوسائل ١١ : ٢٩٥ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس الحديث الأوّل.

(٦) الخصال : ٢٨٣ باب الخمسة ح ٣١.

(٧) راجع الكافي ١ : ١٧٨ ، باب أنّ الأرض لا تخلو من حجّة.

(٨) الكافي ١ : ١٦٤ ـ كتاب التوحيد ـ باب حجج الله على خقلقه ـ ج ٤.

٥١٣

ولا جهالة في مستقلاّت العقل لبداهة الملازمة ، ومع الغضّ عن ذلك فمفاده ليس إلاّ قضيّة مهملة ولو سلّم العموم فلا يقاوم لمعارضة البداهة القاضية بالملازمة ، فلا مناص من تأويل إمّا بالتخصيص أو بالتعميم في الرسل.

وعن الثاني : بأنّ المراد بالموصول إمّا الأحكام الواقعيّة باعتبار كونها إرشادا منه تعالى إلى المصالح والمفاسد النفس الأمريّة ، أو الأفعال والتروك المشتملة على المصالح والمفاسد النفس الأمريّة ، وأيّا مّا كان فكون بيانه على الله تعالى لا يشمل ما نحن فيه ، لأنّ العقل بعد ما أدرك حسن الفعل أو قبحه فقد كشف عن محبوبيّته لله تعالى أو مبغوضيّته ، فكان ممّا يصلح الناس ويفسد وقد حصل بيانه ، ولا حاجة معه إلى بيان آخر إلاّ لأجل التأكيد.

ولو سلّم فبيانه تعالى ما يصلح وما يفسد أعمّ منه بلسان العقل أو بلسان الشرع ، وقد حصل فيما نحن فيه بلسان العقل.

ولو سلّم فالمنساق من الرواية في متفاهم العرف بيان ما يحتاجون إلى بيانه ، ولا حاجة لهم فيما حسّنه العقل أو قبّحه إلى بيانه تعالى.

وعن الثالث : بأنّ معرفة كون الفعل محبوبا أو مبغوضا لله تعالى معرفة للمصلح والمفسد وقد حصلت بحكم العقل ، ولا حاجة معه إلى تعريف الإمام ، سواء اريد بالمصلح والمفسد نفس الأحكام الواقعيّة أو موضوعاتها من الأفعال والتروك ، فالرواية مخصوصة بغير مستقلاّت العقل.

وعن الرابع : بأنّ الإيتاء والتعريف لا ينحصران فيما إذا كانا بتوسّط الرسل ، بل المعرفة الحاصلة من العقل إيتاء وتعريف من الله سبحانه ، وعلى هذا فما آتاهم مختصّ بما يستقلّ به العقل أو شامل له ولما لم يعلم إلاّ من جهة الشرع.

ويؤيّد الأوّل لفظة « ثمّ » فيكون إرسال الرسل مؤيّدا له كاشفا عن الّذي يخفى على العقل كما نبّه عليه السيّد الفاضل ، ويمكن أن يراد بما أعطاهم نفس العقل المدرك للحسن والقبح ، المرشد إلى فعل الحسن وترك القبيح ، فلو لا كون مدركاته أحكاما شرعيّة أو ملزومات لها لم يتمّ الاحتجاج به على الناس.

وأمّا ما يقال على الوجه الأوّل من أنّ الخبر وإن دلّ على ترتّب أمر على ما يستقلّ فيه العقل ، ولكنّه لا يدلّ على ترتّب ما هو لازم الوجوب والحرمة الشرعيّين ، وهذا هو النافع لمن يحكم بالشرعيّين ، لقضاء العقل بالعقليّين.

٥١٤

ففيه : أنّا لا نعقل ممّا يترتّب على ما يستقلّ فيه العقل إلاّ المحبوبيّة والمبغوضيّة الّتي يترتّب عليها الثواب والعقاب من حيث الإطاعة والمخالفة ، فإن كان ما هو من لوازم الوجوب والحرمة الشرعيّين هو هذا فهو المطلوب ، وإلاّ نمنع اعتباره فيهما لما ذكرناه مرارا من كفاية مجرّد المحبوبيّة والمبغوضيّة النفسانيّتين في انعقاد الحكم الشرعي وترتّب جميع آثاره ولوازمه ، وإنّ الزائد عليهما من الجعل أو الطلب فعلا فلا يعتبر إلاّ لأجل الكشف عنه والدلالة عليه.

وثالثها : قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي » (١) دلّت الرواية على إناطة الحرمة الشرعيّة في كلّ شيء ببلوغ النهي عنه إلى المكلّف ، فلا حرمة ما لم يبلغ النهي ، وهو عامّ يشمل المستقلاّت العقليّة أيضا ، فلو أنّ بين القبح العقلي والتحريم الشرعي ملازمة واقعيّة لم يصحّ إناطة حرمته ببلوغ النهي.

والجواب : أنّ الإطلاق بحسب العرف واللغة عبارة عن رفع قيد الشيء وإزالته ، يقال : أطلقت الأسير ، أي رفعت قيد أسره ، ومنه ما في الدعاء : « اللهمّ أطلق لساني بذكرك » (٢) أي ارفع قيده الّذي حبسه عن ذكرك ، ومنه الطلاق الّذي يقال في الشرع على إزالة قيد النكاح ، وقد يطلق على حالة منتزعة عن الشيء باعتبار عدم ورود القيد به ، ومنه « ناقة طلق » أي ما ليس بها قيد ، والمطلق في وصف الماء أي ما لا حاجة في ذكره إلى قيد ، والمطلق لنوع من اللفظ ، ومنه قوله عليه‌السلام : « مطلق » في الرواية (٣) نظرا إلى أنّ التكليف في الفعل المكلّف به الّذي منه الحرمة نحو قيد يؤخذ معه ، وليس المراد من الرواية ما ينطبق على المعنى الأوّل وهو رفع قيد الحرمة ، ليكون المعنى : كون كلّ شيء مرفوع الحرمة حتّى يرد فيه نهي ، بل المراد كونه بحيث لا يرد عليه قيد الحرمة حتّى يرد فيه نهي.

وحينئذ فقضيّة الرواية إمّا خبريّة يراد بها الإخبار عن كلّ شيء بكونه بحيث ليس فيه قيد الحرمة إلى أن يرد فيه نهي من باب بيان الواقع.

ففيه : منع شمول عمومها لمستقلاّت العقل ، إمّا لأنّ مفاد الرواية حينئذ كون الأشياء قبل بلوغ النهي فيها إلى المكلّف بمنزلة أفعال البهائم في خلوّها عن الحكم ، ولو باعتبار خلوّها عن الجهات المقتضية للحكم.

ولا ريب أنّ حكم العقل في مستقلاّته بالحسن أو القبح الموجبين للمحبوبيّة والمبغوضيّة

__________________

(١ و ٣) الفقيه ١ : ٣١٧ ح ٩٣٧.

(٢) الكافي ١ : ٧٠ ، الأمالي للصدوق : ٦٤٩.

٥١٥

أوجب خروجها عن عداد أفعال البهائم ، بل هي في الحقيقة داخلة فيما بعد الغاية ، لبلوغ النهي فيها بالمبغوضيّة المستتبعة لاستحقاق العقاب على الترك الكافية في انعقاد الحرمة الشرعيّة ، بناء على عدم كون النهي هنا مرادا به خصوص النهي اللفظي ، لما سبق تحقيقه في مباحث الأوامر والنواهي (١) من عدم دخول الصيغة المخصوصة ولا اللفظ في وضع الأمر والنهي لغة وعرفا.

غاية الأمر دخول الطلب فيهما ، ويكفي في ثبوته فيما نحن فيه بعد إثبات المحبوبيّة والمبغوضيّة بحكم العقل ما تقدّم من إمكان إثباته بانضمام مقدّمات اخر عقليّة ونقليّة ، مع أنّه إنّما يعتبر فيما يحتاج إليه للكشف عن المحبوبيّة والمبغوضيّة النفسانيّتين ، وبعد انكشافهما بحكم العقل لا حاجة إلى التزامه.

أو لعدم صدق قولنا : كلّ شيء لم يرد فيه نهي فهو مطلق ، لانتقاضه بالواجبات بل المندوبات والمكروهات ، لعدم خلوّها عن قيد تكليفي ، فلا بدّ وأن يكون المراد : أنّ كلّ شيء احتمل فيه الحرمة ولم يعلمها المكلّف بالخصوص فهو مطلق إلى أن يبلغه النهي عنه ، والمفروض في المقام علمه بالحكم الشرعي بواسطة حكم العقل.

وإمّا إنشائيّة (٢) اريد بها إنشاء الإباحة.

ففيه أوّلا : أنّ إباحة القبيح كالأمر بالقبيح قبيح عقلا.

وثانيا : إنّ هذه الإباحة لا يجوز أن تكون واقعيّة وإلاّ لم تكن مغيّاة بورود النهي ، والإباحة الظاهريّة أيضا موضوعها الجاهل بالحكم الواقعي ولا جهل في المقام.

وبالجملة ما يستقلّ العقل بقبحه لا يندرج في عموم الرواية بشيء من محتملاتها.

ورابعها : الخبر الموثّق عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « بني الإسلام على خمس الصلاة والزكاة والصيام والحجّ والولاية ، ولم يناد بشيء كما نودي بالولاية ، فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه ، أما لو أنّ رجلا صام نهاره وقام ليله وحجّ في جميع دهره وتصدّق بجميع ماله ، ولم يعرف وليّ الله فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ، فليس على الله حقّ في ثوابه ، ولا هو من أهل الإيمان » (٣) دلّت الرواية على أنّ ترتّب الثواب على الأعمال بل استحقاقه مقصور على دلالة الإمام عليه‌السلام إليها.

__________________

(١) سبق في ج ٣ : ٨.

(٢) عطف على قوله : « فقضيّة الرواية إمّا خبريّة » الخ.

(٣) الكافي ٢ : ١٨ ح ٤.

٥١٦

وقضيّة ذلك انحصار طريق أخذ الأحكام في الشرع ، وهذا ينفي طريقيّة حكم العقل.

والجواب : أنّ هذه الرواية بقرينة صدرها وردت في ردّ المخالفين حيث لم يعرفوا وليّ الله بل أنكروا ولايته ولم يوالوه ، ولم يرجعوا إليه في أخذ أعمالهم وأحكامهم ، بل رجعوا إلى الطرق الفاسدة الغير المشروعة من الرأي والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وغيرها ، من غير نظر فيها إلى ما يستقلّ فيه العقل ، وأنّ الحكم العقلي هل يلازم الحكم الشرعي أم لا؟ وأنّ الوجوب والحرمة العقليّين هل يلازمان الإيجاب والتحريم الشرعيّين أم لا؟ فليس فيها ما يدلّ على نفي الملازمة.

ومع الغضّ عن ذلك نقول : إنّ مفاد الرواية اشتراط تحقّق الإيمان وصحّة الأعمال بمعرفة الإمام وموالاته ، فلا إيمان لمن فقدهما ، كما لا صحّة لأعماله كالمخالفين ، ولا ينافي ذلك ثبوت الأحكام الشرعيّة بالقياس إليهم وتوجّه الخطاب إليهم ، لما تقرّر في محلّه من أنّهم كالكفّار مكلّفون بفروع الشرع ومخاطبون بهما ، إلاّ أنّ أعمالهم لا تقع صحيحة لانتفاء ما هو من شروط الصحّة ، ولا يفترق الحال في ذلك بين كون الأحكام والأعمال ثابتة بخطاب الشرع كما في غير المستقلاّت العقليّة أو بحكم العقل كما في مستقلاّته ، حتّى أنّه لا يجديهم إحسانهم ولا صدقهم ولا عدلهم ولا أمانتهم ولا ردّهم الوديعة مع ثبوت أحكام هذه العناوين على القول بالملازمة بالقياس إليهم أيضا.

وأمّا قوله عليه‌السلام : « ويكون جميع أعماله بدلالته إليه » فهو حصر لطريقيّة أخذ الأعمال في دلالة الإمام من باب قصر القلب ، قبالا للطرق الفاسدة المتداولة عند المخالفين بنفي الطريقيّة عنها وإثباتها ، له فتكون الأعمال المذكورة في الرواية مختصّة بالأعمال الّتى يأخذ فيها المخالفون بتلك الطرق الفاسدة وليست إلاّ العبادات التوقيفيّة وغيرها ممّا لا يستقلّ فيه العقل ، كما يشعر به أيضا سبق ذكر الصلاة والزكاة والصيام والحجّ الّتي هي من هذا القبيل ، وهذا لا ينافي طريقيّة حكم العقل في مستقلاّته ، بل انحصار الطريق في غير المستقلاّت في الشرع هو الّذي يقول به أهل القول بالملازمة أيضا.

وخامسها : أنّ أصحابنا والمعتزلة قالوا : « إنّ التكليف فيما يستقلّ به العقل لطف » يعني أنّ انضمام التكليف الشرعي بالتكليف العقلي ـ بمعنى تواردهما معا ـ لطف ، كما أنّ مطلق التكليف السمعي لطف فيما لا يستقلّ به العقل ، والعقاب بدون اللطف قبيح ، فلا يجوز العقاب على ما لم يرد فيه من الشرع نصّ لعدم اللطف فيه حينئذ.

٥١٧

والجواب أوّلا : إنّ كلام أصحابنا والمعتزلة هنا إثبات للملازمة بين حكم العقل والحكم الشرعي بأحد وجوهه المتقدّمة ، على ما أومأنا إليه أيضا بقاعدة اللطف ، ومحصّله : أنّ الإيجاب والتحريم من الشارع على طبق الوجوب والحرمة العقليّين ليكون كلّ واجب عقلي واجبا شرعيّا وكلّ حرام عقلي حراما شرعيّا لطف ، ولا يلزم فيهما كونهما بخطاب لفظي بعد قيام ما يغني عنه من حكم العقل مع انضمام مقدّمة اخرى ، فهذا دليل لنا لا علينا.

وثانيا : أنّ ذلك بعد أخذ اللطف بمعناه المعروف ـ وهو ما يقرّب العبد إلى الطاعة ويبعّده عن المعصية ـ على مختارنا أدلّ ، وذلك لأنّ صدق هذا المفهوم وتحقّقه في الخارج يستدعي إحراز طاعة ليكون التكليف السمعي مقرّبا إليها وإحراز معصية ليكون مبعّدا عنها ، ولا طاعة ولا معصية فيما يستقلّ به العقل إلاّ ما يحرز بحكم العقل قبل النظر في خطاب الشرع ، وهذا مبنيّ على ثبوت الملازمة بينه وبين الحكم الشرعي الّذي موافقتها إطاعة ومخالفته معصية ، ويكفي في ذلك ـ على ما مرّ مرارا ـ مجرّد المحبوبيّة والمبغوضيّة ، فيكون الإيجاب والتحريم السمعيّان حينئذ مقرّبا إلى الإطاعة اللازمة من موافقة المحبوبيّة والمبغوضيّة ، ومبعّدا عن المعصية اللازمة من مخالفتهما.

وبالجملة : فلو لا الملازمة المذكورة فيما يستقلّ به العقل لم يكن هناك إطاعة ولا معصية ، فلا يصدق على التكليف السمعي فيه كونه مقرّبا إلى الطاعة ومبعّدا عن المعصية.

وممّا يفصح عن صحّة ما قلناه ما عن جمهور العدليّة من الإماميّة والمعتزلة في تفسير الوجه ـ بعد تعريفه بالسبب الباعث على إيجاب الواجب وندب المندوب ـ بأنّه اللطف في الواجبات والمندوبات العقليّة ، ومعناه على ما ذكره جماعة منهم المحقّق الثاني في جامع المقاصد (١) أنّ السمعيّات ألطاف في العقليّات قبالا لمن جعله مجرّد الأمر كالأشاعرة ، ولمن جعله الشكر على معنى أنّ الفعل إنّما يجب لكونه شكرا للمنعم كالكعبي ، ولمن جعله ترك المفسدة اللازمة من الترك كبعض المعتزلة ، فإنّ الوجوب العقلي ـ على ما مرّ ـ هو كون الفعل بحيث يستحقّ فاعله المدح وتاركه الذمّ ، والندب كونه بحيث يستحقّ فاعله المدح ولا يستحقّ تاركه الذمّ ، وهذا قد يكون بحيث يستقلّ العقل بإدراكه كما في مستقلاّته ، وقد يكون بحيث لا يدركه إلاّ بواسطة خطاب الشرع الوارد لإيجاب الواجب وندب المندوب ، على معنى إنشاء الوجوب والندب الشرعيّين كما في غير مستقلاّته.

__________________

(١) جامع المقاصد ١ : ٢٠٢.

٥١٨

ولا ريب أنّ الإيجاب والندب الشرعيّين لا يكون لطفا في الواجبات والمندوبات العقليّة إلاّ إذا تضمّن الوجوب العقلي بالمعنى المذكور طاعة ومعصية ، والندب العقلي طاعة ، ولا يكون كذلك إلاّ إذا استلزم الأوّل محبوبيّة الفعل ومبغوضيّة الترك ، والثاني محبوبيّة الفعل فقط لله تعالى ليكون موافقة الأوّل والثاني طاعة ومخالفة الأوّل معصية ، أو إذا استلزاما الجعل الواقعي أو الطلب الفعلي أيضا ليترتّب على موافقة أحدهما أو مخالفته الطاعة والمعصية ، وحينئذ يصدق على إيجابه تعالى أنّه لطف بمعنى المقرّب إلى الطاعة والمبعّد عن المعصية اللازمتين من مجرّد المحبوبيّة والمبغوضيّة النفسانيّتين ، أو من المجعول الواقعي أو من الطلب الفعلي ، ولكن لا يعتبر فيه كونه بالخطاب اللفظي إلاّ فيما لا يستقلّ العقل بإدراك الوجوب العقلي ، فلا يجب في مستقلاّته ورود خطاب من الشرع بوجوب الواجب وندب المندوب ، وإن كان ذلك أيضا لطفا.

ودعوى قبح العقاب بدون اللطف على إطلاقها غير مسلّمة ، بل المسلّم قبحه بدونه فيما لا طريق للمكلّف إلى إدراك الوجوب العقلي إلاّ خطاب الشرع ، وليس كذلك الحال فيما يستقلّ فيه العقل ، لفرض استقلاله بإدراك الحسن والقبح المرادفين للوجوب والحرمة العقليّين.

وبالجملة الخطاب اللفظي الّذي مفاده التكليف السمعي فيما يستقلّ العقل بإدراك حسنه أو قبحه لطف مندوب ، وليس شرطا في صحّة العقاب ليقبح بدونه ، وليس مراد جمهور العدليّة من كون الإيجاب والندب لطفا في الواجبات والمندوبات العقلية أنّه لابدّ وأن يكون بخطاب اللفظ حتّى في المستقلاّت ، لأنّ غاية ما ذكروه كون الإيجاب والندب بالمعنى المتضمّن للطلب الفعلي لطفا ، وهذا أعمّ من أن يكون مدلولا عليه بالعقل أو بخطاب الشرع.

والسرّ في ذلك : أنّ الخطاب اللفظي ليس من مقوّمات ماهيّة الإيجاب والندب ولا من لوازم ماهيّة الطلب ، بل هو من عوارض الشخص ، بل قد عرفت مرارا أنّه لا يعتبر في صدق الطاعة والمعصية حصول الطلب الفعلي ولا الجعل الواقعي ، بل يكفي فيهما مجرّد المحبوبيّة والمبغوضيّة النفسانيّتين.

وإن شئت صدق هذه المقالة فراجع نفسك في معاملتك مع عبدك الّذي اشتريته ، فقد تجعل له حكما كوجوب التجارة وحرمة قتل ولدك ، ثمّ أبرزته له بالطلب الفعلي بقولك : « يا عبدي أوجبت عليك التجارة ، أو أتجر لي ، وحرّمت عليك قتل ولدي ، أو لا تقتل ولدي » وقد تجعل له ذلك الحكم ولكن لم تبرزه له ، أو أبرزته ولم يصل إليه خطابك بعدم بلوغ

٥١٩

الطومار الّذي أرسلته إليه ، وقد لا تجعل له ذلك الحكم أيضا ولكن الفعل بحيث يكون محبوبا أو مبغوضا في نظرك ، بحيث لو أردت جعل حكم لم تجعل إلاّ الوجوب والحرمة ، ولو أردت إنشاء الطلب بعد الجعل لم تطلب إلاّ الفعل أو الترك ، وكان للعبد طريق إلى إدراك هذه الصفة أو إدراك المجعول الواقعي ، فترى أنّ العبد إذا خالف في جميع هذه الصور الثلاث بترك الإتجار أو إيقاع القتل يستحقّ عقابك ويحسن لك عقابه ، وترى أنّ استحقاقه العقاب في الصورتين الأخيرتين ليس إلاّ كاستحقاقه في الصورة الاولى ، ولا يعذّره العقلاء لو اعتذر بعدم طلب المولى ، أو بعدم جعله الحكم مع اعترافه بإدراك المجعول الواقعي أو إدراك الصفة النفسانيّة.

ثمّ إنّ بعض الفضلاء اختار في مسألة الملازمة تفصيلا فأنكرها واقعا وأثبتها ظاهرا ، حيث قال : « الحقّ أن لا ملازمة عقلا بين حسن الفعل أو قبحه وبين وقوع التكليف على حسبه ومقتضاه ، وإنّما الملازمة بين حسن التكليف بالفعل أو الترك وبين وقوعه.

نعم جهات الفعل من جملة جهات التكليف ، فقد يقتضي حسن الفعل أو قبحه حسن التكليف به أو بتركه ، وقد لا يقتضي لمعارضة جهة اخرى في نفس التكليف ، هذا إذا اريد بالملازمة الواقعيّة منها ، ولو اريد بها الملازمة ولو بحسب الظاهر فالظاهر ثبوتها. »

ثمّ أسند إلى بعض المحقّقين الموافقة ، إلى أن قال : « فلنا في المقام دعويان » (١) وتمسّك لأوّلهما ـ وهو نفي الملازمة الواقعيّة بين حسن الفعل أو قبحه وبين وقوع التكليف على حسبه ـ بالوجوه الآتية الضعيفة.

وأنت بمراجعة ما قرّرناه من كلماتنا في دفع شبهة السيّد الفاضل الشارح للوافية في إنكار كون جهات الفعل عللا تامّة للأحكام الشرعيّة تعرف ضعف هذا التفصيل أيضا.

وملخّصه : أنّ وقوع المعارضة بين الجهات في موضوع قضيّة حكم العقل غير معقول ، إذ قد عرفت أنّ العقل في قضيّة الكذب قد يلاحظ الكذب من حيث هو فيحكم بقبحه ، وقد يلاحظه من حيث النفع فيحكم بحسنه ، وفي قضيّة الصدق قد يلاحظ الصدق من حيث النفع فيحكم بحسنه ، وقد يلاحظ من حيث الضرر فيحكم بقبحه ، وهما قضيّتان متصادقتان لا تنافي بينهما ، فيكون الحسن والقبح في موضوع كلّ منهما مقتضيا لحسن التكليف ووقوعه على حسبه من إيجاب أو تحريم.

__________________

(١) الفصول : ٣٣٧.

٥٢٠