تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٥٥٥

أنت » ولا يقال : « بئس الفعل فعلك » وهذا آية عدم كون أصل الفعل قبيحا.

وأمّا بطلان الثاني : فلأنّ الظلم إنّما هو مخالفة السيّد فيما أمر أو نهى ، وكون ما نحن فيه من هذا القبيل أوّل المسألة بل محلّ منع ، فلا يكون ظلما بل يشبه الظلم ، ولذا عبّر عنه بتعريض النفس على المخالفة.

وعن الثالث : بأنّ ذمّ العقلاء واتّفاقهم على الاستحقاق مسلّم ، ولكنّه فيما انكشف الخلاف عندهم لا يزيد على قبح الفاعل حسبما بيّناه في قبح التجرّي ، وهو لا يوجب قبح الفعل ليكشف عن المبغوضيّة الملازمة للعصيان واستحقاق العقوبة.

وبالجملة ذمّ العقلاء إنّما ينهض دليلا على المعصية واستحقاق العقوبة إذا كان كاشفا عن قبح الفعل عندهم ، لا عن مجرّد صفة قبيحة في الفاعل ، والمسلّم في المقام هو الثاني ، فإنّ ذمّ الإنسان على الصفة القبيحة أيضا يحسن عند العقلاء وإن لم يقارنها فعل ، كالذمّ على سائر الصفات الذميمة.

وعن الرابع : بأنّ كون الظانّ مكلّفا بالعمل على ظنّه في الجملة مسلّم ، ولكن كون مخالفته عصيانا بقول مطلق غير مسلّم ، وذلك أنّ معنى التكليف بالعمل على الظنّ ـ حسبما استفيد من دليل حجّيّة الظنّ ـ وجوب ترتيب الآثار والأحكام على المظنون على أنّه واقع لا على أنّه مظنون ، فموضوع ذلك الحكم هو الظنّ من حيث إنّ متعلّقه الواقع ، والظنّ الغير المطابق غير مندرج في هذا الموضوع ، فلا يشمله الحكم المذكور.

غاية الأمر أنّ الظانّ بهذا الظنّ ما دام ظانّا يعتقد في حقّه وجوب العمل بالمعنى المذكور ، ولكن بعد ما انكشف فساد الظنّ تبيّن له عدم مصادفة اعتقاده الواقع ، على معنى تبيّن كون معتقده وجوبا خياليّا من غير أن يكون وجوب في الواقع.

ومن هنا يظهر بطلان نحو هذا الدليل المتمشّى في القطع الغير المطابق بل بطريق أولى ، نظرا إلى عدم كون حجّيّة القطع وطريقيّته إلى الواقع بجعل الشارع ـ كما حقّقنا سابقا ـ فالقاطع لكون قطعه عبارة عن انكشاف الواقع ـ ولو في نظره ـ يعتقد في حقّه وجوب ترتيب الآثار والأحكام على المنكشف من حيث إنّه الواقع ، لا من حيث إنّه عنوان آخر مغائر لعنوان الواقع ، فإذا انكشف بطلان قطعه تبيّن له عدم اندراجه في موضوع ذلك الحكم ، وكون الوجوب الذي اعتقده تكليفا خياليّا لا تكليفا واقعيّا.

وعن الخامس : بالنقض تارة والحلّ اخرى.

٢١

أمّا الأوّل : فنقض ما ذكره في وجه بطلان الشقّ الثالث ـ بما ذكره في وجه بطلان الشقّ الثاني والرابع ـ من منافاة عدم استحقاق من صادف قطعه الخمر الواقعي لأدلّة الواقع الدالّة على حرمة شرب الخمر الواقعي ، فإنّ قضيّة دعوى المنافاة الالتزام باستحقاقه العقاب ، فيلزم إناطة الاستحقاق بأمر خارج عن الاختيار وهو مصادفة قطعه الخمر الواقعي.

وأمّا الثاني : فلأنّا نوافق المستدلّ في أحد جزئي ما رجّحه من الشقّ الأوّل ، وهو استحقاقهما العقاب ونقول : إنّ استحقاقه العقاب حقّ ، ولكنّه إنّما يستحقّه على الفعل الاختياري وهو شرب الخمر الواقعي ، فإنّه فعل صدر منه باختياره ، فالشارع يعاقبه لأنّه شرب الخمر الواقعي اختيارا لا لأنّ قطعه صادف الواقع ، وبالجملة هذا يعاقب على شرب الخمر الواقعي الّذي صدر منه اختيارا لا على مصادفة قطعه الواقع ، ونخالفه في الجزء الثاني ونقول :

بأنّه لا يلزم من نفي استحقاق من لم يصادف قطعه الواقع إناطة استحقاقه بأمر خارج عن الاختيار ، بل لو لزم ذلك للزم على قول المستدلّ ، لأنّ العقاب الّذي يلتزم استحقاقه فيه إمّا أن يترتّب على فعله الاختياري وهو شربه لما ليس بخمر واقعي ، أو على عدم مصادفة قطعه الواقع.

والأوّل باطل لأنّ الحرمة بموجب أدلّة الواقع ـ كما سلّمه المستدلّ ـ إنّما ثبتت لشرب الخمر الواقعي ، وثبوت مثلها للخمر المعتقد أيضا أوّل المسألة.

والثاني إناطة لاستحقاق العقاب بأمر خارج عن الاختيار وهذا قبيح ، بخلاف عدم العقاب عليه ، فإنّ القبيح إنّما هو معاقبة الإنسان بأمر لا يرجع إلى اختياره ، وأمّا عدم معاقبته بأمر لا يرجع إلى اختياره فلا قبح فيه ، وهذا نظير ما لو سقط أحد من السطح من غير اختيار ، أو ألقاه غيره قهرا عليه فمات ، فإنّ عقابه لأجل سقوطه قبيح لا عدم عقابه عليه ، فلا يلزم من مختارنا من عدم استحقاق من لم يصادف قطعه قبح أصلا ، ولا منافاة للعدل والحكمة.

والأصل فيما اخترناه ـ من استحقاق من صادف قطعه ـ أنّ حسن الثواب والعقاب على الأفعال والتروك ينوط بكون العمدة من جهات الفعل أو الترك اختياريّة ، فلا يقدح في الحسن ما لو كان فيه جهة غير اختياريّة أيضا ، كما في مثال من صادف قطعه الخمر الواقعي.

وقد ينزّل على هذه القاعدة ما ورد في الأخبار من أنّ « من سنّ سنّة حسنة كان له مثل أجر من عمل بها ، ومن سنّ سنّة سيّئة كان له وزر من عمل بها » (١) فلو فرضنا أنّ شخصين سنّا سنّة حسنة أو سيّئة واتّفق كثرة العامل بما سنّه أحدهما وقلّة العامل بما سنّه الآخر ،

__________________

(١) الوسائل ١١ : ١٦ / ١. ب ٥ من أبواب جهاد العدوّ ح ١.

٢٢

فإنّ مقتضى هذه الأخبار كون ثواب الأوّل أو عقابه أعظم ، وليس ذلك إلاّ باعتبار أنّ العمدة من جهتي السنّتين وهو التسنين اختياريّة.

وما اشتهر من أنّ للمصيب أجرين وللمخطئ أجرا واحدا (١) ولكنّه لا يخلو عن الخدشة.

والعمدة : في المقام هو حكم العقل ، فإنّه مستقلّ بالحكم بتساويهما في استحقاق المذمّة من حيث شقاوة الفاعل وخبث سريرته ، لا في استحقاق المذمّة والعقوبة على الفعل المقطوع بكونه معصية في أحدهما دونه في الآخر.

وأمّا التفصيل المتقدّم إليه الإشارة ، فيظهر اختياره من بعض الفضلاء (٢) ـ في باب الاجتهاد والتقليد في مسألة معذوريّة الجاهل بالأحكام ـ فقال في جملة كلام له : « وأمّا إذا اعتقد التحريم فلا يبعد استحقاقه العقوبة بفعله وإن كان بطريق غير معتبر نظرا إلى حصول التجرّي بفعله ، إلاّ أن يعتقد تحريم واجب غير مشروط بقصد القربة فإنّه لا يبعد عدم ترتّب العقاب على فعله مطلقا أو في بعض الموارد ، نظرا إلى معارضة الجهة الواقعيّة للجهة الظاهريّة ، فإنّ قبح التجرّي ليس عندنا ذاتيّا بل يختلف بالوجوه والاعتبار.

فمن اشتبه عليه مؤمن ورع عالم بكافر واجب القتل ، فحسب أنّه ذلك الكافر فتجرّى ولم يقدم على قتله ، فإنّه لا يستحقّ الذمّ على هذا التجرّي عقلا عند من انكشف له الواقع وإن كان معذورا لو فعل.

وأظهر من ذلك ما لو جزم بوجوب قتل نبيّ أو وصيّ فتجرّى ولم يفعل ، ألا ترى أنّ المولى الحكيم إذا أمر عبده بقتل عدوّ له فصادف ابنه ، وقطع بأنّه ذلك العدوّ فتجرّى ولم يقتله ، أنّ المولى إذا اطّلع على حاله لا يذمّه بهذا التجرّي ، بل يرضى به وإن كان معذورا » ـ إلى أن قال ـ :

« ومن هنا يظهر أنّ التجري على الحرام في المكروهات الواقعيّة أشدّ منه في مباحاتها ، وهو فيها أشدّ منه في مندوباتها ، ويختلف باختلافها ضعفا وشدّة كالمكروهات.

ويمكن أن يراعى في الواجبات الواقعيّة ما هو الأقوى من جهاته وجهات التجرّي » (٣) ، إلى آخر ما أردنا نقله.

ويجري هذه الأقسام الأربع ـ بقرينة ما سبق من الأمثلة ـ في التجرّي على الواجب ،

__________________

(١) يدّل عليه ما في كنز العمّال : ٦ / ٧ ح ١٤٥٩٧.

(٢) هو صاحب الفصول.

(٣) الفصول : ٤٣١ ـ ٤٣٢.

٢٣

وهو أن يقطع بوجوب ما ليس بواجب في الواقع فتركه ، فيقال : إنّ التجرّي على الواجب في المندوبات الواقعيّة أشدّ منه في مباحاتها ، وهو فيها أشدّ منه في مكروهاتها ، ويختلف باختلافها ضعفا وشدّة كالمندوبات.

ويمكن أن يراعى في المحرّمات الواقعيّة ما هو الأقوى من جهاته وجهات التجرّي ، وهذه مع الأربع المذكورة للتجرّي على الحرام ثمانية صور.

وملخّص ما ذكره من أحكام هذه الصور : أنّ التجرّي الّذي هو عبارة عن مخالفة القطع الغير المطابق في ستّة منها ـ وهي التجرّي على الحرام في المكروهات ، أو المباحات ، أو المندوبات ، والتجرّي على الواجب في المندوبات ، أو المباحات ، أو المكروهات ـ يؤثّر في المعصية واستحقاق العقوبة ، وإن كان القبح والعقاب في بعضها أشدّ منه في الآخر.

وفي الصورتين الباقيتين وهما التجرّي على الحرام في الواجبات الواقعيّة ، ـ كما لو قطع بتحريم واجب واقعي غير مشروط بالنيّة وقصد القربة وفعله ـ والتجرّي على الواجب في المحرمات الواقعيّة ـ كما لو قطع بوجوب محرّم واقعي وتركه ـ ذكر أنّه لا يبعد عدم ترتّب العقاب ـ على فعله أو تركه مطلقا ، أو في بعض الموارد ، نظرا إلى معارضة الجهة الواقعيّة للجهة الظاهريّة ، أي مزاحمة المصلحة الواقعيّة الّتي هي جهة في الحسن ، للتجرّي الّذي هو جهة في القبح ، على معنى منعها عن التأثير في القبح ، فيكون الفعل أو الترك حسنا لا غير.

ثمّ ذكر في آخر العبارة : « أنّه يحتمل القول بمراعاة الأقوى من جهتي الحسن والقبح ، فيرجّح الأقوى على غيره سواء كان هو المصلحة الواقعيّة الّتي تكون جهة في الحسن ، أو التجرّي الّذي هو جهة في القبح ، ومستنده في التفصيل ـ على ما ذكره في صدر العبارة ـ هو عدم كون قبح التجرّي ذاتيّا ، بل يختلف بالوجوه والاعتبارات.

وله كلام آخر في مبحث مقدّمة الواجب هو : « أنّ التجرّي إذا صادف المعصية الواقعيّة تداخل عقاباهما (١) » والمراد بمصادفة التجرّي للمعصية الواقعيّة هو ما لو قطع بتحريم محرّم واقعي وفعله ، وما لو قطع بوجوب واجب واقعي وتركه ، ولا يخفى ما في هذا التفصيل ودليله وسائر ما ذكره من الضعف والفساد.

فأوّل ما يرد عليه : ما حقّقناه في دليل القول المختار من منع كون قبح التجرّي مطلقا مؤثّرا في قبح الفعل المتجرّى به زائدا على قبحه الذاتي لو كان ، كما في التجرّي بفعل

__________________

(١) الفصول : ٨٧.

٢٤

محرّم واقعي أو بترك [ واجب ] واقعي ، لأنّه قبح في الفاعل من حيث كشفه عن الشقاوة وخبث السريرة لا في الفعل ، فمخالفة القطع الغير المطابق لا يؤثّر في المعصية واستحقاق العقوبة في شيء من صورها الثمانية ، ولا مدخليّة فيه لمزاحمة الجهة الذاتيّة في الواجبات الواقعيّة والمحرّمات الواقعيّة.

وثاني ما يرد عليه : أنّ قبح التجرّي ذاتي ـ على معنى كون عنوان التجرّي بنفسه وحقيقته النوعيّة علّة تامّة لقبحه ، كالظلم الّذي هو وضع الشيء على غير مستحقّه ـ فإنّ التجرّي على المولى بمفهومه يقتضي القبح ، فلا يعرضه جهة محسّنة أصلا ، ولذا يقال : إنّه قسم من الظلم ، كما أنّ الانقياد المقابل له حسنه ذاتي ـ على معنى كون عنوانه علّة تامّة للحسن ـ فإنّ الانقياد للمولى بمفهومه يقتضي الحسن ، ويستحيل صيرورته قبيحا باعتبار أنّه لا يعرضه جهة مقبّحة ، فالتجرّي على المولى قبيح دائما ، كما أنّ الانقياد للمولى حسن دائما ، سواء قلنا بكونه مؤثّرا في قبح الفعل المتجرّى به أو لم نقل.

وثالث ما يرد عليه : أنّه لو سلّم عدم كون قبح التجرّي ذاتيّا ـ على معنى عدم كون عنوانه علّة تامّة للقبح ـ فلا يسلّم أيضا كونه ممّا يختلف بالوجوه والاعتبارات ، كالقبح في الأفعال الّتي لا تتّصف في حدّ أنفسها بحسن ولا قبح بل إنّما تتّصف بأحدهما باعتبار لحوق وجه من الوجوه الّتي تتبّع في لحوقها القصد والنيّة ، كبذل المال للغير فإنّه على وجه الصدقة حسن وعلى وجه الرشوة قبيح ، وضرب اليتيم فإنّه على وجه التأديب حسن وعلى وجه التعذيب قبيح ، والدخول على المؤمن فإنّه على وجه الزيارة حسن وعلى وجه الإهانة قبيح ، لأنّ بينهما واسطة وهو ما يتصف في نفسه بالقبح ، على أنّ عنوانه الخاصّ بالقياس [ إلى القبح ] من باب المقتضي الّذي قد يصادف ما يمنعه من اقتضاء القبح ويوجب حسنه ويقال له : « الجهة المحسّنة » ، كالكذب فإنّه في نفسه قبيح ويحسن لجهة النفع ، أو إنجاء النبيّ إذا عرضته عن قصد والتفات ، فهو بحيث لولا عروض هذه الجهة كان قبيحا ، لكون ذاته مقتضية للقبح على معنى أنّه باق على قبحه ، ما لم يعرض له تلك الجهة.

ولا ريب أنّ التجرّي في اقتضاء القبح من هذا القبيل ، فإنّ ذاته إن لم تكن علّة تامّة لقبحه فلا أقلّ من كونها مقتضية له ، فيكون على اقتضائه للقبح إلى أن يعرضه جهة محسّنة رافعة لقبحه أو مانعة له عن اقتضاء القبح.

وما ذكره من معارضة الجهة الواقعيّة في التجرّي على الحرام في واجب واقعي أو على

٢٥

الواجب في محرّم واقعي لا يقبل منه ، لعدم صلاحيّة الجهة المذكورة ـ وهو حصول فعل الواجب في ضمن التجرّي على الحرام ، أو حصول ترك المحرّم في ضمن التجرّي على الواجب ـ لكونها محسّنة ، ولا مزاحمة للقبيح عن اقتضاء القبح ، فإنّ الجهة المتحقّقة في ضمن القبيح ما لم تتّصف في نفسها بالحسن لم تؤثّر في حسنه ، ولا في منع اقتضاء ذاته لقبحه ولا في رفع قبحه ، ولذا ترى أنّه لو تحقّق في ضمن الكذب الصادر من كاذب جهة نفع ، أو إنجاء نبيّ لضرب من الاتّفاق من دون قصد منه لتلك الجهة ، بل ولا علم منه باشتماله عليها ، لم ينفع في استحقاقه للمدح ولا في منع ذاته عن اقتضاء استحقاقه للذمّ ، وظاهر أنّ حصول فعل الواجب أو ترك المحرّم في ضمن التجرّي جهة لا تتّصف في نفسها بالحسن لوجهين :

أحدهما : أنّ الحسن والقبح إنّما يلحقان الأفعال الاختياريّة ، ومن شروط اختياريّة الفعل كون صدوره عن قصد ، والأفعال الصادرة لا عن قصد ملحقة بالأفعال الغير الاختياريّة ، فلا تتّصف عند العقل بحسن ولا قبح ، وفعل الواجب الواقعي مع ترك الحرام الواقعي في ضمن التجرّي إنّما حصلا لا عن قصد إلى عنوان الواجب حين الفعل ، ولا إلى عنوان المحرّم حين الترك ، فلا يتّصفان بالحسن فلا يصلحان جهة محسّنة للتجرّي.

وثانيهما : أنّ من موانع اتّصاف الأفعال والتروك جهالة عناوينها حين الفعل أو الترك ، فمن جهل خمريّة الخمر الواقعي لا يستحقّ بترك شربه مدحا كما لا يستحقّ بشربه ذمّا ، ومن جهل الكافر الحربي الواجب قتله فلم يقتله لجهله لم يستحقّ ذمّا ، كما أنّه لو قتله مع جهله لم يستحقّ مدحا ، ومن حسب المؤمن العدل كافرا حربيّا فلم يقتله لم يستحقّ به مدحا ، كما أنّه لو قتله لم يستحقّ به ذمّا ، وهذا هو معنى كونه معذورا كما صرّح به بقوله : « وإن كان معذورا لو فعل ».

والمفروض في التجرّي على الحرام في واجب واقعي ، وعلى الواجب في محرّم واقعي ، كون كلّ من الواجب والمحرّم مجهول العنوان عند المتجرّي ، لأنّ اعتقاد كون الأوّل محرّما والثاني واجبا جهل بعنوان الواجب في فعل الأوّل وبعنوان المحرّم في ترك الثاني ، فلا يتّصفان بالحسن ولا يستحقّ المكلّف بهما مدحا.

لا يقال : غاية ما يلزم من عدم اتّصاف الجهة الواقعيّة بالحسن أن لا تكون مؤثّرة في حسن الجهة الظاهريّة ، ولا يمتنع كونها مؤثّرة في رفع قبحها ، فالتجرّي على الحرام أو الواجب في الواجبات والمحرّمات الواقعيّتين وإن كان ممّا لا حسن فيه ، إلاّ أنّه لا قبح فيه

٢٦

أيضا ، وهو المراد من معارضة الجهة الواقعيّة للجهة الظاهريّة.

وحاصل معناه كون الاولى مؤثّرة في رفع قبح الجهة الظاهرية.

لأنّا نقول : إنّ القبح عبارة عن استحقاق الذمّ فما لم يكن هناك استحقاق مدح يكافؤه لم يعقل ارتفاعه ، والمفروض أنّ الجهة الواقعيّة لم تؤثّر في استحقاق مدح فلا معنى لكونها مؤثّرة في رفع استحقاق الذمّ اللازم من التجرّي ، بل ولئن سلّمنا أنّها أثّرت في استحقاق مدح فلا داعي إلى التزام كونه رافعا للاستحقاق اللازم من التجرّي إلاّ على القول بالإحباط وهو باطل عندنا ، فلا تنافي بين الاستحقاقين حتّى يزاحم أحدهما الآخر ويرفعه ، فيجوز أن يستحقّ الذمّ بتجرّيه والمدح بفعله الواجب الواقعي أو تركه المحرّم الواقعي ـ كما فيمن نظر إلى الأجنبيّة في الصلاة ـ ومرجعه إلى عدم تعارض الجهتين ، إلاّ أن يكون ذلك من جهة لزوم اجتماع المتضادّين في الفعل المتجرّى به باعتبار تأثير التجرّي في حدوث حكم فيه مضادّ لحكمه الواقعي كما عليه مبنى كلامه.

ورابع ما يرد عليه : ما ذكره في مسألة مصادفة التجرّي المعصية الواقعيّة من تداخل عقابيهما ، إذ لو اريد من التداخل أنّهما يؤثّران في استحقاق عقاب واحد كما في تداخل الأغسال ، ففيه : أنّه مناف لاستقلال كلّ منهما في سببيّته لاستحقاق العقاب ، وهذا يقتضي تعدّد العقاب.

وإن اريد به اجتماع العقابين ، ففيه : مع أنّه ليس من التداخل بالمعنى المعروف أنّه خلاف مقتضى الأدلّة الواردة في المعاصي الواقعيّة ، لظهورها القريب من الصراحة في وحدة العقاب المترتّب على كلّ معصية ، فكلّ يترتّب عليه العقاب المقرّر له لا أزيد ، وهذا أيضا من أدلّة بطلان القول بكون التجرّي موجبا للمعصية واستحقاق العقوبة ، فليتدبّر.

فتحقيق المقام : أنّ التجرّي قبيح في الجميع لكن بالمعنى الراجع إلى الفاعل المتجرّي من حيث انكشاف خبث باطنه وسوء سريرته ، فيستحقّ بذلك الذمّ عند العقلاء ، لا بالمعنى الراجع إلى الفعل المتجرّى به.

وهل يترتّب على تجرّيه زيادة على استحقاقه المذمّة أثرا آخرا في الدنيا كالفسق وفي الآخرة كالعقاب؟ على معنى أنّ المتجرّي باعتبار كونه متجرّيا ـ لا باعتبار فعله المتجرّى به ـ يحكم بكونه فاسقا ويعاقب عليه في الآخرة أو لا؟ فيه خلاف ، حيث يظهر من الشهيد في كلام له عن القواعد منع ذلك ، ـ خلافا لبعض العامّة الّذي نسب إليه القول

٢٧

بكلّ من الفسق والعقاب في كلامه المشار إليه ـ وهو قوله : « لا يؤثّر نيّة المعصية عقابا ولا ذمّا ما لم يتلبّس بها ، وهو ممّا ثبت في الأخبار العفو (١) عنه ، ولو نوى المعصية وتلبّس بما يراه معصية فظهر خلافها ، ففي تأثير هذه النيّة نظر ، من أنّها لمّا لم يصادف المعصية صارت كنيّة مجرّدة وهو غير مؤاخذ بها ، ومن دلالتها على انتهاك الحرمة وجرأته على المعاصي.

وقد ذكر بعض الأصحاب (٢) : أنّه لو شرب المباح تشبيها بشرب المسكر فعل حراما ، ولعلّه ليس لمجرّد النيّة بل بانضمام فعل ، ويتصوّر محلّ النظر في صور :

منها : لو وجد إمرأة في منزل غيره فظنّها أجنبيّة فأصابها ، فبان أنّها زوجته أو أمته.

ومنها : ما لو وطئ زوجته بظنّ أنّها حائض ، فبانت طاهرة.

ومنها : ما لو هجم على طعام بيد غيره فأكله ، فتبيّن أنّه ملكه.

ومنها : ما لو ذبح شاة بظنّها للغير بقصد العدوان ، فظهرت ملكه.

ومنها : ما إذا قتل نفسا بظنّ أنّها معصومة ، فبانت مهدورة.

وقد قال بعض العامّة : يحكم بفسق المتعاطي ذلك ، لدلالته على عدم المبالاة بالمعاصي ويعاقب في الآخرة ـ ما لم يتب ـ عقابا متوسّطا بين الصغيرة والكبيرة ، وكلاهما تحكّم وتخرّص على الغيب (٣) » إنتهى.

وإنّما نقل كلام بعض الأصحاب في شرب المباح تشبيها له بشرب المسكر شاهدا على أصل المطلب ، نظرا إلى دلالة التشبيه بالمسكر على فساد باطنه وخبث سريرته ، من حيث عدم اعتنائه بالمولى وهتك حرمته وجرأته على المعاصي وعدم مبالاته بها ، ونظيره وطئ زوجته تشبيها لها بأجنبيّة ، [ وقوله : ] « ولعلّه ليس لمجرّد النيّة بل بانضمام فعل الجوارح » تضعيف لوجه تأثير النيّة ، ومحصّله : أنّ التجرّي المفروض ليس من مجرّد النيّة بل المجموع منها ومن فعل الجوارح ، فإنّهما معا يدلاّن على ما ذكر لا النيّة وحدها ، والكلام فيها فلم يثبت لها تأثير.

وقوله : « وكلاهما تحكّم » تضعيف لقول بعض العامّة في كلّ من الفسق والعقاب ، والتحقيق عندنا : أنّه يوجب الفسق دون العقاب.

__________________

(١) انظر الوسائل : ٥١ / ٦ و ٨ و ١٠ و ٢٠ و ٢١ ، ب ٦ من أبواب مقدّمة العبادات ٥١ ـ ٥٥ / ٦ و ٨ و ١٠ و ٢٠ و ٢١.

(٢) هو أبو الصلاح الحلبي في كتابه ( الكافي في الفقه ) : ٢٧٩.

(٣) القواعد والفوائد : ١ / ١٠٧ ـ ١٠٨.

٢٨

أمّا الأوّل : فلأنّ التجرّي لكشفه عن عدم مبالاته بالمعاصي وجرأته عليها ـ حتّى أنّه لو فرض مطابقة ظنّه في موارده للمعصية الواقعيّة لارتكبها ـ كاشف عن فقدانه للملكة النفسانيّة الرادعة عن ارتكاب الكبائر ، والإصرار على الصغائر الّتي هي حقيقة العدالة على المشهور.

ولا ريب أنّ الفاقد لها فاسق ، فالحكم بفسقه إنّما هو لانكشاف فقدان ملكة العدالة ، لا لفعله المتجرّى به لينافي ما قدّمناه من عدم كونه عصيانا.

وأمّا الثاني : فلأنّ العقاب فرع على العصيان وهو فرع على الخطاب وقد عرفت أنّ التجرّي في مورد الاعتقاد الغير المطابق لا يؤثّر خطابا ، فقد ظهر بملاحظة كلام الشهيد أنّه قد يكون بفعل ما ليس بمحرّم في الواقع باعتقاد كونه محرّما ، وقد يكون بقصد المعصية فيما ليس بمعصية باعتقاد كونه معصية ، وكلاهما قبيحان والمتجرّي فيهما معا يستحقّ ذمّ العقلاء ، ولكنّه لا يؤثّر في تحريم ما يتجرّى به فعلا كان أو قصدا.

وأمّا قصد المعصية فيما هو معصية في الواقع مع العلم بكونها معصية من غير تلبّس بها ، فلا ينبغي التأمّل في قبحه عقلا واستحقاق فاعله المذمّة عند العقلاء ، ولا كلام لأحد فيه حتّى عند علماء الكلام.

قال المحقّق الطوسي في التجريد : « ارادة القبيح قبيحة (١) » وهل هو مع قبحه العقلي محرّم شرعي أيضا أو لا؟ وعلى تقدير التحريم فهل يعاقب عليه أيضا في الآخرة أو لا؟

فنقول : إنّ في عدّة من الآيات والروايات الدلالة على التحريم وكونه منهيّا عنه ، وقد تقدّم بيان الجميع وبيان وجوه دلالاتها وسائر ما يتعلّق بها بعد نقل أقوال العلماء والإشارة إلى نوع اختلاف فيه ـ في ذيل مسألة مقدّمة الواجب عند البحث في أحكام مقدّمة الحرام ولا حاجة إلى إعادة ما سبق هنا.

وفي عدّة من الأخبار (٢) الاخر العفو عنه ، ـ كما اعترف به الشهيد في عبارته المتقدّمة ـ فيقع التعارض بينها وبين الآيات والروايات المتقدّم إليهما الإشارة لكونها بين صريحة وظاهرة في ترتّب العقاب عليه فعلا.

وقد يجمع بحمل ما دلّ على العفو على من نوى المعصية وقدر على فعلها ولم يفعلها اختيارا ، وما دلّ على ترتّب العقاب على من نواها وعجز من فعلها فلم يفعلها قهرا.

__________________

(١) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ٢٣٨.

(٢) انظر الوسائل : ١ : ٥١ ـ ٥٥ / ٦ و ٧ و ٨ و ٢٠ و ٢١ ، من أبواب مقدّمة العبادات.

٢٩

وقد يحتمل أيضا حمل الاولى على العزم المجرّد ، وحمل الثانية على العزم مع التلبّس بما يكون من مقدّمات المعصية ، أو حمل الاولى على ما كان المنويّ من الصغائر والثانية على ما كان المنويّ من الكبائر.

ثمّ يبقى الإشكال في العفو المستفاد من رواياته ، فإنّ الإخبار بعدم العقاب على المحرّم ينافي اللطف الواجب عليه تعالى ، ضرورة أنّ الوعد على الثواب والوعيد بالعقاب لطف ، لكون الأوّل مقرّبا إلى الطاعة والثاني مبعّدا عن المعصية فيكون واجبا عليه تعالى ، فكيف يصدر منه ما ينافيه وهو الإخبار بالعفو.

ويمكن الذبّ : بأنّ العقاب على ذي المقدّمة ـ الّذي هو أصل الفعل المقصود ـ والوعيد بالعقاب عليه كاف في الردع ، ويتمّ به اللطف ولا حاجة معه إلى الوعيد بالعقاب على فعل المقدّمات ، ولا على العزم على فعل

ذي المقدّمة ، فإنّ المكلّف إذا علم بأنّ أصل الفعل ممّا أوعد الله عليه العقاب يبعثه ذلك على عدم الإقدام عليه ، ولا على مقدّماته وعلى ترك العزم عليه إن كان مع ربّه في مقام الإطاعة والانقياد ، وإلاّ فلا ينفعه الوعيد على العزم وعلى فعل مقدّماته بالعقاب أيضا ، كما لم ينفعه الوعيد على أصل الفعل ، فالإخبار بالعفو عن معصية العزم ـ كما ورد في الأخبار ـ لا ينافي اللطف.

ثمّ إنّ العزم على المعصية وإن كان معصية إلاّ أنّه معصية مستقلّة ، لا أنّه المعصية المنويّة ، لكونه في نفسه منهيّا عنه.

ثم إنّ المحقّق من أقسام التجرّي ثلاث :

أحدها : مجرّد القصد على المعصية.

وثانيها : القصد إليها مع الاشتغال بما يكون من مقدّمات المعصية.

وثالثها : القصد إليها مع التلبّس بما اعتقد كونه معصية.

وقد يذكر أقسام ثلاث اخر :

منها : التلبّس بما يحتمل كونه معصية رجاء لتحقّق المعصية به.

ومنها : التلبّس به لعدم المبالات بالمعاصي.

ومنها : التلبّس به برجاء أن لا يكون معصية ، ولكن كون هذه من التجرّي مبنيّ على قيام احتمال المعصية ، وهو مبنيّ على عدم كون الجهل عذرا عقليّا أو شرعيّا ، وإلاّ فمع كونه عذرا بأحد الوجهين ـ كما في موارد أصل البراءة من الشبهات الوجوبيّة بل التحريميّة

٣٠

أيضا ـ فاحتمال المعصية منفي بالأصل ، وإن احتمل معه مخالفة الحكم الواقعي.

والضابط في عدم عذريّة الجهل هو العلم الإجمالي بالوجوب في الشبهات الوجوبيّة ، أو بالتحريم في الشبهات التحريميّة مع التمكّن من العلم التفصيلي ، أو العلم الإجمالي بالواجب أو المحرّم فيما بين المشتبهات مع التمكّن من الامتثال ، كما في الشبهة المحصورة وجوبيّة أو تحريميّة.

المطلب الثاني

قد عرفت في مقدّمات الباب ـ عند بيان الفرق بين القطع الطريقي والقطع الموضوعي ـ أنّ من خصائص العلم الطريقي عدم الفرق في طريقيّته إلى الواقع ووجوب متابعته بين أفراده من حيث القاطع ، والمقطوع به ، وأسباب القطع ، وأزمانه ، ومعنى وجوب متابعته وجوب ترتيب آثار الواقع على المقطوع به مطلقا ، سواء استند في حصوله إلى سبب عقلي أو نقلي أو ملفّق من العقلي والنقلي.

وبرهانه : أنّ العلم لا معنى له إلاّ انكشاف الواقع ، والواقع بعد ما انكشف فلا عذر للمكلّف في عدم ترتيب آثاره عليه ، فتخصيص طريقيّته ووجوب متابعته بسبب دون سبب غير معقول ، إلاّ بأن يقال : إنّ المقطوع به من السبب الفلاني ليس له تلك الآثار ، أو أنّ الآثار ليست من آثار المقطوع به ، والكلّ باطل بدليل الخلف ، إذ المفروض أنّ المقطوع به هو الواقع المنكشف ، فهو ممّا له آثار الواقع وآثار الواقع من آثاره.

وبالجملة : لا يعقل الفرق في طريقيّة العلم ووجوب متابعته بين أسبابه حذرا عن لزوم التناقض الّذي يوضحه دليل الخلف بالوجه الّذي قرّرناه ، ومرجعه إلى فرض المعلوم في الصغرى غير ما له الآثار المعلومة في الكبرى ، وفرض الآثار المعلومة في الكبرى لغير المعلوم في الصغرى ، وكلاهما خلاف ما فرض من صدق المقدّمتين ، خلافا لغير واحد من أصحابنا الأخباريّين (١) فانكروا جواز الاعتماد على القطع الحاصل من المقدّمات العقليّة النظريّة الغير القريبة من الحسّ لكثرة وقوع الغلط والاشتباه فيها ، فلا يمكن الركون إلى شيء منها كما يوضحه كلام محكي عن المحدّث الأسترابادي في فوائده المدنيّة ، ولا بأس بنقله هنا.

فإنّه ـ عند الاستدلال على انحصار الدليل في غير الضروريّات الدينيّة في السماع عن

__________________

(١) كالأمين الأسترابادي والمحدّث الجزائري والمحدّث البحراني.

٣١

الصادقين عليهما‌السلام بوجوه كثيرة ـ قال : [ وتاسعها : مبنيّ على مقدّمة ] دقيقة شريفة تفطّنت لها بتوفيق الله تعالى وهي أنّ العلوم النظريّة قسمان ، قسم ينتهي إلى مادّة هي قريبة من الإحساس ، ومن هذا القسم علم الهندسة والحساب وأكثر أبواب المنطق ، وهذا القسم لا يقع فيه الخلاف بين العلماء والخطأ في نتائج الأفكار.

والسبب في ذلك أنّ الخطأ في الفكر إمّا من جهة الصورة أو من جهة المادّة ، والخطأ من جهة الصورة لا يقع من العلماء ، لأنّ معرفة الصورة من الامور الواضحة عند الأذهان المستقيمة ، ولأنّهم عارفون بالقواعد المنطقيّة ، وهي عاصمة عن الخطأ من جهة الصورة ، والخطأ من جهة المادّة لا يتصوّر في هذه العلوم لقرب الموادّ فيها إلى الإحساس ، وقسم ينتهي إلى مادّة هي بعيدة عن الإحساس ، ومن هذا القسم الحكمة الإلهيّة والطبيعيّة ، وعلم الكلام ، وعلم اصول الفقه ، والمسائل النظريّة الفقهيّة ، وبعض القواعد المذكورة في كتب المنطق كقولهم : « الماهيّة لا [ يتركّب ] من أمرين متساويين » وقولهم : « بعض نقيضا المتساويين متساويان ».

ومن ثمّ وقع الاختلافات والمشاجرات بين الفلاسفة في الحكمة الإلهيّة والطبيعيّة ، وبين علماء الإسلام في اصول الفقه ومسائل [ الفقه ] وعلم الكلام وغير ذلك [ من غير فيصل ].

والسبب في ذلك أنّ القواعد المنطقيّة إنّما هي عاصمة من الخطأ من جهة الصورة لا من جهة المادّة ، إذ أقصى ما يستفاد من المنطق في باب موادّ الأقيسة تقسيم الموادّ على وجه كلّي إلى أقسام ، وليست في المنطق قاعدة بها تعلم أنّ كلّ مادّة مخصوصة داخلة في أيّ قسم من [ تلك ] الأقسام ، [ بل و ] من المعلوم [ عند اولى الألباب ] امتناع وضع قاعدة يكفل بذلك » ـ إلى أن قال :

« فإن قلت : لا فرق في ذلك بين العقليّات والشرعيّات ، والشاهد على ذلك ما نشاهد من كثرة الاختلافات الواقعة بين أهل الشرع في اصول الدّين وفي الفروع الفقهيّة.

قلت : إنّما نشأ ذلك من ضمّ مقدّمة عقلية باطلة إلى المقدّمة النقليّة الظنّيّة أو القطعيّة.

ومن الموضحات لما ذكرناه ـ من أنّه ليس في المنطق قانون يعصم من الخطأ في مادّة الفكر ـ أنّ المشّائيّين ادّعوا البداهة في أنّ تفرّق ماء كوز إلى كوزين إعدام لشخصه وإحداث لشخصين آخرين ، وعلى هذه المقدّمة بنوا إثبات الهيولى.

والإشراقيّين ادّعوا البداهة في أنّه ليس إعداما للشخص الأوّل وإنّما انعدمت صفة من

٣٢

صفاته وهو الاتّصال.

ثم قال : « إذا عرفت ما مهّدناه من المقدّمة الدقيقة الشريفة ، فنقول : إنّ تمسّكنا بكلامهم عليهم‌السلام فقد عصمنا من الخطأ وإنّ تمسّكنا بغيرهم لم نعصم (١) عنه » انتهى.

وحاصل ما ذكره : إبداء الفرق في الدليل العقلي بين ما لم يكن مقدّماته محسوسة ولا قريبة من الإحساس ، وما كان مقدّماته محسوسة أو قريبة من الإحساس ، كعلمي الهندسة والحساب الباحثين عن المقدار والعدد المفتقرين إلى المادّة في الخارج ، المأخوذين في هذين العلمين موضوعين مع قطع النظر عن المادّة ، فما يكون مقدّماته من هذا القسم يجوز الاعتماد عليه والركون إليه في استنباط الأحكام الشرعيّة ، وما يكون مقدّماته من قبيل الأوّل فلا يجوز الاعتماد عليها والركون إليها ، لكثرة ما يقع فيها من الغلط والاشتباه.

ووجهه : أنّ انعقاد الدليل في كلّ من الأقيسة لا بدّ له من صورة ، وهي الهيئة المعتبرة بين مقدّميه الصغرى والكبرى ، باعتبار التقديم والتأخير وتحقّق الشرائط المقرّرة في المنطق بالقياس إلى الأشكال الأربعة ، من إيجاب الصغرى وفعليّتها مع كلّيّة الكبرى في الشكل الأوّل ، واختلافهما في الكيف مع كلّيّة الكبرى ودوام الصغرى ، أو انعكاس سالبة الكبرى في الشكل الثاني ، وإيجاب الصغرى وفعليّتها مع كلّيّة إحداهما في الثالث ، وإيجابهما مع كلّيّة الصغرى أو اختلافهما في الكيف مع كلّيّة إحداهما في الرابع ، ومادّة يعبّر عنها بالملازمة فيما بين أطراف المقدّمتين المعبّر عنها بالأصغر والأوسط والأكبر المنحلّة إلى ملازمتين :

إحداهما : الملازمة بين الأصغر والأوسط ، واخراهما : الملازمة بين الأوسط والأكبر.

ومرجعهما إلى كون الأوسط لازما للأصغر وملزوما للأكبر في الشكل الأوّل ، أو كونه لازما لهما في الثاني ، أو كونه ملزوما لهما في الثالث ، أو كونه ملزوما للأصغر ولازما للأكبر في الرابع.

ولا ريب أنّ الخطأ حيثما يقع في مقدّمات الدليل فإنّما يقع باعتبار المادّة بزعم ملازمة بين شيئين لا ملازمة بينهما في الواقع في الصغرى أو الكبرى ، لا باعتبار الهيئة ، فإنّ التميّز بين الصورة المنتجة باعتبار تحقّق شرائط الإنتاج والصورة الغير المنتجة باعتبار تخلّف الشرائط أمر واضح يعرفه الأذهان السليمة والأفهام المستقيمة.

وإن شئت قلت : إنّ التمييز بينهما ضروري حاصل لكلّ ذي شعور ، ضرورة أنّه لو قيل

__________________

(١) فوائد المدنيّة : ١٢٩ ـ ١٣١.

٣٣

ـ في تأليف القياس بطريق الشكل الأوّل مثلا ـ : « كلّ إنسان حيوان ، وبعض الحيوان جسم » ، أو قيل : « لا شيء من الإنسان بحجر ، وكلّ حجر جسم » ، يعلم كلّ أحد أنّ الأوّل لا ينتج قولنا : « كلّ إنسان جسم » ولا أنّ الثاني ينتج قولنا : « لا شيء من الإنسان بجسم » فالخلل الواقع في الدليل من جهة الهيئة لا يوجب خطأ ، بل الخطأ حيثما حصل فإنّما حصل لوقوع خلل في مادّة الدليل ، لبناء تأليفه على توهّم ملازمة في صغراه أو كبراه هي بحسب الواقع منتفية ، مثلا لو حصل القطع لأحد بحرمة الخمر لاعتقاده بكون الخمر مسكرا وكلّ مسكر حراما ، فدخول الخطأ في هذه النتيجة لا يتأتّى إلاّ باعتبار وقوع الخطأ في توهّم الملازمة بين الخمر والمسكريّة ، أو باعتبار وقوعه في زعم الملازمة بين المسكر والحرمة.

والسرّ فيه : أنّ إحراز الملازمة على أحد وجوهها المذكورة في الامور النظريّة الغير القريبة من الإحساس على وجه يفضي إلى إصابة الواقع في النتيجة أمر صعب بل في غاية الصعوبة ، وليس لمعرفتها طريق مضبوط في فنّ المنطق ، ولا في سائر فنون المعقول.

وقضيّة ذلك حينئذ كثرة وقوع الغلط والاشتباه في الأقيسة من جهة موادّها فيتّضح الفرق المذكور ، لوضوح أنّ الخطأ باعتبار المادّة فيما يكون مقدّماته محسوسة أو قريبة من الحسّ ممّا لا يكاد يقع ، وعلى فرض وقوعه في غاية الندرة ، بخلاف ما لا يكون مقدّماته كذلك إذ الخطأ والاشتباه فيها في غاية الكثرة ، ولأجل ذلك ما يشاهد من حصول الاختلافات والمشاجرات فيما بين الفلاسفة في الحكمة الإلهيّة والطبيعيّة ، وبين علماء الإسلام في العلوم الشرعيّة من الكلام واصول الفقه والمسائل الفقهيّة وغيرها ، وليس ذلك إلاّ من جهة بعد مقدّماتها عن الإحساس ، بخلاف فنون الرياضي ولا سيّما الهندسة والحساب ، ولذا ترى أنّ الاختلاف فيها بين أربابها في غاية الندرة ، وإذا كانت الحال في الأدلّة والمقدّمات العقليّة الغير القريبة من الإحساس بتلك المثابة من كثرة وقوع الخطأ والاشتباه فيها باعتبار موادّها ، فلا يجوز الاعتماد عليها والركون إليها ، وقضيّة ذلك عدم جواز متابعة القطع الحاصل منها ، هذا.

وممّن وافقه على هذا المذاق السيّد المحدّث الجزائري في أوائل شرح التهذيب فإنّه ـ على ما حكي عنه ـ بعد ذكر كلام المحدّث المتقدّم بطوله قال : « وتحقيق المقام يقتضي ما ذهب إليه.

فإن قلت : قد عزلت العقل عن الحكم في الاصول والفروع ، فهل يبقى له حكم في

٣٤

مسألة من المسائل؟

قلت : أمّا البديهيّات فهي له وحده وهو الحاكم فيها.

وأمّا النظريّات فإن وافقه النقل وحكم بحكمه قدّم حكمه على النقل وحده ، وأمّا لو تعارض هو والنقلي فلا شكّ عندنا في ترجيح النقل وعدم الالتفات إلى ما حكم به العقل » ـ إلى أن قال ـ : « وهذا أصل يبتنى عليه مسائل كثيرة :

منها : مسألة الإحباط فإنّ أكثر علمائنا قد أقاموا الأدلّة العقليّة على نفيه ، مع أنّ الآيات والأخبار دالّة عليه.

ومنها : مسألة إسهاء الله تعالى نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الصلاة وحدها ، فإنّ الأخبار قد استفاضت في الدلالة عليه وقد عمل بها الصدوق قدس‌سره ، وقد أنكره أصحابنا اعتمادا على بعض الأمارات العقليّة.

ومنها : مسألة الإرادة ، فإنّ المتكلّمين من أصحابنا قد أقاموا البراهين العقليّة على كونها عين الذات ، وقد ورد في الأخبار المستفيضة أنّها زائدة عليها ، وأنّها من صفات الأفعال ، وذهب إليه شيخنا الكليني طاب ثراه وقد عنون بابا من اصول الكافي في زيادة الإرادة على الذات.

ومنها : تعيين أوّل الواجبات ، فذهب الأكثر إلى أنّه معرفة الله تعالى إذ هو أصل المعارف والعقائد الدينيّة ، وعليه يتفرّع كلّ واجب من الواجبات الشرعيّة ، وذهب بعضهم إلى أنّ أوّل الواجبات هو النظر فيها لأنّه واجب اتّفاقا وهو قبلها ، وهو مذهب المعتزلة والأوّل مذهب الأشاعرة ، وقيل : هو أوّل جزء من النظر ، لأنّ وجوب الكلّ يستلزم وجوب أجزائه ، وأوّل جزء من النظر واجب ومقدّم على النظر المقدّم على المعرفة.

وقال القاضي واختاره ابن فورك وإمام الحرمين أنّه القصد إلى النظر ، لأنّ النظر فعل اختياري مسبوق بالقصد المقدّم على أوّل أجزائه.

وقال بعض المحقّقين : وهذا النزاع لفظيّ ، إذ لو اريد الواجب بالقصد الأوّل أي اريد أوّل الواجبات المقصودة أوّلا وبالذات فهو المعرفة إتّفاقا ، وإن اريد الواجب مطلقا فالقصد إلى النظر ، لأنّه مقدّمة للنظر الواجب مطلقا فيكون واجبا أيضا.

والحاصل : أنّهم أقاموا الأدلّة على أنّ أوّل الواجبات هو المعرفة بالله تعالى وعليه أكثر المحقّقين من الإماميّة بل لا ينقل منهم سواه ، وأمّا الأخبار فقد استفاضت بل تواترت بأنّ معرفة الله تعالى المجملة وهو : الله خالق للعالم ، وأنّه قادر حكيم ، ونحوه من الامور النظريّة

٣٥

الّتي وقعت في القلوب بإلهام فطري الهيّ.

وذلك نظير قول الحكماء : « أنّ الطفل يتعلّق بثدي امّه بإلهام فطري الهي » فلم يتعلّق بالمكلّف وجوب وغيره إلاّ بعد بلوغ خطاب الشارع ، ومعرفة الله تعالى قد حصلت لهم قبل بلوغ الخطاب بطريق الإلهام ، بل قيل إنّ كلّ من بلغه دعوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقع في قلبه من الله تعالى اليقين بصدقه ، لما تواترت به الأخبار من قولهم عليهم‌السلام : « ما من أحد إلاّ ورد عليه الحقّ حتّى يصدع قلبه قبله أو تركه » ، فأوّل الواجبات هو الإقرار اللساني بالشهادتين على ما في الروايات » انتهى (١).

وعن المحدّث البحراني ـ في مقدّمات الحدائق ـ موافقته لهما في الجملة ، حيث نقل في هذا المقام كلاما للسيّد المتقدّم واستحسنه ، إلاّ أنّه صرّح بحجّيّة العقل الفطري الصحيح وحكم بمطابقيّته للشرع ومطابقة الشرع له.

ثمّ قال : « لا مدخل للعقل في شيء من الأحكام الفقهيّة من عبادات وغيرها ، ولا سبيل إليها إلاّ السماع عن المعصوم لقصور العقل المذكور عن الاطّلاع عليها ».

ثمّ قال : « نعم يبقى الكلام بالنسبة إلى ما لا يتوقّف على التوقيف فنقول : إن كان الدليل العقلي المتعلّق بذلك بديهيّا ظاهر البداهة ـ مثل الواحد نصف الاثنين ـ فلا ريب في صحّة العمل به ، وإلاّ فإن لم يعارضه دليل عقلي ولا نقلي فكذلك ، فإن عارضه دليل عقلي آخر فإن تأيّد أحدهما بنقلي كان الترجيح له وإلاّ فإشكال ، وإن عارضه دليل نقلي فإن تأيّد ذلك العقلي بدليل نقلي كان الترجيح للعقلي ، إلاّ أنّ هذا في الحقيقة تعارض في النقليّات ، وإلاّ فالترجيح للنقلي وفاقا للسيّد المحدّث المتقدّم ذكره وخلافا للأكثر ، هذا في العقلي بقول مطلق.

وأمّا لو اريد المعنى الأخصّ وهو الفطري الخالي عن شوائب الأوهام الّذي هو من حجج الملك العلاّم ، وإن شذّ وجوده في الأنام ففي ترجيح النقلي عليه إشكال » انتهى (٢).

وأنت خبير بما في جميع هذه الكلمات من الفساد وخروجها عن السداد.

أمّا كلام المحدّث الأسترابادي فمع أنّه لا يرجع إلى محصّل ـ بعد منع وجود ما لا ينتهي من مقدّمات الدليل العقلي إلى المعلومات الضروريّة ولو بواسطة أو وسائط ، لاستحالة تحصيل المجهول النظري عن نظري مثله ، وأنّه منقوض بالدليل النقلي الّذي حصروه في الأخبار المأثورة عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام ، من حيث إنّ وقوع الخطأ والاشتباه

__________________

(١) شرح التهذيب : ٤٧ ( مخطوط ).

(٢) الحدائق : ١ / ١٢٦ ـ ١٣٣.

٣٦

في المطالب المستفادة منها إن لم يكن أكثر ممّا يقع في المطالب المتوصّل إليها بواسطة المقدّمات العقليّة النظريّة البعيدة عن الإحساس ، فلا أقلّ من عدم كونه أقلّ منه بسبب الخلل الواقعة في الأخبار من جهات عديدة ، فتارة : من حيث الصدور ، واخرى : من حيث جهة الصدور ، وثالثة من حيث المتن ، ورابعة من حيث الدلالة ، وخامسة : من حيث التعارض وعلاجه بالمرجّحات الظنّيّة المتعارضة.

فإنّ كلّ واحدة من هذه الجهات من أسباب الخطأ والاشتباه كثيرا ، فلو كان ذلك جهة للمنع لا نسدّ باب الاستنباط رأسا ، وتوهّم التفرقة بالاغتفار وعدمه ولو من جهة توهّم الفرق بالقصور والتقصير تحكّم ومجازفة واضحة لا يلتفت إليها ـ أنّ محلّ هذا المنع إمّا أن يكون الدليل العقلي قبل حصول العلم من جهته بالحكم الشرعي ، ومرجعه إلى المنع عن الخوض والنظر في المطالب العقليّة النظريّة للتوصّل إلى المطالب الشرعيّة لما يكثر فيها من الغلط والاشتباه ، أو يكون الدليل العقلي بعد حصول القطع من جهته بالحكم الشرعي ، ومرجعه إلى المنع من العمل بالقطع الحاصل من الدليل العقلي النظري.

فإن كان الأوّل فهو إنّما يسلّم في موضع العلم الإجمالي بوقوع الخطأ كثيرا في المطالب الشرعيّة الّتي يتوصّل إليها بواسطة تلك المطالب العقليّة الّتي يراد الخوض فيها ، ومع فرض العلم الإجمالي على الوجه المذكور فدعوى المنع عن الخوض فيها من باب المنع عن الشبهة المحصورة الّتي تثبت بحكم العقل كلام حسن لا يقابل بالإنكار ، غير أنّه خارج عن مفروض المسألة إذ لا يظنّ من الأصحاب بأحد يجوّز ذلك ، بل نلتزم عنهم أنّهم لا يجوّزونه جزما.

فكبرى الدعوى المذكورة مسلّمة لا يمكن الاسترابة فيها ، وإنّما الكلام في الصغرى وهي محلّ منع أشدّ المنع ، لكذب دعوى العلم الإجمالي بما ذكر ، إذ الأدلّة العقليّة الّتي يتداولها الأصحاب في استفادة المطالب الشرعيّة لا تخلو عن نوعين :

أحدهما : المستقلاّت العقليّة الّتي يحكم فيها العقل بدون ملاحظة خطاب [ الشرع ] وهي موارد التحسين والتقبيح العقليّين.

وثانيهما : الاستلزامات العقليّة الّتي يحكم فيها العقل بملاحظة خطاب الشرع ، كوجوب المقدّمة ، وحرمة الضدّ ، وحرمة العبادة وبطلانها من جهة امتناع اجتماع الأمر والنهي ، وفساد العبادات المنهيّ عنها ، إن كان ثابتا بحكم العقل لا بدلالة العرف وما أشبه ذلك ،

٣٧

وليس عند الأصحاب ممّا عدا هذين النوعين من الأدلّة العقليّة النظريّة ما يتمسّكون به على وجه الاستناد للتوصّل إلى الأحكام الشرعيّة ، وليس لأحد في هذين النوعين علم إجمالي بوقوع خطأ فيها فضلا عن كثيره.

فإن قلت : لعلّ نظر هؤلاء إلى ما ورد في الأخبار من « أنّ دين الله لا يصاب بالعقول » وأنّه « لا شيء أبعد عن دين الله من عقول الناس » (١) وما يقرب من ذلك.

قلت : مع أنّ ذلك لا يلائم كلام المحدّث ـ المصرّح بكون الجهة المانعة كثرة الغلط والاشتباه ، وأنّ هذه الأخبار معارضة بما هو أكثر وأرجح منها من الأخبار الدالّة على مرجعيّة العقل ممّا يستفاد منه كون العقل أيضا حجّة من الحجج ، وأنّه الرسول الباطني الّذي هو شرع من داخل ، كما أنّ الشرع عقل من خارج ، وأنّه حجّة باطنيّة ، وأنّه ما يثاب ويعاقب به ، وأنّه ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان (٢) ، إلى غير ذلك ممّا تقرب من هذه المضامين ـ أنّ مورد هذه الأخبار نظرا إلى سياقاتها إعمال العقل في إدراك علل الأحكام التوقيفيّة للتوصّل بها إلى نفس الأحكام ، نظرا إلى أنّ الأحكام منوطة بعلل خفيّة لا يدركها عقول الناس القاصرة ، بل لا يطلع عليها إلاّ الله سبحانه والراسخون في العلم الّذين عصمهم الله من الخطأ والزلل ، وأودعهم أحكامه وأوقفهم على عللها ومناطاتها.

وبالجملة : هذه الأخبار مسوقة في ردّ العامّة المخالفين حيث يستعملون عقولهم الناقصة في استنباط علل الأحكام من الطرق العقليّة الغير العلميّة المتداولة لديهم ، وكلامنا ليس في نحو هذه العقول المستعملة فيما ذكر ، وأصحابنا أيضا لا يجوّزون الركون إلى العقل بهذا المعنى ، كيف وأنّ المنع من القياس من ضروريّات مذهبنا.

فإن قلت : يمكن أن يكون نظرهم إلى ما يستفاد من جملة من الأخبار من أنّ الواجب علينا امتثال الأحكام الّتي بلّغها حجج الله تعالى الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ، فكلّ حكم لم يكن الحجّة واسطة في تبليغه لم يجب امتثاله ، بل يكون من قبيل « اسكتوا عمّا سكت الله عنه » (٣) ـ على معنى كونه ممّا لم يأمر الله تعالى حججه بتبليغه ـ مثل ما رواه زرارة بسند صحيح ـ على الصحيح ـ عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث في الإمامة قال :

__________________

(١) كمال الدين : ٣٢٤ ح ٩ والوسائل : ٢٧ : ٢٠٣ / ٦٩ و ٧٣ ، ب ١٣ ، من أبواب صفات القاضي.

(٢) الكافي ١ : ١١ و ١٦ / ٣ و ١٢.

(٣) لم نعثر عليه بعينه ، نعم جاء في نهج البلاغه هكذا : « وسكت عن أشياء ولم يدعها نسيانا فلا تتكلّفوها » نهج البلاغة الحكمة : ١٠٥.

٣٨

« أمّا لو أنّ رجلا قام ليله ، وصام نهاره ، وتصدّق بجميع ماله ، وحجّ جميع دهره ، ولم يعرف ولاية وليّ الله فيواليه ، ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ، ما كان له على الله حقّ في ثوابه ، ولا كان من أهل الإيمان » (١).

وقول أبي عبد الله عليه‌السلام أيضا في حديث : « أما أنّه شرّ عليكم أن تقولوا بشيء ما لم تسمعوه منّا. » (٢)

وقول أبي جعفر عليه‌السلام : « من دان الله بغير سماع من صادق ألزمه الله البتّة يوم القيامة » (٣) وقوله عليه‌السلام أيضا في حديث آخر : « كلّ ما لم يخرج من هذا البيت فهو باطل » (٤) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

وقضيّة هذا كلّه أن يكون الحكم المنكشف بغير واسطة تبليغ الحجّة ملغى في نظر الشارع ، وإن كان مطابقا للواقع.

قلت : مع أنّه خلاف ظاهر التعليل في كلام المحدّث الأسترآبادي ، نجيب عنه :

أوّلا : بالنقض بالأحكام المعلومة بمقدّمات ضروريّة أو بمقدّمات نظريّة قريبة من الإحساس لانتفاء الواسطة في ذلك كلّه.

وثانيا : بمنع دلالة الأخبار المذكورة على ما ذكر ، خصوصا الخبر الأوّل لكونه ظاهرا كالصريح في اشتراط صحّة الأعمال وترتّب الثواب عليها بمعرفة ولاية أهل البيت وموالاتهم ، ولم يدلّ ذلك على كون الحكم المنكشف بواسطة العقل القاطع لأهل الولاية وموالاة الأئمّة ملغى في نظر الشارع.

ولو سلّم دلالة الخبر على أزيد من الاشتراط المذكور فهو ـ كباقي الأخبار المذكورة ـ واردة في سياق الأخبار الكثيرة المتواترة معنا الواردة في ردّ المخالفين وردعهم في اعتمادهم على إدراكاتهم الظنّيّة بواسطة عقولهم الناقصة ، واستحساناتهم الباطلة ، وآرائهم الفاسدة للأحكام التوقيفيّة الصرفة الّتي لا طريق إلى إدراكها سوى خطاب الشرع وسنّة النبويّة والإماميّة ، واستبدادهم في ذلك وعدم اعتنائهم بأولياء الله وحججه أصلا ، فلا يدخل الأحكام المنكشفة بالعقل القاطع في مورد هذه الأخبار.

__________________

(١) الوسائل ١ : ١١٩ / ٢ ، ب ٢٩ من أبواب مقدّمة العبادات.

(٢) الوسائل ٢٧ : ٧٠ / ٢٥ ، ب ٧ من أبواب صفات القاضي.

(٣) الوسائل ٢٧ : ٧٥ / ٣٧ ، ب ٧ من أبواب صفات القاضي.

(٤) الوسائل ٢٧ : ٧٤ / ٣٤ ، ب ٧ من أبواب صفات القاضي.

٣٩

ولو سلّم عدم ظهورها فيما ذكرناه ، وجب تنزيلها عليه جمعا بينها وبين العقل المستقلّ بعدم قبول القطع الطريقي للتخصيص بين أسبابه ، وعدم جواز منع الشارع من العمل بالقطع لإدائه إلى التناقض الّذي مرجعه هنا إلى لزوم الكذب في كلام الشارع ، أو إلى اجتماع النقيضين في الاعتقاد ، مع العقل المستقلّ بوجوب طاعة الله ورسوله وامنائه ، وامتثال أحكامه المعلومة من غير مدخليّة عند العقل فيه بخصوص تبليغ المعصوم نبيّا أو وليّا ، بل مناطه عنده انكشاف الواقع بأيّ طريق كان حتّى نحو الرمل والجفر أو غيرهما من الأسباب الغير المتعارفة.

وبالتأمّل فيما بيّناه اندفع ما عن السيّد صدر الدين في شرحه للوافية في جملة كلام له في حكم ما يستقلّ به [ العقل ] من قوله ـ بعد كلام طويل له في هذا المقام ـ : « لا يقال : من حصل له الجزم بأنّ شيئا خاصّا من شأنه أن يستحقّ على فعله الثواب وعلى تركه العقاب ، وأنّه مرضيّ ومراد للشارع ، وأنّه أمر به ، ولكنّه منع وصول أمره إلى المأمور مانع ، فلا شكّ أنّه يجوز له أن يتعبّد الله بفعل هذا الشيء ، وأنّه مثاب بفعله ، وأنّه لو عاقبه الله على الترك لا يكون عقابه قبيحا ، فحينئذ يجوز له الإفتاء بأنّ هذا الشيء واجب كما يجوز لنفسه العمل به بقصد أنّه واجب ، فقد ثبت مطلوبنا.

لأنّا نقول : إنّ التعبّد بمثل هذا الشيء محلّ نظر ، لأنّ المعلوم هو أنّه يجب فعل شيء أو لا يجب إذا حصل الظنّ أو القطع بوجوبه أو حرمته أو غيرهما من جهة نقل قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، لا أنّه يجب فعله أو تركه أو لا يجب مع حصولهما من أيّ طريق كان ، وقس عليه حال الفتوى.

ألا ترى أنّا لو رأينا المعصوم عليه‌السلام في المنام ـ وقلنا بأنّه هو للأحاديث (١) الدالّة على هذا ـ فأمرنا بشيء أو نهانا عن شيء لم يصل إلينا حكمه في اليقظة لكان جواز العمل والإفتاء به محلّ نظر وتأمّل ، فلا يبعد أن يقال بترتّب العقاب لو فعل أو ترك بقصد التقرّب ، أو أفتى بأحدهما » إلى آخر ما ذكره (٢). »

ومحصّل مرامه رحمه‌الله : أنّ إطاعة الله تعالى في أوامره ونواهيه وامتثالهما إنّما تجب إذا حصل العلم أو الظنّ بهما من جهة النقل عن المعصوم قولا أو فعلا أو تقريرا ، إلا إذا حصل

__________________

(١) كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من رآني في منامه فقد رآني ، فإنّ الشيطان لم يتمثّل بي » ( بحار الأنوار ٤٩ : ٢٨٣ / ١ ).

(٢) شرح الوافية ( مخطوط ) : ٢١٥.

٤٠