تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٥٥٥

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

وبعد فالقول في نبذة ممّا يتعلّق بالأدلّة وما يستتبعها من القطع والظنّ من حيث الدليليّة والحجّيّة وعدمهما ، وينبغي قبل الخوض في أصل المطلب رسم مقدّمتين من باب المبادئ أو لتعين في زيادة البصيرة في البحث.

المقدّمة الاولى

في شرح ماهيّة الدليل والحجّة ببيان المهمّ ممّا يتعلّق بهذا المقام ، فنقول : إنّ الدليل والحجّة متّحدان بالذات متغايران بالاعتبار ، لأنّهما بحسب الاصطلاح اسمان لشيء واحد ذي جهتين :

إحداهما : كونه بحيث يهتدى به الإنسان إلى مطلوب خبري ، ويتوصّل به إلى مجهول تصديقي.

واخراهما : كونه بحيث يغلب به الإنسان على خصمه ، ويلزمه على الإذعان بالمطلوب الخبري ، فبالاعتبار الأوّل يقال : « له الدليل » لمناسبة أنّه من الدلالة ، وهي لغة الهداية والإرشاد ، فالدليل هو الهادي والمرشد.

وبالاعتبار الثاني يقال له : « الحجّة » لمناسبة أنّ الحجّة لغة الغلبة ، فهو ما يحتجّ به الإنسان على الخصم ويغلب عليه ، تسمية للسبب باسم المسبّب ، فهما مقولان على الشيء الواحد بالتساوي لا الترادف ، لمكان ما بينهما من التغاير بالاعتبارين ، ولو اكتفينا في الترادف بمجرّد الاتّحاد في المفهوم والمصداق ، ولم نعتبر فيه اتّحاد الجهة والاعتبار كانا مترادفين.

ثمّ إنّ ذلك الشيء الواحد عرّف عند الاصوليّين ب « ما يتوصّل بصحيح النظر فيه إلى

٣

مطلوب خبري » ، وقد يزاد قيد « الإمكان » ، فيقال : « ما يمكن التوصّل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري » ، بتخيّل أنّه لولاه لم يتناول التعريف الأدلّة المغفول عنها ، وفيه نظر.

وعند المنطقيّين : « بأنّه قولان فصاعدا يلزمهما لذاتهما قول ثالث » والمراد بالقول الثالث هو النتيجة المعبّر عنها في التعريف الأوّل بالمطلوب الخبري ، واعتبار القولين فصاعدا لأنّ الإنتاج الّذي هو الدلالة بمعنى الهداية والغلبة لا يتأتّى بل لا يمكن بأقلّ من مقدّمتين يطلب في إحداهما إثبات لازم لموضوع المطلوب وهو الأصغر ، وجعل ذلك اللازم في اخراهما ملزوما لمحموله الّذي هو الأكبر.

ولأجل ذا وجب اشتمال إحدى المقدّمتين على موضوع المطلوب وتسمّى « الصغرى » واخراهما على محموله وتسمّى « الكبرى » ، ولقد اشير إلى اعتبار التعدّد على الوجه المذكور في التعريف الأوّل بعبارة « النظر » ، نظرا إلى كونه عبارة عن ترتيب امور معلومة.

والأصل في اشتمال المقدّمتين على موضوع المطلوب ومحموله ، أنّ التوصّل بهما إلى المطلوب لا يتأتّى إلاّ بأن يكون بين موضوع المطلوب ومحموله أمر مشترك يكون لازما للأوّل وملزوما للثاني ، فتحرز الصغرى من ملاحظة كونه لازما للأوّل ، والكبرى من ملاحظة كونه ملزوما للثاني.

وقد جرت العادة بتسمية ذلك الأمر المشترك ـ لمجرّد كونه مشتركا بينهما على الوجه المذكور ـ بحدّ الوسط ، وقد يعبّر بالوسط ، أو الأوسط كالمتغيّر فيما بين العالم والحادث في دليل حدوث العالم ، فإنّه لازم للعالم وملزوم للحادث.

هذا إذا كان تأليف القياس بطريق الشكل الأوّل ، وإلاّ فقد يكون الأمر المشترك لازما لكلّ من الموضوع والمحمول كما في الشكل الثاني ، أو ملزوما لهما كما في الشكل الثالث ، أو ملزوما للأوّل ولازما للثاني كما في الشكل الرابع.

وبما بيّنّاه علم أنّ قضيّة الاعتبار المذكور في الأمر المشترك إذا كان تأليف القياس بطريق الشكل الأوّل أن يكون الأكبر لازما للأوسط والأوسط لازما للأصغر ، ولأجل ذلك يتأتّى الإنتاج ويحصل العلم بالنتيجة ، لضابطة أنّ لازم اللازم لازم ، وملزوم الملزوم ملزوم ، وكأنّه من ثمّ يقال : بأنّ الشكل الأوّل بديهي الإنتاج.

وكيف كان فالعمدة من أجزاء الدليل ، بل الجزء الأعظم منه إنّما هو الأمر المشترك المذكور المسمّى وسطا. ومن هنا شاع في لسانهم ـ ولا الاصوليّين ـ إطلاق الدليل على

٤

الوسط تسمية للجزء الأعظم باسم الكلّ ، فيقال : إنّ دليل حدوث العالم هو التغيّر.

ومن ذلك أيضا إطلاق الدليل عند الاصوليّين على الأدلّة الأربعة ، ولشيوع هذا الإطلاق في لسان الاصوليّين قد يتوهّم أنّ الدليل عندهم اصطلاح في المفرد ، وليس كما توهّم بل هو مجرّد شيوع إطلاق مجازا ، وقد يطلق الوسط أيضا على الدليل تسمية للكلّ باسم جزئه الأعظم ، كما يقال : هذه الدعوى تحتاج إلى وسط ، أي إلى دليل ، وهذا الإطلاق أيضا شائع إلاّ أنّ العكس أشيع.

وبالتأمّل ـ في جميع ما قرّرناه ـ يتبيّن أنّ النتيجة بعينها مندرجة في كلّ من الصغرى والكبرى ، وأنّ العلم بها مندرج في كلّ من العلم بالصغرى والعلم بالكبرى ولكن اندراجا إجماليّا.

فالفرق بين العلم بنفسها الّذي يستحصل بالنظر ، والعلم بها في ضمن الصغرى أو الكبرى إنّما هو بالإجمال والتفصيل ، وذلك أنّ الحكم على العالم بكونه متغيّرا مثلا يتضمّن الحكم عليه بجميع لوازم التغيّر ومنها الحدوث ، فقولنا : « العالم متغيّر » يتضمّن قولنا : « العالم حادث » ، وأنّ الحكم بالحادث على المتغيّر يتضمّن الحكم به على جميع ملزومات المتغيّر ومنها العالم ، فقولنا : « كلّ متغيّر حادث » أيضا يتضمّن قولنا : « العالم حادث » ولكن تضمّنا إجماليّا أيضا.

فالعلم بحدوث العالم في ضمن قولنا : « العالم متغيّر » وقولنا : « كلّ متغيّر حادث » إجمالي ، إمّا لإجمال في محمول القضيّة ، أو لإجمال في موضوعها ، وإنّما يكون تفصيليّا حيث لم يكن معه إجمال في موضوع القضيّة ولا في محمولها.

ومن ذلك يعلم أنّ إنتاج المقدّمتين للنتيجة عبارة عن صيرورة العلم الإجمالي المندرج في كلّ منهما علما تفصيليّا ، وهو العلم بثبوت الأكبر بعنوان أنّه أكبر للأصغر بعنوان أنّه أصغر ، أعني العلم بثبوت الحادث بعنوان أنّه حادث للعالم بعنوان أنّه عالم ، لا العلم بثبوت الحادث بعنوان أنّه متغيّر للعالم ، ولا العلم بثبوت الحادث بعنوان أنّه حادث للعالم بعنوان أنّه متغيّر.

ثمّ بالتأمّل أيضا يعلم أنّ الحجّة بالمعنى المرادف للدليل لا تطلق على القطع ولا على الظنّ ، كما لا يطلق عليهما الدليل ، ولا يلحقهما وصف الحجّيّة أيضا كوصف الدليليّة ، لأنّ القطع أو الظنّ ما يستحصل من الدليل ، والحجّة اسم للسبب فلا يطلق على المسبّب الحاصل منها.

نعم يطلق على كلّ منهما الحجّة بمعنى آخر من الحجّيّة بمعنى وجوب متابعته ، وقد

٥

يعبّر عنه بوجوب العمل به ، وهو عبارة عن ترتيب آثار الواقع على متعلّق القطع أو الظنّ وهو المقطوع أو المظنون به ، والحجّيّة بمعنى وجوب المتابعة ليس بعين الحجّيّة بمعنى الدليليّة ولا من لوازمها ، لأنّ النسبة بينهما بحسب المورد عموم من وجه.

فالافتراق من الحجّيّة بمعنى الدليليّة في أحد المتعارضين حيث يرجّح عليه المعارض الآخر مثلا ، ومن الحجّيّة بمعنى وجوب المتابعة في القطع والظنّ ، ومن موارد اجتماعهما ظواهر الكتاب مثلا ، فيقال : « إنّها حجّة » قبالا لمن أنكر الحجّيّة كالأخباريّة ، فيمكن أن يراد بها الدليليّة ، في مقابلة من ينكر الحجّيّة بدعوى طروّ الإجمال لها كما عليه فرقة منهم ، كما يمكن أن يراد بها وجوب المتابعة ، في مقابلة من ينكر الحجّيّة بدعوى منع الشارع من العمل بها كما عليه طائفة منهم.

ثمّ قد ذكرنا سابقا أنّ « الدليل » يطلق شائعا على الأوسط وعلى قياسه « الحجّة » ، وهل يصحّ إطلاقها بهذا المعنى على القطع؟

قد يقال : بأنّ كون القطع حجّة غير معقول ، وعلّل ـ بما ملخّصه ـ أنّ الحجّة عبارة عن الوسط الّذي به يحتجّ على ثبوت الأكبر للأصغر ، فهي ممّا يوجب القطع بالمطلوب فلا تطلق على نفس القطع ، وهذا هو الّذي يساعد عليه ظاهر النظر ، لما عرفت من أنّ الحجّة بهذا المعنى عبارة عن الأمر المشترك بين موضوع المطلوب ومحموله ، والقطع إذعان للنسبة بينهما فيتغايران.

ولكنّ الّذي يقتضيه دقيق النظر هو أن يقال : بأنّ ذلك مبنيّ على دخول القطع في موضوع الحكم المقطوع به ، ووقوعه جزءا لذلك الموضوع ، فرجع الكلام إلى أنّ الأحكام الشرعيّة المثبتة بالأدلّة القطعيّة هل تثبت لموضوعاتها الواقعيّة ، أو لموضوعاتها المعلومة بالتفصيل؟ بدعوى دخول العلم في وضع ألفاظ موضوعات الأحكام ، أو بدعوى انصراف ألفاظها في خطابات الشرع إلى المعلومات بالتفصيل ، أو بدعوى قيام دليل من خارج على دخول العلم في الموضوع بحسب الجعل الشرعي.

ففي نحو قوله عزّ من قائل ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ) الخمر (١) إمّا أن تكون الحرمة المقطوع بها من جهة الآية ثابتة للخمر الواقعي ، أو للخمر المقطوع به بإحدى الاعتبارات الثلاث.

فعلى الأوّل يقال ـ في الاستدلال على حرمة خمر خارجي ـ : هذا خمر ، وكلّ خمر

__________________

(١) آية في سورة المائدة : ٣ وفي المصحف الشريف : i « حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ... » فما في المتن سهو من قلمه الشريف.

٦

حرام ، فهذا حرام.

وعلى الثاني يقال : هذا مقطوع الخمريّة ، وكلّ مقطوع الخمريّة حرام ، فهذا حرام ، ويظهر ثمرة الفرق فيما جهل خمريّته.

فعلى الوجه الثاني لا يثبت له الخمريّة لانتفاء جزء موضوع الحرمة ، وعلى هذا الوجه يصحّ إطلاق « الحجّة » بمعنى الوسط على القطع ، لفرض وقوعه وسطا في الدليل المذكور ، باعتبار دخوله في موضوع الحكم الشرعي ، بخلافه على الوجه الأوّل.

وأمّا تحقيق المقام وترجيح أحد الوجهين فموكول إلى مباحث اخر ، قد فرغنا عن إثبات ما هو الحقّ فيها ، بمنع دخول العلم في مسمّيات الألفاظ بحسب الوضع ، ومنع انصراف ألفاظها في الخطابات إلى المعلومات ، ومنع قيام دليل على جزئيّة العلم لموضوعات الأحكام على الوجه الكلّي.

وحيث ثبت ذلك بدليل خاصّ ، فلا إشكال في إطلاق « الحجّة » على القطع في خصوص هذا المورد لا مطلقا والتعرّض لتعيينه خارج عن وظيفة الفنّ.

وأمّا الظنّ ففي كونه حجّة بمعنى الوسطيّة ممّا لا محيص عن الالتزام به ، أخذا بموجب أدلّة حجّيّة الظنّ المطلق في الأحكام ، أو هي مع الموضوعات مطلقا على القول بالتعميم.

فعلى الأوّل : يقال ـ عند قيام دليل ظنّي بحرمة الخمر مثلا ـ : الخمر مظنون الحرمة ، وكلّ مظنون الحرمة يجب اجتنابه ، فالخمر يجب اجتنابه.

وعلى الثاني : يقال ـ عند قيام أمارة ظنّيّة بخمريّة شيء ـ : هذا مظنون الخمريّة ، وكلّ مظنون الخمريّة يجب اجتنابه ، فهذا يجب اجتنابه.

فإنّ هذه مخرجة عن أصالة حرمة العمل بالظنّ ، ومخصّصة لأدلّتها الّتي منها الآيات الناهية عن اتّباع الظنّ ، ومفاد [ ه ] وجوب متابعة الظنّ في الأحكام ، أو هي مع موضوعاتها إلاّ ما خرج بالدليل ، وقضيّة وجوب متابعته وقوعه وسطا في الدليل المستدلّ به ، لترتيب الأحكام المترتّبة على متعلّقه كوجوب الاجتناب في المثالين.

لكن ينبغي أن يعلم أنّ لمتابعة الظنّ معنيين :

أحدهما : متابعته على أنّه طريق مجعول من الشارع إلى الواقع ، فوجوب المتابعة حينئذ يراد به وجوب ترتيب أحكام الواقع على المظنون ، فمع مصادفته الواقع كان للمكلّف أجران ، أحدهما ما يترتّب على امتثال الحكم الواقعي ، والآخر ما يترتّب على سلوك هذا

٧

الطريق من حيث كونه إطاعة وانقيادا للمولى.

وثانيهما : متابعته على أنّه من حيث هو هذه الصفة وجه واعتبار يتبعه الحكم الشرعي الواقعي ، على معنى حدوث جعله من الشارع عند طروّ هذه الصفة ، والصحيح هو الأوّل لكون الثاني من التصويب الباطل ، وسيأتي تفصيل هذا المقام مشروحا في محلّه.

وبالجملة الظنّ على أوّل المعنيين واسطة لترتيب أحكام الواقع على متعلّقه ، وعلى ثانيهما واسطة لإثبات حدوث متعلّقه ، أو حدوث متعلّق متعلّقه حكما واقعيّا ، فالظنّ على التقديرين حجّة بمعنى الوسطيّة.

المقدّمة الثانية

فيما يتعلّق بالقطع والظنّ من حيث الطريقيّة والموضوعيّة.

فليعلم أنّ الطريق بحسب الأصل هو السبيل الّذي يوصل إلى الشيء ، فطريق بغداد هو السبيل الموصل إلى الشيء ، ثمّ غلّب في الاصطلاح على الدليل الّذي يتوصّل به إلى مطلوب خبريّ ، والتوصّل إليه عبارة عن القطع أو الظنّ به الّذي يحصل بالدليل.

وحاصل معناه انكشاف الواقع في نظر القاطع أو الظانّ ، فالقطع انكشاف لا يحتمل معه الخلاف ، والظنّ انكشاف يحتمل معه خلاف الواقع ، ولأجل ذا توسّع في الاستعمال واطلق الطريق على نفس القطع والظنّ ، فيقال : إنّ القطع طريق إلى الواقع.

فحاصل معنى طريقيّة القطع ـ مثلا ـ بالنسبة إلى المقطوع به انكشاف الواقع فيما هو من قبيل الموضوع كالخمر مثلا ، أو الحكم وضعا كنجاسته ، أو تكليفا كحرمته.

وبالتأمّل : في ذلك يظهر أنّ الطريقيّة بهذا المعنى حاصل للقطع بنفسه ، وليست بجعل الشارع بل ليست قابلة للجعل ، لأنّ الشيء إنّما يقبل الإثبات إذا كان قابلا للنفي ، وطريقيّة القطع إلى الواقع ليست قابلة للنفي لأدائه إلى التناقض ، لأنّه يرجع إلى أن يقال : إنّ انكشاف الواقع ليس بانكشاف الواقع ، بل يرجع ذلك إلى نفي الواقع نفسه ، فالقطع بخمريّة شيء أو نجاسته أو حرمته بالمعنى المذكور حكم عليه بأنّه خمر أو نجس أو حرام ، ونفي طريقيّة القطع إليه حكم عليه بأنّه ليس خمرا أو نجسا أو حراما ، ولا ريب في تناقض الحكمين.

ولذا يقال : لا يجوز للشارع أن ينهى عن العمل به لأنّه مستلزم للتناقض ، والسرّ فيه أنّ القطع بخمريّة شيء مثلا يوجب أن يترتّب عليه جميع آثار الخمر الواقعي الّتي منها وجوب

٨

الاجتناب عنه ، ونهي الشارع عن العمل به نفي لوجوب الاجتناب عنه ، ولا ريب في مناقضة « لا يجب الاجتناب عنه » لـ يجب الاجتناب عنه ».

أو أنّ انكشاف الواقع في الشيء يقتضي وجوب ترتيب آثار الواقع على المنكشف ، ونهي الشارع عن العمل به يتضمّن نفي وجوب ترتيب آثار الواقع على المنكشف وهما متناقضان.

وبالتأمّل في ذلك يعلم أنّ وجوب ترتيب آثار الواقع على المقطوع به أيضا ليس بجعل الشارع بل هو حكم عقلي ، لأنّه إنّما يكون بجعل الشارع إذا كان قابلا لنهي الشارع عن العمل به ، وليس قابلا له للزوم التناقض.

كما يعلم ـ بالتأمّل في جميع ما قرّرناه ـ عدم كون طريقيّة القطع قابلة للتخصيص للزوم التناقض في المستثنى ، فلا فرق في كونه طريقا إلى الواقع بين أفراده من حيث القاطع من مجتهد أو مقلّد أو عالم أو عامّي ، والمقطوع به من موضوع حكم شرعي ، أو نفس الحكم الشرعي فرعيّا كان أو اصوليّا ، عمليّا كان أو اعتقاديّا ، وأسباب القطع من المتعارفة الضروريّة ، أو النظريّة العقليّة أو النقليّة الحسّيّة ، أو الحدسيّة اللفظيّة ، أو اللبّيّة ، أو الغير المتعارفة من الرمل ، أو الجفر ، أو النوم ، أو طريق المكاشفة ، أو أزمان القطع من زمن الحضور ، أو أزمنة الغيبة.

وبالجملة : من خواصّ القطع الطريقي عدم قبول طريقيّته التخصيص في شيء من أفراده.

ثمّ إنّ هذا كلّه في القطع بالنسبة إلى القاطع في عمل نفسه بالقياس إلى المقطوع به والأحكام المترتّبة عليه ، وقد يعتبر القطع في موضوع حكم آخر غير الأحكام المترتّبة على المقطوع به ، كوجوب عمل المقلّد بفتوى المجتهد المقطوع بها ، فإنّ موضوع عمل المقلّد هو الحكم المفتى به والقطع مأخوذ فيه ، ومرجعه إلى أنّه يجب على المقلّد أن يعمل بما قطعه المجتهد حكم الله.

وهذا هو المسمّى بالقطع الموضوعي ، ويمتاز عن القطع الطريقي في امور :

الأوّل : أنّ الموضوعيّة لا تكون إلاّ بجعل الشارع ، لأنّ اعتبار القطع في موضوع الحكم الشرعي لابدّ له من معتبر وليس إلاّ الشارع ، ولا نعني من جعله إلاّ هذا ، بخلاف القطع الطريقي ، لما عرفت من أنّ الطريقيّة ليست مجعولة ولا قابلة للجعل.

الثاني : أنّه يقبل كلاّ من التعميم والتخصيص والإطلاق والتقييد ، بخلاف القطع الطريقي ، لما عرفت من أنّه لا يقبل التخصيص ولا التقييد للزوم التناقض.

٩

والسرّ في قبول الأوّل أنّ كونه معتبرا في موضوع الحكم الشرعي إنّما يثبت بدليل ذلك الحكم ، فيتبع في عمومه وخصوصه وإطلاقه وتقييده دلالة ذلك الدليل ، فقد يدلّ دليل الحكم على اعتباره على وجه عامّ ، من دون مدخليّة خصوصيّة فيه من حيث القاطع والمقطوع به وأسباب القطع وأزمانه.

وقد يدلّ على اعتباره على وجه خاصّ لمدخليّة الخصوصيّة فيه من حيث القاطع والمقطوع به وأسباب القطع وأزمانه ، وبينهما متوسّطات ، لدلالة الدليل على اعتبار خصوصيّة في بعض الجهات المذكورة دون اخرى.

ومن القسم الأوّل : حكم العقل بحسن إتيان العبد بما قطع كونه مطلوبا لمولاه ، فإنّ حسن الإتيان حكم عقلي ، وموضوعه ما قطع العبد كونه مطلوبا للمولى ، والقطع مأخوذ فيه ، والحسن لأجل كون الإتيان به إطاعة وانقيادا وحسنه ذاتي.

ومن القسم الثاني : وجوب عمل المقلّد بما قطع غيره كونه حكم الله ، واعتبر فيه الخصوصيّة من جميع الجهات ، فمن جهة القاطع لما اعتبر فيه كونه مجتهدا مسلما إماميّا عادلا ، فخرج قطع غير المجتهد وقطع المجتهد الكافر وقطع المجتهد المخالف وقطع المجتهد الفاسق ، لعدم العمل للمقلّد بشيء من ذلك ، نظرا إلى ما دلّ على اشتراط التقليد باجتهاد المقلّد وإسلامه وإيمانه وعدالته.

ومن جهة المقطوع به يشترط كونه حكما فرعيّا لا اصوليّا إعتقاديّا أو عمليّا ، لما دلّ على عدم جواز التقليد في اصول الدين ولا الاصول العمليّة.

ومن جهة أسباب القطع يشترط كون مستنده الأدلّة المعهودة المتعارفة عند المجتهدين ، كالكتاب القطعي الدلالة ، والسنّة المتواترة ، والإجماع ، والعقل المستقلّ ، دون غيرها من رمل أو جفر أو نوم أو طريق مكاشفة ، إذ لا يجوز لغيره تقليده في ذلك القطع.

ومن جهة أزمانه يعتبر كونه في زمان عدم تيسّر المقلّد عن العلم لتعذّره أو تعسّره.

ومن المتوسّطات وجوب عمل الحاكم بشهادة شاهد علم المشهود به ، فيشترط كون علمه عن حسّ لا عن حدس ، ومنه نشأ عدم قبول الشهادة العلميّة.

الثالث : أنّه لا يقوم مقامه الأمارات الغير العلميّة إلاّ حيث ساعد عليه دليل خاصّ ، بخلاف القطع الطريقي في حكم شرعي فيقوم مقامه خبر العدل الواحد والاستصحاب وغيرهما من طرق الاجتهاد الغير ، العلميّة ، أو في موضوع خارجي فيقوم مقامه البيّنة واليد

١٠

والسوق والاستصحاب وغيره.

والسرّ في ذلك أنّ وجه اعتبار القطع إذا كان وجه الطريقيّة فيقوم مقامه الأمارات المعتبرة أيضا على وجه الطريقيّة ، لأنّ مفاد أدلّة اعتبارها أنّ الشارع اكتفى عن العلم في إحراز الواقع بها.

وأمّا القطع الموضوعي فلمّا كان المعتبر في موضوع الحكم الشرعي صفة القطع واليقين ، فغيرها من الأمارات الغير العلميّة غيرها ، فلا يقوم مقامها شيء منها إلاّ لدليل خاصّ ، فلو أنّ الشارع اعتبر في حفظ عدد الركعات الثنائيّة والثلاثيّة والأوليين من الرباعيّة صفة اليقين ، فلا يقوم مقامها الظنّ بمعنى رجحان أحد الطرفين ، ولا أصالة عدم الزائد إلاّ بدليل خاصّ غير أدلّة حجّية الظنّ أو أصالة عدم الأكثر في الصلاة ، ولو أنّه اعتبر في سقوط المائيّة والعدول إلى الترابيّة صفة اليأس عن الماء ، بمعنى علم المكلّف بعدمه فلا يجوز في إحرازه التعويل على البيّنة ولا استصحاب الحالة السابقة.

ولو فرض أنّه اعتبر في جواز أداء الشهادة صفة اليقين للشاهد بالمشهود به ، فلا يجوز له أن يستند في أدائها ، أو تحملّها للأداء إلى الاستصحاب أو البيّنة أو اليد ، إلاّ أنّه يظهر من رواية حفص (١) جواز الاستناد فيها إلى اليد ، ولذا لو كان مستند الشاهد في تحمّله الشهادة إقرار المديون بالدين فعند الشكّ في بقاء اشتغال ذمّته بالدين لا يجوز له أن يشهد بالبقاء استنادا إلى استصحاب حكم الإقرار السابق ، بل الواجب عليه الشهادة بالاقرار السابق ، لأنّه محلّ اليقين له ، واستصحاب حكم الإقرار بعد ثبوته بالبيّنة من وظيفة الحاكم.

ومن فروع المسألة : ما لو نذر أن يتصدّق كلّ يوم بدرهم ما دام متيقّنا بحياة ولده ، فإنّه لو شكّ في زمان في حياته لا يجب عليه التصدّق لأجل استصحاب الحياة ، أو عند قيام البيّنة ببقائها ، فأمّا لو علّق النذر بنفس حياة الولد فيكفي في وجوبه الاستصحاب.

ثمّ اعلم أنّ المرجع في معرفة أنّ العلم في موارد اعتباره من أيّ القسمين ، ليترتّب عليه قيام غيره من الأمارات مقامه وعدمه إلى الأدلّة المقامة لإعطاء ذلك الحكم الّذي يضاف إليه العلم المردّد بين الطريقي والموضوعي ، وليس لها طريق منضبط سوى الرجوع إليها.

وحينئذ يختلف الحال في مفاد الأدلّة على حسب اختلاف المقامات ، فعلى المستنبط التحرّي وحسن التأمّل لئلاّ يختلط الأمر ، فإنّه ربّما يشتبه الحال فيتوهّم العلم الطريقي علما

__________________

(١) الوسائل : ٢٧ : ٢٩٢ / ٢ ، ب ٢٥ من أبواب كيفيّة الحكم.

١١

موضوعيّا ، وقد ينعكس الأمر فيتوهّم العلم الموضوعي علما طريقيّا.

ومن أمثلة الأوّل : ما في خبر إسماعيل بن جابر المروي عن تفسير النعماني عن الصادق عليه‌السلام عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « إنّ الله تعالى إذا حجب عن عباده عين الشمس الّتي جعلها دليلا على أوقات الصلاة ، فموسّع عليهم تأخير الصلاة ليتبيّن لهم الوقت بظهورها ويستيقنوا أنّها قد زالت (١) » حيث توهّم كون موضوع الحكم ـ وهو وجوب الصلاة ـ هو اليقين بالزوال ، على معنى كون وجوبها معلّقا على الزوال المتيقّن ، وليس كما توهّم لقضاء الأدلّة من الإجماع والنصوص المعتبرة بإناطة وجوب الصلاة بالزوال الواقعي ، فتحمل الرواية على الإرشاد إلى طريق إحراز الواقع ، فيقوم مقامه غيره من الطرق الاخر الغير العلميّة.

ومن الثاني : ما وقع من العلاّمة في بعض كتبه ولعلّه التحرير ـ على ما حكي في مسألة الجاهل بحكم الغصب ـ من أنّه « ليس معذورا ، لأنّ التكليف ليس متوقّفا على العلم به ، وإلاّ لزم الدور (٢) ».

وفيه : أنّ نفي توقّف التكليف على العلم ـ مع أنّه إنكار لما تطابق عليه العقل والنقل ، وقضى به إجماع الأمّة من كون العلم من شرائط التكليف ـ مبنيّ على توهّم العلم الموضوعي علما طريقيّا ، ومنشأه اختلاط الأمر عليه في الفرق بين الحكم الواقعي والتكليف الفعلي ، فيدفع لزوم الدور على تقدير توقّف التكليف بالعلم دون الحكم الواقعي بتعدّد الطرفين الّذي أحدهما ما يتوقّف على العلم ، والآخر ما لا يتوقّف عليه.

فإنّ الّذي لا يتوقّف على العلم إنّما هو الحكم الواقعي ، لأنّ علم المكلّف بالنسبة إليه تابع ومتأخّر عنه طبعا من حيث تعلّقه به ، والمتوقّف عليه إنّما هو التكليف الّذي قد يقال الحكم الظاهري ، وقد يعبّر عنه بالحكم الفعلي فلا دور ، والعلم بالنسبة إلى الأوّل طريق ، وبالنسبة إلى الثاني موضوع ، لأنّ الحكم الواقعي المعلوم تكليف وحكم فعلي.

وتوضيح الفرق بينهما : أنّ الحكم الواقعي عبارة عن الطلب النفساني القائم بنفس المتكلّم قبل أن يعلمه أحد ، وهو الّذي لو أفاده المتكلّم بعبارة قوله : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ )(٣) ، ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ )(٤) ، ونحو ذلك من الخطابات كان معنى إنشائيّا ، وهو المطابق لعلم الله المكتوب في اللوح المحفوظ ، المنزّل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، المودّع عند

__________________

(١) الوسائل ٤ : ٢٧٩ / ٢ ، ب ٥٨ من أبواب المواقيت.

(٢) لم نجده في التحرير بل وجدناه في المنتهى ٤ : ٢٣٠.

(٣) سورة البقرة : ٤٣.

(٤) سورة آل عمران : ٩٧.

١٢

أوصيائه عليهم‌السلام ، وهو الّذي يقبل كلاّ من علم المكلّف وجهله به ، ويقبل الغفلة عنه والالتفات إليه ، فهو بمجرّده ليس مناطا لوجوب الإطاعة وحرمة المعصية ، ولا يدور عليه استحقاق الثواب والعقاب ، بل المناط في وجوب الإطاعة وحرمة المعصية الّذي عليه مدار الثواب والعقاب إنّما هو التكليف الفعلي ، المتوقّف انعقاده على علم المكلّف بالمعنى الإنشائي المذكور.

فليس كلّ حكم واقعي تكليفا فعليّا ، لجواز الانفكاك في الجاهل والغافل ، ولذا كثيرا مّا يأتي المكلّف بما هو واجب واقعي ، أو يترك ما هو حرام واقعي ، ولا يثاب عليهما لجهله بالوجوب والحرمة ، أو يترك ما هو واجب واقعي ، أو يأتي بما هو حرام واقعي ، ولا يعاقب عليهما لجهله بالوجوب والحرمة أيضا.

وإن شئت قلت : إنّ المعنى الإنشائي الّذي ينشأه المتكلّم بخطاب قوله : « إفعل ، أو لا تفعل » مثلا مع قطع النظر عن علم مخاطبه به حكم واقعي ، وإذا علم به المخاطب ببلوغ الخطاب إليه يصير تكليفيّا ، فعلم المكلّف بالنسبة إلى الأوّل من حيث تعلّقه به طريق ، وبالإضافة إلى الثاني من حيث دخوله في موضوعه يعتبر على وجه الموضوعيّة فإنّ موضوعه الحكم الواقعي من حيث ما علم به المكلّف ، فالتكليف عنوان ينوط انعقاده وتحقّقه في نظر العرف والعقل والشرع بعلم المكلّف بالمعنى الإنشائي الّذي أنشأه المولى بخطابه.

والحاصل : مدلول قوله : ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ )(١)( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ )(٢) مثلا الّذي هو معنى إنشائي له اعتباران لا يدخل في أحدهما علم المكلّف أصلا ، ويتّصف بهذا الاعتبار بالواقعيّة ويسمّى بالحكم الواقعي.

ويدخل العلم في الآخر على وجه الموضوعيّة فيكون عنوانا آخر غير الأوّل ، ويسمّى بهذا الاعتبار بالتكليف ، وقد يسمّى حكما ظاهريّا ، وقد يعبّر عنه بالحكم الفعلي.

ثمّ إنّ الظنّ أيضا كالقطع في انقسامه إلى الظنّ الطريقي والظنّ الموضوعي ، غير أنّ الظنّ الطريقي يمتاز عن القطع الطريقي في كونه طريقا مجعولا من الشارع بخلاف القطع الطريقي لما بيّناه من أنّه بنفسه طريق إلى الواقع ولا يحتاج في طريقيّته إلى جعل الشارع.

والسرّ في الفرق أنّ القطع انكشاف لا يحتمل معه خلاف المنكشف ، فلا يحتاج في كونه طريقا إلى إحراز الواقع [ إلى جعل الشارع ] ليترتّب على المقطوع به آثار الواقع ، والظنّ انكشاف يحتمل معه خلاف المنكشف ، فلا يكون بنفسه طريقا إلى إحراز الواقع بحيث

__________________

(١) سورة البقرة : ٤٣.

(٢) سورة آل عمران : ٩٧.

١٣

يترتّب على متعلّقه وهو المظنون آثار الواقع ، بل يحتاج إلى جعل الشارع ، ولأجل كون طريقيّته مجعولة يقبل من التخصيص من حيث الظانّ والمظنون وأسباب الظنّ وأزمانه [ و ] كلّ ما شاءه الجاعل وأراد ، فيجوز أن يخصّص من حيث المظنون بالحكم الشرعي دون موضوعه ، وهذا هو معنى عدم حجّية الظنّ في الموضوعات.

وفي الحكم الشرعي بالحكم الفرعي دون الاصولي الاعتقادي ، وهذا هو معنى عدم حجّيّة الظنّ في اصول الدّين.

ومن حيث الظانّ بالمجتهد دون المقلّد ، وهذا هو معنى عدم حجّيّة ظنّ المقلّد في الأحكام ، ومن حيث أسباب الظنّ بالظنّ الحاصل من الأدلّة المعهودة المتعارفة بين المجتهدين ، دون ما يحصل منه من الأسباب الغير المتعارفة.

وهذا هو معنى عدم حجّية الظنّ الحاصل من الرمل والجفر والنوم ، ومن حيث أزمانه بظنّ أزمنة انسداد باب العلم دون ما يحصل منه حال الانفتاح.

نعم الظنّ الطريقي مثل القطع الطريقي ، حيث يعتبر [ فيه ](١) قيام الأمارات الاخر المعتبرة الغير المنوط اعتبارها بالظنّ الفعلي ـ كالأصل والبيّنة واليد وسوق المسلمين وما أشبه ذلك ـ مقامه ، وإن كان أكثر هذه الامور لا يجري إلاّ في الموضوعات الخارجيّة ، فقيامها مقامه مقصور على الظنّ في الموضوعات إن كان حجّة فيها.

وبالتأمّل في كلماتنا يظهر أنّ الظنّ الطريقي والظنّ الموضوعي كلاهما مجعولان ، على معنى أنّه كما أنّ طريقيّة الظنّ الطريقي تثبت بجعل الشارع كذلك موضوعيّة الظنّ تثبت بجعله ، ومعنى طريقيّة المجعولة في الأوّل أنّه يجب شرعا على الظانّ أن ترتّب على مظنونه آثار الواقع ، على أنّه الواقع لا على أنّه مظنونه.

ومعنى موضوعيّة الثاني أنّه يجب عليه أن يرتّب على مظنونه من حيث إنّه مظنونه ـ أي لأجل صفة الظنّ المأخوذة معه ـ الأحكام المجعولة له من الحيثيّة المذكورة ، فلو فرض أنّ الشارع جعل لمظنون الخمريّة ، أو لمظنون الحرمة ، من حيث إنّه مظنون حكما خاصّا ـ كحرمة التكسّب به مثلا ـ يجب ترتيبه عليه ، بأن يقال : « هذا مظنون الخمريّة ، وكلّ مظنون الخمريّة يحرم التكسّب به » أو « هذا مظنون الحرمة وكلّ مظنون الحرمة يحرم التكسّب به » فإنّ حرمة التكسّب حكم جعله الشارع للمظنون بوصف كونه مظنونا ، أي

__________________

(١) في الأصل « في » بدل « فيه » والصواب ما أثبتناه.

١٤

باعتبار صفة الظنّ المأخوذة معه على وجه الجزئيّة.

ثم إنّ الظنّ من حيث هو ظنّ يمتاز عن القطع من حيث هو كذلك في أمرين :

أحدهما : أنّه يقبل منع الشارع عن العمل به ، ويجوز للشارع أن ينهى عن العمل به ، بحيث يقطع الظانّ بحرمة العمل من غير أن يلزم منه محذورا ، وهذا هو معنى حرمة العمل به عموما الثابتة بعمومات الآيات والأخبار ، وحرمة العمل بظنّ القياس الثابتة بالضرورة والأخبار الناهية عن القياس ، بخلاف القطع فإنّه لا يقبل المنع والنهي ، للزوم التناقض أو اجتماع النقيضين ، فإنّ مقتضى القطع بالشيء أن ينعقد في ضمير القاطع أنّه يجب ترتيب آثار الواقع على المقطوع به ، ومقتضى نهي الشارع ـ لو فرض ـ أن ينعقد في ضميره أنّه لا يجب أو يحرم ترتيب آثار الواقع عليه ، وهما متناقضان.

وثانيهما : أنّه يجوز للشارع أن يجعل للظانّ من حيث كونه ظانّا حكما كلّيّا بالنظر إلى احتمال مخالفة الواقع ، من باب جعل الحكم الظاهري حكما على خلاف الحكم المجعول للواقعة من حيث هي ، بحيث يقطع الظانّ بهذا الحكم المجعول له ، كجواز تناول ما ظنّه حراما ، وجواز ترك ما ظنّه واجبا من غير أن يلزم محذور ، بخلاف القطع فإنّه لا يجوز أن يجعل للقاطع بوصف كونه قاطعا ـ نظرا إلى احتمال مخالفة قطعه الواقع ـ نحو الحكم المذكور ، على أن يكون حكما ظاهريّا له بحيث يقطع به للزوم اللغو في جعل ذلك الحكم ، فإنّ فائدة جعل الحكم الظاهري بالقياس إلى شخص المكلّف أن يلتزم به ويجريه في حقّه ، ولا يتمكّن من ذلك إلاّ بأن يندرج في موضوع ذلك الحكم ويلتفت إلى اندراجه فيه.

والقاطع ما دام قاطعا لا يلتفت إلى اندراجه في موضوع الحكم المذكور ، لعدم احتماله الخلاف في قطعه فيلغو جعل الحكم رأسا ، بخلاف الظنّ لقيام احتمال الخلاف في ظنّه عنده فيلتفت إلى اندراجه في موضوع حكم جعله الشارع للظانّ من حيث احتمال مخالفة ظنّه الواقع ، فليتدبّر.

هذا تمام الكلام في مقدّمات الباب المنعقد له الكتاب. وأمّا الكلام في نفسه ففيه مقصدان :

* * *

١٥

المقصد الأوّل

في أحكام القطع

وفيه مطالب :

المطلب الأوّل

في حكم القطع المخالف للواقع الّذي يقال له : الجهل المركّب ، فنقول : إنّ القطع بمقتضى كونه انكشافا للواقع ، يقتضي ترتّب أحكام الواقع على متعلّقة على أنّه الواقع ، كما لو قطع بخمريّة الشيء فيحرم شربه ، وهذه الحرمة يجب موافقته ويحرم مخالفته ، ويستحقّ الثواب بموافقته والعقاب على مخالفته.

وهذه الأحكام في ترتّبها لا تحتاج إلى أزيد من الأدلّة المثبتة لها من العقل والنقل للخمر ، وهذا في القطع المطابق.

وأمّا الغير المطابق ما لم ينكشف خلافه فلا إشكال في حسن موافقته عقلا ، واستحقاق الفاعل بسببه المدح عند العقلاء لكونه انقيادا ، والانقياد حسن لكشفه عن حسن سريرة العبد وكونه مع مولاه في مقام الإطاعة ، كما لا إشكال في قبح مخالفته عقلا ، واستحقاق الفاعل بسببه الذمّ عند العقلاء لكونه تجرّيّا والتجرّي قبيح ، لكشفه عن خبث سريرة العبد وكونه مع مولاه في مقام العصيان.

وإنّما الإشكال في كون هذه المخالفة عصيانا أيضا بحيث يستحقّ العقاب عليه أولا؟

وقد اختلفوا فيه على أقوال ، فقيل : بكونه عصيانا كما يظهر المصير إليه من جماعة في الواجب الموسّع ، في مسألة ظانّ ضيق الوقت إذا أخّر ثم انكشف الخلاف حيث حكموا بأنّه يعصي بالتأخير.

١٦

وعن جماعة (١) دعوى الإجماع عليه ، فإنّ تعبيرهم بظنّ الضيق على ما قيل لبيان أدنى فردي الرجحان فيشمل القطع بالضيق أيضا بل بطريق أولى.

ويظهر العدم من العلاّمة في التذكرة (٢) حيث استوجه عدم العصيان في مسألة ظنّ ضيق الوقت ، واستقربه السيّد الطباطبائي في مفاتيحه (٣) ، ومن الفضلاء (٤) من فصّل وسيأتي بيان تفصيله ، وعن النهاية (٥) وشيخنا البهائي (٦) الوقف.

وحيث إنّ العصيان عبارة عن مخالفة الخطاب فلا يصدق إلاّ إذا كان هناك حكم وتكليف إلزامي ، ولا خطاب على القول بالعصيان إلاّ بان أنّ الشارع جعل بطروّ صفة القطع للمورد حكما مثل الحكم المجعول للموضوع الواقعي ، فإنّ الحكم المجعول للخمر الواقعي هو حرمة الشرب ، وقد جعل لمقطوع الحرمة على خلاف الواقع أيضا حرمة الشرب ، وهذا مع الأوّل كلاهما حكمان واقعيّان ، إلاّ أنّ الأوّل تبع الصفة الكامنة في الخمر الواقعي ، وهي المفسدة الواقعيّة الكامنة فيه.

والثاني صفة القطع الطارية للمورد ، فرجع النزاع حينئذ إلى أنّ صفة القطع الطارية للشيء على خلاف الواقع هل تؤثّر في حدوث حكم إلزامي للمورد؟ مثل الحكم الواقعي المجعول للموضوع الواقعي ، ومرجعه إلى أنّ قبح التجرّي أوجب قبح الفعل المتجرّى به المقتضي لجعل الحكم الإلزامي من إيجاب الفعل أو تحريمه حسبما اعتقده القاطع.

والأقوى من أقوال المسألة ثانيها.

لنا : أنّ الحكم الإلزامي المفروض لا بدّ له من حاكم وهو إمّا الشرع أو العقل ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلافتقاره إلى دليل ، وليس في الأدلّة الشرعيّة ما يدلّ على ذلك ، وستعرف ضعف ما تمسّك به للقول بالعصيان.

وأمّا الثاني : فلعدم استقلال العقل بإدراك حكم إلزامي يترتّب عليه العصيان واستحقاق العقوبة والنيران.

__________________

(١) منهم العلاّمة في المنتهى : ٤ : ١٠٧ والفاضل الهندي في كشف اللثام : ٣ : ١٠٩ والسيّد العاملى في مفتاح الكرامة : ٢ : ٦١.

(٢) التذكره : ٢ / ٣٩١.

(٣) مفاتيح الاصول : ٣٠٨.

(٤) هو صاحب الفصول.

(٥) نهاية الوصول ( مخطوط ) : ١١ و ٩٤.

(٦) الزبدة : ٤١.

١٧

وتوهّم أنّ العقل يلزم المكلّف على العمل بمعتقده ، ويخاطبه بقول : « إعمل بمعتقدك » فإنّه خطاب عقلي يتولّد منه الحكم الإلزامي ، فكيف ينكر استقلال العقل بذلك؟

يدفعه : أنّ هذا الخطاب العقلي المتوجّه إلى المكلّف ممّا لا كلام فيه ولا مجال لإنكاره ، ولكنّه لا يشمل ما نحن فيه ، فإنّ ما ذكر إلزام للمكلّف على العمل بمعتقده على أنّه الواقع لا من حيث أنّه معتقده ، فإذا انكشف الخلاف تبيّن أنّ الحكم العقلي لم يصادف محلّه ، أو عدم اندراج المورد في موضوعه ، وهذا أوجه حذرا عن تخطئة العقل.

واستدلّ للقول الآخر بوجوه :

منها : الإجماع على ما حكي ادّعائه عن جماعة في مسألة ظانّ ضيق الوقت على العصيان بالتأخير مع انكشاف الخلاف ، كما تقدّم.

ومنها : أنّ مخالفة الاعتقاد ما يستقلّ العقل بقبحه ، وكلّما يستقلّ العقل بقبحه محرّم شرعا ، فمخالفة الاعتقاد محرّم شرعا.

أمّا الكبرى : فبحكم الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي المعبّر عنها بأنّ كلّما حكم به العقل حكم به الشرع.

وأمّا الصغرى : فلأنّه تجرّي والتجرّي قبيح ، مضافا إلى أنّه بالنسبة إلى المولى ظلم والظلم قبيح ـ فإنّ الظلم وضع الشيء على غير مستحقّه ـ والمولى من حيث مولويّته يستحقّ الإطاعة والانقياد لا المخالفة والعصيان ، ومخالفة الاعتقاد تعريض للنفس على معصية المولى فيكون ظلما.

ومنها : بناء العقلاء على الذمّ على معنى كون القاطع المخالف لاعتقاده مستحقّا للذمّ عند العقلاء مطلقا من غير توقّف إلى [ ان ] يظهر لهم المصادفة.

ومنها : أنّه مكلّف بالعمل على قطعه وقد خالفه فيكون عاصيا ، يظهر التمسّك به من بعض الأعلام (١) في مسألة ظانّ ضيق الوقت ، حيث إنّه ثمّة بعد ما اختار القول ببقاء المعصية بعد تبيّن الخلاف استدلّ عليه بأنّه مكلّف على العمل بظنّه وقد خالفه فيكون عاصيا ، ونحوه يجري فيما نحن فيه أيضا.

__________________

(١) وهو المحقّق القمّي في القوانين ١ : ١٢٠.

١٨

ومنها : ما قرّره بعضهم (١) من أنّا لو فرضنا شخصين قطع كلّ منهما خمريّة مائع عنده فشرباهما ، فاتّفق مصادفة قطع أحدهما الواقع وعدم مصادفة قطع الآخر ، فإمّا أن يستحقّا العقاب أو لا يستحقّاه ، أو يستحقّه من صادف قطعه الواقع دون من لم يصادفه ، أو ينعكس الأمر ، ولا سبيل إلى الثاني والرابع ، لمنافاتهما لأدلّة الواقع المثبتة للحرمة للخمر الواقعي المقتضية لعصيان شربها واستحقاق العقوبة عليه ، ولا إلى الثالث لاستلزامه إناطة استحقاق العقاب بما هو خارج عن الاختيار وهو باطل لمنافاته العدل والحكمة.

أمّا الملازمة : فلأنّ التفرقة بين الشخصين لا بدّ وأن يكون عن فارق موضوعي بينهما ، وليس إلاّ مصادفة قطع أحدهما وعدم مصادفة الآخر لتساويهما في الحركات الاختياريّة ، والمصادفة والعدم قد حصلا لضرب من الاتّفاق من غير اختيار لهما فيهما ، فيلزم ما ذكر من الإناطة بأمر خارج عن الاختيار وهو المصادفة والعدم ، فتعيّن الأوّل وهو المطلوب (٢).

والجواب عن الأوّل : ـ بعد الإغماض عن منع الإجماع مع فرض وجود الخلاف ، وعدم كفاية منقوله لأنّ أقصاه الظنّ الغير الكافي في نظائر المقام ـ أنّ الإجماع على العصيان إن اريد به الإجماع المصطلح الّذي حجّيّته باعتبار كشفه عن رأي المعصوم ، ففيه : أنّ محصّله غير حاصل ومنقوله غير نافع.

أمّا الأوّل : فلأنّ المسألة عقليّة تطلب من العقل لا من الشرع حتّى يستكشف فيها رأي المعصوم ، لا لأنّ بيان الامور العقليّة ليس من شأن الشارع ، بل لقبح أن يتوجّه إلى القاطع بخلاف الواقع خطاب من الشرع بالحكم الإلزامي المفروض كونه مجعولا في حقّه ، وهو حرمة شرب ما اعتقده خمرا على خلاف الواقع في مقابلة الواقع وهو حرمة شرب الخمر الواقعي ، لكونه من خطاب الجاهل الصرف بما جهله ، وخطاب الغافل فيما غفل عنه ، فإنّ القاطع بخلاف الواقع ما دام قاطعا لا يجوّز في اعتقاده الخلاف ، ولا يرى معتقده إلاّ واقعا ، فهو لا يعتقد في حقّه إلاّ حرمة شرب الخمر الواقعي ، ولا يلتفت إلى الحكم الآخر المفروض في مقابله ، وهو حرمة شرب الخمر المعتقد بوصف كونه معتقدا ، لعدم التفاته إلى اندراجه في موضوع ذلك الحكم ، فيكون خطابه به مع جهله وغفلته خطابا للجاهل الغافل وهو قبيح ، مضافا إلى كونه من اللغو السفه.

وحينئذ يقال : إنّ العصيان المجمع عليه بالإجماع الكاشف ، إن كان المراد به مخالفة

__________________

(١) المقرّر هو المحقّق السبزواري في الذخيرة.

(٢) ذخيرة المعاد : ٢٠٩ ـ ٢١٠.

١٩

الخطاب لأجل أنّ المخالف لقطعه الغير المطابق خالف الواقع ، وهو حرمة شرب الخمر الواقعي فهو كذب ، ومن المستحيل انعقاد الإجماع الكاشف على القضيّة الكاذبة ، وإن كان المراد به مخالفة الخطاب لأجل أنّه خالف الحكم الإلزامي الآخر المقابل للواقع ، وهو حرمة شرب ما اعتقده خمرا على خلاف الواقع ، ففيه : أنّ صدق العصيان في حقّه بهذا الاعتبار ، موقوف على تنجّز التكليف في هذا الحكم الإلزامي عليه ، وهو مشروط بعلمه به تفصيلا أو إجمالا حال كونه قاطعا ، والمفروض خلافه لكونه غافلا عنه بالمرّة ، فيقبح على الشارع أن يخاطبه ـ والحال هذه ـ بذلك الحكم الإلزامي المفروض كونه مجعولا في مقابلة الواقع.

والأصل فيما ذكرناه أنّ القاطع ما دام قاطعا لا يرى معتقده عنوانا آخر غير عنوان الواقع ، فلا يلتفت إلى الحكم الآخر المفروض كونه مجعولا في مقابلة الواقع ، فيكون خطابه بذلك الحكم خطابا للغافل.

ولأجل هذا كلّه كانت المسألة عقليّة تطلب من العقل لا من الشرع ، ولا يلزم نحو هذا المحذور على تقدير طلبها من العقل وحكم العقل بالعصيان ، لأنّ حكم العقل في مستقلاّته لا يكون بخطاب لفظي ، بل يكفي فيه تقبيح العقل الّذي يدركه القاطع بخلاف الواقع عند مخالفته لقطعه بمقتضى عقله ، وعلى تقدير ثبوت الملازمة بين نحو هذا التقبيح العقلي والحكم الشرعي يثبت العصيان المستلزم لاستحقاق العقاب.

وأمّا الثاني : فواضح فإنّ الإجماع الّذي محصّله غير حاصل ، فمنقوله أيضا غير نافع للقطع بخطأ ناقله.

وإن اريد به الإجماع اللغوي أعني اتفاق العقلاء الذين منهم العلماء على عصيان مخالفة القطع وإن خالف الواقع.

ففيه : أنّ هذا الاتّفاق ممّا لا أثر له إلاّ أن يرجع إلى اتفاق العقلاء على استحقاق الذمّ في مخالف القطع ، فيرجع إلى الوجه الثالث وستعرف جوابه.

والجواب عن الثاني : منع الصغرى بإبطال دليله من التجرّي والظلم.

أمّا بطلان الأوّل : فلأنّ قبح التجرّي وإن كان مسلّما ، إلاّ أنّه ما لم يستلزم قبح الفعل المتجرّى به لم يؤثّر في العصيان الموجب لاستحقاق العقاب ، والاستلزام في مخالفة القطع الغير المطابق ممنوع ، لأنّ القبح المفروض فيه قبح في الفاعل ، لكشفه عن خبث سريرته وسوء مقامه مع سيّده ، لا أنّه قبح في الفعل ، ولذا يقال عند توجيه الذمّ إليه : « بئس الرجل

٢٠