تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٥٥٥

ضرره » فإنّه يدلّ على أنّ كلّ دواء لا يؤمن ضرره يجب اجتنابه وإن وصفه غير النسوان ، مع أنّ المورد بحسب الدلالة اللفظيّة خاصّ ، وما نحن فيه أيضا من هذا القبيل لأنّ مورد الأمر بالتبيّن خاصّ وهو خبر الفاسق ، والتعليل يعمّمه بخبر العادل أيضا فيكون حاكما على التعليق فيحمل التعليق ، حينئذ على فوائده الاخر غير فائدة الانتفاء عند الانتفاء ، وإن قلنا بأنّها أظهر الفوائد ، لأنّ الأظهريّة إنّما تكون متّبعة إذا لم يزاحمها ما هو أقوى منها ، أو يحكم عليها في متفاهم العرف لا مطلقا.

نعم لا بدّ لتخصيص الفاسق بالذكر من نكتة ، ولعلّه للتنبيه على فسق مورد نزول وهو الوليد كما نبّه عليه في المعارج (١).

لا يقال : إنّ المفهوم أخصّ مطلقا من التعليل لأنّه خاصّ بخبر العادل ، والتعليل عامّ فيه وفي خبر الفاسق ، ومن الواجب تخصيص العامّ بالخاصّ ، ولا ضير فيه بناء على جواز تخصيص العامّ بمفهوم المخالفة ، فإيجاب التبيّن لا يتناول خبر العادل الغير المفيد للعلم.

ولو سلّم كون النسبة بين المفهوم والتعليل عموما من وجه كما قد يتوهّم ، لكون الأوّل عامّا في خبر العادل المفيد للعلم وغير المفيد له ، والثاني عامّا في خبر الفاسق وخبر العادل ، فيتعارضان في خبر العادل الغير المفيد للعلم ، وجب إرجاع التخصيص إلى التعليل لا المفهوم ، وإلاّ لزم كون مورده خبر العادل المفيد للعلم ، وهو إلغاء الآية المسوقة لبيان حجّيّة خبر الواحد على زعمهم ، لأنّ الخبر المفيد للعلم حجّة في نفسه ولا يحتاج حجّيّته إلى دليل ولا إلى خطاب من الشارع ، كما تقدّم في مباحث العلم من أنّه حجّة في نفسه لا بجعل الشارع.

لأنّا نقول أوّلا : بنحو ما قد يقال من اختصاص قاعدة تخصيص العامّ بمفهوم المخالفة بالمخصّص المنفصل ، بأن يكون الكلام المشتمل على المفهوم منفصلا عن الكلام المشتمل على العامّ ، كما في قوله : « أكرم العلماء » مع قوله الآخر : « إن جاءك زيد فأكرمه ».

وثانيا : أنّ ملاحظة العموم والخصوص مطلقا أو من وجه ، وتخصيص العامّ بالخاصّ ، أو إرجاع أحد العامّين من وجه إلى الآخر ، بإخراج مادّة الاجتماع عنه ، إنّما تتّجه لو فرض التعارض بين التعليل ونفس المفهوم الّذي مورده إمّا خاصّ مطلقا أو عامّ من وجه ، وليس مبنى الإيراد المذكور على ذلك ، بل على فرض التعارض بين ظاهر التعليق وظاهر التعليل ، وهذا ليس من تعارض العامّ والخاصّ ، ولا من تعارض العامّين من وجه ، وإن كان مورد

__________________

(١) معارج الاصول : ١٤٦.

٢٢١

المفهوم على تقدير بقاء ظهور التعليق على حاله خاصّا مطلقا أو عامّا من وجه.

وقد عرفت أنّ مقتضى أظهريّة التعليل أو حكومته طرح ظهور التعليق وحمله على فوائده الاخر ، فمرجع الإيراد إلى سقوط الدلالة المفهوميّة في الآية بتحكيم عموم التعليل عليها.

وعن بعضهم (١) الذب عنه بمنع اندراج العمل بخبر العادل في عموم التعليل ، حملا للجهالة على السفاهة الباعثة على ارتكاب ما لا ينبغي ارتكابه في طريقة العقلاء ، المستتبع للتعسّف والندامة وملامة النفس ، من حيث ارتكابه له من غير تدبّر ولا رويّة ولا إعمال فطنة على ما هو من شيمة السفهاء ، تمسّكا بقوله تعالى : ( فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) لا مجرّد عدم العلم بصدق الخبر ، وإلاّ لما جاز الاعتماد على الشهادة والفتوى ، وحينئذ فيخرج عنه العمل بخبر العادل حسبما يتداوله العقلاء ، لأنّهم لا يعملون به على هذا الوجه ، بل تعويلا على العدالة الموجبة للوثوق والاطمئنان بصدق الخبر.

وكأنّه في النقض بالشهادة والفتوى غفلة عن قضيّة التخصيص ، أو أنّه توهّم لاستحالة التخصيص في مثله نظير التخصيص في العقليّات ، بزعم أنّ إصابة قوم بجهالة تجري مجرى القبائح العقليّة الغير القابلة للتخصيص ، وإلاّ فلا مانع من القول بأنّ التعليل يقتضي بعمومه عموم المنع فخرج عنه ما خرج وبقي الباقي.

وقد تقدّم في دفع كلام ابن قبة أنّ العمل بما فيه مخالفة الواقع أحيانا قد يحسن لأجل الاضطرار إليه ، وعدم وجود ما هو الأقرب إلى الواقع منه ، كما في الاعتماد على الفتوى ، وقد يكون لأجل مصلحة فيه تزيد على مفسدة مخالفة الواقع وعدم إدراكه ، كما فيها أيضا مع الشهادة في غالب مواردها.

وكيف كان فهذا الكلام كما ترى فى غاية الوهن والسقوط ، فإنّه مع كونه خلاف ظاهر « الجهالة » ممّا يأباه محلّ نزول الآية ، فإنّها نزلت في جماعة من العقلاء الذين قد همّوا قتال بني المصطلق ، وليس فيهم من يحكم بسفاهته ، خصوصا على ما في بعض التفاسير من أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد همّ قتالهم ، فلا يبقى للجهالة محمل إلاّ مجرّد عدم العلم بصدق الخبر.

ولا ينافيه ظاهر لفظ الندامة « لأنّها » تتحقّق من العقلاء المتدبّرين عند انكشاف الخلاف في فعلهم ، فتراهم يقولون عند إظهار الندامة : « لعلّني لم أفعل هذا » ، أو « لم أقدم عليه أو لم أرتكبه » بل ربّما طرأهم ذلك في العمل عن علم ، فالجهالة لا محمل له إلاّ عدم العلم بصدق الخبر بالمعنى المتناول للظنّ به ، ولا سيّما الظنّ الابتدائي الّذي قد يحصل بخبر

__________________

(٢) حكاه ابن التلمساني عن القاضي ، انظر مفاتيح الاصول : ٣٥٦.

٢٢٢

الفاسق ثمّ يزول بملاحظة فسقه.

فإن كان ولابدّ من منع دخول خبر العادل في عموم التعليل دفعا للإيراد لا بدّ من صرف « التبيّن » عن التبيّن العلمي ـ وهو طلب العلم بصدق الخبر الّذي عليه مبنى الإيراد ، ويقتضيه قانون اشتقاقه من البيان ـ إلى التبيّن العرفي ، وهو طلب الوثوق والاطمئنان بصدقه ، وإنّما خصّ إيجاب التبيّن بهذا المعنى بخبر الفاسق لأنّ الفاسق لمكان فسقه لا رادع له من الكذب أصلا ، فليس في خبره من الامور الداخلة ما يوجب الوثوق والاطمئنان بصدقه ، فلابدّ في تحصيله من مراجعة الأمارات الخارجيّة ، بخلاف خبر العادل فإنّ عدالته أمارة داخليّة توجب الوثوق والاطمئنان بصدق خبره ، فالعمل بخبره اعتمادا على الوثوق والاطمئنان ليس من الإصابة بجهالة ، فلا يجري فيه التعليل ، ولأجل ثبوت هذا الفرق بينه وبين خبر الفاسق نزلت الآية إرشادا إلى أنّ خبر الفاسق في نفسه ليس محلاّ للوثوق والاطمئنان ، بل لابدّ من تحصيلهما فيه بمراجعة الأمارات الخارجيّة وهو التبيّن المأمور به.

ولا يذهب عليك حينئذ أنّ بذلك الحمل وإن كان يندفع الإيراد المذكور إلاّ أنّه ينفتح به باب الكلام على التمسّك بالمفهوم لإثبات حجّيّة خبر العادل ، وجواز العمل به من غير تبيّن ، لأنّه ممّا لا يحتاج اليه حينئذ لكفاية دلالة منطوق الآية في ذلك ، فإنّ مقتضاه في متفاهم العرف إناطة الحكم إثباتا ونفيا بحصول الاطمئنان ـ فالحجّيّة سواء كان في خبر العادل أو الفاسق ، غاية الأمر أنّه في الأوّل يحصل غالبا بملاحظة عدالته وفي الثاني لا يحصل غالبا إلاّ بمراجعة الخارج ـ وعدم حصوله ، فعدم الحجّيّة سواء كان في خبر الفاسق أو العادل ، ولذا ترى جماعة من أساطين أصحابنا حكموا بحجّيّة الخبر الضعيف المنجبر بالشهرة وعمل الأكثر استنادا إلى منطوق الآية ، وكذلك الشيخ في العدّة (١) في تجويزه العمل بخبر الفاسق المتحرّز عن الكذب ونحو ذلك ممّا عدا الصحاح والحسان ، وإن كان قد يناقش فيه عدم كفاية مجرّد التحرّز عن الكذب نوعا في الاطمئنان بشخص الخبر من حيث فقده الرادع عن الكذب ، وهو الخوف والحياء من الله سبحانه ، ومن هنا خالفه المحقّق على ما حكي عنه.

وأمّا الإيرادات الاخر الّتي يمكن الذبّ عنها فكثيرة ، ونحن نقتصر على جملة :

منها : أنّ مفهوم الآية يعارضه الآيات الناهية عن العمل بغير العلم ، والنسبة بينهما عموم من

__________________

(١) العدّه ١ : ١٥٢.

٢٢٣

وجه ، إذ المفهوم خاصّ في خبر العادل وعامّ فيما يفيد منه العلم وما لا يفيده ، والآيات خاصّة بما عدا العلم وعامّة في خبر العادل وخبر الفاسق ، فيجتمعان في خبر العادل الغير المفيد للعلم ، فيرجع إلى قاعدة الترجيح ، ومع عدم إمكانه بعد التساقط إلى أصالة عدم الحجّيّة.

وفيه : ـ مع أنّ فرض عموم المفهوم بالنسبة إلى خبر العادل المفيد للعلم لا يجدي نفعا في جواز إرجاع التخصيص إليه بإخراج ما لا يفيد العلم ، لعدم كون ما يفيد العلم قابلا لورود الخطاب بحجّيّته ، فيكون نصّا في مادّة الاجتماع ، وإخراجه منه يوجب بقائه بلا مورد ، وهو طرح له مناف لأدلّة حجّيّته منع جهة العموم في المفهوم ، إذ المراد من النبأ في المنطوق هو ما لا يعلم صدقه ولا كذبه بقرينة الأمر بالتبيّن ، فإنّ ما يعلم صدقه أو كذبه لا حاجة له إلى التبيّن ، فكذلك نبأ العادل في جانب المفهوم ، لأنّ المفهوم في عمومه وخصوصه يتبع المنطوق ، فالمفهوم أخصّ مطلقا من الآيات الناهية ، فلابدّ من تخصيصها به ، وغاية ما يلزم هو تخصيص العامّ بمفهوم المخالفة ، وهو ـ على ما حقّق ـ جائز ، والسرّ فيه كون التعليق أظهر في المفهوم من الآيات في العموم.

وقد يتكلّف لاعتبار نسبة العموم من وجه بينهما لإعمال قاعدة الترجيح أو البناء على التساقط والرجوع إلى الأصل ، بدعوى : انقلاب نسبة العموم مطلقا في الآيات إلى نسبة العموم من وجه بفرض ورود التخصيص عليها بالبيّنة ، فيكون الآيات خاصّة بما عدا البيّنة وهو أعمّ من خبر الفاسق.

والمفروض أنّ المفهوم خاصّ بخبر العادل الغير [ المفيد ] للعلم ، وهو أعمّ من البيّنة وغير البيّنة ، ويتعارضان في غير البيّنة منه ، ويمكن إرجاع التخصيص إليه بإخراج غير البيّنة وهو الرواية ـ عنه.

ويزيّفه : أنّ دعوى انقلاب النسبة في الخاصّ والعامّ المطلقين ، بفرض العامّ مخصّصا بخاصّ آخر غير الخاصّ الأوّل ـ كما في « أكرم العلماء » و « لا تكرم الفاسق منهم » ، إذا فرض تخصيص الأوّل ب « لا تكرم النحويّين » ، فيؤول قوله : « أكرم العلماء » إلى قوله : « أكرم ما عدا النحوي منهم » ، وهو أعمّ من العادل والفاسق منهم ، كما أنّ قوله : « لا تكرم الفاسق منهم » أعمّ من النحوي وغير النحوي ، فيتعارضان في [ غير ] النحوي الفاسق ـ مغالطة واضحة ، إذ الخاصّان لا مقابلة بينهما وهما معا يقابلان العامّ ، ولا ترتّب بينهما بل يتساوى نسبتهما إليه ، على معنى كونهما في الكشف عن إرادة ما عدا العموم من العامّ في درجة

٢٢٤

واحدة ، وإن كان أحدهما في وروده متأخّرا عن الآخر بحسب الزمان ، فيخصّص العامّ بكلّ منهما ، فيصير من العامّ الّذي ورد عليه تخصيصات عديدة ، فقوله : « أكرم العلماء » في المثال المذكور يخصّص تارة بقوله : « لا تكرم الفاسق منهم » ، واخرى بقوله : « لا تكرم النحويّين » ، وكذلك الآيات الناهية فيما نحن فيه ، تخصّص تارة بدليل البيّنة كالإجماع مثلا ، واخرى بمفهوم الآية ، إذ ليس بينهما تقابل في أنفسهما ولا ترتّب في مقابلتهما الآيات ، بل نسبتهما إليهما نسبة واحدة في درجة واحدة.

ومن ذلك ينقدح : فساد توهّم انقلاب النسبة بطريق آخر ، وهو اختصاص الآيات بصورة التمكّن من العلم بدليل حجّيّة الظنّ في صورة تعذّر العلم ، فهي بملاحظة هذا التخصيص عامّة في خبر الفاسق وخبر العادل ، والمفهوم عامّ في صورتي تعذّر العلم والتمكّن منه ، ويتعارضان في خبر العادل الغير المفيد للعلم مع التمكّن من العلم بالواقع ، ويمكن تخصيص المفهوم أيضا بصورة تعذّر العلم.

وفيه : أيضا منع انقلاب النسبة ، بل الآيات باقية على عمومها المطلق بالنسبة إلى الجميع ، فهي عامّة بالقياس إلى إمكان العلم وتعذّره والبيّنة وغيرها ، وخبر العادل وغيره ، وقد خرج منها صورة تعذّر العلم بالعقل القاطع ، والبيّنة بدليلها من الإجماع ونحوه ، وخبر العادل بمفهوم الآية.

وكلّ من هذه الثلاث خاصّ بالنسبة إليها ولا ترتّب بينها ، وكون البعض مخصّصا لها لا يمنع من تخصيصها بالبعض الآخر.

وإن كان الأوّل في وروده متقدّما على الآخر ، وكان تخصيص الآيات به سابقا على تخصيصها بالآخر ، لأنّ ملاك تخصيص العامّ بالخاصّ هو كشف الخاصّ عن عدم إرادة العموم من العامّ ، وهذا نسبة واحدة حاصلة في الجميع ، فإنّ كون دليل حجّيّة الظنّ عند تعذّر العلم كاشفا عن عدم دخول صورة تعذّر العلم في الإرادة من الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم ، لا ينافي كون مفهوم الآية أيضا كاشفا عن عدم دخول خبر العادل في الإرادة منها ، ولا كون دليل البيّنة أيضا كاشفا عن عدم دخولها فيها ، فالآيات لا تعارض مفهوم الآية على حال.

ومنها : أنّه لو دلّت الآية بمفهومها على حجّيّة خبر العادل لدلّت على حجّيّة الإجماع الّذي نقله السيّد وأتباعه على عدم حجّيّة خبر الواحد ، فإنّه أيضا خبر أخبر به العدول ، ومفاده عدم حجّيّة خبر العادل مطلقا ، فيلزم من دلالة الآية على الحجّيّة عدم الحجّيّة.

٢٢٥

وفيه : ـ مع ما تقدّم في بحث الإجماع المنقول من عدم شمول أدلّة حجّيّة خبر العادل الّتي منها آية النبأ للإجماع المنقول مطلقا ، وما تقدّم في القدح في أصل الإجماع الّذي نقله هؤلاء ـ من الضعف ما لا يخفى.

أمّا أوّلا : فلأنّ إخبار هؤلاء معارض بإخبار الشيخ بالإجماع على الحجّيّة ، وهما فردان من العامّ تنافيا حيث يلزم من العمل بأحدهما ترك العمل بالآخر ، نظير « أكرم العلماء » إذا وقع التنافي بين إكرام زيد وإكرام عمرو ، فلا جرم يكون أحدهما خارجا عن العموم وهو مشتبه ، فيكون دلالة العامّ بالقياس إلى محلّ التنافي مجملة ، فتسقط عن الحجّيّة ، وتبقى دلالته بالقياس إلى ما عداهما سليمة.

وأمّا ثانيا : فلما ادّعي من وقوع إجماع الفريقين من النافين لحجّيّة خبر الواحد والمثبتين لها على خروج هذا الخبر عن الآية.

وأمّا ثالثا : فلأنّ هذا الخبر قاتل لنفسه ، لأنّه أيضا خبر واحد ، فيلزم من دخوله خروجه ، فتبقى دلالة الآية بالقياس إلى ما عداه سليمة.

لا يقال : هذا الخبر لا يدخل في مدلوله ، وهو عدم حجّيّة الخبر وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه وهو محال ، فإنّ حكم القضية إنّما يلحق بموضوع محرز قبل لحوقه.

وقضيّة قول السيّد : « خبر الواحد ليس بحجّة إجماعا » ، إنّما تنعقد خبرا بعد لحوق محمولها بموضوعها وهو خبر الواحد ، فهي قبل لحوق هذا الحكم بذلك الموضوع لم تكن خبرا ، بل صارت خبرا بعد لحوق الحكم بموضوعها ، فلا يعقل دخوله فيه لتأخّر خبريّته عنه ، وإلاّ لزم تقدّم كونه خبرا على كونه خبرا ، لأنّ هذا يتوجّه لو قلنا بدخوله في الحكم بدلالة اللفظ عليه ، وليس كذلك لقصور دلالة اللفظ عليه ، بل إنّما يدخل فيه بتنقيح المناط القطعي ، فإنّ مناط عدم حجّيّة خبر الواحد المدّعى عليه الإجماع إنّما هو عدم إفادته العلم ، وهذا المناط موجود في ذلك الخبر أيضا فيعمّه حكمه ، ولذا لو سئل السيّد عن أنّه لو وصل إلينا إجماعك بخبر واحد هل يجوز العمل به؟ لأجاب : بأنّه لا.

وأمّا رابعا : فلأنّ الأمر دائر بين خروجه ودخول ما عداه ، وبين دخوله وخروج ما عداه.

ولا ريب أنّ الأوّل متعيّن ، لا لمجرّد لزوم تخصيص الأكثر ، بل انتهائه إلى الواحد وهو قبيح ، بل للزوم تأدية المطلب على تقدير الثاني بعبارة قبيحة لا تصدر من المتكلّم الحكيم ، لأنّ المقصود الأصلي من الكلام بيان عدم حجّيّة شيء من خبر العادل وقد أدّاه بعبارة

٢٢٦

قوله : « كلّ خبر عادل حجّة » فإنّ مرجع القضيّة المفهوميّة إلى هذه العبارة العامّة ، والمفروض أنّ المراد منها خصوص خبر السيّد ، ومفاده عدم حجّيّة شيء من خبر العادل ، فيكون هذا هو المقصود من عبارة « كلّ خبر عادل حجّة » ، وهذا نظير ما لو قال قائل : « صدّق زيدا في كلّ خبره » ، فأخبره زيد بألف من الأخبار ثمّ أخبره بكذب جميعها ، مع فرض كون مراد القائل من قوله : « صدّق زيدا في كلّ خبره » خصوص هذا الخبر الأخير ، فإنّ قضيّة الفرض كون مقصوده الأمر بتكذيب زيد في كلّ خبره ، وقد أدّاه بعبارة قوله : « صدّق زيدا في كلّ خبره » ، وهذا كما ترى كلام سفهي يقبح صدوره من الحكيم!

ومنها : أنّ « النبأ » ينصرف إلى الخبر بلا واسطة ، فلا يشمل الآية للروايات المأثورة عن الأئمة عليهم‌السلام ، لما فيها من الوسائط الكثيرة الحاصلة من سلسلة رجال السند ، فإنّ ما رواه محمّد بن مسلم مثلا عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : « لمّا خلق الله العقل استنطقه فقال : أقبل ، فأقبل ، ثمّ قال : أدبر ، فأدبر ، ثمّ قال : وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقا أحبّ إليّ منك ... » الخ (١) إنّما بلغنا بوسائط رجال السند.

وهو على ما في الوسائل ، محمّد بن يعقوب قال : حدّثني محمّد بن يحيى العطّار ، عن أحمد ابن محمّد بن الحسن بن محبوب ، عن العلاء بن رزين ، عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام.

والظاهر أنّ مبنى هذا الإيراد على توهّم قصر « النبأ » في الآية على الرواية المصطلحة ، وهي حكاية قول الإمام أو فعله أو تقريره ، لأنّها الّتي تبلغ بالوسائط المذكورة ، وعلى هذا يسهل الجواب عنه بعد تسليم الانصراف المذكور ، وهو منع كون النبأ مقصورا على الرواية المصطلحة ، فإنّه محمول على معناه اللغوي وهو أعمّ من الرواية عن الإمام ، والرواية عن الراوي عن الإمام ، والرواية عن الراوي عن الراوي عن الإمام وهكذا.

ولا ريب أنّ السند من أوّله إلى آخره مشتمل على نبآت عديدة على حسب تعدّد رجاله ، وكلّ واحد منها في حدّ نفسه خبر بلا واسطة ، وهي إخبار الشيخ الحرّ العاملي في المثال عن الكليني ، وإخبار الكليني عن ابن يحيى العطّار وإخبار ابن يحيى عن ابن محمّد بن عيسى وإخبار ابن محمّد بن عيسى عن ابن محبوب ، وإخبار ابن محبوب عن ابن رزين ، وإخبار ابن رزين عن ابن مسلم ، وإخبار ابن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام ، ومفهوم الآية عامّ في كلّ نبأ عادل فيشمل الجميع ، ويدلّ على وجوب قبول كل واحد ، ولذا يعتبر العدالة في جميع رجال

__________________

(١) الكافي ١ : ٢٨ / ٣٢.

٢٢٧

السند ليندرج كلّ واحد من هذه الأخبار في نبأ العادل ، فبطل دعوى عدم الشمول باعتبار انصراف إطلاق « النبأ » إلى الخبر بلا واسطة ، إذ ليس هنا خبر مع الواسطة لئلاّ يشمله الإطلاق.

هذا ولكن انفتح من طريق هذا الجواب باب إشكال آخر أعظم من أصل الإيراد ، وهو أنّ حكم المفهوم لا يعمّ من الأخبار الّتي يتضمّنها السند ما عدا الخبر الأوّل وهو رواية الشيخ الحرّ عن الكليني ، لترتّب خبريّة ما عداه على حكم العامّ وتأخّر تحقّقه عن ثبوته له ، وذلك لأنّ وجوب قبول خبر العادل الّذي هو المفهوم عبارة عن وجوب تصديق المخبر في خبره ، على معنى الحكم على خبره بكونه صدقا.

وبعبارة اخرى : ترتيب آثار الصدق عليه ، ومن آثار صدق الشيخ الحرّ في إخباره عن الكليني كون الكليني مخبرا عن محمّد بن يحيى ، كما أنّ من آثار صدق الكليني في إخباره عن محمّد بن يحيى العطّار كون محمّد بن يحيى مخبرا ، ومن آثار صدق محمّد بن يحيى في إخباره عن أحمد بن محمّد بن عيسى كون أحمد بن محمّد مخبرا ، وهكذا كلّ لا حق بالقياس إلى سابقه.

ألا ترى لو أخبرنا زيد بأنّ عمروا أخبره بقدوم الحاج ، فمن آثار صدق زيد كون عمرو مخبرا بقدوم الحاج ، ضرورة أنّه لولا إخبار عمرو بقدوم الحاج وتحقّق هذا الخبر منه لم يكن زيد صادقا في خبره ، وقضيّة تأخّر خبريّة ما عدا الخبر الأوّل عن الحكم وترتّبه على ثبوته للخبر الأوّل عدم دخوله فيه ، وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه ، والأصل الكلّي في ذلك وجوب كون أفراد العامّ متساوية الأقدام بالنسبة إليه ، بأن يكون فرديّة الجميع في مرتبة واحدة ، بأن لا يكون فرديّة البعض متفرّعة على ثبوت الحكم للبعض الآخر متأخّرة عنه ، وإلاّ لم يعقل دخوله في حكم العامّ ، بل لابدّ لإثبات الحكم له من خطاب آخر.

وبالجملة الآية لا تدلّ على وجوب قبول خبر يتوقّف خبريّته على حكم الشارع بوجوب قبول الخبر ، لأنّ حكم القضيّة إنّما يثبت لموضوع يكون متحقّقا قبل ثبوت ذلك الحكم ومحرزا من غير جهته ، وأمّا لو توقّف موضوعيّة الموضوع على تماميّة حكم القضيّة وثبوته لغير ذلك الموضوع أوّلا فلا يثبت له ذلك الحكم ، بل يحتاج إلى خطاب آخر ، ومن هنا لو قال القائل : « كلّ خبري كاذب » لم يشمل حكمه لنفسه ، لأنّه إنّما يصير خبرا بعد تماميّة حكمه ، لأنّه قبل لحوق الحكم بالكذبيّة بكلّ خبري لم يكن خبرا ، وبعد ما صار خبرا لا حكم يشمله إلاّ بواسطة خطاب آخر ، فمفهوم الآية لا يشمل ما عدا الخبر الأوّل من الأخبار

٢٢٨

المتدرّجة ، لأنّ كون ما عداه خبرا من آثار وجوب قبوله ومن لوازمه لا من ملزوماته.

ومن هنا قد يقال : بأنّ أدلّة قبول الشهادة لا تشمل الشهادة على الشهادة ، لأنّ الأصل لا يدخل في موضوع [ الشهادة ](١) إلاّ بعد قبول شهادة الفرع.

وقد يجاب عن الإشكال : بالنقض ، فتارة : نقضه بما قاله الفقهاء وأجمعوا عليه من أنّ الإقرار بالإقرار إقرار ، استنادا إلى عموم « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » ومعناه إلزام المقرّ بالإقرار على المال المقرّ به في الإقرار المقرّ به ، مع أنّ صيرورة ذلك الإقرار إقرارا إنّما هو بعد سماع الإقرار به وتصديق المقرّ في إقراره هذا ، ومن آثاره تحقّق الإقرار المقرّ به.

وفيه : أنّ للإجماع مدخليّة فيه ولا كلام فيه.

واخرى : بالاستصحاب المزيل عند من يقول بتقدمّه على المزال ، كاستصحاب طهارة الماء المتقدّم على استصحاب نجاسة الثوب المغسول به ، فإنّ ثبوت حكم العامّ لبعض أفراده كما لا يصلح مدخلا للبعض الآخر فيه ، كذلك لا يصلح مخرجا للبعض الآخر عنه ، فقوله عليه‌السلام : « لا ينقض اليقين بالشكّ » ، الدالّ على عدم جواز رفع اليد عن اليقين السابق بالشكّ اللاحق ، عامّ في كلّ يقين وكلّ شكّ ، فكيف يوجب عدم جواز رفع اليد عن اليقين بطهارة الماء بالشكّ في نجاسته لجواز رفع اليد عن اليقين بنجاسة الثوب بالشكّ في طهارته.

وفيه : أنّ ثبوت حكم العامّ لبعض الأفراد وإن لم يصلح مخرجا للبعض الآخر عن حكمه ، إلاّ أنّه يصلح مخرجا له عن موضوعه ، كما أنّه في محلّ الكلام وإن لم يصلح مدخلا لبعض الأفراد في الحكم ولكنّه يصلح مدخلا لشيء آخر في موضوعه ، ولا ريب أنّ استصحاب طهارة الماء علم شرعي بطهارة الثوب ، فرفع اليد عن اليقين بنجاسته إنّما هو بذلك العلم الشرعي لا بالشكّ ، فتقديم الاستصحاب المزيل إنّما هو لإخراج الاستصحاب المزال عن موضوع نقض اليقين بالشكّ لا أنّه إخراج له عن حكم نقض اليقين بالشكّ.

فالتحقيق : في دفع الإشكال أن يقال : بأنّ عدم قابليّة لفظ العامّ لأن يدخل في عمومه ما تأخّر من أفراده عن تماميّته وثبوته للفرد الآخر ، لا ينافي ثبوت الحكم له بغير دلالة اللفظ ، كما لو علم مناطه في نظر المتكلّم ، ككون مناط قبول الخبر في نظره عدالة المخبر ، مضافا إلى منع توقّف خبريّة ما عدا الخبر الأوّل وتحقّقه الخارجي على قبوله ولا على

__________________

(١) وفي الأصل : « الشاهد » بدل « الشهادة » والظاهر أنّه سهو منه رحمه‌الله والصواب ما اثبتناه فى المتن.

٢٢٩

وجوب قبوله ، فإنّ الخبر الأوّل واسطة في إثبات الخبر الثاني لا في ثبوته ، وكذلك الخبر الثاني بالنسبة إلى الثالث ، وهو بالقياس إلى الرابع ، وهكذا إلى أن ينتهي سلسلة الأخبار إلى خبر الراوي عن الإمام.

وفرق واضح بين علّة وجود الشيء وعلّة العلم بوجوده ، لضرورة أنّ الصادر الأوّل في الخارج إنّما هو القول من الإمام عليه‌السلام ، ثمّ بعده رواية محمّد بن مسلم في المثال المذكور عنه ، ثمّ بعده رواية العلاء بن رزين عنه ، وبعده رواية الحسن بن محبوب عنه ، وبعده رواية أحمد بن محمّد عنه ، وبعده رواية محمّد بن يحيى عنه ، وبعده رواية الكليني ، وبعده رواية الشيخ الحرّ العاملي ، فالترتيب الطبيعي يقتضي عكس ما تخيّل في المقام ، فكلّ لا حق طريق إلى انكشاف صدور سابقه وواسطة للعلم بوجوده في الخارج ، فلا يرد : أنّه لا حاجة حينئذ في الأخذ بقول الإمام والعمل به إلى توسيط الوسائط المذكورة ، فإنّا لا نعلم صدوره منه إلاّ بالنظر في تلك الوسائط.

ومنها : أنّ العمل بمفهوم الآية في الأحكام الشرعيّة غير ممكن ، لوجوب الفحص عن المعارض في العمل بخبر العدل فيها ، ومفهوم الآية نفي وجوب التبيّن في خبر العدل ، فخبر الفاسق وخبر العادل في الأحكام الشرعيّة سيّان في وجوب التبيّن عندهما ، فلابدّ من تنزيل الآية على الإخبار في الموضوعات ، لأنّها هي الّتي لا يجب الفحص فيها عن المعارض.

لا يقال : إنّ جواز قبول خبر الواحد في الموضوعات الخارجيّة مطلقا يستلزم جواز قبوله في الأحكام الشرعيّة بالإجماع المركّب والأولويّة ، لانسداد باب العلم في الأحكام دون الموضوعات ، لأنّ المراد بقبوله في الموضوعات قبوله فيها في الجملة لا مطلقا ، ولذا قد يعتبر في قبوله فيها انضمام عدل آخر إليه ليكون جزءا للحجّة ، وهذا يكشف عن عدم كونه في الموضوعات مطلقا في نفسه حجّة مستقلّة ، فاندفع توهّم الإجماع المركّب والأولويّة لثبوت الفصل ، وعدم الملازمة بين القبول في الجملة والقبول مطلقا.

ويدفعه : أيضا وضوح الفرق بين التبيّن الّذي يجب في قبول خبر الفاسق ، والفحص عن المعارض الّذي يجب في العمل بخبر العدل في الأحكام ، فنفي الأوّل عند إخبار العدل في الأحكام لا ينافي ثبوت الثاني في العمل به فيها ، فإنّ الفحص عن المعارض في العمل بالخبر في الأحكام اعتبار زائد على إثبات حجّيّته الذاتيّة ، ولذا يثبت هذا الاعتبار في كلّ دليل ثابت الحجّيّة ، حتّى أنّ خبر الفاسق في الأحكام بعد تبيّن صدقه ـ وهو طلب ظهور

٢٣٠

صدقه وعدم مخالفته الواقع بتحصيل الوثوق والظنّ الاطمئناني بصدقه ـ يجب في العمل به فيها الفحص عن المعارض.

فالفرق بينه وبين خبر العدل أنّ خبر العدل حجّة في نفسه من جهة عدالة المخبر ، وخبر الفاسق لا يصير حجّة إلاّ بتبيّن صدقه أعني طلب ظهور صدقه بالفحص والسؤال ، فالتبيّن عنده إنّما يجب لإحراز المقتضي لجواز قبوله أعني لاحراز الحجّيّة الذاتيّة ، والمعارض على تقدير وجوده مانع من العمل بالحجّة بعد الفراغ عن إثبات حجّيّته لذاته ، فالفحص عن المعارض إنّما يجب إحرازا لفقد المانع ، لا إحرازا لوجود المقتضي ، فخبر الفاسق بعد التبيّن الّذي مناطه تحصيل الوثوق والظنّ بصدقه ، وخبر العدل من غير تبيّن سيّان في وجوب الفحص عن المعارض في العمل بهما في الأحكام الشرعيّة ، مع كون الفحص عن المعارض فيهما قد يستتبع الظنّ بعدمه فيعمل بكلّ منهما في مورده ، وقد يستتبع العلم بوجوده وحينئذ فلابدّ من التحرّي في علاج التعارض ، إمّا بإعمال قواعد التراجيح على تقدير وجود المرجّح ، أو بإعمال قواعد التعادل حسبما هو مقرّر في محلّه على تقدير فقد المرجّح.

ومنها : أنّ الآية لابدّ فيها من التزام أحد الأمرين ، إمّا الغاء المفهوم فيها ، أو تخصيصه بإخراج الإخبار بالارتداد عن عمومه ، لأنّ خبر العدل الواحد لا يكفي فيه بل لا أقلّ من اعتبار إخبار عدلين به في ثبوته ، والثاني باطل للزوم تخصيص العامّ بالمورد ، لأنّ مورد الآية إخبار الوليد بارتداد القوم وهو غير جائز باتّفاق الاصوليّين ، فيعيّن الأوّل ، ومرجعه إلى عدم إمكان العمل بالمفهوم لاستلزامه محذور إخراج المورد ، فيجب طرحه ، أعني الحكم على الآية بعدم اعتبار المفهوم فيها.

ويدفعه أوّلا : بأنّ عدم ثبوت الارتداد بإخبار عدل واحد لا يقضي بتخصيص المفهوم ، بل يقتضي تقييد قبول خبر العدل فيه بانضمام العدل الآخر إليه ولا ضير فيه ، بل هذا التقييد بالقياس إلى سائر موارد البيّنة ممّا لا محيص عنه ، من غير لزوم منافاة للمفهوم لأنّ كلّ واحد من العدلين لا يجب التبيّن في قبول خبره ، ولك أن تمنع لزوم التقييد أيضا بدعوى : أنّ قبول خبر العادل من غير تبيّن بالنظر إلى إطلاق المفهوم أعمّ من قبوله على الاستقلال أو على أنّه جزء للبيّنة.

أو بدعوى : أنّ المفهوم هو قبول خبر العادل في الجملة ، وأمّا أنّه هل هو على

٢٣١

الإطلاق ، أو على وجه الجزئية؟ فهي ساكتة عن الدلالة على تعيين أحد الأمرين ، فلو دلّ دليل من الخارج بالقياس إلى مورد ، كالارتداد مثلا على أنّه على وجه الجزئيّة لاعتبار التعدّد في ثبوته ، لم يلزم تصرّف في المفهوم ، لأنّ ما يقبل على وجه الجزئيّة أيضا من جملة المفهوم ، لاندراجه بحسب الواقع في القضيّة المهملة.

وغاية ما فيه الاحتياج إلى البيان الرافع للإجمال ، فلا تخصيص ولا تقييد ، لا بالنسبة إلى المورد ولا غيره.

وثانيا : أنّ تخصيص المفهوم بإخراج الإخبار بالارتداد إن كان ولا بدّ منه لا يوجب إخراج المورد ، لعدم كون الإخبار بالارتداد مورد المفهوم لعدم [ مجيء ] عادل به في الخارج ، وإنّما هو مورد لمنطوقها لفرض مجيء الفاسق به وهو الوليد.

وبالجملة المورد إنّما يلاحظ في جانب المنطوق ، ومورده خبر الفاسق بالارتداد لا خبر العادل به ، ونحن لا نخصّص المنطوق بالمورد المذكور حتّى يلزم المحذور ، بل نخصّص المفهوم بإخراج خبر العادل بالارتداد ، ولا ضير فيه بعد قيام الدليل عليه.

ومنها : ما عن غاية المبادئ من أنّ الآية بمفهومها تدلّ على عدم وجوب التبيّن ، وهو لا يستلزم العمل لجواز وجوب التوقّف ، ولا يلزم كون العادل أسوأ حالا ، بل إنّما يلزم ذلك على تقدير وجوب ردّ خبره ، لا على تقدير وجوب التوقّف فيه.

ويدفعه : أنّه غفلة عمّا تقدّم الاشارة إليه سابقا ، من أنّ التبيّن المأمور به عند نبأ الفاسق واجب شرطي لا أنّه نفسي.

وعلى هذا فيكون تقدير منطوق الآية « إن جاءكم فاسق بنبأ فيجب عليكم [ التبيّن ] لأجل العمل به » ، ومعناه : أنّه لا يجوز العمل به من غير تبيّن ، فيكون تقدير مفهومها : « إن جاءكم عادل بنبأ فلا يجب عليكم التبيّن لأجل العمل به » ومعناه : أنّه يجوز العمل به من غير تبيّن ، فلا واسطة بين عدم وجوب التبيّن وجواز العمل.

ومنها : أنّ إيجاب التبيّن علّق على فسق المخبر ، وهو الخروج عن طاعة الله ، فالفاسق هو الخارج عن طاعة الله ، وقضيّة التعليق عدم وجوب التبيّن عند انتفاء الفسق بهذا المعنى ، وظاهر أنّ من لم يخرج عن طاعة الله لا يكون إلاّ المعصوم ، أو التالي له كبعض الصحابة وبعض خواصّ الأئمّة عليهم‌السلام ، فيكون مؤدّى المفهوم وجوب العمل بخبر المعصوم والتالي له ، ولا يكون إلاّ معلوم الصدق ، والممنوع في جانب المنطوق حينئذ هو العمل بخبر الفاسق

٢٣٢

المحتمل كذبه من غير تبيّن.

ومن هنا قد يتّجه الانتصار للقائل بحرمة العمل بخبر الواحد الغير المعلوم صدقه ، بل مطلق ما وراء العلم بمنطوق الآية.

وعلى هذا فلا حاجة في إنهاض الآية دليلا على حرمة اتّباع غير العلم إلى التمسّك بالتعليل.

ويدفعه : منع كون المراد من إطلاق الفاسق مطلق الخارج عن طاعة الله ، فإنّ النظر في معنى الفسق إن كان إلى أصل اللغة ، فهو فيه لمطلق الخروج من الشيء على وجه الفساد من دون إضافته إلى طاعة الله ، ولذا يطلق الفويسقة على الفأرة على ما في بعض الروايات لخروجها عن حجرها على وجه الفساد ، وهو أنّها توهي البناء وتضرم البيت على أهله ، فالفاسق بهذا المعنى لا يستلزم العصمة فيما يقابله كما لا يخفى.

وإن كان إلى إطلاقات الكتاب والسنّة فالغالب فيها إطلاقه على الكفر المقابل للإيمان ، فالفاسق هو الكافر ، ومنه قوله تعالى : ( فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ )(١) فهو بهذا المعنى أيضا لا يستلزم العصمة فيما يقابله ، وإن كان إلى عرف المتشرّعة أو إطلاقات أهل الشرع فالشائع فيه إطلاق الفاسق على ما يقابل العادل ، وهو من له الملكة الرادعة عن ارتكاب الكبائر الّتي منها الكذب ، وهذا أيضا لا يستلزم العصمة الغير المتحقّقة إلاّ باجتناب الصغائر أيضا ، مع أنّه لو سلّم كون المراد بالفسق مطلق الخروج عن طاعة الله ، فهو أيضا لا يستلزم العصمة فيما يقابله ، لإمكان الخلوّ عن الكبيرة والصغيرة معا بعد التوبة فيمن علم توبته عن الذنب مطلقا.

ومنها : أنّ الدلالة المفهوميّة أقصاها الظنّ ، والمسألة الاصوليّة لا يكتفى فيها بالظنّ.

وفيه : أنّ الظنّ إمّا ظنّ مطلق أو ظنّ خاصّ مستفاد من الظهور اللفظي ، والمسألة الاصوليّة أيضا إمّا من اصول الدين أو من اصول الفقه ، والّذي لا يكتفى فيه بالظنّ مطلقا حتّى الظنّ الخاصّ المستفاد من ظهور لفظي هو ما يكون من اصول الدين ، وأمّا ما كان من اصول الفقه فالظنّ المستفاد من الظهور اللفظي حجّة فيه ، وإن لم يكن مطلق الظنّ حجّة فيه.

ثمّ إنّه كما استدلّ بمفهوم الآية على حجّيّة خبر العادل ، فكذلك قد يستدلّ بمنطوقها على حجّيّة خبر الفاسق إذا ظنّ من جهة أمارة وقرينة ظنّيّة صدقه ، بناء على أنّ التبيّن المأمور به للعمل بخبر الفاسق أعمّ من العلمي والظنّي ، ومن التبيّن الظنّي النظر في الشهرة الجابرة لضعف الخبر ، سواء كانت شهرة على العمل به أو على مضمونه أو على تدوينه.

__________________

(١) سورة الكهف : ٥٠.

٢٣٣

وإن جعلناه أعمّ من التفصيلي ، وهو تحصيل الظنّ بصدق كلّ واحد من أخبار المخبر ، والإجمالي وهو تحصيل [ الظنّ ] بصدق المخبر في نوع إخباره ، دلّت الآية على حجّيّة خبر المتحرّز عن الكذب ، وإن كان فاسقا بسائر جوارحه.

وعليه مبنى طريقة القدماء في العمل بخبر الفاسق المتحرّز عن الكذب المعدود عندهم صحيحا ، فالآية بمجموع منطوقها ومفهومها تدلّ على حجّيّة أخبار الآحاد بجميع أنواعها الأربع المتداولة عند المتأخّرين ، من الصحيح والموثّق والحسن والضعيف المنجبر بالشهرة وغيرها من القرائن الظنّيّة ، أمّا الصحيح فبالمفهوم ، وأمّا الضعيف المنجبر فبالمنطوق نظرا إلى التبيّن الظنّي التفصيلي.

وأمّا الموثّقات والحسان فلأنّ النظر في وثاقة الراوي أو حسن حاله الغير البالغة حدّ العدالة ، تبيّن إجمالي وطلب لظهور الصدق إجمالا.

وفيه : ـ مع مخالفته لظاهر مادّة « التبيّن » ، ولفظ « الجهالة » ونفس تعليل الآية ـ نظر واضح ، إذ لو اريد من التبيّن الظنّي ما يبلغ حدّ الاطمئنان وهو سكون النفس وزوال تزلزله ، رجع ذلك إلى اعتبار الظنّ الاطمئناني بالواقع ، فهو الحجّة في الحقيقة من دون مدخليّة لخصوصيّة الخبر ، مع أنّ هذا هو المقصود من الاستدلال بالآية لا غير.

ولو اريد به ما يوجب رجحان الصدق ، وإن لم يبلغ حدّ الاطمئنان ، فالحمل عليه بمكان من الفساد لرجوعه في الحقيقة إلى إلغاء الآية وإخراج كلام الحكيم لغوا ، لأنّ لزوم طلب الرجحان في العمل بالخبر من ضروريّات العقول ، ولا يوجد عاقل يعمل به مع الحيرة والتردّد في صدقه وكذبه ، فحمل الآية عليه إرجاع لها إلى توضيح الواضح.

ومن جملة الآيات : آية النفر المذكورة في سورة البراءة ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ )(١) بتقريب : أنّه تعالى أوجب الحذر عند إنذار الطائفة ، من دون اعتبار إفادة خبرهم العلم بتواتر أو قرينة ، فدلّ على وجوب العمل بخبر الواحد ، أمّا عدم اعتبار إفادة خبرهم العلم فلأنّ الطائفة بمفهومها تعمّ الواحد والاثنين والجماعة.

ولو سلّم أنّها لا تعمّ إلاّ الجماعة ولو بقرينة ضمير الجمع ، فلم يعتبر في الجماعة المرادة منها بلوغها حدّا يفيد خبرهم العلم بصدقهم.

__________________

(١) سورة التوبة : ١٢٢.

٢٣٤

ولو سلّم أنّ أقلّ الطائفة جماعة يغلب فيها إفادة العلم ، ولكنّه لم يعتبر إنذار الجماعة بأجمعهم واحدا واحدا من القوم ، بأن يكون المراد لكلّ واحد جماعة يفيد إنذارهم العلم بالمنذر به ، بل المراد إنذار واحد من الطائفة واحدا من القوم على وجه التوزيع ، كما هو القياس في جمع قوبل جمعا آخر من إفادته التوزيع في متفاهم العرف ، وهو أن يأخذ كلّ واحد من آحاد أحد الجمعين واحدا من آحاد الجمع الآخر على حدّ قولك : « ركب القوم خيولهم » ومنه قوله عزّ من قائل : ( وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَ )(١) وقوله أيضا : ( وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ )(٢) وقوله : ( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ )(٣) وقوله : ( وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ )(٤) حيث يفيد الأوّل ركوب كلّ واحد فرسه ، والثاني إيتاء كلّ واحدة صداقها ، والثالث إيتاء كلّ يتيم ماله ، والرابع نكاح كلّ واحد ما نكح أبوه ، والخامس قتل كلّ واحد ولده ، وإذا وجب على كلّ واحد من القوم الحذر عقيب إنذار منذره ثبت حجّيّة غير الواحد ، لأنّ المنذر واحد وإنذاره خبر واحد.

وأمّا بيان أنّه تعالى أوجب الحذر فيقرّر من وجهين :

أحدهما : أنّ حقيقة الترجّي مستحيلة عليه تعالى ، إمّا لأنّها ملزومة للجهل ، أو الشكّ في حصول المترجّى وعدم حصوله ، أو لأنّ الترجّي مأخوذ من الرجاء وهو المحبّة وهي من مقولة الأعراض والمعاني الّتي لا تقوم به تعالى ، فتكون كلمة « لعلّ » منسلخة عن معنى الترجّي فتكون ظاهرة في إرادة الطلب وإن كانت مجازا فيه ، إمّا مجاز الاستعارة بأن تكون استعارة تمثيليّة ، وهي أن تشبّه صورة منتزعة عن مركّب بصورة اخرى منتزعة عن مركّب آخر ، فيستعمل اللفظ الموضوع للمشبّه به في المشبّه ، ففي الآية شبّه طلب الحذر من حيث إنّه قد يحصل المطلوب وقد لا يحصل برجائه من حيث إنّه قد يحصل المرجوّ وقد لا يحصل ، فاستعمل اللفظ الموضوع للثاني في الأوّل ، أو مجازا مرسلا من تسمية اللازم باسم الملزوم ، فإنّ الرجاء بمعنى المحبّة يستلزم مطلوبيّة المرجوّ ورجحانه.

فإذا دلّت كلمة « لعلّ » على طلب الحذر ورجحانه ثبت وجوبه ، إمّا للإجماع المركّب ، أو لما ذكره صاحب المعالم من « أنّه لا معنى لندب الحذر لأنّه مع قيام المقتضي له يجب

__________________

(١) سورة النساء : ٤.

(٢) سورة النساء : ٢.

(٣) سورة النساء : ٢٢.

(٤) سورة الإسراء : ٣١.

٢٣٥

ومع عدم قيامه لا يحسن » (١).

أو لما قيل أيضا من أنّه لولا وجوب الحذر يلغو الإنذار المفروض كونه واجبا ، نظير ما استدلّ به غير واحد منهم [ صاحب ] المسالك (٢) على وجوب تصديق المرأة وقبول قولها في العدّة والحمل بقوله تعالى : ( وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ )(٣) دلّت الآية على حرمة الكتمان ووجوب الإظهار عليهنّ ، فيجب قبول قولها في دعوى الحمل وإلاّ يلغو الإظهار.

وثانيهما : أنّ كلمة « لولا » في الماضي للتنديم والتوبيخ فتدلّ على وجوب النفر ، و « اللام » في قوله : ( لِيَتَفَقَّهُوا ) وفي ( لِيُنْذِرُوا ) للغاية ، فتدلّ على أنّ الغاية المقصودة من إيجاب النفر هو التفقّه ثمّ الإنذار ، وكلمة « لعلّ » أيضا واقعة موقع « لام » الغاية كما في قولك : « أسلم لعلّك تدخل الجنّة » ، و « تب لعلّك تفلح » ، ومنه قوله تعالى : ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى )(٤) فإذا وجب النفر وجب غايته المقصودة منه وهو الإنذار ، وإذا وجب الإنذار وجب غايته أيضا وهو الحذر عقيب الإنذار ، لأنّ المتكلّم إذا أوجب شيئا فهو لا يرضى بانتفاء غايته والإخلال بها.

وقد يقرّر ذلك : بأنّ ذا الغاية مقدّمة للغاية ، وكما أنّ إيجاب ذي المقدّمة بخطاب أصلي يكشف عن وجوب المقدّمة ، فكذلك إيجاب المقدّمة بخطاب أصلي يكشف عن وجوب ذي المقدّمة.

وأمّا ما يقال ـ في منع دلالتها على وجوب الإنذار ليجب بوجوبه الحذر ـ من أنّ الظاهر ورودها في سياق آيات الجهاد ، كما يشهد به الآيات السابقة عليها واللاحقة بها ، خصوصا قوله : ( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً )(٥) فيكون المراد بالنفر المأمور به هو النفر إلى الجهاد ، ومن المعلوم أنّ الغاية المقصودة من النفر إلى الجهاد ليس هو التفقّه بمعنى تعليم الأحكام ، بل إذلال الكفر وإعلاء كلمة الإسلام.

نعم ربّما يترتّب عليه التبصّر في الدين واستكمال الإيمان واليقين بما يتّفق لهم من مشاهدة آيات الله ، وظهور أوليائه على أعدائه ، وسائر ما يتّفق في حرب المسلمين مع

__________________

(١) معالم الدين : ١٩٠.

(٢) المسالك ٢ : ٣١.

(٣) سورة البقرة : ٢٢٨.

(٤) سورة طه : ١٤.

(٥) التوبة : ١٢٢.

٢٣٦

الكفّار والمشركين من آيات عظمة الله وحكمته وإعلام النبوّة ، ولزمه أنّهم كانوا إذا رجعوا من الجهاد إلى قومهم المتخلّفين في المدينة أخبروهم بكلّ ما شاهدوه ، فهو المراد من التفقّه والإنذار ، ولامهما للعاقبة ومطلق الفائدة لا للغاية ، فالتفقّه والإنذار من قبيل الفوائد الغير المقصود المترتّبة على النفر إلى الجهاد ، لا الغايات المقصودة منه لتجب بوجوبه (١).

ففيه : ما لا يخفى ، فإنّ ظهور الآية في وجوب التفقّه ووجوب الإنذار بعده ممّا لا مجال إلى إنكاره ، إمّا لمنع كون المراد من « النفر » هو النفر إلى الجهاد ، كما يرشد إليه روايات متكاثرة معتبرة ، وفيها الصحاح وغيرها المتكفّلة لاستشهاد الأئمّة عليهم‌السلام واستدلالهم لبيان وجوب التفقّه بتلك الآية ، بل في عدّة منها الدلالة صريحة على النفر والمسافرة من البلاد البعيدة لمعرفة الإمام استشهادا بتلك الآية ، ولا ينافيه وقوعها في حيّز آيات الجهاد ، وهذا لا يعطيها السياق الّذي به على خلاف هذا المطلب ، وكم من هذا القبيل في الآيات القرآنيّة ، فإنّها بما هي هي لا سياق لها ، ولا مقتضي لارتباط بعضها ببعض بالنظر إلى نزولها متفرقّة ، فكثيرا مّا ترى أنّ الآية نزلت في مطلب خاصّ غير المطلب الّذي نزلت فيه الآيات السابقة عليها أو اللاحقة بها ، خصوصا هذه الآية بالنظر إلى الأخبار المفسّرة لها بما فهمه المستدلّون بها المخرجة لها عن سياق آيات الجهاد.

ولقد تعرّض لنقل نبذة منها شيخنا قدس‌سره في رسالته في حجّيّة الظنّ (٢) وممّا هو صريح في كون المراد النفر من البلاد إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، رواية عبد المؤمن الأنصاري المرويّة عن العلل ، « قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّ قوما يروون أنّ رسول الله قال : اختلاف امّتي رحمة ، فقال : صدقوا ، فقلت : إن كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب ، قال : ليس حيث تذهب وذهبوا ، إنّما أراد قول الله عزّ وجلّ ( فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله فيتعلّموا ثمّ يرجعوا إلى قومهم فيعلّموهم ، إنّما أراد اختلافهم من البلدان لا اختلافا في دين الله ، إنّما الدين واحد إنّما الدين واحد (٣).

أو لأنّه على تقدير تسليم كونها من الآيات المتعلّقة بالجهاد ، فهو لا ينافي كون التفقّه ثمّ الإنذار بعده واجبا مقصودا من باب الغاية من نفر الطائفة من كلّ فرقة إلى الجهاد ، نظرا

__________________

(١) قاله الحسن وأبو مسلم ، انظر التبيان ٥ : ٣٢١ ومجمع البيان ٣ : ٨٣ و ٨٤.

(٢) فرائد الاصول ١ : ٢٨١.

(٣) الوسائل ٢٧ : ١٤١ / ١٠ ، ب ١١ من أبواب صفات القاضي.

٢٣٧

إلى أنّها كافلة لتفصيل ما أجمله قوله : ( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً )(١) فإنّ الآية قد فسّرت بأنّها وردت لنهي المؤمنين عن نفر جميعهم إلى الجهاد ، حتّى أنّهم كادوا يخلّون النبيّ في المدينة وحده ، فأمرهم الله تعالى بأن ينفر من كلّ فرقة طائفة ، ويتخلّف طائفة اخرى عند النبيّ فيتعلّموا منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسائل حلالهم وحرامهم ، ويأخذوا منه أحكام اصولهم وفروعهم ، ويخبروا بما تعلّموه وأخذوا منه قومهم النافرين المجاهدين إذا رجعوا إليهم من الجهاد ، ولا ينافيه الضمائر بعد اعتبار عودها إلى المتخلّفين ، وإن لزم منه خلاف ظاهر لضرب من الاستخدام ، فالمناقشة في الدلالة على الوجه المذكور خلاف الإنصاف.

نعم الّذي يقتضيه الإنصاف ومجانبة الاعتساف ، هو عدم دلالة الآية على حجّيّة خبر الواحد الغير العلمي أصلا لوجوه اخر :

أوّلها : منع إطلاق إيجاب الحذر بحيث يعمّ ما لو لم يفد خبرهم العلم ، فإنّ قوله : ( لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) يفيد إيجاب الحذر على كلّ واحد من المنذرين على وجه الإجمال والإهمال ، مع السكوت عن الإطلاق بالنسبة إلى حصول العلم لهم من إنذار المنذرين وعدم حصوله والتقييد بحصول العلم ، فمفاد الآية هو وجوب الحذر على كلّ واحد عقيب الإنذار.

وأمّا أنّ الواجب على كلّ واحد هو الحذر عقيب الإنذار سواء حصل منه العلم بالمنذر به أو لم يحصل ، أو أنّه الحذر بشرط حصول العلم به فهي ساكتة عنهما ، بل معرفة تعيين أحدهما يحتاج إلى بيان آخر ، ولا يكفي فيه هذا الخطاب ، نظير ما لو قال الطبيب لحضّار مجلسه المرضى مع اختلافهم في المرض : « أيّها الحاضرون عليكم بشرب الدواء » فإنّه وإن كان يدلّ على وجوب شرب الدواء على كلّ واحد ، ولا يدلّ على أنّ الواجب على كلّ واحد شرب مطلق الدواء بل لكلّ واحد دواء خاصّ على كيفيّة مخصوصة يجب وصول بيانه بخطابات اخر ، وله في خطابات الشرع نظائر كثيرة.

منها : قوله تعالى ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ )(٢) فإنّه يدل على وجوب الصلاة على كلّ مكلّف في الجملة ، وأمّا أنّ الواجب على كلّ واحد هو الصلاة كيفما اتّفقت ، أو أنّه أيّ صلاة وبأيّ كيفيّة فلا دلالة له عليه ، نظرا إلى اختلاف المكلّفين على حسب اختلاف حالاتهم ومقتضياتهم ، فالواجب على كلّ منهم صلاة مخصوصة بكيفيّة مخصوصة يحتاج معرفتها

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

(٢) سورة البقرة : ٤٣.

٢٣٨

إلى بيانات خارجيّة ، لا يكفي عنها هذا الخطاب من جهة أنّه إنّما ورد مورد الإجمال والإهمال ، من غير قصد فيه إلى إطلاق ما يجب ، ولا إلى تقييده.

هذا مضافا إلى إمكان دعوى استظهار اعتبار [ حصول العلم فى قبول الخبر ](١) من الآية ، ولو بمعونة مقدّمة خارجيّة ، فإنّ التفقّه الواجب على النافرين أو المتخلّفين عبارة عن تعلّم الأحكام ، فالواجب عليهم إنّما هو طلب العلم والعمل به فكذلك على القوم المنذرين ، لمقدّمة الاشتراك في التكليف ويؤيّده أنّ التفقّه في الدين شامل لما لا يكفي فيه إلاّ العلم وهو اصول الدين ؛ فإنّ تعلّم أحكام الدين أعمّ من تعلّم أحكام اصوله وفروعه ، كما يكشف عن ذلك أيضا ما في عدّة من الأخبار من استشهاد الإمام عليه‌السلام بتلك الآية على وجوب النفر والمسافرة لمعرفة إمام العصر ، ثمّ إنذار النافرين لقومهم المتخلّفين بعد رجوعهم إليهم ، وظاهر أنّ الإمامة ممّا لا يثبت إلاّ بالعلم ، وإنّما جعلناه مؤيّدا لا حجّة مستقلّة لإمكان أن يتوجّه إليه القول بأنّ شمول التفقّه لما لا يكفي فيه العلم ـ وهو اصول الدين ـ لا ينافي كفاية ما عدا العلم في غير اصول الدين.

وعلى هذا فما تقدّم في تقرير استعارة كلمة « لعلّ » بأنّه شبّه طلب الحذر في أنّ المطلوب قد يحصل وقد لا يحصل برجاء الحذر ، لابدّ أن يوجّه بأنّ الإنذار قد يفيد العلم فيحصل الحذر بوجوبه حينئذ ، وقد لا يفيده فلا يحصل الحذر لعدم وجوبه حينئذ ، لا بأنّ المنذرين منهم من يطيع فيحصل منه الحذر ، ومنهم من يعصي فلا يحذر.

ثانيها : أنّ المراد بالتفقّه الواجب على النافرين أو المتخلّفين تعلّم الامور الواقعيّة المتعلّقة بالدين ، وهي الأحكام الواقعيّة الّتي جاء بها النبيّ ، فيكون المراد من الإنذار الواجب عليهم الإنذار بما تفقّهوا فيه من الامور الواقعيّة ، فيكون المراد بالحذر الواجب على القوم هو قبول هذه الامور الواقعيّة المنذر بها المتفقّه فيها ، فالآية تدلّ على وجوب قبول قول المنذرين في كلّ ما أخبروا به من الامور الواقعيّة ، لا على وجوب قبولهم في كلّ ما أخبروا به سواء كان من الامور الواقعيّة أم لا ، فلابدّ من أن يتحقّق عند المنذرين كون ما أخبر به المنذرون من الامور الواقعيّة ، ولا يتحقّق ذلك إلاّ بالعلم ، فإذا شكّ في كون ما أخبروا به هل هو من الامور الواقعيّة أم لا؟ أو احتمل عدم كونه منها كما هو الحال في

__________________

(١) والظاهر وقوع السقط هنا من قلمه الشريف ، وما اثبتناه في المعقوفين حرصا منّا على استقامة العبارة فهو موجود بعينه في حاشيته على القوانين ج ٢ ص ٣١ ، فراجع.

٢٣٩

مورد خبر الواحد الظنّي ، فالآية لا تدلّ على وجوب قبوله.

وبالجملة : الآية لا تثبت إلاّ كبرى كلّيّة ، والشبهة في موضع عدم العلم بصدق الخبر إنّما هي في الصغرى ، وظاهر أنّ المثبت للكبرى لا يفي بإثبات الصغرى ، بل الصغرى لابدّ من إثباتها وإحرازها باعتبار الخارج المفيد للعلم.

ثالثها : أنّ معنى وجوب قبول خبر الواحد ـ بالمعنى المتنازع فيه ـ هو وجوب تصديق الراوي فيما يحكيه عن المعصوم من قول أو فعل أو تقرير ، فإنّ محلّ البحث هو حجّيّة الخبر بمعنى الرواية المصطلحة ، والآية لا تدلّ عليه أصلا إذ الإنذار الواجب على المتفقّهين ظاهر في إبلاغ شيء على وجه التخويف ، على ما هو من شغل الوعّاظ في مقام الوعظ والإيعاد ، حيث يخوّفون عباد الله عن ركوب محارم الله وترك واجباته وحبس الحقوق الواجبة عليهم وقلّة المبالاة في الدين والمسامحة في تحصيل مسائله ومعرفة حلاله وحرامه ، والحذر عقيب الإنذار بهذا المعنى عبارة عن التخوّف والاتّعاظ ، فالآية إنّما تدلّ على وجوب التخوّف والاتّعاظ على المنذرين الباعث لهم على مجانبة المحرّمات ، والمواظبة على الواجبات والمراقبة في أداء الحقوق ، وترك المسامحة في تحصيل معرفة المسائل والخروج عن حضيض الجهل ، وهذا كما ترى لا يقتضي حجّيّة قول المنذرين من حيث هو قولهم ، لا على وجه الرواية ولا على وجه الإفتاء.

ولو سلّم عدم كون الآية مسوقة لإيجاب مجرّد الوعظ والإيعاد على ما هو وظيفة الوعّاظ ، فغايته الدلالة على وجوب إبلاغ ما فهمه المنذورن من ألفاظ قول النبيّ أو أفعاله ، والتعبير عنها بالإنذار المأخوذ فيه التخويف من جهة أنّ الإبلاغ المذكور إذا كان بيانا للواجبات أو المحرّمات أو وجود شيء وتحريمه ، فهو يتضمّن تخويفا وتحذيرا من العقاب على المخالفة والعصيان ، فيكون الواجب على القوم هو الحذر بمعنى اتّباع المنذرين فيما فهموه على حسب وسعهم وبقدر طاقتهم على ما هو وظيفة المقلّدين ، فالآية مسوقة حينئذ لإيجاب الإفتاء واتّباع المفتي في الفتوى ، لا لإيجاب الإبلاغ على وجه الرواية والحكاية للقول أو الفعل أو التقرير من حيث أنّه خبر ، ولذا استدلّ بها جماعة على وجوب الإفتاء فجعلها من أدلّة وجوب التفقّه والاجتهاد كفاية ، ووجوب التقليد على العوام أولى من جعلها من أدلّة حجّيّة خبر الواحد.

ومن الآيات المستدلّ بها على الحجّيّة : قوله تعالى في سورة البقرة : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ

٢٤٠