تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٥٥٥

وقد يكون محرّما لجهة واحدة ، كما إذا كان العمل على وجه الالتزام ولم يخالف لمقتضى أصل من الاصول ، أو خالفه ولم يكن على وجه الالتزام ، وإذا لم يخالفه ولم يكن على وجه الالتزام لم يكن محرّما ، بل قد يحسن ويستحقّ به الثواب لو كان على وجه الاحتياط ، نظرا إلى أنّه حسن على كلّ حال ، فليتدبّر.

وقد يستدلّ على أصالة تحريم العمل بالظنّ بوجوه اخر :

منها : أصالة عدم الحجّيّة وعدم وقوع التعبّد به وعدم إيجاب العمل به ، فإنّ حجّيّة الظنّ بل مطلق الأمارة الغير العلميّة إنّما تكون بجعل الشارع ، والأصل عدمه.

وعندي أنّ هذا الأصل ليس في مجراه ، لأنّ الكلام في حرمة العمل به وجوازه لذاته لا باعتبار الشكّ في الحجّيّة المجعولة ووقوع التعبّد من الشارع وعدمه ، حتّى أنّه يجري الكلام مع القطع بالعدم ، ولذا أخذنا في موضوعه قيد « في نفسه » وفسّرناه بأن لا يكون العمل بإذن الشارع ورخصته.

وقد يسلّم جريان الأصل ، ولكن يورد عليه : بعدم الاحتياج إليه في إثبات حرمة العمل ، لأنّها حكم يكفي في ترتّبه مجرّد عدم العلم بورود التعبّد من الشارع ، لأنّ موضوعها الشكّ في وقوع التعبّد وعدمه.

وبالجملة أصالة العدم إنّما يتمسّك بها لإحراز عدم شيء في ترتيب الأحكام المترتّبة على عدمه ، لا في ترتيب الأحكام المترتّبة على عدم العلم بوجوده ، وذلك كأصلي البراءة والاشتغال الذين يكفي فيهما مجرّد الشكّ في التكليف والشكّ في الفراغ ، ولا حاجة في الحكم بالبراءة في الأوّل ، وبعدم فراغ الذمّة في الثاني إلى توسيط أصالة عدم التكليف وأصالة عدم الفراغ.

وقد يخدشه ـ بعد الإغماض عمّا ذكرناه من عدم كون أصل العدم هنا في مجراه ـ : إنّه إنّما يتمّ في إثبات الحرمة التشريعيّة ، فإنّها مترتّبة على عدم العلم بورود التعبّد.

وأمّا الحرمة الذاتيّة فهي مترتّبة على عدم ورود التعبّد قطعا لا على عدم العلم بوروده ، فلا بدّ في ترتيبها وإجرائها من إحراز العدم بواسطة أصالة عدم الحجّيّة.

ومنها : قاعدة الاشتغال المقتضية لعدم جواز الاكتفاء بالأمارة ، فإنّ القطع حاصل بأنّه يجب علينا تحصيل الاعتقاد بالأحكام الشرعيّة الثابتة علينا في الشريعة ، والأمر في ذلك الاعتقاد الواجب تحصيله دائر بين الاعتقاد اليقيني أو مطلق الاعتقاد ولو ظنّا ، وظاهر أنّ

١٠١

الشغل اليقيني يستدعي البرأة اليقيني ولا يتأتّى إلاّ مع تحصيل الاعتقاد اليقيني لأنّه مجمع على كفايته ، و [ مطلق ] الاعتقاد مختلف في الاكتفاء به وعدمه.

نعم على القول بالبراءة في نحو ذلك استنادا إلى أصل البراءة النافي للتعيين ، لما فيه من الضيق جاز الاكتفاء بمطلق الاعتقاد ولو ظنّا ، ولكنّه خلاف التحقيق لأنّ المرجع في مسألة اشتباه المكلّف به ، ودورانه بين التعيين والتخيير أصل الاشتغال المقتضي للتعيين.

وهذا أيضا ممّا لا محصّل [ له ] بل أضعف من سابقه لوجوه :

أمّا أوّلا : فلأنّ أصل الاشتغال إنّما يجري في الامور التوقيفيّة الصرفة الّتي يجوز فيها إجمال موضوع التكليف المعلوم بالإجمال ، والمقام ليس منها ، لأنّ الاعتقاد بالأحكام مقدّمة عقليّة لامتثالها والعمل بها ، والحاكم بوجوب تحصيله هو العقل كما أنّ الحاكم بمقدّميّته العقل.

ومن المعلوم أنّ العقل لا يتردّد في موضوع حكمه أهو الاعتقاد اليقيني بالخصوص ، أو ما يعمّه والاعتقاد الظنّي كما هو الحال في كلّ حاكم في موضوع قضيّة حكمه ، فالإجمال الموجب للاشتباه والتردّد في موضوع القضيّة إنّما يتأتّى لغير الحاكم ، وأمّا نفس الحاكم فلا يعقل الإجمال في نظره في موضوع حكمه الموجب للتردّد فيه ، وإلاّ لزم منه التردّد في الحكم فلا يصدر منه الحكم ما دام متردّدا ، والمفروض أنّ العقل يحكم بوجوب تحصيل الاعتقاد مقدّمة للعمل ، فإمّا يحكم بخصوص الاعتقاد القطعي كما هو كذلك أو يحكم بكفاية مطلق الاعتقاد ، فلا معنى لتوسيط أصل الاشتغال حينئذ.

وأمّا ثانيا : فلأنّ أصل الاشتغال على تقدير تسليم جريانه فيما نحن فيه لا ينتج أصالة تحريم العمل بالظنّ في نفسه ، لأنّ مفاده عدم كفاية الاعتقاد الظنّي في مقدّمة امتثال الأحكام الشرعيّة المعلومة بالإجمال ، لا حرمة العمل به لو حصل بنفس الحكم الشرعي.

وأمّا ثالثا : فلأنّ وجوب الإتيان بما يوجب اليقين بالبراءة في مجرى أصل الاشتغال حكم عقلي ، لأنّ الحاكم به العقل لا غير.

وقد عرفت أنّه مستقلّ بإدراك قبح العمل بالظنّ وحرمته ، ولا حاجة مع ذلك لإثبات هذه الحرمة إلى توسيط حكمه في مجرى أصل الاشتغال وهو مسألة دوران المكلّف به بين التعيين والتخيير ، بل التمسّك بهذا الحكم العقلي لإثبات أصالة الحرمة أشبه شيء بكونه أكلا من القفا.

١٠٢

والتحقيق : هو ما ذكرناه أوّلا من منع أصل الجريان ، وإن شئت قلت : بعدم الحاجة إليه ، لأنّ الاشتغال بالأحكام المعلومة بالإجمال إن كان ثابتا فهو بنفسه من مقتضيات عدم حصول البراءة بغير الاعتقاد القطعي من غير حاجة له إلى إعمال قاعدة اخرى ، فإنّ تحصيل الاعتقاد ـ على ما بيّناه ـ إنّما يجب مقدّمة للعمل بالأحكام المعلومة إجمالا ، ومعلوم أنّ العلم الإجمالي لو كان مصحّحا للاشتغال لكان كافيا في ثبوت عدم تأتّي البراءة إلاّ بالاعتقاد القطعي ، نظرا إلى أنّه حكم تابع لموضوعه المفروض تحقّقه في المقام ، وهو الشكّ في الحجّية وعدمها أو في حرمة العمل وعدمها ، فلا معنى مع ذلك لفرض دوران المكلّف به بين الاعتقاد القطعي أو ما يعمّه والاعتقاد الظنّي في المقدّمة.

ومنها : أنّ العمل بالظنّ مما يحتمل فيه الضرر ، وكلّما يحتمل فيه الضرر يجب اجتنابه ، فالعمل بالظنّ يجب اجتنابه.

أمّا الكبرى : فلوجوب دفع الضرر المحتمل.

وأمّا الصغرى فيمكن تقريرها تارة : بأنّ الأمر في العمل بالظنّ دائر بين الجواز والتحريم ، واحتمال التحريم احتمال للعقاب عليه وهو ضرر اخروي.

واخرى : بأنّ العمل بالظنّ لا يأمن من مخالفة الواقع ، ومخالفة الواقع محرّمة ، خصوصا إذا كانت تركا لواجب واقعي أو فعلا لمحرّم واقعي ، فاحتمال المخالفة فيه احتمال للتحريم وهو احتمال للعقاب عليه.

والجواب : منع الصغرى بكلا تقريريها.

أمّا على التقرير الأوّل : فلأنّ التحريم المحتمل إن اريد به الحرمة الشرعيّة ، فيتوجّه المنع إلى قيام احتمال العقاب عليه ـ إن صحّ فرض واقعة العمل بالظنّ ممّا لا نصّ فيه ، بناء على الإغماض عمّا تقدّم من القبح العقلي والتحريم الشرعي ـ فإنّ أصل البراءة النافي للعقاب المحتمل ترتّبه على الفعل في الشبهات الحكميّة التحريميّة ممّا لا نصّ فيه يؤمننا من الضرر الاخروي الّذي عليه مبنى الاستدلال.

وإن اريد به الحرمة التشريعيّة فهي مقطوع الانتفاء على تقدير ، ومقطوع الثبوت على تقدير آخر.

وعلى التقديرين لا معنى لدعوى قيام احتمال الضرر في العمل بالظنّ ، فإنّ التشريع إن فسّر بمعناه الأخصّ وهو إدخال ما ليس من الدين في الدين ليكون من الدين ، فالحرمة

١٠٣

منتفية قطعا لانتفاء موضوعها ، فإنّ العمل تعبّد وتديّن بما لا يعلم كونه من الدين ، لا بما يعلم عدم كونه من الدين ، وإن فسّر بمعناه الأعمّ وهو إدخال ما لم يعلم كونه من الدين في الدين ليكون من الدين ، فعلى القول بتحريمه أيضا كالأوّل فالحرمة ثابتة قطعا ، فلا معنى لجعله ممّا يحتمل فيه الضرر.

وأمّا على التقرير [ الثاني ] فلأنّ مخالفة الواقع ما لم تكن معلومة بالتفصيل أو بالإجمال لم تكن محرّمة ، فإنّ المحرّم إنّما هو المخالفة القطعيّة لا المخالفة الاحتماليّة ، ولا تكون المخالفة قطعيّة إلاّ مع العلم بالواقع تفصيلا أو إجمالا ، والمفروض في محلّ الظنّ انتفاء العلم بخلاف المظنون بكلا قسميه ، وأيضا فإنّ مخالفة الواقع فيما لو كانت تركا لواجب واقعي ، أو فعلا لحرام واقعي إنّما تؤثّر في ترتّب العقاب على تقدير تنجّز التكليف بهما فعلا وتوجّه الخطاب فيهما إلى المكلّف ، بحيث يصير الواجب الواقعي أو الحرام الواقعي واجبا فعليّا أو حراما فعليّا ، وهو مشروط بالعلم بالوجوب أو التحريم الواقعي تفصيلا أو اجمالا ، والمفروض في محلّ الظنّ بخلاف الوجوب أو التحريم انتفاء العلم بكلا قسميه.

ومنها : أنّ العمل بالظنّ بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة ، والضلالة سبيلها إلى النار.

أمّا الكبرى : فلأخبار مستفيضة واردة بهذا المضمون بطرق الفريقين.

وأمّا الصغرى : فلأنّ التعبّد والتديّن بما يحتمل كونه خلاف الظنّ على أنّه الواقع من دون إذن من الشارع فيه إدخال لما لم يعلم كونه من الدين في الدين ليكون من الدين.

ويمكن منع الصغرى بأنّ مورد الأخبار ـ ولو بحكم الانصراف ـ إدخال ما علم عدم كونه من الدين ، لا ما يعمّه وإدخال ما لم يعلم كونه من الدين.

وقد يقال : بأنّ الأصل في العمل بالظنّ هو الجواز إلاّ ما خرج بالدليل ، ونسب (١) ذلك إلى السيّد الكاظمي في محصوله وشرحه (٢) للوافية أيضا ، وربّما يظهر أيضا من بعض الأعلام في بعض عباراته ، ولكن ظاهره في أكثر كلماته كون ذلك الجواز على وجه انقلاب الأصل الأوّلي في أزمنة الغيبة.

وكيف كان فعن السيّد (٣) التمسّك بأصالة الإباحة لأنّها الأصل في الأشياء.

وفيه أوّلا : أنّ أصل الإباحة إنّما يتمسّك به فيما لا يستقلّ بقبحه العقل.

__________________

(١) حكاه عنه السيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٤٥٢.

(٢) و (٣) الوافي للمحقّق الكاظمي المعروف بالسيّد الأعرجي ( مخطوط ) : ٢٩.

١٠٤

وقد عرفت أنّ العمل بالظنّ في نفسه ممّا يستقلّ بقبحه العقل ، فلا يجري فيه أصالة الإباحة ليكون مدركا للجواز.

وثانيا : أنّ الإباحة الّتي هي الأصل في الأشياء عبارة عن الإباحة بالمعنى الأخصّ وهي التسوية بين الفعل والترك الّتي يقال لها : « جواز الفعل والترك لا إلى بدل ، والجواز بهذا المعنى غير متصوّر في العمل بالظنّ ، لأنّ الواقعة الّتي ورد فيها الأمارة الظنّية ـ والمفروض أنّها بحسب الواقع غير خالية عن أحد الأحكام الخمس ـ لابدّ للمكلّف فيها من عمل ، والحال فيها حينئذ لا يخلو عن صور ثلاث :

الاولى : أن يجب عليه التعبّد والتديّن بمؤدّى أصل موجود فيها من الاصول الأربعة عينا.

الثانية : أن يجب عليه التعبّد والتديّن بمؤدّى الأمارة القائمة فيها عينا.

الثالثة : أن يجب [ عليه ] التعبّد والتديّن بكلّ منهما تخييرا ، فالأمر بالنسبة إلى العمل بالأمارة مردّد بين التحريم العيني والوجوب العيني والوجوب التخييري.

وعلى أيّ تقدير فالإباحة بمعنى جواز كلّ من الفعل والترك لا إلى بدل غير معقول.

ولو اريد بجواز العمل به ما يقابل حرمة العمل الّتي يدّعيها القائل بأصالة التحريم على معنى عدم الحرمة ، فلا ينافي الوجوب عينا أو تخييرا ، ومرجعه إلى عدم جواز ترك العمل به لا إلى بدل ، سواء لم يجز مطلقا أو أنّه حيثما جاز فهو ترك إلى بدل.

ففيه : مع أنّ الجواز بهذا المعنى ليس من مفاد أصل الإباحة ، فلا ينطبق الدليل على المدّعى ، أنّه قد تقدّم أنّ أصالة التحريم الثابتة بالعقل والنقل ممّا لا مجال لانكاره ، فلا معنى للجواز بالمعنى المذكور أيضا.

وقد يستدلّ لجواز العمل به بأصالة التخيير الجارية في مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير ، لأنّ الأمر مردّد بين تعيّن العمل بالأصل أو التخيير بينه وبين العمل بالأمارة الواردة على خلاف الأصل.

وفيه أوّلا : أنّ الأصل في هذه المسألة ـ على ما حقّقناه في محلّه ـ إنّما هو التعيين لأصالة الاشتغال الواردة هنا على أصل البراءة.

وثانيا : منع اندراج المقام في المسألة المشار إليها ، إذ الأصل الثابت مشروعيّته في الواقعة بالأدلّة القطعيّة تعليقي ـ على معنى كون اعتباره معلّقا ومراعى بأن لا يكون هناك

١٠٥

أمارة متعبّد بها شرعا ـ فالأمارة ليست طرفا مقابلا له ، فالأمر بالنسبة إليها يدور بين وجوب العمل بها عينا أو تحريم العمل بها عينا ، وهذا من مسألة دوران الأمر بين المحذورين وهو الوجوب والتحريم ، ولا ينافي ذلك ما تقدّم منّا في الجواب عن أصالة الإباحة ، لكون بناء الكلام ثمّة على المماشاة مع الخصم وإلاّ فاحتمال التخيير من أصله فاسد.

ولو قيل : بأنّ الأصل مع فرض الدوران بين المحذورين هو التخيير كما هو أحد القولين ، ففيه : ـ مع إمكان ترجيح التحريم ترجيحا لجانب الحرمة ، لأنّ فيها دفعا للمفسدة ـ أنّ تحريم العمل في مثل ما نحن فيه يكفي فيه عدم ثبوت وجوب العمل بالدليل ، فإنّ الأمر دائر بين العمل بما ثبت مشروعيّته وهو الأصل ، والعمل بما لم يثبت مشروعيّته وهو الأمارة.

ولا ريب أنّ عدم ثبوت المشروعيّة كاف في ثبوت التحريم ، لما تقدّم من تطابق العقل والنقل حينئذ على المنع من العمل حينئذ.

وبالتأمّل في ذلك ينقدح وجه آخر في منع التخيير في العمل بين الأصل والأمارة ، لو اريد بجواز العمل بالظنّ جوازه على وجه التخيير ، لأنّ التخيير بين المشروع وغير المشروع غير معقول.

ثمّ أصالة حرمة العمل بالظنّ ـ مع ابتنائها على بقاء التكاليف في الاصول والفروع ـ مبتنية على ثبوت إحدى المقدّمات الثلاث على وجه الانفصال الحقيقي ، وهي إمّا وجود طرق علميّة يرجع إليها المكلّف ، أو كون حجّيّة الاصول ـ لفظيّة وعمليّة ـ على وجه السببيّة والتعبّد ـ على معنى لزوم العمل بها مطلقا حتّى مع الظنّ الغير المعتبر بخلافها ـ أو كون دفع الضرر الاخروي الموهوم واجبا ليبنى المكلّف بعد الانصراف عن الأمارة ـ من جهة حرمة العمل بها في امتثال التكاليف المعلومة بالإجمال ـ على أحدها ، لئلاّ يلزم على تقدير انتفاء الجميع مع المنع من العمل بالظنّ من بقاء التكاليف المعلومة إجمالا التكليف بالمحال ، لاستحالة امتثالها على التقادير المذكورة.

ومن المقدّمات المذكورة وإن كان أوّلها في الفروع منتفية إلاّ أنّ الثانية منها غير منتفية ، لكون حجّيّة الاصول عندنا ـ على ما حققّناه في محلّه من باب التعبّد مطلقا ـ غير مقيّد بعدم الظنّ الغير المعتبر بالخلاف ، ولو فرض انتفائها أيضا فلا يمكن الاسترابة في ثبوت الثالثة ، لوجوب دفع الضرر الموهوم كالضرر المظنون إذا كان اخرويّا بحكم القوّة العاقلة وبناء العقلاء ، لأنّ مقتضى الفرض عدم حجّيّة أصل البراءة مع قيام الأمارة الظنّيّة بخلافها

١٠٦

ليؤمننا من العقاب المحتمل ، وإنّما قيّدنا الضرر بالاخروي لأنّ الضرر الدنيوي لا يجب دفعه عند العقلاء إلاّ مع الظنّ.

وعلى ما ذكرناه من حجّيّة الاصول على وجه التعبّد مطلقا ، يتّضح أصالة حرمة العمل بالظنّ كمال الاتّضاح ، بل يكون من البديهيّات الّتي لا حاجة فيها إلى تجشّم الاستدلال ، إذ الواقعة الّتي قامت فيها الأمارة الظنّيّة غير خالية عن أحد الاصول التعبّديّة ، والمفروض كون أدلّة تلك الاصول قطعيّة ومفادها لزوم الأخذ بمؤدّيات هذه الاصول ما لم يعلم خلافها ، والأمارة لا توجب العلم بخلافها ، فالالتزام بها مخالفة وطرح لتلك الاصول القطعيّة من جهة قطعيّة أدلّتها فيكون محرّما بنفس تلك الأدلّة ، ومعه لا حاجة إلى تكلّف الاستدلال على أصالة الحرمة ، ولا النظر في العمومات الناهية ليناقش فيها من حيث الدلالة بدعوى اختصاصها بالاصول وغير ذلك ، ولا إلى النظر في غيرها من الأخبار المدّعاة في المقام ، أو الاصول المقرّرة من وجوه شتّى لتكون مثارا للمناقشات من جهات شتّى.

ولا فرق في أصالة الحرمة الثابتة من أدلّة الاصول القطعيّة بين ما لو كان مورد الأمارة المخالفة لها من الاصول اعتقاديّة ، أو عمليّة أو من الفروع أو من الموضوعات مستنبطة أو صرفة ، فلو قامت أمارة ظنّيّة بدخول وقت الصلاة فيظنّ من جهتها دخول الوقت المستلزم للظنّ بوجوب الصلاة لا يجوز التعويل عليه ولا التعبّد به ، لاستلزامه طرح اصول كثيرة قطعيّة من أصالة البراءة ، واستصحاب الحالة السابقة من عدم دخول الوقت وعدم الوجوب وعدم المشروعيّة.

هذا تمام الكلام في تأسيس الأصل ، وحينئذ لابدّ من البحث في وقوع التعبّد بالظنون ببيان ما خرج ، أو ادّعى خروجه من أصالة الحرمة من الامور الغير العلميّة الّذي هو المقصد المهمّ من عقد مسألة حجّيّة الظنّ ، والعمدة من مباحث هذا الظنّ ، نظرا إلى أنّ عليها يدور الفقه وبها ينتظم أساسه ويستحكم بنيانه ، لقلّة ما في مداركه من الطرق القطعيّة والأدلّة العلميّة ، فنقول : هل خرج من أصالة الحرمة بعض الامور الغير العلميّة خصوصا أو لا؟

وعلى التقديرين فهل خرج منها الظنّ عموما مع انسداد باب العلم أو لا؟ فتمام البحث يقع في مقصدين :

* * *

١٠٧

المقصد الأوّل

في بيان ما خرج أو ادّعي خروجه من الامور الغير العلميّة من الأصل خصوصا وهو امور :

أوّلها

الامور الغير العلميّة من اصول وأمارات

المعمولة في استنباط الأحكام الشرعيّة من ألفاظ الكتاب والسنّة وما بحكمهما من الإجماعات المنقولة ، نظرا إلى اندراجها في الأدلّة اللفظيّة وهي على قسمين :

القسم الأوّل : ما يستعمل منها في تشخيص المرادات من ألفاظهما بعد إحراز ظواهرها وتمييز حقائقها عن مجازاتها ، كأصالة الحقيقة ، وأصالة العموم ، وأصالة الإطلاق ، وأصالة عدم التخصيص ، وأصالة عدم التقييد ، وأصالة عدم الاضمار وغيرها ، ومرجع الجميع إلى أصالة عدم القرينة والقرائن الظنّيّة القائمة بخلاف الظواهر مقاميّة أو غيرها جزئيّة أو كلّيّة ، كتعقّب الأمر لتوهّم الحظر ، وغلبة استعمال المطلق في الفرد بحيث لم يبلغ حدّ الوضع التعيّني.

القسم الثاني : ما يستعمل منها في أوضاع الألفاظ وتمييز حقائقها عن مجازاتها ، ومرجعه إلى تشخيص الظواهر ـ أوّليّة وثانويّة ـ بإعمال الأمارات الظّنيّة ، كقول اللغوي مثلا في تشخيص أنّ لفظ « الصعيد » مثلا موضوع لمطلق وجه الأرض أو خصوص التراب ، ووقوع الأمر عقيب الحظر في تشخيص كونه ظاهرا في الإباحة ، والشهرة في المجاز المشهور لتشخيص كونه ظاهرا في المعنى المجازي ، حتّى أنّه إذا أراد المتكلّم إفادة الحقيقة احتاج إلى نصب قرينة تصرفه عن الظهور المذكور ، فالبحث في هذا القسم إنّما هو في أنّ اللفظ الفلاني ظاهر في المعنى الفلاني أو غير ظاهر فيه؟ والشكّ فيه ناش عن الشكّ في الأوضاع اللغويّة أو العرفيّة.

وفي القسم الأوّل إنّما هو في أنّ الظاهر المفروغ كونه ظاهرا مراد أو المراد غيره ،

١٠٨

والشكّ فيه مسبّب عن الشكّ في اعتماد المتكلّم على القرينة وعدمه ، فالكلام فيه كبروي وفي القسم الثاني صغروي ، وظاهر أنّ البحث عن كلّ من الصغرى والكبرى إنّما يحتاج إليه حيث كانت ظنّيّة ، فيرجع عنوان المسألة إلى أنّه هل وقع التعبّد بهذين الظنّين بالخصوص لاستفادة المرادات من الألفاظ كائنة ما كانت ملفوظة أو مكتوبة أو لا؟

ولنقدّم الكلام في الكبرى المتفرّعة على إحراز الصغرى ، وهو كون اللفظ الفلاني ظاهرا في هذا المعنى ، فهل هذا الظاهر حجّة ـ على معنى أنّه يجب بناء العمل عليه إلى أن ينكشف خلافه ـ أو لا؟ وهذا هو الكلام في القسم الأوّل.

فنقول : لا إشكال بل لا خلاف في حجّيّة ظواهر الألفاظ وجواز الأخذ بها في فهم المطالب واستفادة المقاصد ، سواء فرضت في موضع الخطاب كما في المحاورات والمخاطبات ، أو في موقع الكتاب كما في المراسلات والمكاتبات ، بل هي معلومة بإجماع علماء الإسلام قديما وحديثا من العامّة والخاصّة ، بل هي من ضروريّات العرف وأهل اللسان من جميع الملل والأديان في جميع الأعصار والأمصار من لدن بناء المخاطبة بالألفاظ في تفهيم المطالب واستفادة المقاصد إلى زماننا هذا ، بل هذه القضيّة ـ الثابتة في الجملة على طريقة المهملة ـ خارجة عن معقد البحث ومحطّ الكلام.

وإنّما الكلام في تفصيلها وأنّها هل هي ثابتة على وجه الإيجاب الكلّي أو الإيجاب الجزئي؟ وقد وقع بينهم بالنسبة إلى ذلك كلام بل خلاف في مقامين :

أحدهما : بالنسبة إلى ظواهر الكتاب العزيز ، فإنّ منهم كالأخباريّة من أنكر حجّيّتها وجواز الأخذ بها والحكم عليها بكونها مرادة ، ما لم يقطع بالإرادة أو لم يقم دليل من خارج كاشف عن الإرادة.

وثانيهما : بالنسبة إلى ظواهر الكتاب والسنّة في حقّ غير المشافهين الذين لم يقصد إفهامهم ولو بغير جهة المخاطبة والمشافهة كالمكاتبات والمراسلات ، فإنّ منهم من أنكر ذلك أو وقع في التشكيك فيه كبعض الأعلام (١) في غير موضع من كتابه ، حيث خصّ الحجّيّة بالمشافهين ومن في حكمهم ممّن قصد إفهامهم دون من لم يقصد إفهامهم ، فإنّ الحجّيّة في حقّه تحتاج إلى إثبات انسداد باب العلم واضطرار العمل بالظنّ مطلقا ، ومنه الظنّ المستفاد من ظواهر الألفاظ مطلقا في حقّ غير المشافهين ممّن لم يقصد إفهامهم.

__________________

(١) قوانين الاصول : ١ / ٣٩٨ ـ ٤٠٣.

١٠٩

أمّا المقام الأوّل : فمستند المنكرين فيه يرجع إلى أمرين :

أحدهما : منع وجود المقتضي للأخذ بظواهر الكتاب الّتي لم يقصد بها إفهام غير من خوطب به كالنبيّ والوصيّ ، تمسّكا بقوله عليه‌السلام : « إنّما يعرف القرآن من خوطب به » (١) فإنّ المقتضي للأخذ بالظاهر مركّب من مقدّمتين :

أحدهما : كون هذا الظاهر مرادا به الإفهام.

والاخرى : قبح الخطاب بما له ظاهر وإرادة خلافه من جهة لزوم الإغراء بالجهل لولا كون المراد به ظاهره ، وظواهر القرآن لعدم القصد بها إلى إفهام غير النبيّ والوصيّ فاقدة للمقدّمة الاولى.

ومن البيّن أنّ انتفاء الجزء يستلزم انتفاء الكلّ فلا مقتضي أصلا.

وثانيهما : دعوى وجود المانع من الأخذ بظواهره ، وهو إمّا الإجمال العرضي الطارئ لظواهره ، لكثرة ما تطرق إليها من التأويل بالتخصيص أو التقييد أو غيرهما من أنحاء التجوّز وأنواع الكناية ، فصارت من قبيل الألغاز والمعمّيات ، أو نهي الشارع عن الاستناد إلى القرآن مستقلاّ من غير تفسير الأئمّة عليهم‌السلام وبيانهم المراد من ألفاظه ، المستفاد من الأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي.

ثمّ الأصل الأوّلي المتقدّم تأصيله في حرمة العمل بغير العلم يقتضي عدم جواز الأخذ بظواهره لما يصدق عليه من أنّه عمل بغير العلم ، وها هنا أصل آخر يوافقه في اقتضاء المنع من العمل بها ، وهو أنّ الأصل عدم إرادته تعالى بتلك الظواهر إفهام المطلب وتفهيم المقصد.

والفرق بينه وبين الأوّل واضح من حيث عموم الموضوع وخصوصه ، فإنّ موضوع الأوّل هو العمل بغير العلم الّذي منه الظواهر ، وموضوع الثاني هو العمل بالظواهر خاصّة.

نعم ها هنا أصل ثالث هو بالقياس إلى أصالة التحريم مخصّص ، وبالقياس إلى أصالة عدم إرادة الإفهام وارد ، وهو أنّ الظاهر في كلّ متكلّم بحكم الغلبة ـ جنسيّة ونوعيّة وصنفيّة ـ أن يكون كلامه مقصودا به اللفظ والمعنى وإفهام المعنى المقصود بواسطة ظهور ذاتي كما لو كان اعتماده على وضع اللفظ ، أو ظهور عرضي فيما لو كان اعتماده على ما عدا الوضع من القرائن اللازم وجودها لئلاّ يلزم الإغراء بالجهل حاليّة أو مقاليّة أو عقليّة.

وقضيّة هذا الأصل أنّا في غناء عن تجشّم الاستدلال لإثبات حجّيّة ظواهر الكتاب وجواز

__________________

(١) الكافي ٨ : ٣١٢ / ٤٨٥.

١١٠

الأخذ بها في استفادة المرادات ، وإنّما العمدة في المقام إبطال منع الخصم ودفع سند إنكاره.

وقد عرفت أنّ سنده يرجع إلى أمرين منع وجود المقتضي للأخذ بالظواهر ودعوى وجود المانع منه.

والجواب عن الأوّل : كفاية الأصل المتقدّم في إحراز وجود المقتضي ، فإنّ قضيّة ذلك الأصل ظهور كلامه تعالى في الكتاب العزيز في كونه تعالى قاصدا إلى اللفظ وقاصدا إلى المعنى وقاصدا إلى إفهام المعنى المقصود ، وهذا المعنى المقصود إمّا أن يكون ظاهر اللفظ أو خلاف ظاهره ، ولا سبيل إلى الثاني للزوم الإغراء بالجهل فتعيّن الأوّل ، مضافا إلى الإجماع الضروري على أنّ الشارع ليس له طريقة مستحدثة في خطاباته ومكالماته مغائرة لطريقة العرف وعادة أهل اللسان من التعويل على الظواهر ـ ذاتيّة أو عرضيّة ـ في إفادة المطالب واستفادتها ، فدعوى أنّ ظواهر الكتاب لم يقصد بها إفهام غير النبيّ والوصيّ ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه والاستناد لها إلى قوله عليه‌السلام : « إنّما يعرف القرآن من خوطب به » (١) فاسد.

أمّا أوّلا : فلعدم دلالة الخبر على أنّ ظواهر القرآن لم يقصد بها إفهام غير من خوطب به ، بل أقصاه الدلالة على أنّ فهم متشابهات القرآن منحصر فيمن خوطب به فإنّه من حديث قتادة ، وتمامه رواه الكليني في الكافي باسناده عن زيد الشحّام قال : « دخل قتادة (٢) ابن دعامة على أبي جعفر عليه‌السلام فقال : يا قتادة أنت فقيه أهل البصرة؟

فقال : هكذا يزعمون ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : بلغني أنّك تفسّر القرآن؟ فقال له قتادة : نعم ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : بعلم تفسّره أم بجهل؟ قال : لا بل بعلم.

فقال له أبو جعفر عليه‌السلام : فإن كنت تفسّره [ بعلم ] فأنت أنت وأنا أسألك ، فقال قتادة : سل ، قال : أخبرني عن قول الله في سبأ ( وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ )(٣) فقال قتادة : ذلك من خرج من بيته بزاد حلال وراحلة وكراء حلال يريد هذا البيت كان آمنا حتّى يرجع إلى أهله.

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : أنشدك بالله يا قتادة هل تعلم أنّه قد يخرج الرجل من بيته بزاد وراحلة وكراء حلال يريد هذا البيت فيقطع عليه الطريق فتذهب نفقته ويضرب مع ذلك

__________________

(١) الكافي ٨ : ٣١١ / ٤٨٥.

(٢) هو من مشاهير محدّثي العامّة ومفسّريهم روى عن أنس بن مالك وأبي الطفيل وسعيد بن المسيّب والحسن البصري.

(٣) سورة سبأ : ١٨.

١١١

ضربة فيها اجتياحه؟ قال قتادة : اللهمّ نعم.

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : ويحك يا قتادة إن كنت قد فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت ، ويحك يا قتادة ذلك من خرج من بيته بزاد وراحلة وكراء حلال يروم هذا البيت عارفا بحقّنا يهوانا قلبه كما قال الله تعالى : ( فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ )(١) ولم يعن البيت فيقول إليه ، فنحن والله دعوة إبراهيم الّتي من هوانا قلبه قبلت حجّته وإلاّ فلا ، يا قتادة فإذا كان كذلك كان آمنا من عذاب جهنّم يوم القيامة ، قال قتادة : لا جرم والله لا فسّرتها إلاّ هكذا.

فقال أبو جعفر عليه‌السلام : ويحك يا قتادة إنّما يعرف القرآن من خوطب به » (٢).

وموضع الدلالة أنّ قول قتادة : « لا بل بعلم » بعد قوله : « نعم » يتضمّن دعوى علمه بجميع القرآن حتّى متشابهاته ، وردّه الإمام عليه‌السلام بقوله : « إنّما يعرف القرآن من خوطب به » بعبارة الحصر من باب قصر الأفراد ، مضافا إلى أنّ ما ذكره قتادة في تفسير الآية المسؤول عنها يكشف عن فهمه منها معاني ثلاث :

أحدها : فهم كون الآية في شأن القاصد لبيت الله الحرام ، وهو ظاهرها بملاحظة السياق والآيات المتقدّمة عليها.

والثانية : أنّه فهم من إطلاق الأمر بالسير إليه كون السير مطلقا غير مشروط بشيء.

والثالثة : أنّه فهم من قوله : « آمنين » الأمان الدنيوي ، وهو السلامة من القطع والقتل وأخذ النفقة.

وقد صوّبه الإمام عليه‌السلام في فهمه الأوّل لمكان أنّه أيضا فسّرها بالقاصد لبيت الله الحرام ، وخطّأه في الأخيرين ببيان أنّهما من المتشابهات المنحصر علمها فيمن خوطب به ، لكون المراد من كلّ من « السير » و « الآمنين » خلاف ظاهره.

أمّا الأوّل : فبإرادة المقيّد بمعرفة حقّ الأئمّة الّتي هي شرط لصحّة الأعمال وقبولها.

وأمّا الثاني : فبإرادة الأمان الاخروي ، وهو الأمان من نار جهنّم يوم القيامة ، ثمّ حصر فهم المتشابهات فيمن خوطب به.

وأمّا ثانيا : فعلى تسليم دلالته على عدم القصد بها إلى إفهام غير من خوطب به ، لا يدلّ على انحصار من خوطب به في النبيّ والوصيّ ، بل يدخل فيه كلّ من كان حاضرا [ في ]

__________________

(١) سورة إبراهيم : ٣٧.

(٢) الكافي ٨ : ٣١١ / ٤٨٥.

١١٢

مجلس الخطاب ، بل ربّما قيل بدخول الغائبين من الموجودين في زمنه ، ويلزم من ذلك حجّيّة الظواهر في حقّ غير النبيّ والوصيّ.

وأمّا ثالثا : فعلى تسليم انحصار من خوطب به في الخبر فيهما فهو لا ينافي الحجيّة لغيرهما إلاّ على القول باختصاصها بمن قصد إفهامه ، وهذا ـ مع أنّ الخبر لا يدلّ عليه ـ إرجاع للكلام إلى المقام الثاني وستعرف بطلانه.

فخلاصة ما قرّرناه من المقتضي أنّ العمل بظواهر الألفاظ في جميع المخاطبات والمحاورات مبنيّ على إحراز مقدّمات :

إحداها : كون المتكلّم قاصدا للّفظ لا ساهيا ولا سابقا لسانه.

وثانيتها : كونه قاصدا للمعنى لا هاذلا ولا قاطعا نظره.

وثالثتها : كونه قاصدا لإفهام المعنى المقصود لا غير.

والأصل في هذه المراتب وإن كان يقتضي العدم ، لأنّ القصد أمر حادث والأمر عدمه ، ولكن ذلك الأصل قد انقلب إلى خلافه لإطباق العقلاء كافّة على حمل كلام كلّ متكلّم على كونه مقصودا به اللفظ والمعنى وإفهام ذلك المعنى ، ومدركه الظهور النوعي الناشئ من الغلبة في جميع المحاورات في جميع الأعصار والأمصار.

فالمقام من تعارض الأصل والظاهر ، غير أنّه أطبق العقلاء وأجمع العلماء على تقديم الظاهر وعدم الالتفات إلى الأصل ، وهذا الظهور الثابت اعتباره ببناء العقلاء وإجماع العلماء أصل ثانوي مخرج عن الأصل الأوّلي.

ثمّ يضمّ إليه مقدّمة اخرى ، وهي أنّ المعنى الّذي قصد المتكلّم إفهامه إمّا أن يكون هو الظاهر أو خلافه ، والثاني باطل للزوم الخطاب بما له ظاهر وإرادة خلافه من غير قرينة وهو غير جائز ، للزوم الإغراء بالجهل وهو قبيح ، وهذا بالنسبة إلى الجنس وهو جنس ظواهر كلام المتكلّمين ، ثمّ ننزّل منه إلى النوع وهو ظواهر كلام الشارع في الكتاب والسنّة ونقرّر الأصل فيه على الوجه المذكور ثمّ ننزّل منه الى الصنف وهو ظواهر كلام الشارع في الكتاب بالخصوص ونقرّر فيه الأصل أيضا على الوجه المذكور ، وهذا هو إحراز المقتضي.

والجواب عن الثاني : وهو دعوى وجود المانع في وجهه الأوّل ، وهو كون المانع هو الإجمال الطارئ لظواهر الكتاب من تطرّق المخالفة والتأويل إليها المعلوم بالإجمال ، بالنقض تارة والحلّ اخرى.

١١٣

أمّا الأوّل : فلأنّه منقوض بالإجمال الطارئ لظواهر السنّة من كثرة تطرّق المخالفة للظاهر والتأويل إليها ، ولا ريب أنّ الإجمال مانع من العمل فيهما معا والفرق تحكّم.

وأمّا الثاني : فلأنّ الإجمال إنّما ينشأ من العلم الإجمالي بوجود مخالفات كثيرة للظواهر ، وهو في كلّ ظاهر يقع محلاّ للابتلاء يوجب الفحص عمّا يخالفه ، لا سقوطه عن الاعتبار وخروجه عن الحجّيّة رأسا ، كما هو الحال في السنّة الّتي يقولون بجواز العمل بها ، فإنّها لا ندّعي في الكتاب جواز العمل به مطلقا ومن غير فحص ، وبعد الفحص يزول الإجمال ويرتفع الإشكال.

وبالجملة لا فرق في ذلك بين الكتاب والسنّة ، وكما أنّ الكتاب لا يجوز العمل به قبل الفحص فكذلك السنّة لا يجوز الأخذ بها إلاّ بعد الفحص ، وكما أنّ الفحص في السنّة إذا حصل بشرائطه مجوّز للعمل بها فكذلك مجوّز له في الكتاب ، والفرق تحكّم بحت لا يليق بأهل الفضل.

فإن قلت : إنّ أثر العلم الإجمالي بوجود المخالفات الكثيرة الموجب للإجمال هو وجوب التوقّف ، وهو لا يرتفع بالفحص لعدم خروج المورد عن طرف العلم الإجمالي ، فالفحص عمّا يوجب مخالفة الظاهر لا يجدي نفعا في العمل بظواهر الكتاب المفروض صيرورتها [ مجملا ] ، كما أنّه لا يجدي نفعا في الأخذ بلفظ تردّد بين معنييه كالمشترك والمجاز المشهور ، وأحد الظاهرين الّذي خرج عن ظهوره بالتعارض الموجب للعلم الإجمالي به كالعامّين من وجه ، فإنّ أثر العلم الإجمالي فيهما وهو وجوب التوقّف لا يرتفع بالفحص الّذي لم يوجد معه القرينة المعيّنة.

قلت : هذا السؤال اشتباه منشؤه الغفلة عن حقيقة محلّ العلم الإجمالي الموجب للإجمال ، فإنّ المسلّم من العلم الإجمالي في المقام إنّما هو حصوله بوجود مخالفات كثيرة لظواهر الكتاب في الأخبار الّتي بأيدينا ، فبعد الفحص عند الابتلاء بظاهر وعدم وجود ما يخالفه ـ ولو ظنّا ـ خرج المورد عن طرف العلم الإجمالي ، ولو بقي احتمال المخالفة ينفى ذلك الاحتمال بالأصل ، ولا يمكن ذلك قبل الفحص لمكان العلم الإجمالي المانع من العمل بالأصل قبل الفحص ، وبعده يرتفع المانع لخروج المورد عن طرف العلم الإجمالي.

نعم لو فرض حصوله بوجود المخالفات في الأخبار الّتي ذهبت عنّا ، أو حصوله بوجودها في كلّ من الأخبار الّتي بأيدينا والّتي ذهبت عنّا ، أو حصوله بوجودها في الواقع

١١٤

مردّدا بين ما بأيدينا وما ذهب عنّا ، فدعوى عدم جدوى الفحص في زوال العلم الإجمالي وارتفاع أثره حقّ لا سترة عليه ولا يمكن الاسترابة فيه ، كما لا يخفى على المتأمّل.

وعلى أحد هذه التقادير يصحّ تنظير ما نحن فيه بالفحص في اللفظ المتردّد بين المعنيين والظاهرين المتعارضين علم إجمالا بخروج أحدهما عن ظهوره ، بل الفحص على أوّل التقادير غير ممكن ، لا أنّه غير مجد كما هو واضح ، ولكن كون العلم الإجمالي المفروض في المقام على أحد هذه الوجوه غير واضح ، بل محلّ منع لما ذكرناه من أنّ المسلّم منه كونه حاصلا على الوجه الأوّل لا غير ، وحينئذ فقد يتأتّى زوال العلم الإجمالي وارتفاع أثره بأن وجد بالفحص مخالفات للظاهر في جملة من الظواهر ، بحيث خرجنا في هذه الجملة عن مقتضى الظاهر بالحمل على خلافه عملا بما يخالفه من الأخبار ، وبذلك يزول العلم الإجمالي ويرتفع أثره بالقياس إلى بواقي الظواهر ، لعدم العلم بعده بوجود مخالفات في الواقع زائدة على ما عثرنا عليه بالفحص بالقياس إلى الجملة المذكورة ، فتأمّل.

وأمّا الجواب عن دعوى وجود المانع باعتبار الأخبار المانعة من الاستناد إلى الكتاب مستقلاّ والناهية عن تفسير القرآن بالرأي ، فيستدعي التعرّض لذكرها وهي روايات كثيرة بالغة حدّ التواتر معنى ، بل متجاوزة في الكثرة عن حدّ التواتر وقد جمعها الشيخ الحرّ العاملي قدس‌سره في قضاء الوسائل وقد التقط شيخنا قدس‌سره في كتابه منها ما هو اظهرها دلالة.

مثل النبوي « من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار » (١).

وفي رواية اخرى « من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار » (٢).

وفي نبوي آخر « من فسّر القرآن برأيه فقد افترى على الله الكذب » (٣).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام « من فسّر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر ، وإن أخطأ خرّ أبعد من السماء » (٤).

وفي النبوي العامّي « من فسّر القرآن برأيه ، فأصاب فقد أخطأ » (٥).

__________________

(١) عوالي اللآلي ٤ : ١٠٤ / ١٥٤.

(٢) الوسائل ٢٧ : ٢٠٤ / ٧٦ ، ب ١٣ من أبواب صفات القاضي.

(٣) الوسائل ٢٧ : ١٩٠ / ٣٧ ، ب ١٣ من أبواب صفات القاضي.

(٤) الوسائل ٢٧ : ٢٠٢ / ٦٦ ، ب ١٣ من أبواب صفات القاضي.

(٥) الوسائل ٢٧ : ٢٠٥ / ٧٩ ، ب ١٣ من أبواب صفات القاضي.

١١٥

وعن مولانا الرضا عليه‌السلام عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إنّ الله عزّ وجلّ قال في الحديث القدسي : ما آمن بي من فسّر كلامي برأيه ، وما عرفني من شبّهني بخلقي ، وما على ديني من استعمل القياس في ديني » (١).

وعن تفسير العيّاشي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « من حكم برأيه بين اثنين فقد كفر ، ومن فسّر برأيه آية من كتاب الله فقد كفر » (٢).

وعن مجمع البيان : « أنّه قد صحّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن الأئمّة القائمين مقامه أنّ تفسير القرآن لا يجوز إلاّ بالأثر الصحيح والنصّ الصريح » (٣).

وقوله : « ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن ، إنّ الآية تكون أوّلها في شيء ، وآخرها في شيء ، وهو كلام متصل ينصرف إلى وجوه » (٤).

وفي مرسلة شبيب بن أنس عن أبي عبد الله عليه‌السلام إنّه قال لأبي حنيفة : « أنت فقيه أهل العراق؟ قال : نعم ، قال : فبأيّ شيء تفتيهم؟ قال : بكتاب الله وسنّة نبيّه ، قال : نعم ، قال : يا أبا حنيفة لقد ادّعيت علما ، ويلك ما جعل الله ذلك إلاّ عند أهل الكتاب الّذين أنزل عليهم ، ويلك ولا هو إلاّ عند الخاصّ من ذرّية نبيّنا [ محمّد ] صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما ورّثك الله من كتابه حرفا » (٥).

وفي رواية زيد الشحّام قال : دخل قتادة على أبي جعفر عليه‌السلام « فقال له : أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال : هكذا يزعمون » وقد تقدّم (٦) تمام هذا الحديث.

وقيل في وجه الاستدلال بها : أنّ حاصله يرجع إلى أنّ منع الشارع يكشف عن انّ مقصود المتكلّم في الكتاب ليس تفهيم مطالبه بنفس هذا الكلام ، فليس من قبيل المحاورات العرفيّة.

فالجواب عنها تارة : بمنع دلالة الجملة ، واخرى : بمنع الدلالة في كلّ واحد واحد ، وثالثة : بالمعارضة.

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٤٥ / ٢٢ ، ب ١٣ من أبواب صفات القاضي.

(٢) تفسير العيّاشي ١ : ١٨ / ٦ ، والوسائل ٢٧ : ٢٠٣ / ٦٧.

(٣) مجمع البيان ١ : ١٣ ، والوسائل ٢٧ : ٢٠٤ / ٧٨ ، ب ١٣ من أبواب صفات القاضي.

(٤) الوسائل ٢٧ : ١٩٢ / ٤١ ، ب ١٣ من أبواب صفات القاضي.

(٥) الوسائل ٢٧ : ٤٧ / ٢٧ ، ب ٦ من أبواب صفات القاضي.

(٦) الكافي ٨ : ٣١١ / ٤٨٥.

١١٦

أمّا الطريق الأوّل : فهو جواب إجمالي شامل للجميع ، وهو أنّ هذه الأخبار ـ بجملتها على ما يشهد به سياقاتها ، ويرشد إليه الإشارات الواقعة فيها ـ مسوقة للمنع من الاستناد إلى الكتاب على سبيل الاستقلال ، من دون فحص عن معارضاته في سائر الأدلّة ولا سيّما أخبار الأئمّة عليهم‌السلام وبياناتهم ، ونحن لا نجوّز العمل بظواهر الكتاب على هذا الوجه بل نعتبر في العمل بها الفحص عن المعارض بمراجعة أخبار أئمّتنا ، فإن عثرنا فيها على ما يخالف ظاهرا من ظواهر الكتاب ، إمّا بكونه مخصصا للعامّ الكتابي ، أو مقيّدا لمطلقه ، أو كاشفا عن تطرّق نسخ إليه ، أو قرينة على التجوّز فيه وكان جامعا لشرائط الحجّيّة نأخذ به ونخرج من جهته عن ظاهر الكتاب ونحمله على خلافه ممّا يساعد عليه البيان الموجود في الأخبار ، على ما نطق خبر الثقلين الحاكم بعدم افتراقهما إلى يوم القيام ، ومعناه أنّ كلّما هو في كتاب الله فهو موجود عند العترة الطاهرة ، وكلّما هو موجود عندهم فهو غير خارج عن الكتاب ، ومن ثمّ لو كان ما في الكتاب عامّا وما عندهم خاصّا مخالفا لعموم ذلك العامّ يجب الأخذ به ، لأنّه ينهض كاشفا عن عدم اعتبار عمومه حين النزول ، ومن هنا لا نقول بوجوب الاستماع أو الصمت عند قراءة القرآن على الإطلاق في جميع الأزمان والأحوال عملا بعموم قوله عزّ من قائل : ( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا )(١) لما ورد في أخبار أئمّتنا من تفسيره بأنّ المراد به قراءة الإمام العادل في الصلاة لا مطلقا ، وإن لم نعثر على ما يخالفه نعمل به وإن لم نعثر فيها على نصّ يوافقه ، فإنّ وجود نصّ يوافق ظاهر الكتاب ليس شرطا في العمل به عندنا ، نعم ما يخالفه مانع من العمل به ، خلافا للأخباريّين لجعلهم النصّ الموافق شرطا أيضا ، فموضع الخلاف بين المجتهدين وبينهم الظواهر الّتي لم يوجد في أخبار أئمّتنا ما يخالفها ولا ما يوافقها.

نعم الفريقان مطبقان على عدم استقلال الكتاب بإفادة المطالب والأحكام في الجملة ، خلافا منهما للعامّة لجعلهم الكتاب مستقلاّ في الإفادة ، وعدم التفاتهم إلى أخبار أئمّتنا ولا بياناتهم الموافقة أو المخالفة له ، فالطرائق في العمل بالكتاب ثلاثة :

الاولى : طريقة المخالفين وهي زعمهم كون الكتاب مستقلاّ بالإفادة ، غير مرتبط بشيء من أخبار أئمّتنا وبياناتهم لا شرطا ولا مانعا.

والثانية : طريقة الأخباريّين من أصحابنا وهي قولهم بعدم كون الكتاب مستقلاّ بالإفادة ،

__________________

(١) سورة الأعراف : ٢٠٤.

١١٧

لارتباطه بأخبار الأئمّة بكون ما يوافق ظاهره شرطا في العمل به وما يخالفه مانعا منه.

والثالثة : طريقة المجتهدين من أصحابنا من عدم استقلال الكتاب بالإفادة في الجملة ، باعتبار كون ما يخالف ظاهره من أخبار الأئمّة مانعا مع عدم كون ما يوافقه شرطا.

والأخبار المذكورة المستدلّ بها واردة في ردّ الطريقة الاولى ، لا لإثبات الطريقة الثانية ، فلا تنافي الطريقة الثالثة.

وأمّا الطريق الثاني : فلعدم اندراج الظواهر بالذات في مورد شيء من الأخبار المذكورة ، أمّا الأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي على اختلاف مضامينها فلوجهين :

الأوّل : عدم كون العمل بالظواهر المتضمّن لحمل كلّ لفظ على معناه الظاهر ـ ظهورا أوّليّا كالحقيقة ، أو ثانويّا كالمجاز مع القرينة ـ من التفسير ، وعدم صدق التفسير بمفهومه اللغوي عليه ، فإنّه تفعيل من الفسر يقال : فسرت الشيء ، من باب ضرب بيّنته وأوضحته ، والتشديد مبالغة ، فهو والمشدّد بمعنى ، وقيل : مقلوب السفر ، يقال : سفرت المرأة. عن وجهها ، إذا كشفت ، وبمعناه : اسفرت والصبح. إذا أسفر ، أي إذا ظهر. فالتبيين والإيضاح والكشف بمعنى وكذلك البيان بمعنى التبيين ، ويعتبر في الجميع سبق خفاء ، والكشف أصرح ممّا عداه في ذلك ، ولذا ورد في الاستعمال لرفع الغطاء والستر عن الشيء المستور المغطّى ، ومنه : كشفت عن وجهها ، ولأجل ذا كلّه فسّر التفسير « بكشف المراد عن اللفظ المشكل » كما في القاموس (١) والمجمع ـ والمشكل من أشكل الأمر التبس قاله فيهما ، فاللفظ المشكل هو اللفظ الملتبس فيه المعنى المراد لإجمال أو تأوّل خال عن القرينة ، وكشف المراد إيضاح المعنى المراد ، وتعديته بكلمة المجاوزة لتضمينه معنى رفع الالتباس عن اللفظ ـ أو بكشف المغطّى ، كما نقله الطبرسي في مجمع البيان (٢) وصاحب القاموس (٣) أيضا ، والمغطّى الشيء المستور بالغطاء وهو الستر وكشفه رفع غطائه ، وهو في معنى اللفظ المحمول عليه عبارة عن رفع غطائه وستره الناشئ من الإجمال أو التأويل بلا قرينة.

فالتفسير بكلا المعنيين لا محلّ له إلاّ المتشابهات ، فلا يندرج فيه العمل بالظواهر الّذي هو عبارة عن الأخذ بمعاني الألفاظ الواضحة الدلالة عليها ، بعد الفحص عن معارضاتها اعتمادا على ما فيها من الأوضاع لغويّة أو عرفيّة أو شرعيّة ، أو على ما معها من القرائن

__________________

(١) قاموس المحيط ٢ : ١١٠ مادّة الفسر. مجمع البحرين ٢ : ٤٠١ مادّة الفسر.

(٢) مجمع البيان ١ : ١٣.

(٣) قاموس المحيط ٢ : ١١٠ مادّة الفسر.

١١٨

حاليّة أو مقاليّة أو عقليّة ، وهذا كما ترى لا يصدق عليه التفسير بشيء من المعنيين ، إذ لا خفاء ولا مستوريّة في شيء ممّا يقتضيه وضع اللفظ ، ولا ما يساعد عليه القرينة المعتبرة الموجودة مع اللفظ.

وبالجملة لا خفاء ولا التباس ولا غطاء ولا ستر في ظاهر اللفظ الّذي يقتضيه وضعه أو القرينة المعتبرة الموجودة معه ليكون الأخذ به والحمل عليه كشفا بمعنى رفع هذه الامور.

وإن شئت فاستوضح ذلك من حمل « الأسد » في قول القائل : « رأيت أسدا » شفاها أو كتبا على المفترس ، اعتمادا على وضعه له وعملا بأصالة الحقيقة فيه ، وفي قول القائل : « رأيت أسدا يرمي » كذلك على الرجل الشجاع ، اعتمادا على قرينة « يرمي » وتعويلا على ظهوره في رمي السهم ، لا يقال له التفسير ، وكذلك العبد إذا وجد في كتاب مولاه إليه أنّه أمره بشيء ونهاه عن شيء ، فأخذ بظاهرهما وأمثتلهما فلا يقال : أنّه فسّر أمر مولاه أو نهيه بكذا ، من غير فرق فيه بين كون لسانه مع مولاه عربيّا أو فارسيّا أو غيرهما.

ولا ينتقض ما ذكرناه من عدم صدق التفسير على العمل بالظواهر بالترجمة للألفاظ العربيّة الّتي يحتاج إليها العجمي القح ، إذ الترجمة بيان للمعاني المرادة من ألفاظ لغة على حسبما يقتضيه أوضاع تلك الألفاظ في هذه اللغة للجاهل بها ، وهذا يتأتّى من كلّ عارف باللغة عالم بأوضاع ألفاظها إماما كان أو غيره ، بخلاف التفسير الّذي يحتاج إلى بيان الإمام من حيث إنّه من الراسخين في العلم ، فإنّه جهة زائدة على معرفة اللغة والعلم بأوضاع ألفاظها تنشأ عن جهالة المحتاج بالمعنى المراد في المتشابهات لإجمال أو تأويل بلا قرينة ، وإن كان من أهل اللغة العالمين بأوضاع ألفاظها ، وبيانه لا يتأتّى إلاّ ممّن أوقفه الله سبحانه على مراداته في المتشابهات من المجملات والمؤوّلات.

ومن هنا أمكن لك التفكيك بين الترجمة ـ وهو بيان المرادات على حسبما يقتضيه أوضاع ألفاظ لغة العرب ـ والتفسير ـ وهو بيان المرادات على حسبما أوقفه الله سبحانه عليها ـ بأنّ الأوّل أخصّ محتاجا إلى البيان وهو العجمي القح وأعمّ مبيّنا للمراد أعني كلّ من يعرف اللغة العربيّة ، والثاني أعمّ محتاجا إلى البيان أعني كلّ من عدا الإمام ممّن لا يفهم المتشابهات عجميّا كان أو عربيّا وأخصّ مبيّنا أعني الإمام مبيّنا خاصّة.

الثاني : منع كونه تفسيرا بالرأي ـ إن سلّمنا صدق التفسير عليه ـ فإنّ التفسير بالرأي عبارة من أن يذكر الإنسان لمتشابهات القرآن معنى من عند نفسه ، أو بمقتضى ميل نفسه وهوى طبعه.

١١٩

وينزّل اللفظ المشكل المتشابه عليه من دون أن يستند فيه إلى قرينة معتبرة ، ولا إلى بيان من أهل بيت العصمة ، كما يكشف عن إرادة هذا المعنى قول مولانا الصادق عليه‌السلام في حديث إسماعيل بن جابر : « وإنّما هلك الناس في المتشابه ، لأنّهم لم يقفوا على معناه ، ولم يعرفوا حقيقته ، فوضعوا له تأويلا من عند أنفسهم بآرائهم ، واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء ، ونبذوا قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وراء ظهورهم » ... إلى آخره (١).

ونحوه قول مولانا أبي جعفر عليه‌السلام في حديث قتادة المتقدّم : « ويحك يا قتادة إن كنت إنّما فسّرت من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت وإن كنت أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت ... » إلى آخره (٢).

ومن الأعلام من أجاب عن الاستدلال على الأخبار المانعة من التفسير بالرأي ـ مضافا إلى ما ذكر على تقدير كون موردها الظواهر ـ بما ملخّصه : احتمال كون المراد منها منع من ترك في الظواهر متابعة الوضع فيها ، ورفع اليد عن الاصول والقواعد المعمولة لتشخيص الأوضاع أو المرادات ، من أصالة الحقيقة وأصالة عدم القرينة وعدم التخصيص وعدم التقييد وعدم الإضمار وعدم النقل وعدم الاشتراك وغير ذلك ، وأبدع من عند نفسه وبمقتضى طبعه وذوقه للّفظ الظاهر ـ مفردا كان أو مركّبا ـ معنى مخالفا للوضع والاصول والقواعد المذكورة ، ونزّله عليه فإنّ هذا هو الممنوع ، لا حمل كلّ ظاهر على معناه الظاهر بعد إعمال ما تعتبر في إثبات الوضع أو تشخيص من الاصول والقواعد » (٣).

وفي معنى الأخبار المانعة من التفسير بالرأي ما تقدّم في عدادها من قوله عليه‌السلام : « من قال في القرآن بغير علم ... الخ » (٤) فإنّ القول في القرآن بغير علم بقرينة ما في رواية قتادة المتقدّمة من قول أبي جعفر عليه‌السلام : « بعلم تفسّره أم بجهل؟ » وقول قتادة : « لا ، بل بعلم » عبارة عن التفسير بالرأي الّذي مورده المتشابهات ، إذ المتشابه هو الّذي يحتاج القول فيه إلى العلم بالمراد المستند إلى بيان أهل بيت العصمة عليهم‌السلام ، فيجري فيه الوجهان المتقدّمان أيضا.

وعلى تقدير تسليم كون مورده الظواهر ، يجري فيه الوجه الثالث الّذي ذكره بعض الأعلام.

وأمّا الطريق الثالث : فبالمعارضة ، ونعني به بيان ما يصرف الأخبار المانعة من الاستناد

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٢٠٠ / ٦٢ ، ب ١٣ من أبواب صفات القاضي.

(٢) الكافي ٨ : ٣١١ / ٤٨٥.

(٣) قوانين الاصول ١ : ٣٩٨.

(٤) الوسائل : ٢٧ / ٢٠٤ / ٧٦ ، ب ١٣ من أبواب صفات القاضى.

١٢٠