تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٥٥٥

ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ )(١) استدلّ بها جماعة تبعا للشيخ في العدّة ، بتقريب : أنّ الآية دلّت على حرمة الكتمان وهو يستلزم وجوب الإظهار ، وهو يستلزم وجوب القبول ، وإلاّ يلغو الإظهار فيلغو كلامه تعالى في تحريم الكتمان ووجوب الإظهار.

وفيه : منع كون الآية في مقام إيجاب قبول شيء ، بل نزلت في ذمّ أحبار اليهود حيث كانوا يكتمون أعلام النبيّ وعلامات نبوّته الّتي بيّنها الله سبحانه في التوراة ، فتدلّ على حرمة كتمانها المستلزمة لوجوب الإقرار بها ليترتّب عليه الإقرار بنبوّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو المقصود بالآية.

ولو سلّم أنّ المراد إيجاب إظهارها لعوام اليهود المستلزم لوجوب قبول قولهم ، فهو بملاحظة كون النبوّة ممّا يعتبر فيه العلم يقتضي اعتبار حصول العلم من قولهم في إظهار علامات النبيّ.

ولو سلّم أنّ لفظ الآية عامّ بالنسبة إلى غير مورد نزولها ، فغاية ما تفيده وجوب قبول قول المظهر للحقّ على وجه الإجمال والإهمال ، حسبما تقدّم في آية النفر من غير قصد إلى الدلالة على أنّه يقبل بقول مطلق ، أو بشرط اتّفاق العلم.

والسرّ في ذلك : أنّ وجوب الإظهار يتبع وجوب قبول قول المظهر له ، لا أنّ وجوب القبول يتبع وجوب الإظهار ، فكلّ مورد يجب فيه القبول على غير من عنده الحقّ يجب إظهاره على من عنده ، وينعكس بأنّه كلّ مورد لا يقبل فيه القول لا يجب فيه الإظهار.

وقضيّة ذلك أنّ من الموارد ما لا يقبل فيه قول المظهر للحقّ ، ولعلّه حيث لم يفد العلم ، وهذا نظير إقامة الشهادة المأمور بها في قوله تعالى : ( وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ )(٢) المنهيّ عن كتمانها في قوله تعالى : ( وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ )(٣) وغير ذلك من أدلّة وجوب أداء الشهادة ، فإنّها تدلّ على أنّ كلّ مورد يقبل فيه الشهادة يجب أدائها ، وينعكس بأنّ كلّ مورد لا يقبل فيه الشهادة لا يجب فيه أدائها ، ولذا يجب أدائها على العادل ولا يجب على الفاسق.

وممّا يرشد إلى ورود الآية مورد الإجمال ، أنّه لا يلزم السكوت في معرض البيان لولا إرادة الإطلاق ، كما هو المناط في إحراز الظهور الإطلاقي في الخطابات.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٥٩.

(٢) سورة الطلاق : ٢.

(٣) سورة البقرة : ٢٨٣.

٢٤١

ولو سلّم دلالة الآية على وجوب إظهار الحقّ في كلّ مورد ، فهو لا يستلزم وجوب قبول قول المظهر له على كلّ حال ، لجواز كون إرادة عموم الإظهار لأجل رجاء حصول العلم ووضوح الحقّ من تعدّد المظهرين ، أو من معونة القرائن ، مع أنّ مفاد الآية وجوب إظهار الحقّ على من عنده الحقّ ، فالواجب قبوله على المستمعين في إظهار الحقّ من حيث إنّه حقّ ، لا من حيث إنّه قوله ، ولا وجوب قبول قوله في كلّ شيء وإن لم يكن حقّا ، فإذا شكّ المستمع في كون ما أظهره حقّا أم لا ، أو احتمل عدم كونه حقّا ولو مرجوحا فالآية لا تدلّ على وجوب قبول قول المظهر له ، وإن دلّت على وجوب الإظهار عليه ، نظرا إلى رجاء حصول العلم من تعدّد المظهرين أو من معونة القرائن.

ومن الآيات قوله تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )(١) بتقريب : أنّ وجوب السؤال يستلزم وجوب قبول الجواب وإلاّ يلغو السؤال ، ومسبوقيّة الجواب بالسؤال لا مدخليّة لها في وجوب القبول ، حتّى يتوجّه أنّه لا يقتضي قبول [ قول ] الراوي الغير المسبوق بالسؤال ، للقطع بأنّ المناط هو قبول القول وإن لم يصدق عليه عنوان الجواب باعتبار عدم السؤال ، أو للإجماع المركّب وعدم القول بالفصل.

والمراد من أهل الذكر أهل العلم ، فيدخل فيهم الرواة في رواياتهم المسموعة عن المعصومين عليهم‌السلام ، لأنّهم عالمون بما سمعوه ، فإذا سئل الراوي الّذي هو من أهل العلم عمّا سمعه من الإمام في خصوص الواقعة ، فأجاب : بأنّي سمعته يقول كذا ، وجب القبول بحكم الآية ، فيجب قبول قوله ابتداء : إنّي سمعت الإمام يقول كذا ، لأنّ حجّيّة قوله هو الّذي أوجب السؤال عنه ، لا أنّ وجوب السؤال أوجب قبول قوله.

ويرد عليه أوّلا : أنّ الآية بمقتضى ظاهر السياق نزلت في أهل الكتاب ، فالمراد من أهل الذكر أحبارهم وعلمائهم ، كما يشهد به ما قبل الآية فإنّها على ما في سورة النحل هكذا ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ )(٢) ، وعلى ما في سورة الأنبياء ( وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )(٣).

ولو قطع النظر عن ظاهر السياق فيرد عليه أيضا أوّلا : منع كون المراد من أهل الذكر

__________________

(١) سورة النحل : ٤٣.

(٢) سورة النحل : ٤٣ ـ ٤٤.

(٣) سورة الأنبياء : ٧.

٢٤٢

مطلق أهل العلم ، بل خصوص أئمّتنا عليهم‌السلام على ما ورد في الأخبار المستفيضة المفسّرة لأهل الذكر بالأئمّة عليهم‌السلام ، وقد عقد الكليني في اصول الكافي بابا لإيراد هذه الأخبار ولا يقدح ضعف أسانيد جملة منها ، لأنّ فيها ما هو من الصحاح ، وما هو من الموثّقات وما هو من الحسان.

وثانيا : منع صدق أهل الذكر بمعنى أهل العلم على الرواة في مسموعاتهم ، وإن استتبع سماعهم حصول العلم لهم ، فإنّ أهل العلم لا يطلق إلاّ على العلماء من حيث إنّهم علماء ، لا من حيثيّات اخر ، والرجل في مسموعاته من الأقوال لا يقال عليه أنّه من أهل العلم ، وإن كان من غير هذه الجهة من أهل العلم.

وثالثا : أنّ الأمر بالسؤال معلّق على عدم العلم بالمسؤول عنه ، فيدلّ على أنّ الغاية المقصودة من السؤال هو العلم ، لا العمل بالقول وإن لم يحصل منه العلم تعبّدا ، ويؤيّده ورود الآية في سياق اصول الدين وعلامات النبيّ الّتي لا يطلب فيها العمل تعبّدا ، ولا يكفي فيها ما عدا العلم إجماعا ، نظرا إلى أنّها نزلت في كفّار قريش في استبعادهم اجتماع البشريّة والنبوّة ، بل استحالتهم الصفات البشريّة من الأكل والشرب والمشي في الأسواق في النبيّ ، كما يرشد إليه ما قبل الآية من قوله ( وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ )(١) وما بعدها من قوله : ( وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ )(٢).

ورابعا : أنّ الآية ظاهرة في وجوب سؤال العلماء ، وقبول جوابهم فيما علموه بالسماع عن المعصومين وغيره من الأحكام والأخذ به والعمل عليه ولو تعبّدا ، لا قبول قول الراوي في حكاية قول الإمام أو فعله أو تقريره الّتي هي الرواية المصطلحة لا غير ، فمفاد الآية حينئذ إنّما هو إيجاب الاستفتاء على ما هو وظيفة المقلّد ، ولذا استدلّ بها جماعة على وجوب التقليد في عمل العامي.

ومن الآيات المستدلّ بها : قوله تعالى ـ في سورة براءة ـ ( وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ )(٣) فإنّه تعالى مدح نبيّه بتصديقه للمؤمنين وقرنه بالتصديق بالله ، فيدلّ على كونه حسنا ، فإذا ثبت كونه حسنا كان واجبا

__________________

(١) الأنبياء : ٣.

(٢) الأنبياء : ٨.

(٣) سورة التوبة : ٦١.

٢٤٣

للإجماع المركّب.

ويرد عليه أوّلا : أنّ الاذن في صفة النبيّ عبارة عن سريع التصديق ، بمعنى الإذعان والاعتقاد بكلّ ما يسمع ، لا عمّن يعمل بكلّ ما يسمع تعبّدا وإن لم يفد العلم ، ومدحه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك من جهة حسن ظنّه بالمؤمنين ، وعدم سوء الظنّ بهم ، وعدم اتهامهم.

وثانيا : منع كون المراد من تصديقه للمؤمنين جعل كلّ [ خبر ] لهم صدقا مطابقا للواقع وترتيب جميع آثار الواقع على المخبر به ، كما هو المراد من حجّيّة خبر الواحد ، للزوم التناقض في كثير من الموارد ، كما لو اخبر مؤمن بشيء وآخر بنقيضه ، وانتفاء الخيريّة في كثير من الآثار كالقتل فيمن أخبر عنه بالارتداد مثلا ، والجلد فيمن أخبر عنه بزنا أو شرب خمر مثلا ، والقطع فيمن أخبر عنه بسرقة ، والتعزير فيمن أخبر عنه بترك واجب كإفطار نهار رمضان ، ونحو ذلك ممّا ليس في قبوله الخبر والعمل به خير ، بل هو نفس التنزيل المراد به إظهار صدق كلّ مخبر من المؤمنين وعدم تكذيبه بأن يقول له في خبره : صدقت ، أو يقول : ما كذبت ، وإن علم بكذبه في الواقع ، وهو الّذي يقال له : « التصديق الصوري والتصديق المخبري » ، بخلاف إيمانه بالله فإنّه عبارة عن الإذعان والاعتقاد ، وجعل كلّ خبر له صدقا مطابقا للواقع.

فلفظ « الإيمان » حيث اضيف إلى المؤمنين يغاير معناه حيث اضيف إليه تعالى ، ويشهد بذلك امور :

منها : تكرير اللفظ.

ومنها : التفكيك بين الموضعين بالتعدية بالباء وباللام ، فإنّ الاولى آية إرادة الإذعان والاعتقاد ، كما في لفظ « التصديق » أو « العلم » حيث عدّا بالباء ، بخلاف الثانية فإنّ الباء للتقوّي يراد به تأكيد الحكم والإسناد ، ولعلّه لإكثاره من تصديق المؤمنين ، فلا يقتضي إذعانا واعتقادا بل غايته إظهار الصدق وعدم التكذيب.

ومنها : قوله تعالى : ( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ )(١) فإنّه ورد على الذين كانوا يقولون في صفته صلى‌الله‌عليه‌وآله هو اذن مريدين به أنّه يقبل كلّ خبر سمعه ويجعله صدقا ، وحاصله أنّه ليس باذن بالمعنى الّذي تزعمون ، بل اذن خير لكم ، بأنّه إذا سمع خبرا من الله يقبله وإذا سمع الخبر من كلّ مؤمن يظهر قبوله وصدقه ولا يكذّبه لئلاّ يخجل ، أو ينكسر قلبه من غير أن

__________________

(١) سورة التوبة : ٦١.

٢٤٤

يؤذي أحد ممّن أخبر عنه بسوء.

ومنها : ما عن تفسير العياشيّ عن الصادق عليه‌السلام : من « أنّه يصدّق المؤمنين لأنّه كان رؤوفا رحيما بالمؤمنين » ، فإنّ تعليل التصديق بالرأفة والرحمة على كافّة المؤمنين لا يقتضي إلاّ إرادة إظهار القبول والصدق لئلاّ يخجل أو ينكسر قلبه ، بل ينافي قبول قول أحد على الآخر بحيث يرتّب عليه آثاره ، وإن أنكر المقول عنه وقوعه ، إذ مع الإنكار لابدّ من تكذيب أحدهما فكيف يكون رؤوفا رحيما بهما معا.

ومنها : ما رواه القمّي على ما نقل عنه في سبب نزول الآية ، من « أنّه نمّ منافق على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره الله ذلك ، فأحضره النبيّ وسأله فحلف أنّه لم يكن شيء ممّا ينمّ عليه ، فقبل منه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأخذ الرجل بعد ذلك يطعن على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول : إنّه يقبل كلّما يسمع ، أخبره الله أنّي أنمّ إليه وأنقل أخباره فقبل ، فأخبرته أنّي لم أفعل فقبل ، فردّه الله تعالى بقوله لنبيّه : ( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ )(١) » (٢) ومن المعلوم أنّ تصديقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمنافق لم يكن بترتيب آثار الصدق عليه مطلقا ، وإلاّ لزم تكذيبه تعالى ، وهذا التعبير يقضي بكون المراد بالمؤمنين المقرون بالإيمان المظهرون له من غير اعتقاد ، فيكون الإيمان لهم على حسب إيمانهم.

وبتضاعيف ما بيّناه ظهر أنّ التصديق للمخبر في خبره له معنيان :

أحدهما : ما يرجع إلى نفس المخبر ، وهو مجرّد الحكم عليه بكونه صادقا ، وأنّه ليس بكاذب ، من دون جعل المخبر عنه واقعا ولا ترتيب آثار الواقع عليه ، وهو الّذي يقتضيه حمل فعل المسلم وقوله على الصحيح والأحسن ، فإنّه لا يقتضي أزيد من الحكم عليه بعدم كونه قبيحا ومعصية.

وثانيهما : ما يرجع إلى خبره وهو جعله صدقا والمخبر به واقعا وترتيب جميع الآثار عليه ، ومحلّ البحث من حجّيّة خبر الواحد هو هذا المعنى ، والمستفاد من الآية هو حسن التصديق بالمعنى الأوّل ، فلا تنهض دليلا على الحجّيّة بالمعنى المبحوث عنه.

ثمّ اعلم أنّه على تقدير تسليم نهوض الآيات المذكورة أدلّة على حجّيّة خبر الواحد الغير العلمي ، وتسليم دلالة كلّ واحد على الحجّيّة لابدّ من حمل مطلقاتها على المقيّد منها ، وهو آية النبأ المتضمّنة لاعتبار قيدين أو قيد واحد في ، النبأ فيكون مفادها بعد الحمل حجّيّة خبر العادل المورث للاطمئنان أو الخبر المورث للاطمئنان وإن لم يكن مخبره

__________________

(١) سورة التوبة : ٦١.

(٢) تفسير القمّي ١ : ٣٠٠.

٢٤٥

[ عادلا ] والترديد مبنيّ على اعتبار المفهوم في آية النبأ شرطا أو وصفا وعدمه.

فهي على الأوّل باعتبار المفهوم يقتضي اعتبار قيد العدالة ، وباعتبار التعليل بمخافة الوقوع في الندم تقتضي اعتبار حصول الاطمئنان ، إذ لا يتخلّص من الوقوع في الندم إلاّ بذلك.

وعلى الثاني تقتضي باعتبار التعليل اعتبار الاطمئنان في العمل بكلّ خبر ، ولو مع فسق المخبر أو جهالة حاله.

هذا تمام الكلام في الاستدلال على حجّية خبر الواحد بالكتاب.

وأمّا السنّة : فاستدلّ منها بطوائف من الأخبار.

الطائفة الاولى

ما ورد من الأخبار العلاجيّة في علاج التعارض في الخبرين المتعارضين الدائر بين الترجيح والأخذ بالمرجّح ، أو التخيير في العمل على تقدير التعادل وفقد المرجّح ، فإنّها تدلّ على حجّيّة خبر الواحد من وجوه :

منها : التعارض المفروض في مورد هذه الأخبار الواردة في علاجه ، فإنّه فرع على الحجّيّة الذاتيّة لعدم معقوليّة التعارض بين الحجّة وغير الحجّة ، ولا بين فردين من غير الحجّة.

ومنها : قول المعصوم الموجود فيها وهو الأمر المتكرّر بالأخذ بذي المرجّح وطرح غيره ، وبالتخيير على تقدير فقد المرجّحات.

ومنها : تقرير المعصوم عليه‌السلام ، لدلالة أسئلة هذه الأخبار على كون العمل بأخبار الأئمّة عليهم‌السلام متداولا بينهم ، وأنّهم كانوا معتقدين بجوازه وقيام المقتضي للجواز وكونهم مأذونين في الأخذ بما وصل إليهم بالواسطة أو الوسائط ، وإنّما سألوا عن طريق رفع المانع عن العمل ، وصدر الأجوبة ببيان طريق رفع المانع ، لا الردع عن معتقدهم ، ولا منع المقتضي للجواز.

وبالتأمّل في بعض ما ذكرناه يندفع ما عساه يورد على الاستدلال ، بعدم دلالتها على كون الأخبار المعمول بها عندهم أخبارا غير علميّة ، لجواز كونها أخبارا معلومة الصدور عندهم بتواتر أو احتفاف قرينة ، فإنّه ممّا يأباه التعارض المفروض في موردها ، لاستحالة وقوعه في الأخبار العلميّة كسائر الأدلّة العلميّة.

وأمّا ما يورد على المقبولة منها. يكون موردها اختلاف الحاكمين فيما حكما به ،

٢٤٦

فيدفعه : ظهور السؤال في كون اختلاف الحاكمين ناشئا من اختلاف الروايتين بل هذا صريح قول السائل : « وكلاهما اختلفا في حديثكم » مع ظهور الجواب بل صراحة ذيلها في كون المراد بيان المرجّح للروايتين اللتين استند إليهما الحاكمان ، ولذا قال : « ينظر إلى ما كان من روايتهما عنّا في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه عند أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ، ويترك الشاذ الّذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ـ إلى أن قال ـ : فإن كان الخبران عنكم مشهورين ، قد روى الثقات عنكم ، قال : ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة » (١) الحديث.

مضافا إلى صراحة غيرها في الخبرين المتعارضين ، مثل ما رواه الحسن بن الجهم عن الرضا عليه‌السلام ، « قال : قلت له تجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة ، فقال : ما جاءك عنّا فقس على كتاب الله عزّ وجلّ وأحاديثنا ، فإن كان يشبههما فهو منّا ، وإن لم يكن يشبههما فليس منّا ، قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيّهما الحقّ؟ قال : فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت » (٢).

وما رواه أيضا عن العبد الصالح عليه‌السلام « قال : إذا جاءك الحديثان المختلفان فقسهما على كتاب الله وأحاديثنا فإن أشبهها فهو حقّ ، وإن لم يشبهها فهو باطل » (٣).

نعم قد يورد عليها : بأنّ دلالتها على اعتبار الخبر الغير المقطوع الصدور وإن كانت واضحة لا يمكن الاسترابة فيها ، ولكن لا إطلاق فيها يعمّ كلّ خبر غير مقطوع الصدور ، فغاية ما فيها الدلالة على قضيّة مهملة ، إذ لا يدري أنّ المعمول به عندهم المفروض وقوع التعارض فيه هل هو كلّ خبر أو نوع منه ، وأنّه أيّ نوع؟ أو أنّه صنف خاصّ منه؟

ويمكن الذبّ عنه في الجملة بأنّه يستفاد منها مناط ، وهو كون المدار في العمل بالوثوق والاطمئنان ، فيصير مفاد المجموع اعتبار خبر الثقة العادل ، ولذا قال عليه‌السلام : في مرفوعة زرارة « خذّ بأعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك » (٤).

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٠٦ / ١ ، ب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٢١ / ٤٠ ، ب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٣) الوسائل ٢٧ : ١٢٣ / ٤٨ ، ب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٤) عوالي اللآلي ٤ : ١٣٣ ح ٢٢٩ ومستدرك الوسائل : ١٧ / ٣٠٣ ح ٢.

٢٤٧

وقال أبو عبد الله في خبر الحرث بن المغيرة : « إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلّهم ثقة فموسّع عليك حتّى ترى القائم عليه‌السلام فترد إليه » (١).

الطائفة الثانية

الأخبار المتكاثرة القريبة من التواتر المدّعى تواترها ، كما عن العلاّمة المجلسي الواردة في إرجاع آحاد أصحابهم إلى آخرين ، بحيث يظهر منها عدم الفرق بين فتواهم في حقّ من شأنه الأخذ بالفتوى ، وروايتهم في حقّ من شأنه الأخذ بالرواية والعمل بها.

ومن الآحاد المرجوع إليهم محمّد بن مسلم ، وزرارة ، وأبان بن تغلب ، وأبو بصير ، وزكريّا بن آدم ، ويونس بن عبد الرحمن ، والعمري وابنه.

ففي رواية عبد الله بن يعفور ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : « أنّه ليس كلّ ساعة ألقاك ، ولا يمكن القدوم ويجيء الرجل من أصحابنا فيسألني ، وليس عندي كلّ ما يسألني عنه ، فقال : ما يمنعك من محمّد بن مسلم الثقفي ، فإنّه سمع من أبي وكان عنده وجيها » ، وفي نسخة اخرى « فما يمنعك عن الثقفي ـ يعني محمّد بن مسلم ـ فإنّه سمع من أبي أحاديث وكان عنده وجيها » (٢).

ورواية المفضّل بن عمر أنّ أبا عبد الله قال : للفيض بن المختار في حديث « فإذا أردت حديثنا فعليك بهذا المجالس ، وأومأ إلى رجل من أصحابه ، فسألت أصحابنا عنه ، فقال : زرارة بن أعين » (٣).

ورواية إبراهيم بن عبد الحميد وغيره قالوا قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « رحم الله زرارة بن أعين ، لولا زرارة ونظرائه لاندرست أحاديث أبي » (٤).

ورواية يونس بن عمّار أنّ أبا عبد الله عليه‌السلام قال له ـ في حديث ـ : « أمّا ما رواه زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام فلا يجوز ذلك أن تردّه » (٥).

ورواية أبي بصير أنّ أبا عبد الله عليه‌السلام قال له ـ في حديث ـ : « لولا زرارة ونظرائه لظننت

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٢٢ / ٤١ ، ب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٤٤ / ٢٣ ، ب ١١ من أبواب صفات القاضي.

(٣) الوسائل ٢٧ : ١٤٣ / ١٩ ، ب ١١ من أبواب صفات القاضي.

(٤ و ٥) الوسائل ٢٧ : ١٤٣ / ٢٠ ، ب ١١ من أبواب صفات القاضي.

٢٤٨

أنّ أحاديث أبي ستذهب » (١).

ورواية مسلم ابن أبي حيّة قال : « كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام في خدمته ، فلمّا أردت أن افارقه ودّعته ، وقلت : أحبّ أن تزوّدني ، فقال : إئت أبان بن تغلب فإنّه قد سمع منّي أحاديث كثيرا ، ما رواه لك فأروه عنّي » (٢).

ورواية أبان بن عثمان أنّ أبا عبد الله عليه‌السلام قال له : « انّ أبان بن تغلب قد روى عنّي رواية كثيرة فما رواه لك عنّي فاروه عنّي » (٣).

ورواية شعيب العقرقوفي قال قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : ربما نحتاج أن نسأل عن الشيء فمن نسأل » قال : عليك بالأسدي يعني أبا بصير » (٤).

ورواية علي بن المسيّب الهمداني ، قال قلت للرضا عليه‌السلام : شقّتي بعيدة ولست أصل إليك في كلّ وقت فممّن آخذ معالم ديني « قال : من زكريّا بن آدم القمّي المأمون على الدين والدنيا ... » إلى آخره (٥).

ورواية عبد العزيز بن المهتدي قال سألت الرضا عليه‌السلام أنّي لا ألقاك في كلّ وقت فعمّن آخذ معالم ديني؟ « فقال : خذ عن يونس بن عبد الرحمن » (٦).

وروايته الاخرى عنه عليه‌السلام قال قلت : لا أكاد أصل إليك أسألك عن كلّ ما احتاج إليه من معالم ديني ، أفيونس بن عبد الرحمن ثقة آخذ عنه ما احتاج إليه من معالم ديني؟ « فقال : نعم » (٧).

وروايته الاخرى عنه أيضا قلت للرضا عليه‌السلام : إنّ شقّتي بعيدة فلست أصل إليك في كلّ وقت ، فآخذ معالم ديني عن يونس مولى آل يقطين؟ (٨).

ورواية أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن عليه‌السلام ، قال : سألته وقلت : من اعامل؟ وعمّن آخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال : العمري ثقتي فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٤٢ / ١٦ ، ب ١١ من أبواب صفات القاضي.

(٢) رجال الكشّي ٢ : ٦٢٣ ، والوسائل ٢٧ : ١٤٧ / ٣٠ ، ب ١١ من أبواب صفات القاضي.

(٣) الوسائل ٢٧ : ١٤٠ / ٨ ، ب ١١ من أبواب صفات القاضي.

(٤) الوسائل ٢٧ : ١٤٢ / ١٥ ، ب ١١ من أبواب صفات القاضي.

(٥) الوسائل ٢٧ : ١٤٦ / ٢٧ ، ب ١١ من أبواب صفات القاضي.

(٦) الوسائل ٢٧ : ١٤٨ / ٣٤ ، ب ١١ من أبواب صفات القاضي.

(٧) الوسائل ٢٧ : ١٤٧ / ٣٣ ، ب ١١ من أبواب صفات القاضي.

(٨) الوسائل ٢٧ : ١٤٨ / ٣٥ ، ب ١١ من أبواب صفات القاضي.

٢٤٩

فعنّي يقول ، فأسمع له وأطع ، فإنّه الثقة المأمون ، قال : وسألت أبا محمّد عليه‌السلام عن مثل ذلك ، فقال : العمري وابنه ثقتان فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان وما قالا لك فعنّي يقولان ، فاسمع لهما وأطعهما فإنّهما الثقتان المأمونان ... » إلى آخره (١).

وهذه الطائفة أيضا مشتركة مع الطائفة الاولى في الدلالة على إناطة وجوب قبول الخبر بوثاقة الراوي ، خصوصا رواية عبد العزيز المعتضدة بخبري أحمد بن إسحاق ، الدالّة على كون قبول قول الثقة أمرا مفروغا عنه عند السائل ، فسأل من باب طلب إحراز الصغرى عن وثاقة يونس ليترتّب عليه أخذ معالم الدين عنه.

الطائفة الثالثة

الأخبار المتكاثرة جدّا المتواترة معنى الدالّة بمجموعها على مرجعيّة روايات الأئمّة عليهم‌السلام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإذنهم في روايتها والرجوع إليها والأخذ بها والعمل عليها ، بحيث يظهر منها عدم الفرق بين أزمنة حضورهم وما بعدها.

ونحن نذكر هنا نبذة منها وقد جمعها في الوسائل ، مثل قول الحجّة عجل الله فرجه في التوقيع لإسحاق بن يعقوب ، « وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنّا حجّة الله عليهم » (٢).

ورواية الحسين بن روح عن أبي محمّد الحسن بن عليّ عليهما‌السلام أنّه سأل عن كتب بني فضّال ، « فقال : خذوا بما رووا وذروا ما رأوا » (٣).

والمروي عن الرضا عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام ، « قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللهمّ ارحم خلفائي ثلاث مرّات ، فقيل له : يا رسول الله ومن خلفائك؟ قال : الّذين يأتون من بعدي ويروون عنّي أحاديثي وسنّتي ، فيعلّمونها الناس من بعدي » (٤).

والمروي عن الصادق عليه‌السلام « قال : إذا نزلت بكم حادثة لا تعلمون حكمها فيما ورد عنّا ،

__________________

(١) الكافي ١ : ٣٣٠ / ١.

(٢) الوسائل : ٢٧ : ١٤٠ / ٩ ، ب ١١ من أبواب صفات القاضي وكمال الدين : ٤٨٤ / ٤. والغيبة للشيخ الطوسي : ٣٨٩ / ٣٥٥.

(٣) الوسائل ٢٧ : ١٤٢ / ١٣ ، ب ١١ من أبواب صفات القاضي.

(٤) الوسائل ٢٧ : ٩٢ / ٥٣ ، ب ٨ من أبواب صفات القاضي.

٢٥٠

فانظروا إلى ما رووه عن عليّ عليه‌السلام فأعملوا به » (١).

ورواية عليّ بن حنظلة قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : « اعرفوا منازل الناس على قدر رواياتهم عنّا » (٢).

ورواية جميل بن درّاج « قال أبو عبد الله عليه‌السلام : أعربوا حديثنا فإنّا قوم فصحاء » (٣).

ورواية عبد السلام الهروي عن الرضا عليه‌السلام « قال : رحم الله عبدا أحيا أمرنا ، قلت : كيف يحيي أمركم ، قال : يتعلّم علومنا ويعلّمها الناس ، فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا » (٤).

ورواية عبيد بن زرارة قال « قال أبو عبد الله عليه‌السلام : احتفظوا بكتبكم فإنّكم سوف تحتاجون إليها » (٥).

ورواية أبي بصير قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام : « يقول : اكتبوا فإنّكم لا تحفظون حتّى تكتبوا » (٦).

ورواية المفضّل بن عمر قال قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : « اكتب وبثّ علمك في إخوانك فإن متّ فأورث كتبك بنيك ، فإنّه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيها إلاّ بكتبهم » (٧).

ورواية محمّد بن الحسن ابن أبي خالد قال : قلت لأبي جعفر الثاني عليه‌السلام : جعلت فداك إنّ مشايخنا رووا عن أبي جعفر عليه‌السلام وأبي عبد الله عليه‌السلام وكانت التقيّة شديدة ، فكتموا كتبهم فلم ترو عنهم ، فلمّا ماتوا صارت تلك الكتب إلينا ، « فقال : حدّثوا بها فإنّها حقّ » (٨).

والمرويّ في حديث رسالة أبي عبد الله عليه‌السلام إلى أصحابه : « أيّتها العصابة عليكم بآثار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسنّته وآثار الأئمّة الهداة من أهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّه من أخذ بذلك فقد اهتدى ، ومن ترك ذلك ورغب عنه ضلّ ، لأنّهم هم الذين أمر الله بطاعتهم وولايتهم » (٩).

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٩١ / ٤٧ ، ب ٨ من أبواب صفات القاضي.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٥٠ / ٤١ ، ب ١١ من أبواب صفات القاضي.

(٣) الوسائل ٢٧ : ٨٣ / ٢٥ ، ب ٨ من أبواب صفات القاضي.

(٤) الوسائل ٢٧ : ٩٢ / ٥٢ ، ب ٨ من أبواب صفات القاضي.

(٥) الوسائل ٢٧ : ٨١ / ١٧ ، ب ٨ من أبواب صفات القاضي.

(٦) الوسائل ٢٧ : ٨١ / ١٦ ، ب ٨ من أبواب صفات القاضي.

(٧) الوسائل ٢٧ : ٨١ / ١٨ ، ب ٨ من أبواب صفات القاضي.

(٨) الوسائل ٢٧ : ٨٤ / ٢٧ ، ب ٨ من أبواب صفات القاضي.

(٩) الوسائل ٢٧ : ٨٦ / ٣٦ ، ب ٨ من أبواب صفات القاضي.

٢٥١

وما عن الكشيّ من أنّه ورد توقيع على القاسم بن عليّ وفيه : « أنّه لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا ، قد علموا أنّا نفاوضهم سرّنا ونحمله إليهم » (١).

ومرفوعة الكناني عن الصادق عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ )(٢) « قال : هؤلاء قوم من شيعتنا ضعفاء ، وليس عندهم ما يتحمّلون إلينا فيستمعون حديثنا ويقتبسون من علمنا ، فيرحل قوم فوقهم وينفقون أموالهم ويتبعون أبدانهم حتّى يدخلوا علينا ويسمعوا حديثنا فينقلوا إليهم فيعيه اولئك ويضيعه هؤلاء ، فاولئك الّذين جعل الله لهم مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون » (٣).

ورواية إبراهيم بن موسى المروزي عن أبي الحسن عليه‌السلام « قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حفظ من امّتي أربعين حديثا ممّا يحتاجون إليهم في أمر دينهم ، بعثه الله يوم القيامة فقيها عالما » (٤).

ورواية حنّان بن سدير قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام « يقول من حفظ منّا أربعين حديثا من أحاديثنا في الحلال والحرام ، بعثه الله يوم القيامة فقيها عالما ولم يعذّبه » (٥).

والمروي عن عليّ عليه‌السلام « قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حفظ من امّتي أربعين حديثا ينتفعون بها ، بعثه الله يوم القيامة فقيها عالما » (٦).

ورواية ابن عبّاس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « قال : من حفظ على امّتي أربعين حديثا من السنّة كنت له شفيعا يوم القيامة » (٧).

ورواية أنس قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من حفظ عنّي من امّتي أربعين حديثا في أمر دينه يريد به وجه الله والدار الآخرة ، بعثه الله يوم القيامة فقيها عالما » (٨) ، والخبر بهذا المضمون مع اختلاف يسير في بعض ألفاظه قريب من التواتر بل متواتر.

ورواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب الناس في مسجد الخيف ، فقال : نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلّغها من لم يسمعها ،

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٤٩ / ٤٠ ، ب ١١ من أبواب صفات القاضي.

(٢) سورة الطلاق : ٣.

(٣) الوسائل ٢٧ : ٩٠ / ٤٥ ، ب ٨ من أبواب صفات القاضي.

(٤) الوسائل ٢٧ : ٩٤ / ٦٠ ، ب ٨ من أبواب صفات القاضي.

(٥) الوسائل ٢٧ : ٩٥ / ٦١ ، ب ٨ من أبواب صفات القاضي.

(٦) الوسائل ٢٧ : ٩٩ / ٧٢ ، ب ٨ من أبواب صفات القاضي.

(٧) الوسائل ٢٧ : ٩٨ / ٧١ ، ب ٨ من أبواب صفات القاضي.

(٨) الوسائل ٢٧ : ٥٤ / ٥٩ ، ب ٨ من أبواب صفات القاضي.

٢٥٢

فربّ حامل فقه غير فقيه ، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه ».

وفي رواية عن الصادق عليه‌السلام ، قال له سفيان الثوري : يا أبا عبد الله [ عليه‌السلام ] حدّثنا بحديث خطبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مسجد الخيف ـ إلى أن قال ـ : فقال سفيان : مر لي بدواة وقرطاس حتّى أثبته فدعا به ثمّ قال : اكتب.

بسم الله الرحمن الرحيم خطبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مسجد الخيف نصر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها وبلّغها من لم تبلغه.

يا أيّها الناس ليبلّغ الشاهد الغائب ، فربّ حامل فقه ليس بفقيه ، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه » (١).

ورواية معاوية بن عمّار ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رجل رواية لحديثكم ، يبثّ ذلك في الناس ، ويسدّده في قلوبهم وقلوب شيعتكم ، ولعلّ عابدا من شيعتكم ليس له هذه الرواية أيّهما أفضل؟ « قال : الرواية لحديثنا يسدّد به قلوب شيعتنا أفضل من ألف عابد » (٢).

ورواية أبي البختري عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، « قال : إنّ العلماء ورثة الأنبياء وذلك أنّ الأنبياء لم يورّثوا درهما ولا دينارا ، وإنّما ورّثوا أحاديث من أحاديثهم ، فمن أخذ بشيء منها فقد أخذ حظّا وافرا ، فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه ، فإنّ فينا أهل البيت في كلّ خلف عدولا ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين » (٣).

ورواية أبي خديجة عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : من أراد الحديث لمنفعة الدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب ، ومن أراد به خير الآخرة أعطاه الله خير الدنيا والآخرة » (٤).

ورواية أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : قول الله جلّ ثناؤه ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ )(٥) « قال : هو الرجل يسمع الحديث فيحدّث به كما سمعه ولا يزيد فيه ولا ينقص منه » (٦).

وروايته الاخرى قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزّ وجلّ ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٨٩ / ٤٤ ، ب ٨ من أبواب صفات القاضي.

(٢) الوسائل ٢٧ : ٧٧ / ١ ، ب ٨ من أبواب صفات القاضي.

(٣) الوسائل ٢٧ : ٧٨ / ٢ ، ب ٨ من أبواب صفات القاضي.

(٤) الوسائل ٢٧ : ٧٨ / ٤ ، ب ٨ من أبواب صفات القاضي.

(٥) سورة الزمر : ١٨.

(٦) الوسائل ٢٧ : ٧٩ / ٨ ، ب ٨ من أبواب صفات القاضي.

٢٥٣

الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ... ) إلى آخر الآية « فقال : هم المسلّمون لآل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذين إذا سمعوا الحديث لم يزيدوا فيه ولم ينقصوا منه جاؤوا به كما سمعوه » (١).

ورواية محمّد بن مسلم ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أسمع الحديث منك فأزيد وأنقص؟ « قال : إن كنت تريد معانيه فلا بأس » (٢).

ورواية داود بن فرقد قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّي أسمع الكلام منك فاريد أن أرويه كما سمعته منك فلا يجيء « قال : فتعمّد ذلك؟ قلت : لا ، قال : تريد المعاني؟ قلت : نعم ، قال : فلا بأس » (٣).

ورواية أحمد بن عمر الحلال ، قال : قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام الرجل من أصحابنا يعطيني الكتاب ولا يقول أروه عنّي يجوز لي أن أرويه عنه؟ « قال : فقال إذا علمت أنّ الكتاب له فاروه عنه » (٤).

ورواية السكوني عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، « قال : قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إذا حدّثتم بحديث فاسندوه إلى الّذي حدّثكم ، فإن كان حقّا فلكم وإن كان كذبا فعليه » (٥).

ورواية أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام الحديث أسمعه منك أرويه عن أبيك أو أسمعه من أبيك أرويه عنك؟ « قال : سواء إلاّ أنّك ترويه عن أبي أحبّ اليّ.

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام لجميل : ما سمعته منّي فاروه عن أبي » (٦).

ورواية أبي سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام « قال : سمعته يقول : ليس عليكم جناح فيما سمعتم منّي أن ترووه عن أبي عليه‌السلام ، وليس عليكم جناح فيما سمعتم من أبي أن ترووه عنّي ، ليس عليكم في هذا جناح » (٧).

ورواية حفص بن البختري قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام نسمع الحديث منك فلا أروي منكم سماعه أو من أبيك « فقال : ما سمعته منّي فاروه عن أبي ، وما سمعته منّي فاروه عن

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٨٢ / ٢٣ ، ب ٨ من أبواب صفات القاضي.

(٢) الوسائل ٢٧ : ٨٠ / ٩ ، ب ٨ من أبواب صفات القاضي.

(٣) الوسائل ٢٧ : ٨٠ / ١٠ ، ب ٨ من أبواب صفات القاضي.

(٤) الوسائل ٢٧ : ٨٠ / ١٣ ، ب ٨ من أبواب صفات القاضي.

(٥) الوسائل ٢٧ : ٨١ / ١٤ ، ب ٨ من أبواب صفات القاضي.

(٦) الوسائل ٢٧ : ٨٠ / ١١ ، ب ٨ من أبواب صفات القاضي.

(٧) الوسائل ٢٧ : ١٠٤ / ٨٥ ، ب ٨ من أبواب صفات القاضي.

٢٥٤

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (١).

ورواية ابن المختار أو غيره رفعه قال : قلت لابي عبد الله عليه‌السلام : أسمع الحديث منك فلعلّي لا أرويه كما سمعته ، « فقال : إذا أصبت الصلب منه فلا بأس إنّما هو بمنزلة تعال وهلمّ واقعد واجلس » (٢).

وفي رواية مرفوعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام « إذا أصبت معنى حديثنا فأعرب عنه بما شئت » إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

وهذه الطائفة من الأخبار لا تعرّض فيها لاعتبار العدالة أو الوثاقة أو الأمانة ، غير أنّ الطائفتين السابقتين متعرّضة لذلك ، كما دلّ عليه « الأعدليّة » و « الأصدقيّة » و « الثقة » و « المأمون » وغير ذلك.

فيحمل الطائفة الثالثة أيضا على ذلك ، فالمستفاد من مجموع طوائف الأخبار على سبيل القطع واليقين هو جواز الأخذ بالخبر الغير العلمي الموثوق بصدقه أو صدق راويه في نوع أخباره ، ومرجعه إلى إناطة جواز العمل به بحصول الاطمئنان بصدقه أو صدق راويه ، وهذا كما ترى لا يستلزم اعتبار الاطمئنان بالحكم الواقعي المستفاد منه ، فلا يرد : أنّه لو اعتبر الظنّ الاطمئناني في العمل بخبر الواحد لانسدّ باب العمل بأكثر الأخبار ، لابتنائه على مقدّمات لا تكاد جملة منها تورث ظنّا فضلا عن بلوغه حدّ الاطمئنان ، إذ الظنّ الاطمئناني في صدق الخبر أو راويه إحرازا لسنده ، وهو ـ صدوره ـ غير الظنّ الاطمئناني بالحكم الواقعي المستفاد منه.

فالظنّ الاطمئناني إنّما نعتبره في الخبر باعتبار الحيثيّة الّتي نبحث باعتبارها عن حجّيّته ، وهي حيثيّة الصدق والصدور لا من الحيثيّات الاخر ، ومن الجائز كون بعض هذه الحيثيّات ممّا لم يعتبر فيه ظنّ أصلا ، فكيف يصير الحكم الواقعي المستفاد منه مظنونا بالظنّ الاطمئناني.

وتوضيح ذلك : أنّ دليل الحكم الواقعي قد يكون مفيدا للعلم ، فلا إشكال في وجوب العمل به لأنّ الحجّة حينئذ هو العلم ، وقد يكون مفيدا للظنّ كالشهرة لو قلنا بحجّيّتها ، وهو أيضا ممّا لا إشكال في وجوب العمل به لأنّ الحجّة حينئذ هو الظنّ ، وقد لا يكون مفيدا لأحدهما بل يكون العمل به ثابتا من باب التعبّد ، ولو مع الشكّ بل الوهم بالنسبة إلى الحكم

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٠٤ / ٨٦ ، ب ٨ من أبواب صفات القاضي.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٠٥ / ٨٧ ، ب ٨ من أبواب صفات القاضي.

٢٥٥

الواقعي ، وظاهر أنّ النتيجة على الأوّل علميّة ، وعلى الثاني ظنّيّة ، وعلى الثالث شكّيّة أو وهميّة ، وهي مع ذلك حكم الله في حقّ المجتهد.

وقد يكون دليل واحد موقوفا على مقدّمات بعضها علميّة وبعضها ظنّيّة ، وظاهر أنّ النتيجة حينئذ تكون ظنّيّة ، وقد يكون موقوفا على مقدّمات بعضها ظنّيّة وبعضها شكّيّة كما لو كانت من الأمارات التعبّدية ، وظاهر أنّ النتيجة حينئذ شكّيّة ومع ذلك هي حكم الله لا غير ، فلو أخبرنا عدل عن الإمام بأنّه قال : « أكرم العلماء » فالعمل به موقوف على مقدّمات بعضها ظنّيّة وبعضها تعبّديّة ، لأنّه يتوقّف أوّلا على إثبات صدق المخبر في قوله : « قال كذا » ، وبعد الفراغ عن ذلك لابدّ من إحراز أنّ المراد من الأمر هل الوجوب أو غيره ، ومن العلماء هل هو العموم أو الخصوص.

ثمّ بعد الفراغ عن ذلك ، لابدّ من النظر على أنّ الإمام إنّما أراد هذا المعنى في مقام بيان الحكم الواقعي المكتوب في اللوح المحفوظ ، أو في مقام التقيّة.

ولا ريب أنّ الجهة الاولى ظنّيّة ، وهي الّتي نقول فيها بالظنّ الاطمئناني.

وأمّا الجهة الثانية فهي مبتنية على الظنّ النوعي ، من جهة كون حجّيّة الظواهر من هذا الباب.

وكذلك الجهة الثالثة لو قلنا بموجب أصالة عدم التقيّة من باب التعبّد ، فلو فرضنا عدم اتّفاق ظنّ شخصي في هاتين الجهتين فكيف تصير النتيجة الّتي هي حكم الله علميّة أو ظنّية ، ومع هذا يجب الأخذ بها لمكان التعبّد الّذي لا يضرّ فيه الشكّ ولا الوهم ، ومن هذا الباب ما لو أخبرنا العدل بقوله : « قال فلان » ، فإنّ الشكّ تارة يقع في صدقه وكذبه في إسناد القول إلى فلان ، واخرى من جهة تعبيره بلفظة « قال » من حيث إنّها تطلق ويراد منها إسناد القول إليه بسماع منه ، وقد تطلق ويراد منها إسناد القول إليه بحذف الواسطة من غير سماع منه ، غير أنّه ظاهر في الأوّل ، ولا يعتبر فيه حصول الظنّ الشخصي.

نعم يعتبر الظنّ الاطمئناني في الجهة الاولى ، فإذا فرضنا حصوله في تلك الجهة لا يلازم ذلك حصوله من الجهة الاخرى ، بل قد تكون هذه الجهة مشكوكة غير أنّ الشكّ فيها بعد إعمال أصالة عدم الحذف غير مضرّ بلزوم الأخذ بالنتيجة ، ومع هذا فكيف يدّعى الظنّ بأصل الحكم الواقعي فضلا عن كونه اطمئنانيّا؟

وبالجملة فليس معنى حجّيّة خبر الواحد من باب الظنّ الاطمئناني لزوم تحصيل الظنّ الاطمئناني بالحكم الواقعي ، بل قد لا يحصل بالنسبة إليه إلاّ الشكّ ، لكون بعض مقدّمات

٢٥٦

دليله تعبّديّة صرفة غير مبتنية على الظنّ الشخصي.

فما قد يقال في المناقشة في الإجماع المنقول على العموم : من أنّه حجّة من باب الظنّ ولا ظنّ منه بعموم ذلك الحكم ـ غير سديد ، لأنّ الظنّ إنّما يعتبر في سند الإجماع ، وهو كون ناقله صادقا في نقله على معنى لزوم اعتبار الظنّ بصدقه ، وهذا لا ينافي عدم الظنّ بمفاده ومؤدّاه إذا كان معقده لفظا عامّا دالاّ على الحكم من باب الظنّ النوعي الغير المبتني على الظنّ الشخصي ، هذا تمام الكلام في الاستدلال بالسنّة.

وأمّا الإجماع : فيقرّب من وجوه :

أوّلها : الإجماع على حجّيّة خبر الواحد قبالا للسيّد وأتباعه المانعين من حجّيّة خبر الواحد الغير العلمي ، فقيل : إنّ لتحصيله طريقين على وجه منع الخلوّ :

الأوّل : تتّبع أقوال العلماء من زماننا إلى زمان الشيخين ، فيكشف ذلك كشفا قطعيّا عن رضا الإمام عليه‌السلام بالحكم ، أو عن وجود نصّ معتبر في المسألة ، ولا يلتفت في ذلك إلى خلاف السيّد وأتباعه لعدم قدحه فيه ، إمّا لكونهم معلومي النسب كما عن الشيخ في العدّة (١) أو للاطّلاع على كون خلافهم لشبهة حصلت لهم كما عن العلاّمة في النهاية (٢) ، فيقطع بعدم موافقة الإمام لهم ، أو لعدم اشتراط اتّفاق الكلّ في الإجماع بطريقة المتأخّرين المبتنية على الحدس.

الثاني : تتبّع الإجماعات المنقولة في ذلك في كلمات العلماء صراحة وظهورا ، وهي كثيرة جدّا بالغة إلى عشرة بل زائدة.

منها : ما حكي عن الشيخ في العدّة في هذا المقام ، فإنّه ـ على ما حكي ـ قال : « وأمّا ما اخترته من المذهب ، وهو أنّ الخبر الواحد إذا كان واردا من طريق أصحابنا القائلين بالإمامة ، وكان ذلك مرويّا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو عن أحد الأئمّة عليهم‌السلام ، وكان ممّن لا يطعن في روايته ، ويكون سديدا في نقله ، ولم يكن هناك قرينة تدلّ على صحّة ما تضمّنه الخبر ، لأنّه إذا كان هناك قرينة تدلّ على صحّة ذلك كان الاعتبار بالقرينة ، وكان ذلك موجبا للعلم كما تقدّمت القرائن ، جاز العمل.

والذي يدلّ على ذلك إجماع الفرقة المحقّة ، فإنّي وجدتها مجتمعة على العمل بهذه الأخبار الّتي رووها في تصنيفاتهم ودوّنوها في اصولهم ، لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعون حتّى أنّ واحدا منهم إذا أفتى بشيء لا يعرفونه سألوه من أين قلت هذا؟ فإذا أحالهم على

__________________

(١) العدّه ١ : ١٢٨ ـ ١٢٩.

(٢) نهاية الوصول ( مخطوط ) : ٢٩٦.

٢٥٧

كتاب معروف ، أو أصل مشهور ، وكان راويه ثقة لا ينكر حديثه سكتوا وسلّموا الأمر وقبلوا قوله ، هذه عادتهم وسجيّتهم من عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن بعد الأئمّة عليهم‌السلام إلى زمان جعفر بن محمّد الّذي انتشر عنه العلم وكثرت الرواية من جهته ، فلولا أنّ العمل بهذه الأخبار كان جائزا لما أجمعوا على ذلك ، لأنّ إجماعهم فيه معصوم لا يجوز عليه الغلط والسهو ، والّذي يكشف عن ذلك أنّه لمّا كان العمل بالقياس محظورا عندهم في الشريعة لم يعملوا به أصلا ، وإذا شذّ منهم واحد عمل به في بعض المسائل واستعمله على وجه المحاجّة لخصمه وإن لم يكن اعتقاده ، ردّوا قوله وأنكروا عليه وتبرّأوا من قوله ، حتّى أنّهم يتركون تصانيف من وصفناه ورواياته لمّا كان عاملا بالقياس ، فلو كان العمل بالخبر الواحد جرى بذلك المجرى لوجب فيه أيضا مثل ذلك ، وقد علمنا خلافه.

فإن قيل : كيف تدّعي إجماع الفرقة المحقّة على العمل بخبر الواحد ، والمعلوم من حالها أنّها لا ترى العمل بخبر الواحد ، كما أنّ من المعلوم أنّها لا ترى العمل بالقياس ، فإذا جاز ادّعاء أحدهما جاز ادّعاء الآخر.

قيل : المعلوم من حالها الّذي لا ينكر أنّهم لا يرون العمل بخبر الواحد الّذي يرويه مخالفوهم في الاعتقاد ويختصّون بطريقه ، فأمّا ما كان رواته منهم وطريقه أصحابهم فقد بيّنا أنّ المعلوم خلاف ذلك.

فإن قيل : أليس شيوخكم لا يزالون يناظرون خصومهم في أنّ خبر الواحد لا يعمل به ، ويدفعونهم عن صحّة ذلك حتّى أنّ منهم من يقول : لا يجوز ذلك عقلا ، ومنهم من يقول : لا يجوز ذلك سمعا ، لأنّ الشرع لم يرد به ، وما رأينا أحدا تكلّم في جواز ذلك ، ولا صنّف فيه كتابا ، ولا أملى فيه مسألة ، فكيف أنتم تدّعون خلاف ذلك؟

قيل له : من أشرت إليهم من المنكرين لأخبار الآحاد إنّما تكلّموا من خالفهم في الاعتقاد ، ودفعوهم من وجوب العمل بما يروونه من الأخبار المتضمّنة للأحكام الّتي يروون خلافها ، وذلك صحيح على ما قدّمناه ، ولم نجدهم أنّهم اختلفوا فيما بينهم ، وأنكره بعضهم على بعض العمل بما يروونه إلاّ مسائل دلّ الدليل الموجب للعلم على صحّتها ، فإذا خالفوهم فيها أنكروا عليهم لمكان الأدلّة الموجبة للعلم والأخبار المتواترة بخلافه.

على أنّ الّذين اشير إليهم في السؤال أقوالهم متميّزة بين أقوال الطائفة المحقّة ، وقد علمنا أنّهم لم يكونوا أئمّة معصومين ، وكلّ قول قد علم قائله وعرف نسبه وتميّز من

٢٥٨

أقاويل سائر الفرقة المحقّة لم يعتّد بذلك القول ، لأنّ قول الطائفة إنّما كان حجّة من حيث كان فيهم معصوم ، فإذا كان القول من غير معصوم علم أنّ قول المعصوم داخل في باقي الأقوال ، ووجب المصير إليه على ما بيّنته في الإجماع » انتهى (١) ما أردنا نقله من موضع الحاجة ، وعورض إجماعه الّذي عرفته بما تقدّم من إجماع السيّد (٢) على المنع.

ويمكن الذبّ تارة : بترجيح إجماع الشيخ.

واخرى : بالجمع بينه وبين إجماع السيّد ورفع التنافي عمّا بينهما.

أمّا الأوّل : فإمّا لأنّ الشيخ أبصر وأعرف بما هو المعهود المعمول به في فقه أهل البيت وفروع أحكامهم ، لكونه من الفقهاء وأهل الحديث ، بخلاف السيّد الّذي فنّه الكلام فيجوز أن يخفى عليه بعض ما هو من خصائص الفروع ، أو لاعتضاد إجماعه بموافقة المعظم وسائر الإجماعات المنقولة الآتية.

وأمّا الثاني فتارة : بتنزيل إجماع السيّد على خبر الواحد في الاصول ، لأنّه كان من المتكلّمين ومن مذهبهم منع العمل بخبر الواحد في المسائل الكلاميّة واصول العقائد ، وكان هو المعهود في نظر السيّد فأطلق المنع ونقل عليه الإجماع ، وهذا ممّا لا ينكره الشيخ ، بل ادّعى الإجماع على العمل به في الفروع ، وليس بمعلوم أنّ السيّد ينكره.

واخرى : بتزيل كلام السيّد على أخبار المخالفين المرويّة بطرقهم ـ كما أوّله بذلك المحقّق في المعتبر ـ (٣) والشيخ لا يخالفه ، بل تقدّم في كلامه ما هو صريح في منع العمل عليها ، وإنّما جوّز العمل بما رواه أصحابنا.

وثالثة : بتنزيل خبر الواحد المجرّد عن القرائن في معقد إجماع السيّد على ما تجرّد عن القرائن الموجبة للوثوق والاطمئنان ، بناء على كون مراده من العلم الّذي ادّعاه بصدق الأخبار مجرّد الاطمئنان ، فإنّ المحكي عنه في تعريف العلم بأنّه ما اقتضى سكون النفس (٤) ، وهو الّذي ادّعى بعض الأخباريّين (٥) أنّ مرادنا بالعلم بصدور الأخبار هو هذا المعنى ، لا اليقين الّذي لا يقبل الاحتمال.

ولم يظهر من تضاعيف كلمات الشيخ ، أزيد من تجويز العمل بالأخبار الموثوق بصدورها.

__________________

(١) العدّة ١ : ١٢٦ ـ ١٢٩.

(٢) رسائل الشريف المرتضى ١ : ٢٤ و ٣ : ٣٠٩.

(٣) المعتبر ١ : ٢٩.

(٤) الذريعة ١ : ٢٠.

(٥) هو المحدّث البحراني في الدرر النجفيّة : ٦٣.

٢٥٩

قال شيخنا قدس‌سره : « إنّ الإنصاف أنّه لم يتّضح من كلام الشيخ دعوى الإجماع على أزيد من الخبر الموجب لسكون النفس ، ولو بمجرّد وثاقة الراوي وكونه سديدا في نقله لم يطعن عليه في روايته » (١).

ومنها : ما حكي عن السيّد الجليل رضيّ الدين بن طاووس حيث طعن على السيّد في جملة كلام له بقوله : « ولا يكاد ينقضي تعجّبي كيف اشتبه عليه أنّ الشيعة يعمل بأخبار الآحاد في الامور الشرعيّة ، ومن اطّلع على التواريخ وشاهد عمل ذوي الاعتبار ، وجد المسلمين والمرتضى وعلماء الشيعة الماضين عاملين بأخبار الآحاد بغير شبهة عند العارفين ، كما ذكر محمّد بن الحسن الطوسي في كتاب العدّة وغيره من المشغولين بتصفّح أخبار الشيعة وغيرهم من المصنّفين » انتهى (٢).

ويظهر منه أنّ غير الشيخ أيضا ادّعي إجماع الشيعة على العمل بأخبار الآحاد.

ومنها : ما حكي عن نهاية العلاّمة من قوله : « إنّ الأخباريّين منهم لم يعوّلوا في اصول الدين وفروعه إلاّ على أخبار الآحاد ، والاصوليّين منهم كأبي جعفر الطوسي عمل بها ولم ينكره ، سوى المرتضى وأتباعه لشبهة حصلت لهم » (٣) انتهى.

وظاهره أنّه لولا حصول الشبهة لهم لكانوا داخلين في الإجماع على العمل بأخبار الآحاد ، ويحتمل كون شبهتهم في الموضوع ، وهو إنكار كون الأخبار المعمول بها لديهم غير علميّة بزعم وجود القرائن وإفادتها العلم ، كما ادّعاه الأخباريّون.

أو دعوى : كون الأخبار الّتي عمل بها الشيعة ودوّنوها في كتبهم محفوفة بالقرائن ، كما يظهر ذلك في كلامه المحكي عن الموصليّات ، قائلا : « إن قيل : أليس شيوخ هذه الطائفة عوّلوا في كتبهم في الأحكام الشرعيّة على الأخبار الّتي رووها عن ثقاتهم ، وجعلوها العمدة والحجّة في الأحكام؟ وقد رووا من أئمّتهم فيما يجيء مختلفا من الأخبار عند عدم الترجيح أن يؤخذ منه ما هو أبعد من قول العامّة ، وهذا يناقض ما قدّمتموه.

قلنا : ليس ينبغي أن يرجع عن الامور المعلومة المشهورة المقطوع بها بما هو مشتبه وملتبس مجمل ، وقد علم كلّ موافق ومخالف أنّ الشيعة الإماميّة تبطل القياس في الشريعة حيث لا يؤدّى إلى العلم ، وكذلك تقول في أخبار الآحاد » (٤).

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٣٣٢.

(٢) لم نعثر عليه.

(٣) نهاية الاصول ( مخطوط ) : ٢٩٦.

(٤) رسائل الشريف المرتضى ١ : ٢١٠.

٢٦٠