تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٥٥٥

ومنها : ما حكي عن العلاّمة المجلسي في بعض رسائله ، حيث ادّعى تواتر الأخبار ، وعمل الشيعة في جميع الأعصار على العمل بخبر الواحد (١).

ومنها : ما حكي عنه أيضا في البحار في تأويل بعض الأخبار الّتي تقدّم ذكرها في دليل السيّد وأتباعه ، ممّا دلّ على المنع من العمل بالخبر الغير المعلوم الصدور ، من « أنّ عمل أصحاب الأئمّة عليهم‌السلام بالخبر الغير العلمي متواتر بالمعنى » وظاهره دعوى إجماع أصحاب الأئمّة على العمل بالخبر الغير العلمي بعنوان القطع به من جهة التواتر ، قيل : « وهذا لا يقصر عن دعوى الشيخ والعلاّمة الإجماع على العمل بأخبار الآحاد » (٢).

ومنها : ما حكي عن النجاشي من دعوى « أنّ مراسيل ابن عمير مقبولة عند الأصحاب » (٣) ولمّا كان الجهة الباعثة على ذلك أنّ ابن عمير لا يرسل أو لا يروي إلاّ عن ثقة ، دلّ ذلك على أنّ كلّ من لا يرسل أو لا يروي إلاّ عن ثقة فقد أجمع الأصحاب على قبول مراسيله أو رواياته ، ونسب نحوه أيضا إلى الشهيد في الذكرى (٤) وعن كاشف الرموز ـ تلميذ المحقّق ـ « أنّ الأصحاب عملوا بمراسيل البزنطي » (٥).

ومنها : ما حكي عن ابن ادريس في رسالة خلاصة الاستدلال الّتي صنّفها في مسألة فوريّة القضاء ، في مقام دعوى الإجماع على المضايقة وإطباق الإماميّة عليها إلاّ نفرا من الخراسانيّين ، قال في تقريب الإجماع : « أنّ ابني بابويه والأشعريّين كسعد بن عبد الله ، وسعد بن سعد ، ومحمّد بن علي بن محبوب ، والقمّيّين أجمع كعليّ بن إبراهيم ، ومحمّد بن الحسن بن الوليد ، عاملون بالأخبار المتضمّنة للمضائقة ، لأنّهم ذكروا أنّه لا يحلّ ردّ الخبر الموثوق بروايته » (٦) وظاهره دعوى إجماع الإماميّة على حرمة ردّ الخبر الموثوق.

وربّما ينهض دعواه الاجماع هنا قرينة على أنّ مراده ومراد السيّد من الخبر العلمي في منعهم العمل بغيره الخبر الموثوق به لا غير ، فلا مخالفة.

ومنها : ما حكي عن المحقّق في المعتبر في مسألة خبر الواحد من قوله : « أفرط الحشويّة في العمل بخبر الواحد ، حتّى انقادوا كلّ خبر ، وما فطنوا لما تحته من التناقض ،

__________________

(١) بحار الانوار ٢ : ٢٤٥ ، ذيل حديث ٥٥.

(٢) بحار الانوار ٢ : ٢٤٥ / ٥٥.

(٣) رجال النجاشى : ٣٢٦ رقم الترجمة ٨٨٧.

(٤) الذكرى ١ : ٤٩.

(٥) كاشف الرموز ١ : ٤٥٢.

(٦) رسالة خلاصة الاستدلال وهي مفقودة وحكاه عنه الشهيد في غاية المراد ١ : ١٠٢.

٢٦١

فإنّ من جملة الأخبار قول النبيّ : « ستكثر بعدي القالة عليّ » (١) وقول الصادق عليه‌السلام : « أنّ لكلّ رجل منّا رجلا يكذب عليه » (٢) واقتصر بعضهم من هذا الإفراط ، فقال : كلّ سليم السند يعمل به وما علم أن الكاذب قد يصدق ، ولم يتنبّه على أنّ ذلك طعن في علماء الشيعة وقدح في المذهب ، إذ ما مصنّف إلاّ وهو يعمل بالخبر المجروح كما يعمل بخبر العدل » (٣) إلى آخر ما أردنا ذكره ، وكلامه كما ترى صريح في أنّ علماء الشيعة يعملون بخبر العدل ، كما يعملون بخبر غيره أيضا ، ولا يتوهّم كون مرادهم العمل بأحدهما حيث أوجب العلم ، لأنّه إخراج لقوله عن معقد كلامه ، فإنّ كلامه في الخبر الغير العلمي ، فإنّه الّذي أحال استعماله عقلا قوم وشرعا آخرون ، كما نقلهما أيضا في ذيل كلامه المذكور.

ومنها : ما حكي عن الشهيد في الذكرى والمفيد الثاني ولد الشيخ الطوسي ، « من أنّ الأصحاب قد عملوا بشرائع أبي الحسن بن بابويه عند إعواز النصوص ، تنزيلا لفتاويه منزلة رواياته » (٤) ولو لا عمل الأصحاب برواياته الغير العلميّة لم يكن وجه في العمل بتلك الفتاوى عند فقد رواياته بل تقييد العمل بفتاويه بإعواز النصوص على الإطلاق يدلّ على أنّ الأصحاب كانوا يعملون بسائر النصوص غير رواياته عند وجودها ، ولا ينبغي أن يحتمل فيها إرادة النصوص العلميّة بدليل العدول عند إعوازها إلى فتاوى ابن بابويه ، لا إلى النصوص الغير العلميّة.

ومنها : ما حكي عن شيخنا البهائي في مشرق الشمسين من « أنّ الصحيح عند القدماء ما كان محفوفا بما يوجب ركون النفس إليه » (٥) قال شيخنا : « وذكر فيما يوجب الوثوق امورا لا تفيد إلاّ الظنّ ، ومعلوم أنّ الصحيح عندهم هو المعمول به ، وليس مثل الصحيح عند المتأخّرين في أنّه قد لا يعمل به لإعراض الأصحاب عنه ، أو لخلل آخر ، فالمراد أنّ المقبول المعمول به عند القدماء ما تركن إليه النفس وتثق به » (٦) انتهى.

وهذه الإجماعات المنقولة ـ وإن لم يصرّح بلفظ « الإجماع » في أكثرها ـ تفيد كثرتها واستفاضتها مع انضمام بعض القرائن إليها ـ مثل ذهاب معظم الأصحاب بل كلّهم عدا السيّد

__________________

(١) ورد قريب منه في الوسائل ٢٧ : ٢٠٦ / ١ ، ب ١٤ من أبواب صفات القاضي.

(٢) رواه في المعتبر مرسلا عن الصادق عليه‌السلام ١ : ٢٩.

(٣) المعتبر ١ : ٢٩.

(٤) الذكرى ١ : ٥١.

(٥) مشرق الشمسين : ٢٦٩.

(٦) فرائد الاصول ١ : ٣٤٠.

٢٦٢

وأتباعه من زمان الصدوق إلى زماننا هذا إلى حجّيّة الخبر الغير العلمي ـ العلم بحصول الإجماع على العمل بخبر الغير العلمي في الجملة ، والمتيقّن منه الخبر الموثوق بصدقه الموجب للاطمئنان.

وثانيها : أن يدّعى الإجماع حتّى من السيّد وأتباعه على وجوب العمل بخبر الواحد الغير العلمي في زماننا هذا وشبهه ممّا انسدّ فيه باب القرائن المفيدة للعلم بصدق الخبر ، ولا ينافيه منع السيّد لأنّ الظاهر أنّه منعه بزعم عدم الحاجة إلى خبر الواحد المجرّد ، كما يظهر ممّا ذكره في جواب ما اعترضه على نفسه بقوله : « فإن قلت : إذا سددتم طريق العمل بأخبار الآحاد ، فعلى أيّ شيء تعوّلون في الفقه كلّه؟

فأجاب بما حاصله : أنّ معظم الفقه يعلم بالضرورة والإجماع والأخبار العلميّة ، وما يبقى من المسائل الخلافيّة يرجع فيها إلى التخيير » (١) ولقد عثرنا في غير موضع من كلمات السيّد تجويز العمل بالظنّ على تقدير انسداد باب العلم ، ولكن يشكل ـ إتمام هذا التقرير بانضمام مقدّمة انسداد باب القرائن المفيدة للعلم بصدق الخبر ـ بأنّه يأبى ما هو المقصود بالبحث من حجّيّة خبر الواحد الغير العلمي من باب الظنّ الخاصّ الّذي لا يتفاوت فيه بين زماني انسداد باب العلم وانفتاحه ، قبالا للظنّ المطلق المنوط حجّيّته بانسداد باب العلم المختصّ بأزمنة الغيبة ، إلاّ أن يدفع : بإبداء الفرق بين انسداد باب القرائن المفيدة للعلم بصدق الخبر ، وانسداد باب العلم بالأحكام الواقعيّة ، وهذا هو مناط حجّيّة الظنّ المطلق ، وانسداد باب العلم بصدق الخبر لا يلازمه كما هو واضح.

وثالثها : استقرار سيرة المسلمين كافّة على استفادة الأحكام الشرعيّة من أخبار الثقات المتوسّطة بينهم وبين الإمام أو المجتهد ، من غير نكير ولا توقّف ، وكما أنّ عمل المقلّدين في أزمنة الغيبة بنقل الثقات بفتاوي مجتهديهم من غير نكير يكشف عن رضا المجتهدين بذلك ، أو وصول إذن إليهم من المجتهدين فيه ، فكذلك عمل أهل أزمنة الحضور بنقل الثقات لروايات الأئمّة يكشف عن رضا الأئمّة بذلك ، أو عن وصول إذن منهم في ذلك إليهم ، فعمل الفريقين إجماع عملي يكشف عن رضا الرئيس ، أو إذنه ، وهو المراد من السيرة.

وظنّي أنّ الإجماع بهذا التقرير أسدّ وأمتن من التقرير الأوّل.

وبالتأمّل فيما بيّناه من توجيه الاستدلال ، يندفع ما ذكره السيّد في جملة كلام له جوابا عمّا اعترضه على نفسه ، وهو « أنّه لا خلاف بين الامّة في أنّ من وكلّ وكيلا ، أو استناب

__________________

(١) رسائل الشريف المرتضى ٣ : ٣١٢ ـ ٣١٣.

٢٦٣

صديقا في ابتياع أمة أو عقد على امرأة في بلد ، أو في بلاد نائية ، فحمل إليه الجارية وزفّ إليه المرأة ، أو أخبر أنّه أزاح العلّة في ثمن الجارية ومهر المرأة ، وأنّه اشترى هذه وعقد على تلك ، أنّ له وطئها والانتفاع بها في كلّ ما يسوغ للمالك والزوج ، وهذه سبيله مع زوجته وأمته إذا أخبرته بطهرها وحيضها ، ويرد الكتاب على المرأة بطلاق زوجها أو بموته فتتزوّج ، وعلى الرجل بموت امرأته فيتزوّج اختها ، وكذا لا خلاف بين الامّة في أنّ للعالم أن يفتي ، وللعامي أن يأخذ منه مع عدم علمه أنّ ما أفتى به من شريعة الإسلام وأنّه مذهبه.

فأجاب عنه بما حاصله : « أنّه إن كان الغرض من هذه الردّ على من أحال التعبّد بخبر الواحد فمتوجّه فلا محيص عنه ، وإن كان الغرض الاحتجاج به على وجوب العمل بأخبار الآحاد في التحليل والتحريم ، فهذه مقامات ثبت فيها التعبّد بأخبار الآحاد من طرق علميّة ، من إجماع وغيره على أنحاء مختلفة في بعضها لا يقبل إلاّ أخبار أربعة ، وفي بعضها لا يقبل إلاّ عدلان ، وفي بعضها يكفي العدل ، وفي بعضها يكفي خبر الفاسق والذمّي كما في الوكيل ومبتاع الأمة والزوجة في الطهر والحيض ، وكيف يقاس على ذلك رواية الأخبار في الأحكام » (١) انتهى ملخّصا.

والذي دعاه إلى هذا الجواب ، كون السؤال نقضا بالموارد الخاصّة من الأخبار [ الغير ] العلميّة المعمول بها عند الامّة بلا خلاف.

فأجاب بأنّها مخرجة بأدلّة خاصّة علميه ، فلا يقاس عليها الروايات المأثورة عن الأئمّة ، وأمّا الاستدلال بالسيرة بالبيان الّذي ذكرناه ، فهو سالم عن الاعتراض المذكور.

ورابعها : استقرار طريقة العقلاء طرّا على الرجوع بخبر الثقة في امورهم العادية ، ومنها الأوامر الجارية من الموالي الى العبيد ، فإنّ العبيد في الإطاعة والمعصية بموافقة أوامر الموالي ومخالفيها يعتمدون على نقل الثقات للأوامر من الموالي مع صدق الطاعة والمعصية عرفا أيضا ، وربّما قيل في توجيه الاستدلال بذلك : « بأنّ الشارع إن اكتفى بذلك منهم في الأحكام الشرعيّة فهو ، وإلاّ وجب عليه ردعهم وتنبيههم على بطلان سلوك هذا الطريق في الأحكام الشرعيّة ، كما ردع في أحكام خاصّة ، وحيث لم يردع علم منه رضاه بذلك ، لأنّ اللازم في باب الإطاعة والمعصية ، الأخذ بما يعدّ طاعة في العرف وترك ما يعدّ معصية كذلك » (٢).

وفيه : نظر واضح ، فإنّ عدم الردع عن الطريقة في الامور العادية ـ بمعنى ما يتعلّق بامور المعاش ـ لا يكشف عن الرضا ، لعدم وجوب الردع عنها لو كانت باطلة على الشارع

__________________

(١) رسائل الشريف المرتضى ١ : ٣٧ ـ ٤١.

(٢) فرائد الاصول ١ : ٣٤٥.

٢٦٤

وامنائه ، لعدم كون بيان ما يرجع إلى امور المعاش من وظيفته.

ولو قيل في الامور العادية بالمعنى المذكور ما هو من قبيل موضوعات الأحكام الشرعيّة ، ككون هذا خمرا أو خلاّ أو ماء ميتة أو خزا أو جلد ما لا يؤكل لحمه وما أشبه ذلك ، ويقبل فيها الواحد ويحرز به الموضوع ، فيترتّب عليه الأحكام الشرعيّة المترتّبة على كلّيّات هذه الموضوعات ، ولا ريب أن التقرير في مثل ذلك يكشف عن الرضا.

قلنا لو سلّم استقرار طريقة العقلاء على قبول الواحد في مثل ذلك أيضا ، نقول : بأنّ قصارى ما يستلزمه إنّما هو حجّيّة خبر الواحد في الموضوعات الخارجيّة ، ولا ملازمة بينها وبين الحجّيّة في الروايات المصطلحة في الأحكام الشرعيّة الكلّيّة الالهيّة ، ولو اريد من الامور العادية ما يعمّ الأحكام الشرعيّة فهو مع بعده غير معلوم ، إذ لم يظهر من العقلاء استقرار طريقة بما ذكر في الأحكام الشرعيّة ، إلاّ أن يراد بالعقلاء خصوص المسلمين ، فيرجع التقرير المذكور إلى الوجه السابق ، وهو استقرار سيرة المسلمين.

وقد يورد عليه أيضا : بأنّه يكفي في ردعهم الآيات المتكاثرة ، والأخبار المتظافرة بل المتواترة ، على حرمة العمل بما وراء العلم.

وفيه : أنّ وجود الأدلّة الناهية عن العمل بما وراء العلم ، لا يسقط الردع عن الباطل ، كما أنّ وجود أدلّة الأحكام الواقعيّة لا يسقط وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في موارد وجوده ، والردع عن الباطل المحرّم إنّما يجب في موارد التقرير على المعصوم نبيّا كان أو وصيّا ، لوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمعنى الأعمّ عليه ، وهو إرشاد الجاهل وتنبيه الغافل ، وردع العاصي عن معصيته من ترك واجب أو فعل محرّم مع العلم بالوجوب والحرمة ، بدليل وجوب اللطف وقوله تعالى : ( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ )(١) ، ولئن سلّمنا كون اللطف هنا مع وجود الأدلّة الناهية من اللطف المندوب فلا يجري دليل اللطف ، فهو لا ينافي جريان الآية خصوصا أنّ العاملين بخبر الثقة إنّما يعملون به باعتقاد الجواز ، وردعهم عن معتقدهم على تقدير عدم الجواز واجب عليه ، ومجرّد وجود العمومات الناهية عن العمل بما وراء العلم لا يوجب ارتداعهم ، ولا يكفي في الردع إذ لا يلزم طرحها ، فليتدبّر.

وخامسها : إجماع الصحابة على العمل بخبر الواحد من غير نكير ، كما عن العلاّمة في

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٠٤.

٢٦٥

النهاية (١) وعنه أنّه ذكر فيها مواضع كثيرة ممّا عمل فيها الصحابة بخبر الواحد.

وقد يورد عليه : بأنّه إن اريد من الصحابة العاملين بالخبر ، من كان في ذلك الزمان لا يصدر إلاّ عن رأي الحجة عليه‌السلام ، فلم يثبت عمل أحد منهم بخبر الواحد فضلا عن ثبوت تقرير الإمام عليه‌السلام له ، وإن اريد به الهمج الرعاع الذين يصغون إلى كل ناعق ، فمن المقطوع به عدم كشف عملهم عن رضا الإمام عليه‌السلام لعدم ارتداعهم بردعه في ذلك اليوم ، ولعلّ هذا مراد السيّد رحمه‌الله حيث أجاب عن هذا الوجه « بأنّه إنّما عمل بخبر الواحد المتأمّرون الّذين يحتشم التصريح بخلافهم ، فإمساك النكير عليهم لا يدلّ على الرضا بعملهم » (٢).

وهذا كما ترى خلاف الإنصاف ، لأنّ عمل الّذين يحتشم التصريح بخلافهم بخبر الواحد على تقدير كونه محرّما ليس بأشدّ من عملهم بالقياس ، وقد منع الأئمّة عليهم‌السلام من العمل به وصرّحوا بخلافهم في الخلأ والملأ ، حتّى صدر عنهم في ذلك رواية متكاثرة بل متواترة بل بالغة فوق حدّ التواتر ، حتّى صار حرمته بواسطة إكثارهم عليهم في المنع من ضروريّات مذهب الشيعة ، فعملهم في مثل ذلك بملاحظة عدم ردع الأئمّة عليهم‌السلام عن ذلك أصلا لا في الملأ ولا في الخلأ ، حتّى أنّه لم يصدر عنهم في منعه رواية واحدة حتّى لبعض خواصّهم يكشف عن الرضا قطعا.

نعم إن كان ولابدّ من المناقشة في هذا الوجه من تقرير الإجماع ، فطريقها منع الصغرى ، وهو منع كون الأخبار المعمول بها ثمّة أخبار غير علميّة ، على وجه كانوا مجمعين على العمل بها بوصف كونها غير علميّة.

نعم لا مضائقة عن كون [ عمل ] أكثر عوامهم من جهة المسامحة وقلّة المبالاة في الدين كذلك ، كما هو الحال في أكثر أعوام هذه الأزمان والأيّام ، حيث يصغون إلى كلّ ناعق لعدم تميزهم وقلّة مبالاتهم ، وهذا لا يكفي في انعقاد الإجماع وحصوله.

وسادسها : دعوى الإجماع من الإماميّة حتّى السيّد وأتباعه على وجوب الرجوع إلى هذه الأخبار الموجودة في أيدينا المودعة في اصول الشيعة وكتبهم ، وهذا هو الّذي ربّما فهمه بعضهم (٣) من عبارة الشيخ المتقدّمة عن العدة (٤) ، فحكم بعدم مخالفته للسيّد قدس‌سره.

وأورد عليه أوّلا : بأنّه إن اريد ثبوت الاتّفاق على العمل بكلّ واحد واحد من أخبار

__________________

(١) نهاية الوصول ( مخطوط ) : ٢٩٥.

(٢) الذريعة ٢ : ٥٣٧.

(٣) هو الشيخ حسين الكركي العاملي في كتاب هداية الأبرار إلى طريق الأئمّة الأطهار : ٦٨ و ٦٩.

(٤) العدّة ١ : ١٢٦ و ١٢٩ و ١٤٢.

٢٦٦

هذه الكتب ، فهو ممّا علم خلافه بالعيان ، لكثرة ما فيها ممّا أعرضوا عنه لضعف سند ، أو إرسال أو مخالفة كتاب ، أو إجماع أو نحوه ، وإن اريد ثبوت الاتّفاق على العمل بها في الجملة على اختلاف العاملين في شروط العمل ، حتّى أنّه يجوز أن يكون المعمول به عند بعضهم مطروحا عند آخر ، فهذا لا ينفعنا إلاّ في حجّيّة ما علم اتّفاق الطائفة على العمل به بالخصوص ، وهذا لا يوجد في الأخبار إلاّ نادرا.

وثانيا : بأنّ ما ذكر من الإجماع لا ينفع حتّى في الخبر الّذي علم اتّفاق الطائفة على قبوله والعمل به ، لأنّ الشرط في الاتّفاق العملي أن يكون وجه عمل المجمعين [ معلوما ] ، وأن يكون إجماعهم على وجه واحد معلوم.

ألا ترى أنّه لو اتّفق جماعة من الرجال على عمل علم برضا الإمام بعملهم ، كاتّفاقهم على النظر إلى إمرأة لكن بعضهم لكونها زوجته ، وآخر لكونها امّ زوجته ، وآخر لكونها بنت زوجته ، وآخر لكونها منكوحة أبيه ، وآخر لكونها حليلة إبنه ، وآخر لكونها أمة ، وآخر لكونها بنته ، وآخر لكونها اخته ، وآخر لكونها عمّته ، وآخر لكونها خالته ، وآخر لكونها بنت أخيه ، وآخر لكونها بنت اخته ، وهكذا فهل يحلّ لغيرهم ممّن لا محرميّة بينه وبينها أن ينظر إليها ، لاتّفاق الجماعة الكاشف عن رضا الإمام؟ بل لو رأى عاقل شخص الإمام ينظر إلى امرأة ، فهل له التأسّي به؟ وليس هذا كلّه إلاّ من جهة أن الفعل بما هو فعل مجمل لا دلالة له على شيء إلاّ حيث علم وجهه ، ووجه اتّفاق الطائفة على العمل بهذه الأخبار غير معلوم ، فمن المحتمل أن يكون العمل بها من بعض المجمعين لكونها معلومة الصدور عنده بتواتر أو احتفاف قرينة ، ومن آخر لكونها قطعيّة العمل ، ومن ثالث لكونها مفيدة للظنّ الّذي هو الحجّة لا غير.

فكيف يمكن القول بأنّه يكشف عن رضا الإمام لنا على العمل بها على أنّها أخبار غير علميّة من حيث الخبريّة ، حتّى لو فرضنا أنّ من المجمعين من يعمل بها على هذا الوجه خصوصا مع علمنا بخطأ أكثر هؤلاء أو بعضهم في جهة العمل ، بل هذا في الحقيقة ليس من الاتّفاق على العمل بخبر الواحد الغير العلمي من حيث الخبريّة ، وإن لم يظنّ صدوره بل ولم يفد الظنّ بالحكم الواقعي (١).

هذا تمام الكلام في الاستدلال على الحجّية من جهة الإجماع.

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٣٤٩ / ٣٥٠ مع اختلاف يسير.

٢٦٧

وأمّا العقل : فيقرّر أيضا بوجوه بعضها ما لو تمّ كان مفاده حجّية خبر الواحد من حيث الخبريّة ، وبعضها ما لو تمّ لقضى بحجّيّة مطلق ما يفيد الظنّ الّذي منه خبر الواحد ، أو بحجّيّة الظنّ مطلقا أو في الجملة ، فيدخل فيه الظنّ الخبري.

أوّلها : حجّيّة العلم الإجمالي الّتي هي حكم عقلي الحاصل بصدور كثير من هذه الأخبار الّتي في أيدينا بل أكثرها ، من ملاحظة أحوال الرواة المحدّثين وأرباب التصانيف والكتب المعتمدة من المشايخ الثلاث ومن تقدّم عليهم ، وتتّبع تراجمهم المذكورة في الرجال وغيره وشدّة اهتمامهم في ضبط الحديث وتنقيحه وتنقيبه ، وتخليص كتبهم عن الأخبار المكذوبة ، وعدم إيداع أخبار الكتب المدسوس فيها في تلك الكتب ، واحترازهم عمّن يروي عن المجاهيل ويعتمد المراسيل وعن كتابه ورواياته ، حتّى أنّ أحمد بن محمّد بن عيسى أخرج البرقي عن قم لاتّهامهم إيّاه عنده بأنّه يروي عن المجاهيل ويعتمد المراسيل ، وقصّته معروفة ، إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع ، فإنّ هذه الامور وغيرها توجب العلم الإجمالي بصدور كثير من أخبار هذه الكتب بل جلّها ، وقضيّة حجّيّة العلم الإجمالي وجوب العمل بكلّ خبر يظنّ صدوره ، للتوصّل إلى العمل بالمعلومات بالإجمال.

لا يقال : هذا العلم الإجمالي معارض بالعلم الإجمالي بوجود أخبار كاذبة مدسوسة في كتب أصحاب الأئمّة ، من جعل الكذّابين ووضّاع الحديث على ما ورد في أخبار مستفيضة ، خصوصا أبي الخطّاب لعنه الله وأصحابه ، والمغيرة بن [ سعيد ](١) لعنه الله وأصحابه ، مثل ما ورد من أنّه عرض يونس بن عبد الله على سيّدنا أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ، كتب جماعة من أصحاب الباقر عليه‌السلام والصادق عليه‌السلام فأنكر منها أحاديث كثيرة أن يكون من أحاديث أبي عبد الله عليه‌السلام ، وقال : إنّ أبا الخطّاب كذب على أبي عبد الله عليه‌السلام وكذلك أصحاب أبي الخطّاب يدسّون الأحاديث إلى يومنا هذا في كتب أصحاب أبي عبد الله عليه‌السلام (٢).

وما روي عن هشام بن الحكم أنّه سمع أبا عبد الله عليه‌السلام « يقول : كان المغيرة بن [ سعيد ] لعنه الله يقول الكذب على أبي ، ويأخذ كتب أصحابه وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي ، فيدفعونها إلى المغيرة لعنه الله فكان يدسّ فيها الكفر

__________________

(١) وفي الأصل : « مغيرة بن سعد » والصحيح « مغيرة بن سعيد » كما اثبتناه فى المتن.

(٢) اختيار معرفة الرجال : ٢٢٤ ، رقم الترجمة ٤٠١.

٢٦٨

والزندقة ويسندها إلى أبي عبد الله عليه‌السلام » ، (١) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع. والعلم الإجمالي هنا أيضا حجّة فيجب الاجتناب عن كلّ خبر غير معلوم الصدور للتوصّل إلى الاجتناب عن الأخبار المكذوبة ، فإنّا لا ندّعي القطع بصدور الكلّ كما نسب إلى بعض الأخباريّين ، ولا الظنّ بصدور الكلّ حتّى ينافيه العلم الإجمالي بوجود الأخبار المكذوبة ، ولا يقتضي ذلك وجوب الاجتناب عن هذه الأخبار الّتي بأيدينا لخروجها عن طرف العلم الإجمالي المذكور بعد تنقيح أصحاب الحديث وكتبه وإخراجهم الأخبار المكذوبة عن كتبهم.

ولو سلّم كونها من أطراف العلم الإجمالي ، فهو حاصل بين محلّ الابتلاء وغيره ، فإنّ محلّ كلامنا هو هذه الأخبار لا ما لم يبلغنا وذهب عنّا فلا حكم له.

نعم أصل هذا التقرير من الدليل العقلي فاسد الوضع.

أمّا أوّلا : فلأنّ العمل بالأخبار المعلوم صدورها عن الأئمّة عليهم‌السلام إنّما يجب لوجوب امتثال الأحكام الواقعيّة الّتي هي مداليل هذه الأخبار ومضامينها ، فإنّ الخبر الصادر عن الإمام إنّما يجب العمل به من حيث كشفه عن حكم الله الواقعي ، فالعلم الإجمالي إنّما يعتبر بالقياس إلى الأحكام الصادرة عن الأئمّة عليهم‌السلام وهو لا يختصّ بهذه الأخبار ، بل حاصل في مجموع الأمارات الظنّيّة الّتي منها هذه الأخبار ، ومنها الإجماعات المنقولة ، ومنها الشهرة والاستقراء وغيرهما ، فإنّا نعلم إجمالا من جهة الضرورة وغيرها بصدور أحكام كثيرة عن الأئمّة عليهم‌السلام ، وهي في مجموع الأمارات من حيث المجموع ، وهو يقتضي وجوب امتثالها بطريق العلم تفصيلا أو إجمالا من جهة البناء على الأخبار ، ومع تعذّره أو تعسّره أو سقوط اعتباره لدليل دلّ على عدم وجوب العمل بالاحتياط في امتثال أحكام الله المعلومة بالإجمال فبطريق الظنّ ، ويقال له : الامتثال الظنّي التفصيلي ، فالدليل المذكور لو تمّ لقضى بحجّيّة كلّ ما يفيد الظنّ بصدور الحكم عن الحجّة وإن لم يكن من سنخ الخبر لا حجّية خصوص [ الخبر ] ، فهذا في الحقيقة معنى وجوب العمل بمطلق الظنّ ، لا وجوب العمل بأخبار الآحاد بالخصوص.

لا يقال : العلم الإجمالي الّذي هو مناط العمل حاصل فيما بين الأخبار الّتي بأيدينا ، فالمعلوم صدوره إنّما هو كثير من هذه الأخبار ، وأمّا صدور الأحكام الاخر المخالفة

__________________

(١) اختيار معرفة الرجال : ٢٢٥ ، رقم الترجمة ٤٠٢.

٢٦٩

للاصول غير مداليل هذه الأخبار ، فهو ليس بمعلوم ولا مظنون.

لأنّا نقول : حصول العلم الإجمالي في خصوص هذه الأخبار أمر مسلّم لا كلام لنا فيه ، ولا يمكن الاسترابة فيه أيضا ، إلاّ أنّه لا ينافي العلم الإجمالي بصدور الأحكام في مجموع الأمارات الّتي منها هذه الأخبار ، فالأمارات الاخر غير خارجة عن طرف العلم الإجمالي بصدور الأحكام الكثيرة عن أهل بيت العصمة ، وهذا نظير العلم الإجمالي بوجود شياة محرّمة في قطيع غنم هذا البلد المجامع للعلم الإجمالي بوجود شياة محرّمة في مجموع قطاع أغنام العالم.

غاية الأمر أنّ المعلوم بالإجمال إذا أخذ في المجموع ، كان آحاده الغير المعلومة بالتفصيل أكثر ممّا أخذ في خصوص قطيع هذا البلد ، وفي خصوص هذه الأخبار ، والأصل في ذلك أنّ الأخبار الصادرة عن أهل بيت العصمة ممّا وصل إلينا وما لم يصل في الكثرة أضعاف هذه الأخبار الواصلة إلينا ، فتكون الأحكام الصادرة عنهم المخالفة للاصول أضعاف الأحكام المستفادة من هذه الأخبار.

فنقول : إنّا نعلم إجمالا بصدور أحكام كثيرة غير محصورة عن الأئمّة عليهم‌السلام بهذه الأخبار الواصلة إلينا ، وبأخبار اخر غير واصلة إلينا ، ويكشف عنها سائر الأمارات الظنّيّة ، فتصحّ دعوى كون العلم الإجمالي حاصلا في مجموع الأمارات لا في خصوص أخبار الآحاد فقط.

وأمّا ثانيا : فلأنّ نتيجة هذا الدليل على تقدير تماميّته إنّما هو الأخبار المظنون صدق مضامينها من الأحكام وصدورها من الإمام ، فإنّ متعلّق التكليف الذي يتنجّز بسبب العلم الإجمالي إنّما هو العمل بالحكم الصادر عن الإمام ، والعمل بالخبر إنّما يعتبر مقدّمة له لا في نفسه ، فيكون متعلّق التكليف المقدّمي أيضا في الأخبار المظنونة هو العمل بالأحكام المظنونة المستفادة منها ، فالقدر الثابت بالدليل هو وجوب العمل بخبر يظنّ بصدق مضمونه وصدوره من الإمام ولو بإعانة الشهرة ونحوها ، لا كلّ خبر ظنّ بصدق نفسه وصدوره من الإمام وإن لم يظنّ بصدق مضمونه وصدوره ، والنسبة بين ظنّ صدور الخبر وظنّ صدور مضمونه عموم من وجه ، والظنّ بالحكم الصادر من الإمام الّذي هو مضمون الخبر لا يلازم الظنّ بصدور نفس الخبر ، لأنّه قد يظنّ صدور مضمونه من جهة الشهرة ونحوها ، وصدور مضمونه أعمّ من صدوره بنفس هذا الخبر أو بمرادفه ، فقد يظنّ صدق الخبر ولا يظنّ صدق مضمونه ، وقد يظنّ صدق مضمونه ولا يظنّ صدق نفس الخبر ، وقد يظنّ صدقهما معا ،

٢٧٠

ومحلّ البحث هو الخبر المظنون صدق نفسه وإن لم يظنّ صدق مضمونه ، ومورد الدليل هو الخبر المظنون صدق مضمونه وإن لم يظنّ صدق نفسه.

وأمّا ثالثا : فلأنّ الدليل لا ينتج وجوب العمل بأخبار الآحاد الغير العلميّة بالمعنى المتنازع فيه ، لأنّه يقتضي وجوب العمل بالأخبار المظنون صدورها بالوجوب الغيري ، من جهة [ كونه ] مقدّمة للتوصّل إلى العمل بالأخبار المعلوم صدورها بالإجمال ، ولم يفد وجوب العمل بالأخبار المظنون صدورها في حدّ أنفسها ، وإن لم يلاحظ فيها جهة المقدّميّة كما هو محلّ البحث ، ويظهر أثر هذا الكلام في الأخبار المظنون صدورها لو فرضت خارجة عن طرف العلم الإجمالي ، فلم يعلم بذلك الدليل حالها من حيث وجوب العمل بها ، ولا جواز العمل بها حتّى تكون مخرجة عن أصالة حرمة العمل بما وراء العلم.

وأمّا رابعا : فلأنّ مرجع هذا الدليل إلى إثبات وجوب العمل بأخبار الآحاد ، من جهة قاعدة الاشتغال عملا بموجب العلم الإجمالى المقتضي لوجوب الخروج عن عهدة المعلومات بالإجمال ، وتحصيل اليقين بالبراءة عنها ، فلا ينهض مخصّصا للعمومات الناهية عن العمل بما وراء العلم ، كما هو المقصود بالبحث.

وثانيها : ما ذكره الفاضل التوني في الوافية ـ في جملة الوجوه الّتي استدلّ بها على حجّيّة الخبر الموجود في الكتب المعتمدة للشيعة ، كالكتب الأربعة مع عمل جمع به من غير ردّ ظاهر ـ من « أنّا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة ، ولا سيّما بالاصول الضروريّة ، كالصلاة والزكاة والصوم والحجّ والمتاجر والأنكحة ، ونحوها ، مع أنّ جلّ أجزائها وشرائطها وموانعها إنّما يثبت بالخبر الغير القطعي ، بحيث يقطع بخروج حقائق هذه الامور عن كونها هذه الامور عند ترك العمل بخبر الواحد ، ومن أنكر فإنّما ينكره باللسان وقلبه مطمئنّ بالإيمان » (١).

وأورد عليه أوّلا : بأنّ العلم الإجمالي حاصل بوجود الأجزاء والشرائط بين جميع الأخبار ، لا خصوص الأخبار المشروطة بما ذكره ، ومجرّد وجود العلم الإجمالي في تلك الطائفة الخاصّة لا يوجب خروج غيرها عن أطراف العلم الإجمالي ـ كما عرفت في الجواب الأوّل عن الوجه الأوّل (٢) ـ وإلاّ أمكن (٣) إخراج بعض هذه الطائفة الخاصّة ودعوى العلم

__________________

(١) الوافية : ١٥٩.

(٢) راجع الصفحة : ٢٦٩.

(٣) وفى النسخ المتداولة من الفرائد هكذا : « والاّ لما أمكن » الخ ، والصواب هو ما في المتن كما يعطيه التدبّر فى السياق.

٢٧١

الإجمالي في الباقي كأخبار العدول مثلا ، فاللازم حينئذ إمّا الاحتياط والعمل بكلّ خبر دلّ على جزئيّة شيء أو شرطيّته ، وإمّا العمل بكلّ خبر ظنّ صدوره ممّا دلّ على الجزئيّة أو الشرطيّة ، إلاّ إن يقال : إنّ المظنون الصدور من الأخبار هو الجامع لما ذكر من الشروط.

وثانيا : أنّ [ مقتضى ] هذا الدليل وجوب العمل بالأخبار الدالّة على الأجزاء والشرائط دون الأخبار الدالّة على عدمهما ، خصوصا إذا اقتضى الأصل الجزئيّة والشرطيّة (١).

وثالثا : أنّه لا ينهض حاكما على العمومات الناهية.

والأولى أن يقال في الردّ : أنّه إن اريد بهذا البيان دعوى العلم الإجمالي بأنّ لحقائق العبادات والمعاملات أجزاء وشرائط وموانع ، فيجب العمل بأخبار الآحاد المثبتة لتلك الأجزاء والشرائط والموانع للتوصّل إلى المعلومات بالإجمال.

ففيه : أنّه يرجع إلى الوجه الأوّل ، فيرد عليه أكثر ما ورد عليه ، مضافا إلى عدم قضائه بحكم الأخبار النافية للجزئيّة أو الشرطيّة أو المانعيّة.

وإن اريد به أنّه لو ترك العمل بالآحاد المتكفّلة لبيان الأجزاء والشرائط والموانع للعبادات والمعاملات ، يلزم منه خروج حقائقهما عمّا هي عليها.

ففيه : أنّه يرجع إلى دليل الانسداد المنتج لحجّيّة الظنّ مطلقا أو في الجملة ، وذلك لأنّ دعوى الملازمة تتوقّف على إحراز مقدّمات ، منها بقاء التكليف بحقائق العبادات والمعاملات وأجزائهما وشرائطهما وموانعهما ، ومنها انسداد باب العلم بها غالبا ، ومنها قبح التكليف بما لا يطاق لو كلّفنا بالعلم فيها ، أو الخروج عن الدين لو منعنا من العمل بالأخبار الغير القطعيّة المتكفّلة لبيان الأجزاء والشرائط والموانع ، فتعيّن العمل بها.

فنقول : إنّ نتيجة الدليل حينئذ هو وجوب العمل بكلّ ما يوجب الظنّ بحقائق العبادات والمعاملات وأجزائهما وشرائطهما وموانعهما ، لا خصوص الأخبار الغير القطعيّة ، فضلا عن هذه الطائفة المخصوصة.

وثالثها : ما اعتمد عليه بعض الأفاضل (٢) ولخّصه شيخنا قدس‌سره ، وهو أنّ وجوب العمل بالكتاب والسنّة ثابت بالإجماع بل الضرورة والأخبار المتواترة ، والمفروض أنّ بقاء هذا

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٣٦١ و ٣٦٢ مع اختلاف يسير.

(٢) هو الشيخ محمّد تقي الإصفهاني ، صاحب هداية المسترشدين.

٢٧٢

التكليف بالنسبة إلينا أيضا ثابت بالأدلّة المذكورة ، فحينئذ يجب الرجوع إليهما بطريق العلم إن أمكن ، وإلاّ فيجب الرجوع بطريق الظنّ.

وبعبارة اخرى : وحينئذ فإن أمكن الرجوع إليهما على وجه يحصل العلم بهما بحكم أو الظنّ الخاصّ به فهو ، وإلاّ فالمتّبع هو الرجوع إليهما على وجه يحصل الظنّ منهما (١).

وقضيّة كلامه انقسام السنّة إلى ما هو قطعي وما هو ظنّي ، وكلاهما يجب الرجوع إليهما ، ولكن على وجه الترتيب لا مطلقا.

وهذا الانقسام كما ترى لا يتمشّي في الكتاب ، لأنّ الظاهر أنّ القطعيّة والظنّيّة هنا تعتبران بالنسبة إلى السند والصدور ، بدليل : أنّ مورد الدليل [ الّذي ] هو محلّ البحث إنّما هو خبر الواحد الغير العلمي ، قبالا للأخبار العلميّة لتواتر أو احتفاف قرائن ، وظنّيّة السند بالقياس إلى الكتاب غير متصوّر ، وحينئذ فإدراجه في الدليل ممّا لا جدوى فيه.

والعمدة من مورد الدليل هو السنّة ، لأنّ المقصود إنتاجه لوجوب العمل بالسنّة الظنّيّة ، وحينئذ فيرد عليه : أنّه إمّا يرجع إلى دليل الانسداد المنتج لحجّيّة مطلق الظنّ ولو في الجملة ، أو لا يرجع إلى محصّل أصلا ، لأنّ السنّة إن اريد بها معناها المصطلح عليه ـ وهو قول المعصوم أو فعله أو تقريره ـ فالدليل راجع إلى دليل الانسداد ، لاشتراط [ الرجوع ] إلى السنّة الظنّيّة والعمل بها بعدم إمكان العلم ، فيفيد وجوب العمل بكلّ ما يظنّ صدور بيانه من الحكم الواقعي من المعصوم بقول أو فعل أو تقرير ، وهذا لا يختصّ بالخبر المصطلح ، بل لو ظنّ من جهة الشهرة أو الإجماع المنقول أنّ الحكم المشهور أو معقد الإجماع صدر بيانه من المعصوم بقول أو فعل أو تقرير وجب الأخذ به ، وكذلك الاستقراء والأولويّة الظنّيّة إذا ظنّ من جهتهما صدور الحكم من المعصوم بإحدى الجهات.

نعم قد لا يظنّ بهما ذلك ، بل يظنّ بالحكم الواقعي من غير ظنّ بصدور بيانه منه ، وإن كان من الأحكام المخزونة عند الإمام ، إذ لا يلزم في كلّ ما هو مخزون عنده أن يكون ممّا صدر بيانه منه ، فإنّ كثيرا من الأحكام الواقعيّة لم يصدر بيانها من الأئمّة عليهم‌السلام لمصلحة مقتضية لإخفائها ، أو تأخير بيانها إلى وقته المعلوم.

وإن اريد بها حكاية قوله أو فعله أو تقريره ، كما هو الاصطلاح في الخبر والحديث ،

__________________

(١) هداية المسترشدين : ٣٩٧ ، الوجه السادس.

٢٧٣

فإن كان الغرض من الرجوع إليها الأخذ بالمحكي المتضمّن للحكم الشرعي ، فيرجع إلى التقدير الأوّل فيرد عليه ما عرفت ، وإن كان الغرض إيجاب الرجوع إليها في نفسها مع قطع النظر عن المحكي ، فهو ممّا لا محصّل له ولا تصلح مقسما للقطعيّة والظنّيّة ، ولا معنى لوجوب الرجوع إلى الحكاية القطعيّة والحكاية الظنّيّة المجرّدة عن القول والفعل والتقرير المفيد للحكم.

فالإنصاف : أنّه ليس في الوجوه العقليّة ما يفي بإثبات حجّيّة الواحد من حيث الخبريّة.

* * *

٢٧٤

وأمّا الأدلّة المقامة على حجّيّة [ مطلق ] الظنّ

الّذي منه ما يحصل بالخبر فأربعة :

أوّلها

أنّ مخالفة المجتهد لما ظنّه حكم الله من وجوب أو تحريم مظنّة للضرر ، ودفع الضرر المظنون واجب (١) ، أمّا الصغرى فيقرّر تارة : بأنّ ظنّ الوجوب يتضمّن ظنّ استحقاق العقاب على الترك ، كما أنّ ظنّ التحريم يتضمّن استحقاق العقاب على الفعل ، والعقاب ضرر.

واخرى : بأنّ ظنّ الوجوب يستلزم ظنّ مفسدة في الترك ، كما أنّ ظنّ التحريم يستلزم ظنّ مفسدة في الفعل ، والمفسدة ضرر.

والفرق بين التقريرين : أنّ العقاب على التقرير الأوّل ضرر اخروي والمفسدة على الثاني ضرر دنيوي ، وإنّما خصّ الوجوب والتحريم بالذكر ، لأنّ ظنّ سائر الأحكام كالاستحباب والكراهة والإباحة لا يتضمّن ضررا ، إذ المستحبّ ما جاز تركه بلا استحقاق عقاب على الترك ولا مفسدة فيه ، والمكروه ما جاز فعله بلا استحقاق عقاب على الفعل ولا مفسدة فيه ، والمباح ما جاز تركه وفعله على جهة سواء بلا استحقاق عقاب عليهما ولا مفسدة فيهما ، وأمّا المنقصة التي يتضمّنها الكراهة فهي دون المفسدة فلا تعدّ ضررا ، ولو سلّم فهو ضرر متسامح فيه ، وليس بناء العقلاء على الاحتراز منه.

وعن النهاية (٢) أنّه جعل كلاّ من الضررين دليلا مستقلاّ على المطلب ، وكيف كان فقد اجيب عنه بوجوه :

الأوّل : ما عن الحاجبي (٣) وتبعه غيره (٤) من منع الكبرى ، فإنّ دفع الضرر المظنون احتياط

__________________

(١) استدلّ به العلاّمة في النهاية : ٢٩٧ والمحقّق القمّي في القوانين ١ : ٤٤٧ وصاحب الفصول في الفصول : ٢٧٨ ومفاتيح الاصول : ٤٨٤ ـ ٤٨٥.

(٢) نهاية الوصول ( مخطوط ) : ٢٩٧.

(٣) شرح مختصر الاصول : ١٦٣ ، المتن للحاجبي والشرح للعضدي.

(٤) كالعضدي ( شارح المختصر ).

٢٧٥

استحساني ، لا أنّه حكم إلزامي إن قلنا بالتحسين والتقبيح العقليّين فكيف بأنّه لا نقول بهما.

وفيه : أنّه لا إشكال في أنّه حكم إلزامي ، وعليه إطباق العقلاء في امورهم ، بل نراهم مطبقين على ذمّ من أقدم على ما ظنّه ضررا ، بل نقول : إنّهم مطبقون على الالتزام بدفع الضرر المحتمل حيث كان الاحتمال عقلائيّا ، فضلا عن الضرر المظنون.

وقد يورد عليه أيضا : بأنّه لولا وجوب دفع الضرر المظنون أو المحتمل لزم سدّ باب إثبات وجوب معرفة الله ، لابتنائه على قاعدة وجوب شكر المنعم الّتي لا تتمّ إلاّ بمقدّمة وجوب دفع الضرر المظنون أو المحتمل ، وبأنّه لولا وجوبه لزم سدّ باب إثبات النبوّات وإفحام الأنبياء ، لأنّ نبوّة المتنبّي لا يثبت إلاّ بالنظر في معجزته ، ووجوبه يتوقّف على قاعدة وجوب دفع الضرر المظنون أو المحتمل ، وبأنّهم قيّدوا موضوع مسألة الحظر والاباحة المختلف فيها بالخلوّ عن أمارة المفسدة ، ويظهر منه أنّه لا نزاع في قبح الارتكاب مع وجودها.

والتمسّك بهذه الامور في مقام استكشاف الواقع حسن ، وأمّا في مقابلة الحاجبي فلا وقع فيها ، لأنّه من الأشاعرة وهم الّذين أنكروا التحسين والتقبيح العقليّين ، ثمّ تنزّلوا من باب المماشاة عن هذا الإنكار الكلّي ، وقالوا : بأنّ العقل لا حكم له في مسألتين :

إحداهما : مسألة وجوب شكر المنعم.

والاخرى : مسألة الأشياء النافعة الخالية عن أمارة المضرّة قبل ورود الشرع ، ولذا التزموا في كلّ من مسألتي وجوب معرفة الله ووجوب النظر بكون الوجوب شرعيّا لا عقليّا ، فالإيراد عليه حينئذ بنحو ما ذكر ليس على ما ينبغي.

وقد يورد عليه أيضا : بأنّ ما ذكره من ابتناء الكبرى على التحسين والتقبيح العقليين غير ظاهر ، لأنّ تحريم تعريض النفس للمهالك والمضارّ الدنيويّة والاخرويّة ممّا دلّ عليه الكتاب والسنّة ، مثل التعليل في آية النبأ وقوله تعالى : ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ )(١) وقوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ )(٢) إلى غير ذلك من الآيات ، وفيه : نظر واضح مع أنّه خروج عن الاستدلال بالدليل العقلي.

الثاني : ما عن العدّة (٣) والغنية (٤) وغيرهما (٥) من أنّ وجوب دفع الضرر المظنون مختصّ

__________________

(١) سورة البقرة : ١٩٥.

(٢) سورة النور : ٦٣.

(٣) العدّة ١ : ١٠٧.

(٤) الغنية ١ ( الجوامع الفقهيّة ) : ٤٧٦.

(٥) انظر الذريعة ٢ : ٥٤٩.

٢٧٦

بالمضارّ الدنيويّة ، فلا يجري في المضارّ الاخرويّة كالعقاب.

وفيه : أنّا لا نجد فرقا في حكم العقل بين الضررين ، فإنّ مناطه التضرّر وموضوعه الاحتراز عمّا يتضرّر به الإنسان ، وهذا لا يتفاوت في وجوبه الحال بين الضررين ، مع أنّ المضارّ الاخرويّة أشدّ وأعظم ، فحكم العقل بوجوب دفعها أولى وأظهر ، فلا معنى للفرق بينها وبين المضارّ الدنيويّة إلاّ أن يكون مبناه على أنّ الضرر الدنيوي تابع لأصل الفعل ، لأنّه يترتّب عليه من باب الخاصيّة بلا مدخليّة للعلم والجهل في ترتّبه عليه ، فلا يكون الجهل فيه عذرا رافعا له مانعا عن ترتّبه ، بخلاف الضرر الاخروي كالمؤاخذة والعقاب وانحطاط الدرجة وغيرها ، فإنّها لا تترتّب على أصل الفعل ، بل على العلم بالتكليف الإلزامي المتوقّف على نصب الشارع لطريق علمي عليه ، أو ما يقوم مقام العلم به من الظنون الخاصّة ، فيتوقّف على نصّ الشارع بقيام أمر غير علمي مقام العلم ، وإذا انتفى الأمران فالعقل يحكم بكون المكلّف مأمونا من العقاب المترتّب على العلم أو ما يقوم مقامه ، ومعناه كون الجهل حينئذ عذرا رافعا للضرر ، فيرجع حينئذ إلى ما سنقرّره من الجواب التحقيقي.

الثالث : النقض بالأمارات الظنّيّة الّتي نصّ الشارع أو قام القاطع بعدم اعتبارها ومنع العمل بها كخبر الفاسق والقياس على مذهب الإماميّة (١) ، فإنّ مخالفة ما ظنّه المجتهد من جهة القياس واجبا مظنّة للضرر ، والتخصيص في الدليل العقلي غير صحيح ، وإنكار حصول الظنّ من القياس أو خبر الفاسق مكابرة للوجدان.

وردّ تارة : بالتزام العمل بهذا الظنّ أيضا ، ومنع حرمته عند انسداد باب العلم ، كما يستفاد ذلك من بعض الأعلام في مواضع من قوانينه (٢).

واخرى : بأنّ الشارع إذا ألغى ظنّا تبيّن أنّ في العمل به ضرر أعظم من ضرر ترك العمل به ، وحاصله : أنّ دفع الضرر إنّما يجب عند العقل حيث لم يزاحمه ضرر آخر أقوى منه ، والقياس بملاحظة منع الشارع من العمل به يعلم فيه أنّ في العمل به مفسدة هي في نظر الشارع أعظم من المفسدة المترتّبة على تركه ، بل مفسدة العمل مفسدة متيقّنة ، ومفسدة الترك مفسدة غير متيقّنة ، ومن المعلوم في حكم العقل تعيّن دفعه.

__________________

(١) هذا النقض مذكور في الذريعة ٢ : ٥٥٠ والغنية : ٤٧٦ ومعارج الاصول : ٤٣.

(٢) قوانين الاصول ١ : ٤٤٨.

٢٧٧

وضعّف الأوّل : بأنّ الظاهر أنّه خلاف مذهب الشيعة ، ولا أقلّ من كونه مخالفا لإطلاقات إجماعاتهم المنقولة ـ مستفيضة بل متواترة ـ كما يعلم في باب القياس.

ويضعّف الثاني : بأنّ الإتيان بما يظنّ وجوبه وترك الاتيان بما يظنّ حرمته ، احترازا عن الضرر المحتمل ترتّبه على الترك في الأوّل والفعل في الثاني ، احتياط من ذلك الضرر ، وهذا ليس من العمل بالقياس على معنى الاستناد إليه والتديّن به ، فمفسدة منع الشارع مترتّبة على العمل بهذا المعنى ، وهو ليس بلازم من دفع الضرر المظنون باختيار الفعل فيما ظنّ وجوبه والترك فيما ظن حرمته ، فلا مزاحمة بين الضررين ، ولا منافاة بين دفعيهما ، لأنّ مفسدة منع الشارع تترتّب على الاستناد إلى القياس ، ومفسدة ظنّ الوجوب أو الحرمة تترتّب [ على ] الفعل أو تركه ، فاختيارهما على وجه الاحتياط لا يلازم الأخذ بالقياس على وجه الاستناد ، كما هو واضح.

وإن شئت قلت : إنّ فعل ما ظنّ وجوبه وترك ما ظنّ حرمته من جهة القياس دفعا للضرر المحتمل ترتّبه على ترك الأوّل وفعل الثاني عمل بالاحتياط لا أنّه عمل بالقياس ، فلو أبدل الردّ المذكور ـ المتضمّن لدعوى المفسدة في العمل بالأمارات الممنوعة في الشرع ـ بدعوى : أنّ في نهي الشارع عن الاعتناء بها وترخيصه في مخالفتها مع علمه بأنّ تركها ربّما يفضي إلى ترك الواجب أو فعل الحرام ، مصلحة يتدارك بها الضرر المظنون على تقدير ثبوته في الواقع كان أولى ، وإن كان ذلك أيضا لا يخلو عن تأمّل ، لعدم خلوصه عن شبهة التخصيص في الحكم العقلي ، فليتدبّر.

والتحقيق في الجواب : منع الصغرى على تقدير إرادة الضرر الاخروي ، فإنّ ظنّ الوجوب أو الحرمة لا يستلزم ظنّ ترتّب العقاب على الترك أو الفعل ، إلاّ إذا كان بين الوجوب الواقعي والحرمة الواقعيّة وترتّب العقاب على المخالفة بالترك أو الفعل ملازمة واقعيّة ، وحينئذ كان العلم بهما علما بترتّب العقاب ، والظنّ بهما ظنّا بترتّب العقاب ، والشكّ فيهما شكّا في ترتّب العقاب.

بتقريب : أنّ اللازم الواقعي للشيء كما يتبعه في أصله ، كذلك يتبعه في حالاته العارضة له من العلم به أو الظنّ به أو الشكّ فيه ، وإنّما يسلّم الملازمة الواقعيّة بينهما إذا كان كلّ من الوجوب والحرمة الواقعيّين علّة تامّة لاستحقاق العقاب ، وهو بمكان من المنع بالعيان ، لكثرة ما كان المكلّف يترك واجبا واقعيّا ، أو يأتي بحرام واقعي ، ولا يستحقّ بهما عقابا

٢٧٨

عقلا وشرعا من جهة الإجماع ونحوه على نفي العقاب ، كما لو كان جاهلا بالوجوب والحرمة بالجهل البسيط أو المركّب ، وهذا آية انتفاء العلّيّة التامّة ، فوجب الالتزام بكون كلّ منهما بالقياس إلى ترتّب العقاب من باب المقتضي الّذي من شأنه مجامعة فقد شرط أو وجود مانع فلا يقتضي ، ومعناه هنا أن يكون اقتضاء الوجوب والحرمة الواقعيّين وتأثيرهما في استحقاق العقاب على الترك والفعل مشروطا بالعلم أو الظنّ المعتبر بهما ، فإذا انتفى الشرط ـ كما فيما نحن فيه ـ انتفى المشروط ، وهو اقتضاء الوجوب والحرمة الواقعيّين لترتّب العقاب واستلزامهما له.

وقضيّة ذلك عدم استلزام الظنّ بأحدهما الظنّ بالعقاب على الترك أو الفعل ، وهذا هو معنى منع الصغرى.

فإن قلت : إنّ عدم ترتّب العقاب في صورة الجهل بسيطا أو مركّبا إنّما هو لاستقلال العقل بقبح التكليف مع الغفلة أو الشكّ أو القطع بالعدم ، ومرجعه إلى أنّه يستقلّ بالحكم بقبح العقاب والمؤاخذة بلا بيان ، وأمّا مع الظنّ بالوجوب أو الحرمة فلا يستقلّ [ العقل ](١) بقبح المؤاخذة والعقاب ، ولا إجماع عليه أيضا.

قلت : كما لا يستقلّ العقل بقبح العقاب كذلك لا يستقلّ بحسنه أيضا ، فلا يكفي مجرّد منع استقلال العقل وعدم ثبوت الإجماع على استحقاق العقاب في تتميم الاستدلال ، بل لابدّ من إثبات أنّ مجرّد الوجوب الواقعي ومجرّد الحرمة الواقعيّة يستلزمان العقاب حتّى يكون الظنّ بأحدهما ظنّا به ، وإذا لم يحكم العقل بحسن العقاب حكما بتيّا ولا ظنّيّا ولم يثبت الإجماع عليه لا إجماعا قطعيّا ولا ظنّيّا لم يكن العقاب مظنونا.

لا يقال : غاية ما يلزم من ذلك كون العقاب مشكوكا فيه ويندرج بذلك في الضرر المحتمل ، وقد تقدّم أنّه أيضا واجب الدفع وعليه إطباق العقلاء ، لمنع كون العقاب على مخالفة الوجوب الواقعي والحرمة الواقعيّة من دون علم ولا ظنّ معتبر بهما محتملا ، فإنّ الظنّ المشكوك في اعتباره في حكم الشكّ ، على معنى أنّه كما أنّ الشكّ في الوجوب أو الحرمة الواقعيّين لا يوجب التكليف الفعلي ، وهو أن يصير الوجوب أو الحرمة المشكوك فيهما تكليفا فعليّا على المكلّف بحيث يستحقّ العقاب على مخالفته وإن كانا ثابتين في الواقع ، فكذلك بأحدهما بالظنّ المشكوك الاعتبار لا يوجب التكليف الفعلي ، على معنى

__________________

(١) وفى الأصل : « العقاب » بدل « العقل » وهو سهو من قلمه الشريف قطعا ، ولذا صحّحناه بما في المتن.

٢٧٩

صيرورة المظنون تكليفا فعليّا ، فيكون كالشكّ بذلك محقّقا لموضوع أصل البراءة الثابت بعمومات الكتاب والسنّة ، بل العقل المستقلّ في الجملة بقبح التكليف بلا بيان وقبح العقاب بلا إقامة البرهان ، وأصل البراءة وإن لم يستلزم انتفاء الوجوب أو الحرمة المشكوك فيهما أو المظنون بهما بالظنّ المشكوك الاعتبار في الواقع ولا ينفيهما ، لكنّه يفيد انتفاء التكليف الفعلي والبراءة عن العقاب المحتمل ترتّبه على المخالفة ، فإنّ احتمال ترتّبه أو الشكّ في ترتّبه على ترك ما ظنّ وجوبه أو فعل ما ظنّ حرمته ابتدائي ترتفع بعد التأمّل في الأصل القطعي الثبوت والنظر في حكم العقل بالقبح ، فالعقاب على مخالفة ما ظنّه المجتهد واجبا أو حراما كما أنّه غير مظنون ، كذلك غير محتمل أيضا.

وهذا هو معنى ما يقال : من أنّ الأصل الثابت بالعقل والنقل يؤمننا من العقاب على مخالفة الواقع على تقدير حصولها بواسطة الجهل به ، المتحقّق عند عدم العلم ولا الظنّ المعتبر به كما فيما نحن فيه.

وأمّا على تقدير إرادة الضرر الدنيوي ، وهو المفسدة اللازمة من الترك في الواجب الواقعي أو من فعل الحرام الواقعي ، فيمكن الجواب أيضا بمنع الصغرى ، فإنّ الظانّ بوجوب الشيء أو حرمته إن بنى على العمل بالاحتياط بإتيان ما ظنّ وجوبه وترك ما ظنّ حرمته بتقريب حسن الاحتياط فلا كلام ، وإن بنى على ترك الاحتياط تعويلا على أصل البراءة واستنادا إليه فهو وإن كان مخالفة للظنّ إلاّ أنّه لا يستلزم ظنّ الوقوع في المفسدة على تقدير ثبوت الوجوب أو الحرمة في الواقع ، لوجوب وجود المصلحة المتدارك بها هذه المفسدة في العمل بالأصل ، على معنى مزاحمة مصلحة العمل بالأصل لمفسدة الترك أو الفعل ومنعها لها عن الحصول ، كتناول الترياق المتدارك به مفسدة السمّ فيمن شربه ، فإنّ الشارع الحكيم المقرّر لأصل البراءة مرجّحا للجاهل الّذي منه الظانّ بالظنّ المشكوك الاعتبار ، وجب عليه أن يعتبر في التعويل عليه والاستناد إليه نحو المصلحة المذكورة ، عملا بمقتضى حكمته ، وهو عدم إيقاعه المكلّف الجاهل في المفسدة الواقعيّة حيث قرّر له الأصل ، مع علمه بأنّه قد يفضي إلى ترك واجب واقعي أو فعل حرام واقعي ، خصوصا في الشبهات الحكميّة الّتي محلّ البحث منها ، لاستناد الشبهة فيها إلى الشارع حيث لم ينصب على الواقع دليلا علميّا ولم يجعل إليه طريقا غير علمي.

فإن قلت : يلزم على ما ذكرت أن لا يبقى لقاعدة وجوب دفع الضرر المظنون أو

٢٨٠