تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٥٥٥

نعم ربّما يتأتّى المعارضة بين الجهات فيما هو من مصاديق موضوع حكم العقل ، غير أنّه ليس من معقد الكلام في مسألة الملازمة في شيء ، لعدم كونه من حيث إنّه مصداق وجزئي حقيقي من موضوع حكم العقل في شيء.

وأضعف من أصل هذه الدعوى الوجوه الّتي تمسّك بها لإثباتها.

منها : حسن التكليف الابتدائي ، فإنّ الضرورة قاضية بحسن أمر المولى عبده بما لا يستحقّ فاعله من حيث إنّه فاعله المدح في نظره ، استخبارا لأمر العبد أو إظهارا لحاله عند غيره ، ولو كان حسن التكليف مقصورا على حسن الفعل لما حسن ذلك.

ويزيّفه : أنّ دعوى الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع الّتي هي مضمون قضيّة قولهم : « كلّما حكم به العقل حكم به الشرع » لا ترجع إلى دعوى كون حسن التكليف مقصورا على حسن الفعل ، لينتقض بالتكليف الابتلائي التوطيني الّذي يقصد به استعلام حال العبد من حيث الانقياد للمولى وعدمه أو إعلام حاله للغير ، إذ ليس معنى قولنا : « كلّما حسن الفعل حسن التكليف به ، وكلّما قبح الفعل حسن التكليف بتركه » إنّه كلّما حسن التكليف بالفعل حسن ذلك الفعل لينقضه ما ذكر.

نعم إنّما يرد هذا نقضا على القول بالملازمة في عكس هذه القضيّة ، المعبّر عنها بقولهم : « كلّما حكم به الشرع حكم به العقل » فإنّها إذا كانت على ظاهرها يتوجّه إليه ما ذكر ، ولذا ترى أنّ بعض الأعلام أورده نقضا لذلك العكس ، وكأنّه قدس‌سره خلط بين المقامين ، إلاّ أن يوجّه كلامه : بأنّه كما يجوز ورود الأمر الابتلائي بالفعل الخالي عن الجهة المحسّنة بالمرّة المساوي للترك الخالي منها أيضا ، فكذلك يجوز وروده بالفعل القبيح المشتمل على الجهة المقبّحة ، كما في قضيّة إبراهيم عليه‌السلام في أمره بذبح ولده ، فلو كان بين قبح الفعل وحسن التكليف بتركه ووقوع ذلك التكليف ملازمة واقعيّة لما صحّ ذلك ، وحيث فرضنا صحّته بحكم الضرورة كشف ذلك عن انتفاء الملازمة الواقعيّة بين حسن الفعل أو قبحه ووقوع التكليف على حسبه.

وفيه : مع بعده عن صوغ العبارة ، إنّ من شرائط الأمر الابتلائي التوطيني جهل المكلّف بحال الفعل المأمور به من حيث عدم كون الإتيان به مرادا للآمر ، واعتقاده بمحبوبيّة فعله ومبغوضيّة تركه له ، ليحصل له توطين النفس للامتثال على ما هو غرض الآمر ، وإنّما يتأتّى ذلك إذا لم يكن هناك ما يكشف له عن تساوي الفعل والترك في نظر الآمر ، أو قبحه عنده المقتضي لمحبوبيّة الترك ومبغوضيّة الفعل ، وهذا الشرط فيما استقلّ العقل بإدراك قبحه

٥٢١

منتف ، لعلم المكلّف بقبح الفعل المأمور به عند الآمر بواسطة استقلال عقله بإدراك قبحه ، ولئن صحّحنا تعلّق الأمر الابتلائي التوطيني بالفعل القبيح عند الآمر فإنّما هو فيما لا طريق للمكلّف إلى العلم بقبحه عنده كما في غير مستقلاّت العقل ، فهو في محلّ البحث محال.

وتوهّم وقوعه في قضيّة إبراهيم عليه‌السلام ، يدفعه : منع علمه عليه‌السلام بقبح ذبح ولده بالخصوص ، فإنّ ذبح الولد قد يحسن لبعض الجهات وبانضمام بعض الخصوصيّات ، كما أنّ الكذب مثلا يحسن لجهة النفع ، ويكفي في ارتفاع العلم بقبحه احتمال وجود جهة محسّنة له.

أو منع اعتقاده عليه‌السلام بكون الأمر المذكور أمرا بأصل الذبح بل إنّما كان أمرا بمقدّماته وقد علمه عليه‌السلام أيضا ، ولذا ترى أنّ المصنّف في مسألة الأمر مع علم الآمر بانتفاء الشرط أجاب بذلك عن استدلال القائل بجوازه بقضيّة إبراهيم عليه‌السلام بتوهّم كونه أمرا بالذبح مع انتفاء شرطه وهو عدم النسخ.

ولو سلّم جواز ورود الأمر الابتلائي بالقبيح العقلي أيضا فهو لا ينافي ثبوت الملازمة الواقعيّة بين قبحه وبين وقوع الحكم الشرعي على حسبه ، فإنّ معناها كون الحسن أو القبح مقتضيا لوقوع الحكم الشرعي على حسبه بحسب الواقع ، بأن يكون حكما واقعيّا ، وظاهر أنّ الأمر الابتلائي على تقدير وروده بما حكم العقل بقبحه ممّا لا يرفع هذا الحكم الواقعي.

وتوضيحه : أنّ الأمر كائنا ما كان لابدّ وأن يستتبع حسنا ومصلحة مقتضية له ، إمّا في الفعل المأمور به كالأمر بالصلاة وغيرها ، أو في نفس الأمر مع خلوّ المأمور به عن المصلحة بالمرّة ، وذلك كالأمر المحمول على التقيّة على أحد القولين ـ وهو عدم كون التقيّة مصلحة في الفعل المأمور به بل هي مصلحة في نفس الأمر ، أو على أحد التقديرين وهو كون التقيّة قوليّة محضة. فالمصلحة حينئذ في الأمر ، لا على التقدير الآخر وهو كون التقيّة فعليّة ، لوجوب كونها حينئذ مصلحة في المأمور به ـ أو في أمر خارج يكون فعل المأمور به محصّلا له في الخارج إمّا باعتبار الأمر كالامتثال إذا كان هو المحبوب في نظر الآمر دون الفعل المحصّل له بالذات ، أو باعتبار نفسه ككونه مظهرا لكمال انقياد العبد مع مولاه عند غيره إذا قصد بالأمر إظهاره.

فإنّ المصلحة المؤثّرة في الحسن إنّما هو في الإظهار لا في المأمور به ولا في الأمر.

وهذه أقسام ثلاث ، لا إشكال في كون الأمر المفروض في القسم الأوّل موجبا لحدوث حكم في الفعل المأمور به بحسب الواقع.

٥٢٢

كما أنّه لا إشكال في أنّه لا يوجب حدوث حكم فيه في القسم الثاني.

كما لا إشكال أيضا في القسم الثالث بكلتا صورتيه ، فإنّ الأمر الموجود فيهما ليس إلاّ أمرا صوريّا غير متضمّن لطلب قصد به ترتّب ما يترتّب على الفعل باعتبار هذا الأمر أو باعتبار نفسه من غير أن يحدث من جهته في الفعل حكم وهو الوجوب ، المتضمّن للطلب المستتبع لاستحقاق العقوبة على المخالفة.

ولا ريب أنّ الأمر الابتلائي التوطيني من هذا الباب ، فوروده على ما هو قبيح في الواقع لا ينافي كون حكمه الشرعي بحسب الواقع هو الحرمة ، فهو ممّا يجامع الملازمة الواقعيّة بين القبح العقلي ووقوع الحكم الشرعي وهو الحرمة على حسبه.

ومنها : التكاليف الّتي ترد مورد التقيّة إذا لم يكن في نفس العمل تقيّة ، فإنّ إمكانها بل وقوعها في الأخبار المأثورة عن الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام ممّا لا يكاد يعتريه شوب الإنكار ، وإن منعنا وقوعه في حقّه تعالى بل وفي حقّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا. فإنّ تلك التكاليف متّصفة بالحسن والرجحان لما فيها من صون المكلّف أو المكلّف عن مكائد الأعادي وشرورهم ، وإن تجرّد ما كلّف به عن الحسن الابتدائي ، وطريانه بعد التكليف من حيث كونه امتثالا وطاعة لا يقدح في ذلك ، لأنّ الكلام في الجهة المتفرّع عليها التكليف لا الجهة المتفرّعة على التكليف ـ إلى أن قال ـ : وليس التكليف حينئذ صوريّا محضا مجرّدا ألفاظه عن إرادة المعنى لبعده عن مظانّ الاستعمال ، مع أنّ التكليف في الحقيقة على حسب مؤدّى تلك الألفاظ عند جهل السامع بخلافها ، فلا باعث على صرفها عن ظاهرها وتجريدها عن معانيها.

والجواب : أنّ هذا أيضا بظاهره لا يرتبط بالمقام ، لأنّه إنّما يرد نقضا على من يدّعي اقتضاء حسن التكليف حسن الفعل المكلّف به ، وهذا ممّا لا تعلّق له بمقالة من يدّعي اقتضاء حسن الفعل حسن التكليف به ووقوعه ، واقتضاء قبحه حسن التكليف بتركه ووقوعه.

إلاّ أن يوجّه : بأنّ حسن الفعل أو قبحه فيما أدركهما العقل كما أنّه على القول بالملازمة يقتضي حسن التكليف بالإيجاب أو التحريم ليكون الفعل واجبا أو حراما شرعيّا ، فكذلك خلوّه عن الحسن والقبح وعدم اشتماله على جهة محسّنة ولا على جهة مقبّحة عند العقل ـ على معنى تساوي الفعل والترك في الواقع بحيث أدركه العقل على القول بالملازمة ـ يقتضي إباحته ، شرعا وورود التكليف بإيجاب أو تحريم عليه على جهة التقيّة ينافي الإباحة ، وهذا آية عدم الملازمة بين حكم العقل وبين وقوع التكليف على

٥٢٣

حسبه وهذا التوجيه يجري في الوجه السابق كما أنّ ما تقدّم ثمّة جار هنا أيضا.

وفيه أوّلا : أنّه قد ذكرنا سابقا أنّ الحكم العقلي قد يكون مقتضيا للحكم الشرعي إذا كان الفعل بعنوانه الخاصّ مقتضيا لحسنه أو قبحه ، ومعنى كونه مقتضيا أنّه يؤثّر في حدوث الحكم الشرعي ويقتضيه لو لا مانع يمنعه عن الاقتضاء ، وحينئذ يقال : إنّ تساوي الفعل والترك بخلوّهما عن الجهة المحسّنة والمقبّحة جهة مقدّمية للإباحة الشرعيّة لو لا المانع وهو المراد من الملازمة ، وأثرها ثبوت الإباحة لما لم يطرئه جهة التقيّة ، ولا يقدح في ذلك زوالها عند طروّ هذه الجهة.

وثانيا : أنّ موضوع الإباحة هو الفعل الّذي لاحظه العقل من حيث هو فحكم بتساوي طرفيه ، وهذا لا ينافيه ورود التكليف بإيجاب أو تحريم على جهة التقيّة على ما اخذ فيه تلك الجهة لكونها تقييديّة فيتعدّد الموضوع ، كإباحة الصدق من حيث هو لو فرض خلوّه عن الحسن والقبح ، ووجوب الصدق النافع وحرمة الصدق الضارّ ، لعدم المنافاة بينها باعتبار تعدّد موضوعاتها.

وثالثا : أنّ منافاة التكاليف المذكورة للإباحة الواقعيّة على تقدير تسليم وحدة الموضوع إنّما هي إذا كانت على ظاهر التكليف ، بأن يراد من الأمر والنهي الواردين على جهة التقيّة ـ في القول فقط دون العمل ـ الإيجاب والتحريم المتضمّنين للطلب ، ليكون الفعل باعتباره واجبا أو حراما ، وهذا في حيّز المنع بل ليست إلاّ تكاليف صوريّة معرّاة عن الطلب ، على معنى صدور الخطاب الدالّ على التكليف من دون إرادة التكليف منه لمصلحة التقيّة ، وهذا لا يوجب ارتفاع الحكم الواقعي عن المورد إباحة كانت أو غيرها.

وتوضيح المقام : أنّه يستفاد من جماعة من الفقهاء في تضاعيف المسائل الفرعيّة في الخبر الّذي علم خروجه مخرج التقيّة مع ظهوره في الوجوب أو الحرمة حمله على الاستحباب أو الكراهة ، والحكم على المورد بكونه مستحبّا أو مكروها ، مع كون مذهب العامّة فيه هو الوجوب أو الحرمة استنادا إلى الاعتبار ، وبيانه : أنّ الخبر إذا ورد تقيّة فيتصوّر فيه وجهان :

الأوّل : الحكم بكونه كذبا ، على معنى كونه ممّا أراد الإمام عليه‌السلام ظاهره المخالف للواقع لمصلحة التقيّة.

والثاني : الحكم بكونه مؤوّلا [ الّذي ] يعبّر عنه بالتورية ، على معنى كونه ممّا أراد

٥٢٤

الإمام عليه‌السلام خلاف ظاهره الموافق للواقع من غير نصب قرينة عليه لمصلحة التقيّة ، فإذا دار الأمر بينهما بعد إحراز صدوره على جهة التقيّة فالأولى أن يحمل على الثاني قضاء للاعتبار بل القوّة العاقلة ، نظرا إلى أن الكذب إنّما يرتفع عنه القبح العقلي حيث لا مندوحة منه ، وإرادة خلاف ظاهر الخطاب من غير نصب قرينة عليه إنّما يقبح عقلا إذا قصد به إفهام المراد ولا قبح فيما لم يقصد به الإفهام أصلا ، وإمكانه في محلّ الفرض مندوحة من الكذب وما أشبهه من بيان خلاف الواقع ، فالمناسب لمنصب الإمامة أنّه عليه‌السلام اختار ذلك.

والتحقيق عندنا تخصيص ذلك بما لو كانت في القول فقط ، إذا الغرض في التقيّة في العمل لا يتأتّى إلاّ بإرادة الظاهر ، لأنّه التكليف ما دامت التقيّة موجودة.

ومن هنا يقال : إنّ التقيّة في موردها حكم ظاهري بل واقعيّ ثانوي ، ولمّا كانت التقيّة المفروضة في محلّ الكلام تقيّة في القول لا في العمل فالمتّجه في الخطابات الواردة في موردها إنّما هو الحكم بعدم كونها على ظاهر التكليف ، وإنّما هي تكاليف صوريّة قصد بها مجرّد إظهار الموافقة في المذهب مراعاة لمصلحة التقيّة الّتي لا يقتضي أزيد من ذلك ، ولا بعد في ذلك عن مظانّ الاستعمال ، ولا يلزم صرف الخطاب عن ظاهره ولا تجريده عن معناه من دون باعث عليه ، وإذا لم يكن هذه الخطابات والتكاليف على ظاهرها فلم يحدث من جهتها للفعل حكم شرعي من إيجاب ولا تحريم ، فيكون باقيا على حكمه الواقعي من إباحة أو غيرها ، فالتكاليف الواردة مورد التقيّة لا تنافي الملازمة الواقعيّة بين الأحكام العقليّة والأحكام الشرعيّة.

ومنها : أنّه لا ريب في أنّ كثيرا من الأحكام المقرّرة في الشريعة معلّلة في الحقيقة ولو بحسب الظنّ أو الاحتمال بحكم غير مطّردة في جميع مواردها ، ومع ذلك فقد حافظ الشارع على عمومها وكلّيتها حذرا من الأداء إلى الإخلال بموارد الحكم ، كتشريع العدّة لحفظ الأنساب من الاختلاط ، حيث أثبتها الشارع بشرائطها المقرّرة على سبيل الكلّية حتّى مع القطع بعدم النسب أو بعدم الاختلاط ، كما في المطلّقة المدخول بها دبرا أو مجرّدا عن الانزال ، والغائب عنها زوجها ، والمتروك وطؤها مدّة الحمل وغير ذلك ، فإنّه لو جعل المدار في ذلك على العلم أو الظنّ بعدم النسب أو عدم الاختلاط لأدّى إلى تفويت الحكمة وحصول الاختلاط في كثير من الموارد بالتلبيس أو الالتباس وكذلك الحال في تشريع غسل الجمعة لرفع رياح الآباط مع ثبوت استحبابه مع عدمها ، وكراهة الصلاة في الحمّام

٥٢٥

لكونه مظنّة للرشاش ، وفي الأودية لكونها مظنّة لمفاجاة السيل مع ثبوتها عند القطع بعدمها إلى غير ذلك ، فهذه الامور فعلا أو تركا وإن كان حسنها الابتدائي مقصورا على الموارد الّتي تشتمل على الحكم ، وقضيّة ذلك حسن التكليف بتلك الموارد خاصّة ، لكن لمّا كان في تعميم التكليف حكمة كمال المحافظة على موارد الحكم حسن تعميم التكليف ، فحسن الفعل في الموارد الّتي تتجرّد عن الحكمة من جهة التكليف ، وليس حسن التكليف من جهته وإلاّ لدار.

ثمّ ما ذكرنا من أنّ الأحكام المذكورة معلّلة بتلك الحكم فقط إن لم يكن مظنونا فلا أقلّ من كونه محتملا ، وهو كاف في إثبات ما أردناه من نفي الملازمة ، إذ تجويز العقل ذلك ينافي حكمه بالملازمة (١).

وفيه أوّلا : منع كون هذه الحكم علل حقيقيّة للأحكام المذكورة مؤثّرة في جعلها وحدوثها ، وإنّما هي مناسبات واعتبارات ذكرت لتقريب هذه الأحكام إلى أفهام المكلّفين ، فمن الجائز كونها بحسب الواقع من آثار حكم آخر مطّردة خفيّة لا يطّلع عليها إلاّ العالم بخفايا الامور ، وكون هذه المناسبات من الفوائد المترتّبة على موضوعات هذه الأحكام المجعولة في بعض مواردها لا من الدواعي الباعثة للشارع على جعلها.

وثانيا : منع انحصار علل جعل هذه الأحكام المطّردة في هذه الحكم الغير المطّردة ـ على فرض كونها عللا واقعيّة ـ ليلزم الإشكال من عدم اطّرادها ، لجواز أن يكون لجعلها في غير موارد هذه الحكم عللا اخر خفيّة لا يحيط بها إلاّ العقول الكاملة ، وكان علّة جعل الأحكام على وجه الاطّراد المجموع من هذه الحكم وغيرها ممّا نعقله من خفايا الحكم ، ونحوه غير عزيز في الشرعيّات والعرفيّات ، كما لو أمر الطبيب جماعة بشرب السكنجبين مثلا لإطفاء الحرارة في بعضهم ولإسهال الصفراء في آخر ولإبقاء المزاج على الاعتدال في ثالث.

وثالثا : أنّ كون حسن الفعل في بعض ما لا يستقلّ فيه العقل باعتبار التكليف ـ على فرض تسليمه ـ من دون أن يكون حسن التكليف فيه أيضا باعتبار حسن الفعل لئلاّ يلزم الدور لا ينافي الملازمة بالمعنى المتنازع فيه ، إذ ليس معناها أنّ حسن التكليف في جميع موارده باعتبار حسن الفعل ليخدشه ما ذكر من الموارد ، بل معناها أنّ حسن الفعل في جميع موارده يلازم حسن التكليف ، وهذا ممّا لا يمكن نقضه بنحو ما ذكر.

__________________

(١) الفصول : ٣٣٩.

٥٢٦

ومنها : الأخبار الدالّة على عدم تعلّق بعض التكاليف بهذه الامّة دفعا للكلفة والمشقّة عنهم ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لو لا أن أشقّ على امّتي لأمرتهم بالسواك » (١) فإنّ وجود المشقّة في الفعل قد يقدح في حسن الإلزام به وإن لم يقدح في حسن الفعل ، وذلك حيث لا يكون هناك ما يحسن الابتلاء ولا يكون في الفعل مزيد حسن بحيث يرجّح الإلزام به مع المشقّة كما في الجهاد ، فالفعل الشاقّ قد يكون حسنا بل واجبا عقليّا ، لكن لا يحسن الإلزام به لما فيه من التضييق على المكلّف مع قضاء الحكمة بعدمه (٢).

وفيه أوّلا : أنّ السواك على ما هو مورد الرواية من أفراد ما لا يستقلّ فيه العقل لعدم استقلاله بإدراك حسنه أو قبحه ، ولا كونه ممّا أحاط بجميع صفاته وجهاته المحسّنة أو المقبّحة ، فنقض الملازمة فيما يستقلّ فيه بما ليس من أفراده غير سائغ ، لوجوب كون المنقوض به من أفراد المنقوض ، وكون السواك ممّا كشفت الرواية عن اشتماله على جميع الجهات المحسّنة والصفات الملزمة بحيث لم يكن جهة لعدم وقوع الإلزام به إلاّ مانعيّة أمر خارج عن الفعل وهو الكلفة والمشقّة ـ بملاحظة أنّ « لو لا » لامتناع الثاني لوجود الأوّل ، فيفيد حصر المانعيّة في المشقّة واستناد امتناع الثاني إلى وجودها ـ لا يوجب دخوله في عنوان ما يستقلّ فيه العقل ، لفرض قصور العقل عن إدراك هذه الصفة فيه لو لا الرواية الكاشفة عنها.

وثانيا : منع قضاء الرواية باعتبار اشتمالها على « لو لا » الامتناعيّة باشتمال السواك على الحسن الملزم الملازم للوجوب الشرعي على القول بالملازمة ، وهو كون الفعل بحيث يستحقّ فاعله المدح وتاركه الذمّ ، ولا تنافي كون الموجود فيه هو الحسن غير الملزم الملازم للاستحباب على القول المذكور وهو كونه بحيث يستحقّ فاعله المدح ولا يستحقّ تاركه الذمّ وذلك لأنّ هذه الرواية ونظائرها يقصد بها المبالغة في الاستحباب والتنبيه على كون الجهة المحسّنة المقتضية لوقوع التكليف على حسبها متأكّدة ، بحيث يقرب من مرتبة الجهة المحسّنة الملزمة ، والمفروض تحقّق الملازمة بينها وبين الاستحباب الشرعي ، فإنّ استحباب السواك في هذه الشريعة من الامور الواضحة الّتي لا يعتريها شوب الإنكار ، وليس هذا إلاّ من جهة استلزام حسن الفعل حسن التكليف به ووقوعه ، فالرواية باعتبار موردها بالبيان المذكور تصلح لكونها من أدلّة المختار.

__________________

(١) الوسائل ١ : ٣٥٤ الباب ٣ من أبواب السواك ، ح ٤.

(٢) الفصول : ٣٣٩.

٥٢٧

وثالثا : أنّ ثبوت الاستحباب هنا بعد نفي الإلزام لجهة المشقّة آكد في إثبات الملازمة بين حسن الفعل وحسن التكليف به ولو استحبابا لأنّ حسن الفعل على ما أشرنا إليه قد يتضمّن حيثيّتين ، حيثيّة استحقاق الفاعل المدح وحيثيّة استحقاق تاركه الذمّ ، وهذا هو الملازم للإلزام عند أهل القول بالملازمة ، وقد يتضمّن الحيثيّة الاولى فقط وهو الملزوم للاستحباب عندهم ، وكون المشقّة قادحة في حسن الإلزام معناه أنّها ترفع من الحسن بالمعنى الأوّل حيثيّته الثانية مع بقائه بالحيثيّة الاولى ملزوما للاستحباب.

وهذا هو السرّ في بقاء الاستحباب بعد نفي حسن الإلزام ، كما أنّ الجهة المقبّحة إذا طرئت الفعل الحسن ترفع حسنه بكلتي الحيثيّتين.

ورابعا : أنّه لو سلّم بقاء الحسن الملزم في السواك بعد رفع الإلزام فهو بالقياس إلى الإلزام من باب المقتضي ، ويجوز دعوى الملازمة أيضا بينهما بتقريب : أنّه بحيث لو لا المانع لأثّر في الإلزام.

وخامسا : أنّ المسألة عقليّة يطلب فيها القطع ، والقائل بالملازمة إنّما يدّعيها لقاطع ، والرواية خبر واحد ظنّي مع ظنّية دلالته ، فلا يصلح مستندة للمنع في المسألة العقليّة ، إلاّ أن يغيّرا سلوك الاستدلال بالاستناد إلى الأدلّة النافية للعسر والحرج من عمومات الكتاب ، كقوله عزّ من قائل : ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )(١) و ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )(٢) والسنّة كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « بعثت بالملّة الحنيفيّة السهلة السمحة » (٣).

بتقريب : أنّ هذه الأدلّة مسوقة في سياق الامتنان ، فلابدّ من الامور العسرة الشاقّة المرفوع عنها التكاليف الإلزاميّة من حسن ملزم وإلاّ لم يتمّ الامتنان ، فعلم بذلك جواز انفكاك حسن الفعل عن حسن التكليف به على حسبه.

وجوابه : أنّه المعارضة بالمثل بالنظر إلى ما تقدّم من الفاضل المستدلّ من الاعتراف بالملازمة بين حسن التكليف وبين وقوعه ، فإنّ ما ذكر من المحذور مشترك الورود بيننا وبينه ، إذ التكليف المرفوع عن الموارد العسرة الشاقّة إن لم يكن حسنا لم يتمّ الامتنان ، وإن كان حسنا بطلت الملازمة بين حسن التكليف وبين وقوعه.

فإن قلت : إنّ التكليف حسن ولكن عدمه أحسن ، فدار الأمر بين الحسن والأحسن ،

__________________

(١) الحج : ٧٨.

(٢) البقرة : ١٨٥.

(٣) الوسائل ٥ : ٢٤٦ الباب ١٤ من أبواب بقيّة الصلوات المندوبة ، ح ١.

٥٢٨

ويرجع الكلام إلى مسألة كلاميّة وهي أنّه هل يجب على الله تعالى الأخذ بالأولى في أفعاله وأحكامه أو لا؟ وذلك كما يقال : إنّ عقوبة أهل المعصية حسن والعفو عنهم أحسن ، فعلى القول بالوجوب وجب اختيار الأحسن ، وهذا هو السرّ في عدم وقوع التكليف مع كونه حسنا.

قلت : هذا لا يدفع المعارضة ، إذ المفروض عدم وقوع التكليف سواء كان الباعث عليه كونه أحسن أو جهة اخرى ، فلابدّ في التفصّي عن الإشكال إمّا من منع منافاة عدم وقوع التكليف لمقام الامتنان مع الاعتراف بخلوّه عن الحسن ، أو من منع ورود الأدلّة المذكورة في مقام الامتنان ، بل إنّما وردت لبيان الواقع من عدم تعلّق تكليف إلزامي بالامور العسرة الشاقّة ، فإذا جاز للمستدلّ في دفع المعارضة أحد هذين المنعين جاز لنا أيضا في ردّ الاستدلال ونقول : إنّ هذه الامور خالية عن الحسن الملزم بطروّ المشقّة والعسر ، ولكن رفع التكليف عنها مع هذا الفرض لا ينافي الامتنان ، أو أنّ الأدلّة الدالّة على رفعه ليست مسوقة للامتنان.

ولو تمحّل فعدل عن التقريب المذكور إلى الاستدلال بالامور المذكورة المرفوع عنها التكاليف الإلزاميّة على نهج آخر ، وهو أنّ التكليف الّذي هو فعله سبحانه إنّما يحسن لكونه لطفا ، بمعنى المقرّب إلى الطاعة والمبعّد عن المعصية ، والامور الشاقّة ولا سيّما ما لا يتحمّل منها عادة في عرضة عدم الوقوع من أغلب آحاد الناس ، فلو وقع بها التكاليف الإلزاميّة كان منافيا للّطف الواجب عليه تعالى ، لكونها حينئذ مقرّبة إلى المعصية ومبعّدة عن الطاعة فيقبح وقوعها منه تعالى وإن فرض اشتمال هذه الامور على الحسن فظهر بذلك أنّ المدار في حسن التكليف وعدمه على اللطف وخلافه ، فما كان لطفا حسن وما كان منافيا له قبيح ، لا على حسن الفعل وعدمه.

وممّا ينبّه على ذلك ما في كلام علماء الكلام من أنّ التكليف حسن لأنّه نفع ، وواجب لأنّه زجر أي زجر عن المعصية ، ومرجعه مع ما ذكر إلى أنّ التكليف لا يتبع صفات الفعل المكلّف به ، بل إنّما يتبع الصفات الّتي في نفسه.

لدفعناه : بمنع استناد المعصية إلى التكليف الإلزامي على تقدير وروده بهذه الامور ، فإنّ عدم وقوعها من لوازم ما فيها من المشقّة وورود التكليف الإلزامي بها يوجب صدق المعصية على هذا الترك لا أنّه يؤثّر فيه ، فلا يكون مقرّبا إليها ليقبح باعتبار كونه خلاف اللطف.

نعم إنّما لا يحسن باعتبار كون المشقّة الطارئة أثّرت في خروجها عن الحسن الملزم ، على معنى ارتفاع الجهة المقتضية للإلزام من حسنها.

٥٢٩

ولا ريب في قبح التكليف الإلزامي بما ليس فيه حسن إلزامي ، فيكون المدار في حسن التكليف وعدمه على حسن الفعل وعدمه ، ولذا صحّ التكليف الإلزامي بما لا يرتفع حسنه الملزم بالمشقّة كالجهاد والحجّ والصوم في القيظ (١) ونحو ذلك.

ومنها : أنّ الصبيّ المراهق إذا كان كامل العقل لطيف القريحة تثبت الأحكام العقليّة في حقّه كغيره من الكاملين ، ومع ذلك لم يكلّفه الشارع بوجوب ولا تحريم لمصالح داعية إلى ترك تكليفه بهما ، من التوسعة عليه وحفظ القوانين الشرعيّة عن التشويش وعدم الانضباط. (٢)

وفيه : أنّه قد ظهر من تضاعيف كلماتنا السابقة أنّ الحكم الشرعي له مراتب ثلاث ، الطلب الفعلي المتعلّق بالفعل أو الترك المعبّر عنهما بالإيجاب والتحريم ، والمجعول الواقعي المكتوب في اللوح المحفوظ ، والمحبوبيّة والمبغوضيّة النفسانيّتان ، والقدر المسلّم عدم ثبوته في حقّ الصبيّ المراهق في موارد الأحكام العقليّة الثابتة في حقّه إنّما هو الحكم الشرعي بالمعنى الأوّل ، وهذا لا ينافي ثبوت الأحكام المجعولة في

الواقع المكتوبة في اللوح المحفوظ في حقّه ، ولا محبوبيّة ومبغوضيّة أفعاله وتروكه للشارع تعالى بحيث يترتّب على موافقتهما ومخالفتهما استحقاق المثوبة والعقوبة.

وهذا على ما بيّنّاه مرارا كاف في انعقاد الحكم الشرعي ، سواء سمّيته تكليفا أو لا ، ولا نعني بالملازمة بين الأحكام العقليّة والأحكام الشرعيّة أزيد ممّا يلازم الحكم الشرعي بهذا المعنى ، وهذا لا ينافي ما ورد في الأخبار من رفع القلم عن الصبيان بقول مطلق ، لجواز أن يراد برفع القلم عنهم رفع قلم العقوبة عنهم في معاصيهم الغير المنافي لاستحقاقها فيكون مفاد الأخبار المشار إليها الوعد والإخبار بالعفو الحتمي عنهم لمصالح دعت إليه ، وكم من هذا القبيل في الشريعة ، ومن هذا الباب العفو عن قصد المعصية على ما ورد به الروايات المستفيضة ، مع أنّه قبيح بصريح العقل واستفاضة النقل عليه كتابا وسنّة.

ومنها : إنّ جملة من الأوامر الشرعيّة متعلّقة بجملة من الأفعال مشروطة بقصد القربة والامتثال ، حتّى أنّها لو تجرّدت عنه لتجرّدت عن وصف الوجوب كالصوم والصلاة والحجّ والزكاة ، فإنّ وقوعها موصوفة بالوجوب الشرعي أو رجحانه مشروط بنيّة القربة حتّى أنّها لو وقعت بدونها لم تتّصف به ، مع أنّ تلك الأفعال بحسب الواقع لا تخلو إمّا أن تكون

__________________

(١) القيظ : شدّة الحرّ ، و « القيظ » الفصل الذي يسمّيه الناس الصيف ( المصباح المنير ).

(٢) الفصول : ٣٣٩.

٥٣٠

واجبات عقليّة مطلقا أو بشرط الأمر بها ووقوعها بقصد الامتثال.

وعلى التقديرين يثبت المقصود ، أمّا على الأوّل : فلحكم العقل بوجوبها عند عدم قصد الامتثال وحكم الشرع بعدم وجوبه ، وأمّا على الثاني : فلانتفاء الحسن قبل التكليف وحصوله بعده ، فلم يتفرّع حسن التكليف على حسن الفعل. (١)

وفيه : أنّه ينبغي أن يعلم أوّلا : أنّ الأفعال المذكورة الّتي هي من قبيل العبادات لا يجوز أن تكون بحسب الشرع بالقياس إلى قصد الامتثال واجبات مشروطة ، بأن يكون وجوبها مشروطا بقصد امتثال الأمر ، لئلاّ يلزم توقّف الشيء على نفسه ، فإنّ قصد امتثال الأمر يتوقّف على الأمر ، فلو توقّف عليه الوجوب الشرعي الّذي هو عبارة اخرى للأمر لتوقّف على نفسه وهو محال.

وبهذا علم فساد ما يفهم من قوله : « وحكم الشارع بعدم وجوبه » من اشتراط حكم الشارع بالوجوب بقصد الامتثال قبالا لحكم العقل بالوجوب من غير اشتراط ، ومحصّله : كون الوجوب العقلي بالقياس إليه مطلقا والوجوب الشرعي مشروطا.

وربّما ينهض ذلك قرينة على كون « مشروطة » في صدر العبارة نصبا على أن يكون حالا لمضمون الجملة المتقدّمة ، أو رفعا على أن تكون خبرا بعد خبر لإسم « إن » في هذه الجملة ، لا جرّا على أن تكون نعتا ل « جملة من الأفعال » من الأفعال كما هو أحد محتملات هذا القيد ، فيكون مفاد هذه العبارة أيضا على التقديرين كون الأوامر الشرعيّة المتعلّقة بتلك الأفعال مشروطة بقصد الامتثال.

وقد عرفت أنّه محال ، فوجب كونها بالقياس إليه بحسب الشرع واجبات مطلقة.

وحينئذ فإمّا أن يكون في حدّ أنفسها مشتملة على مصلحة واقعيّة قصد من الأمر بها حصول تلك المصلحة أو لا ، بل كانت المصلحة في أمر خارج يكون فعل المأمور به باعتبار الأمر به محصّلا له كالإطاعة والامتثال.

وعلى الأوّل : فإمّا أن يكون قصد الامتثال من قيود المأمور به على وجه يكون له كسائر قيوده مدخليّة في حصول المصلحة المقصودة من الفعل ، بأن لم يكن للآمر غرض من الأمر به إلاّ حصول هذه المصلحة المتوقّف على قصد الامتثال ، أو لا يكون من قيوده بل إنّما اعتبر لكونه محقّقا للامتثال الّذي هو كمصلحة الفعل من أغراض الآمر من الأمر به ،

__________________

(١) الفصول : ٣٣٩.

٥٣١

بأن يكون له غرضان أحدهما حصول مصلحة الفعل ، والآخر حصول الامتثال الّذي قد يكون مطلوبا لنفسه ولا يحصل إلاّ بالقصد ، كما أنّه في القسم المتقدّم الّذي لم يقصد في الأمر بالفعل مصلحة إلاّ مصلحة الامتثال إنّما يعتبر لكونه محقّقا له فهذه أقسام ثلاث وموارد التعبّد المعتبر في صحّتها نيّة القربة وقصد الامتثال بأجمعها لا تخلو عن هذه الأقسام ، ولا يتّجه النقض بشيء منها.

أمّا القسم الأوّل : فلحسن الفعل اللازم من المصلحة الموجودة فيه بالفرض ، المستتبع لوقوع التكليف الشرعي على حسبه. وكذلك على القسم الثاني.

وأمّا القسم الثالث : فلأنّ الفعل كما أنّه خال عن الحسن النفسي فكذلك الأمر به أيضا خال عنه ، بل الحسن إنّما هو في الأمر الخارج وهو الامتثال.

نعم ربّما يعرضهما حسن غيريّ لجهة كون الفعل باعتبار الأمر الوارد به محصّلا لما هو حسن لنفسه ، فإن كان النظر في هذا القسم إلى خلوّ الفعل عن الحسن الذاتي فالأمر أيضا مثله ، وإن كان النظر إلى حسن الأمر لغيره فالفعل أيضا مثله ، فبطل بجميع ما ذكر قوله : « لانتفاء حسن الفعل قبل التكليف وحصوله بعده فلم يتفرّع حسن التكليف على حسن الفعل ».

فإنّا نقول : إنّ وجوب الفعل عقلا فيما هو حسن لنفسه مطلق مع كون حسن التكليف متفرّعا عليه ، وكأنّه رحمه‌الله فرض الكلام على تقدير اشتراط الأوامر المذكورة بقصد القربة ، بل هو على ما عرفت ظاهر عبارته ذيلا بل صدرا أيضا بعد إنهاض الذيل قرينة للصدر وقد ظهر فساده ، ولعلّه وهم نشأ عن ملاحظة عدم اتّصاف الخالي عن قصد القربة بالوجوب فزعم أنّه شرط في الوجوب ، ولم يفرّق بين المصداق والعنوان ، فإنّ المأمور به بحسب العنوان إذا كان هو الفعل المقرون بالنيّة مثلا فلا يكون الفعل الخالي عنها خارجا عنه باعتبار كون القيد المذكور كسائر قيوده للاحتراز ، فعدم اتّصاف ما خرج بالوجوب إنّما هو لخروجه عن حكم المأمور به لا لاشتراط وجوبه بحسب العنوان الكلّي بقصد الامتثال فليتدبّر.

ثمّ إنّ الوجوه المذكورة هي الشبهات الّتي عجز الفاضل المستدلّ بها عن حلّها ، فأحدث القول المتقدّم بالفرق بين التلازم الواقعي فأنكره والتلازم الظاهري فأثبته ، وكلامه في بيان الثاني هو « أنّه لو جهل العقل جهات التكليف وأدرك جهات الفعل حكم في الظاهر بثبوت التكليف ، عملا بعموم الآيات وما في معناها من الأخبار ، ولأنّ قضيّة جهات الفعل وقوع التكليف على حسبها إن لم يعارضها مانع ، ولا يكفي احتماله ، إذ المحتمل

٥٣٢

لا يصلح في نظر العقل لمعارضة المقطوع به ، وقريب منه ما لو أدرك العقل بعض جهات الفعل المقتضية لحسنه أو قبحه وشكّ في وجود جهة فيه تعارض تلك الجهة ، فإنّه يحكم بثبوت التكليف على حسبها ولا يعتدّ باحتمال الجهة المعارضة ، إمّا لأصالة عدمها أو لحكم العقل بقبح الفعل أو الترك والحال هذه حكما واقعيّا ، وإن كان مبناه على الظاهر » إلى آخر ما ذكره. (١)

والظاهر أنّ مراده من عموم الآيات وغيرها بقرينة سابق كلامه نحو قوله تعالى : ( يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ )(٢) وغيره ممّا يدلّ على أنّه يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن السوء والفحشاء.

ومحصّل مرامه : أنّ الأحكام الشرعيّة المثبتة بالأحكام العقليّة أحكام ظاهريّة ، لكون الحكم بها مراعى بعدم وجود المانع وعدم ظهور جهة معارضة ، فتكون كالأحكام الظاهريّة المستفادة من نحو أصلي الإباحة والبراءة المعلّقة على عدم وجود دليل على الحرمة والوجوب ، كإباحة شرب التتن وعدم وجوب غسل الجمعة مثلا المحكوم بهما عقلا ونقلا ما لم يوجد دليل على خلافهما ، ومنشؤه على ما ظهر من تعليلاته مصادفة حكم العقل لاحتمال وجود المانع ، الّذي هو أعمّ من احتمال وجود الجهة المعارضة للجهة المحسّنة أو المقبّحة للفعل في نظر العقل ، ولعلّه أراد بالمانع في مقابلة الجهة المعارضة ـ مع أنّها أيضا من قبيل المانع ـ ما هو نظير الصغر في الصبيّ المراهق المانع من توجّه الخطاب إليه ، وإن اتّصف أفعاله بالحسن والقبح عند العقل ، والمشقّة في موارد العسر والحرج المانعة من التكليف الإلزامي بها وإن اشتملت عند العقل على الحسن الملزم.

وكيف كان فيرد عليه : ما تقدّم تحقيقه من أنّ العقل في قضايا حكمه ما لم يحط بجميع جهات الفعل ولم ينسدّ عنده جميع الاحتمالات لم يحكم فيه بحسن ولا قبح.

نعم إنّما يتمشّى احتمال وجود المانع أو وجود الجهة المعارضة في القضيّة الشخصيّة الّتي موضوعها من مصاديق موضوع حكم العقل في القضيّة الكلّية ، وهو ليس من محلّ البحث في مسألة الملازمة ، ولعلّ تجويز جريان الاحتمال في قضيّة حكم العقل وهم نشأ من اشتباه المصاديق بالمفاهيم.

والسرّ في عدم جريان احتمال وجود المانع في قضيّة حكم العقل هو أنّ المانع هاهنا ليس على حدّ المانع بالمعنى المعهود المقابل للمقتضي ، الغير المنافي وجوده لوجوده بل

__________________

(١) الفصول : ٣٤٠.

(٢) الأعراف : ١٥٧.

٥٣٣

إنّما يمنعه عن الاقتضاء ويؤثّر في عدم اقتضائه لا في ارتفاعه ، بل المراد به ما ينافي المقتضي ويرفعه.

ألا ترى أنّ قبح الكذب من حيث هو مقتض لتحريمه شرعا ، وإذا طرأه جهة النفع في حفظ النفس المحترمة عن القتل يقال لها المانع ، مع أنّها رافعة لقبح الكذب لا أنّها مانعة عن اقتضائه التحريم مع بقائه ، وذلك لأنّ القبح عبارة عن كونه بحيث يستحقّ فاعله الذمّ ، وإذا لحقته جهة النفع خرج عن كونه بحيث يستحقّ فاعله الذمّ إلى كونه بحيث يستحقّ فاعله المدح ، لا أنّه مع كونه بحيث يستحقّ فاعله الذمّ يصير بحيث يستحقّ فاعله المدح أيضا ، بأن يجتمع فيه الوصفان مع منع الوصف الثاني عن تأثير الأوّل في الحكم الشرعي وهو التحريم.

وحينئذ فمعنى احتمال وجود المانع في موضوع حكم العقل احتمال وجود ما لا يجامع حسنه أو قبحه ، وحيثما احتمل ذلك في نظر العقل يبقى متحيّرا ومتردّدا في حسن ذلك الشيء وقبحه ، على معنى هل هو بحيث يستحقّ فاعله المدح أو هو بحيث يستحقّ فاعله الذمّ؟ ومعه يستحيل منه الحكم بحسنه وقبحه ، ولا يجديه أصالة عدم وجود المانع نفعا في رفع هذا التحيّر والتردّد المانع عن الحكم بهما.

غاية ما هنالك أن يحكم بأحدهما على تقدير عدم وجوده ، ولا ريب أنّ تقدير الشيء لا يحقّقه في الخارج ، والحسن والقبح التقديريّان لا يؤثّران عند العقل في حكم شرعي أصلا ، لا واقعا ولا ظاهرا.

ألا ترى أنّه لو قيل : « هذا المايع إن كان خمرا فهو حرام » ، فلا خفاء في أنّ تقدير كونه خمرا مع عدم ثبوت خمريّته لا يوجب الحكم عليه بالحرمة الواقعيّة ولا الظاهريّة ، فكلّ ما حكم فيه العقل بحسن أو قبح فلا بدّ وأن يلازم الحكم الشرعي واقعا ، وكلّما لم يحكم فيه بحسن أو قبح على التحقيق لاحتمال وجود المانع لم يعقل فيه حكمه بالملازمة ، لا واقعا ولا ظاهرا.

وبالجملة فالعقل إذا أدرك في الشيء حسنا أو قبحا يحكم ببداهته بالتكليف الشرعي على حسبما أدركه ، ويستحيل حكم الشارع بخلافه ، لقبح النهي عن الحسن والأمر بالقبيح ، وإذا أدرك تساوي فعله وتركه وخلوّه عن الحسن والقبح يحكم ببداهته بإباحته ، ولا يجوّز خلافها لقبح إيجاب نحوه أو تحريمه ، إلاّ أن يعرضه حسن بعد الأمر به باعتبار كونه مقدّمة لمحبوب وهو الامتثال ، فرجع الكلام إلى أنّ جهات الفعل والصفات الكامنة فيه حيثما استقلّ العقل بإدراكها علل تامّة للأحكام الشرعيّة الواقعيّة.

٥٣٤

وبهذا ينقدح أنّ ما ذكرناه سابقا من أنّ الحسن والقبح فيما إذا كان الفعل لعنوانه الخاصّ مقتضيا لهما كالصدق والكذب مقتضيان للحكم الشرعي ، فيجامعهما المانع عن اقتضائهما ليس على ما ينبغي ، بل التحقيق الّذي يساعد عليه النظر الدقيق أنّ كلاّ منهما في جميع موارده علّة تامّة للحكم الشرعي ، وإن كان الفعل لعنوانه الخاصّ مقتضيا له ، إذ معنى الجهة المانعة للفعل عن الاقتضاء أنّه يمنعه عن اقتضاء الحسن كما في الصدق الضارّ ، أو عن اقتضاء القبح كما في الكذب النافع ، فمع وجودها لا حسن في الأوّل ولا قبح في الثاني ، ليكون بالقياس إلى الحكم الشرعي مقتضيا ومع عدمها وجب التأثير.

ومن هنا ظهر فساد ما قد يقال : من أنّ الفعل القبيح إذا لحقته الجهة المحسّنة فالإتيان به إنّما هو من باب ارتكاب أقلّ القبيحين ، كما في الكذب النافع في إنجاء النبيّ عن القتل مثلا فإنّ كلاّ من الكذب وترك الإنجاء قبيح إلاّ أنّ قبح الثاني أكثر ، ومنه العمل بالظنّ حال انسداد باب العلم الّذي تطابق العقل والنقل بقبحه ، فإنّه إنّما يسوغ لكونه أقلّ القبيحين منه ومن مخالفة العلم الإجمالي بترك امتثال الأحكام المعلومة بالإجمال رأسا ، إذ القبيح عند طروّ الجهة المحسّنة له لا يبقى على قبحه ليكون فعله من ارتكاب أقلّ القبيحين.

هذا تمام الكلام في قضيّة قولهم : « كلّما حكم به العقل حكم به الشرع ».

وأمّا عكسها : وهو « أنّ كلّما حكم به الشرع حكم به العقل » فالكلام فيه هو أنّ حكم الشرع في موضوع هذه القضيّة إمّا أن يراد به إنشاء الشارع بإيجاب أو تحريم أو غيرهما ، أو جعله الواقعي للوجوب أو الحرمة أو غيرهما ، أو الوصف النفساني المعبّر عنه بالحبّ والبغض النفسانيّين ، وحكم العقل في محمول القضيّة إمّا أن يراد به إدراكه لعين ذلك الحكم المحكوم به الشرعي ، أو حكمه على الفعل بالوجوب والحرمة العقليّين المأخوذ فيهما استحقاق المدح والذمّ ، وملخّصه : كون الفعل بحيث يحسّنه العقل أو يقبّحه.

وعلى التقديرين ينبغي أن يراد من حكمه ما يعمّ الشأني ـ ليكون المعنى أنّ كلّما حكم به الشرع فهو بحيث لو أدرك فيه العقل صفات الفعل وأحاط بجميع جهاته لأدرك ذلك الحكم الشرعي ، أو حكم بوجوبه أو حرمته العقليّين ـ لا الفعلي بالخصوص ، لئلاّ ينتقض بغير مستقلاّته الّتي لا يدرك فيها إلاّ من جهة خطاب الشرع ، الكاشف عن وجود الصفة المحسّنة أو المقبّحة في الفعل بحسب الواقع ، إلاّ أن يراد بالعقل خصوص العقول الصحيحة الكاملة ، فيرجع معنى القضيّة حينئذ إلى ما تقدّم عن المتكلّمين من عدّهم من

٥٣٥

أعلام نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه كان يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطيّبات بالبيان المتقدّم ، ومنه ما سبق من قصّة الأعرابي.

والأصل في هذه القضيّة مضافا إلى شهادة حديث الأعلام وقصّة الأعرابي لزوم الترجيح من غير مرجّح في إيجابه تعالى أو تحريمه أو غيرهما ، أو جعله الوجوب أو الحرمة أو غيرهما ، أو حبّه أو بغضه لو لا اشتمال الفعل بحسب الواقع على صفة محسّنة أو مقبّحة ، وهو قبيح على الحكيم ، كما أنّه يقبح عليه التسوية بين طرفي الفعل والترك فيما اشتمل على صفة محسّنة أو مقبّحة.

وأمّا ما يقال في دفعه : من منع الملازمة ، لجواز كون المرجّح على تقدير الخلوّ عن الصفات بالمرّة إرادته تعالى ، نظير ما قيل في دفع احتجاج القائل بكون دلالات الألفاظ على معانيها لمناسبات ذاتيّة بينهما بأنّه لولاها لزم الترجيح بلا مرجّح إن كان هناك تخصيص وإلاّ لزم الترجيح من غير مرجّح ، فدفع بأنّ إرادة الحكيم تصلح مرجّحة للتخصيص.

ففيه : أنّ الإرادة في المقامين عبارة عن العلم بالأصلح لا القصد لئلاّ يلزم التسلسل ، فتجويز كون المرجّح فيما نحن فيه هو الإرادة اعتراف بمطلوبنا ، إذ الأصلحيّة ممّا لا معنى محصّل له إلاّ الوجوب والحرمة العقليّين.

وقد يستدلّ أيضا بالإجماع محصّلا ومنقولا ، وبالآيات والأخبار الدالّة على أنّه تعالى لا يأمر إلاّ بحسن ولا ينهى إلاّ عن قبيح ، ومنه قوله عزّ من قائل : ( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ )(١) حصر تعالى تحريمه في الفواحش وهي القبائح ، فدلّ على أنّه كلّما حرّمه الشارع فهو بحيث لو أدرك العقل قبحه الواقعي كما أدركه الشارع لحكم بالتحريم أيضا.

فثبت بما قرّرناه من الملازمة في القضيّتين أنّ العقل والشرع متطابقان.

ثمّ إنّ الفاضل المذكور نقل في مسألة الملازمة قولين آخرين :

أحدهما : ما عن بعض من التفصيل بين الأحكام المتعلّقة بالمعارف فأثبتها وغيرها فأنكرها ، محتجّا بما دلّ عليه جملة من الأخبار (٢) من تعذيب عبدة الأوثان ، فإنّها بإطلاقها تشمل زمن الفترة أيضا ، فتدلّ على حجّية مدركات العقل بالنسبة إلى العقائد (٣).

__________________

(١) الأعراف : ٣٣.

(٢) الكافي ٣ : ٢٤٩ ، ح ٦ و ٧ ، البحار ٥ : ٢٩٢ ـ ٢٩٣ ، ح ١٤ و ١٥.

(٣) الفصول : ٣٤٥.

٥٣٦

وثانيهما : ما حكاه عن بعض الأفاضل من الفرق بين الضروريّات والنظريّات فخصّ النفي بالنظريّات محتجّا بأمرين :

الأوّل : ما دلّ من الأخبار على أنّ دين الله لا يصاب بالعقول (١) ، وما دلّ على أنّ الناس مكلّفون بالرجوع إلى الكتاب والسنّة (٢) ، فإنّ ظاهرهما حصر الحجّة فيهما.

الثاني : أنّ المطالب النظريّة كثيرا مّا يقع فيها الاشتباه والخطأ وإن بالغ الناظر في المحافظة على مقدّماتها ، كما يشهد به الوجدان فلا يحصل للناظر القطع بها ، لأنّه كلّما رتّب البراهين بمقدّماتها المستلزمة للمطلوب منع نفسه من الانقياد بها والتسليم لمقتضاها علمه الإجمالي بكثرة وقوع الخطأ في النظر ، وإنّ الناظر كثيرا مّا يقطع بالحكم بمشاهدة مقدّمات معلومة عنده بالضرورة ثمّ ينكشف خلافه ، فيجوز أن يكون علمه بالحكم المستفاد من النظر من ذلك القبيل ، إذ لا يتمكّن من التميّز بحيث لا ينتقض بذلك اليقين الإجمالي ، وإذا تحقّق عنده ذلك امتنع جزمه بالحكم (٣).

وأنت بملاحظة ما نبّهنا عليه مرارا من الفرق بين النزاع في الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع والنزاع في حجّية إدراكات العقل ، تعرف أنّ عدّ هذين القولين من أقوال النزاع في الملازمة خلط بين المقامين ، لأنّهما بملاحظة حججهما المذكورة يناسبان النزاع في حجّية إدراكات العقل.

ومع هذا نقول في دفع حجّة الأوّل : بأنّ الأخبار إنّما دلّت على تعذيب عبدة الأوثان لمخالفتهم الواقع بعد انكشافه لهم ، فهو المناط في استحقاقهم التعذيب ، وهو موجود فيما يستقلّ فيه العقل من الفروع أيضا ، لأنّ إدراك العقل فيها معناه انكشاف الواقع عنده لازمه استحقاق التعذيب على المخالفة ، بل استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع بعد انكشافه ضروريّ لا حاجة له إلى الاستدلال.

وفي دفع أوّل حجّتي الثاني : أنّ الأخبار المشار إليها إنّما وردت ردّا على العامّة في تخريجهم علل الأحكام بعقولهم القاصرة ، ومعناها أنّ العلل الخفيّة لأحكام الدين لا تبلغ إليها العقول الناقصة ، كما هو ظاهر قوله عليه‌السلام : « لا يصاب » فإنّ إصابة الشيء عبارة عن البلوغ إليه ، فتكون مختصّة بما لا يستقلّ فيه العقل ، لأنّ مفادها نفي إدراك العقل لا نفي حجّية

__________________

(١) الكافى ١ : ٤٦ ، ح ١٣ و ١٦.

(٢) الكافي ١ : ٦٩ ـ ٧١ باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب.

(٣) الفصول : ٣٤٥.

٥٣٧

إدراكه بعد حصوله ، مع أنّها لو كانت متعرّضة لنفي حجّيته لكانت شاملة للضروريّات أيضا.

وفي دفع ثانيهما : أنّا ندّعي الحجّية في قطع العقل على تقدير حصوله ، لأنّه عبارة عن انكشاف الواقع ووجوب الأخذ بالواقع بعد انكشافه ضروريّ ، ويكفي فيه أدلّة الواقع ولا حاجة له إلى دليل آخر ، والعلم الإجمالي بوقوع الخطأ في النظريّات لا يمنع عن حصول القطع في بعض الموارد ، وبعد حصوله يستحيل تجويز الخطأ فيه من القاطع ، وتجويزه من غيره لا يقدح في حجّيته للقاطع على معنى وجوب ترتيب آثار الواقع على المقطوع به ، لأنّه في نظر القاطع ليس إلاّ الواقع.

المقام الثالث

في أنّ الأشاعرة بعد مخالفتهم العدليّة في أصل التحسين والتقبيح العقليّين وإنكارهم حكومة العقل رأسا ، تنزّلوا من باب المماشاة عمّا ادّعوه من السلب الكلّي إلى إنكار حكم العقل في مسألتين تتفرّعان على مذهب العدليّة :

إحداهما : وجوب شكر المنعم ، فقالوا : بأنّه لا حكم للعقل فيها.

واخراهما : الأشياء الغير الضروريّة النافعة قبل ورود الشرع ، فقالوا : بأن لا حكم له فيها أيضا لا بإباحة ولا حظر.

ووافقهم في الثانية بعض المعتزلة واختلف الآخرون ، فبعضهم إلى أنّه يحكم بالإباحة وآخر إلى أنّه يحكم بالحظر ، وثالث إلى الوقف ، ولا يرجع ذلك إلى قول الأشاعرة لأنّه نفي لحكم العقل وهذا توقّف في الحكم وعدمه ، ومعناه أنّه لا يدري أنّه يحكم أو لا؟ وعلى الأوّل بأيّ شيء يحكم؟

ومن الأعلام (١) من زعم في هذا المقام أن ليس في الأشياء ما اتّفق العدليّة على حكم العقل بإباحته ، تعليلا بأنّه إذا كان نحو شمّ الورد وأكل الفاكهة ممّا اختلف في إباحته وحظره ، فأيّ شيء يبقى ليكون إباحته ممّا اتّفقت عليه العدليّة؟

ثمّ أورد على من قال بأنّ ما يستقلّ فيه العقل ينقسم عند العدليّة إلى الأحكام الخمس مؤذنا بدعوى إجماع العدليّة عليه ، ورماه بالغفلة في هذه الدعوى لما زعمه من عدم اتّفاق العدليّة على الحكم بإباحة شيء ، ولا خفاء في أنّه ليس كما زعم ، لأنّ ما اتّفق العدليّة على

__________________

(١) القوانين ٢ : ٩.

٥٣٨

انقسامه إلى الأحكام الخمسة هو ما أحاط العقل بجميع جهاته من الأشياء ، فأدرك في بعضها حسنا ملزما فيكون واجبا ، وفي بعضها حسنا غير ملزم فيكون مندوبا ، وفي بعضها قبحا ملزما فيكون محرّما ، وفي بعضها قبحا غير ملزم فيكون مكروها ، وفي بعضها خلوّه عن جميع الجهات المحسّنة والجهات المقبّحة فيكون مباحا ، وما اختلفوا في إباحته وحظره ما لم يدرك فيها حسنا ولا قبحا لعدم إحاطته بجميع جهاته ، على معنى جهله بجهاته الواقعيّة مع اشتماله على منفعة خالية عن أمارة المضرّة.

فالاختلاف في إباحة نحو ذلك لا ينافي الاتّفاق على حكم العقل بإباحة نحو ما تقدّم.

نعم غاية ما هنالك القدح في تحقّق ما أدرك العقل خلوّه عن جميع الجهات من الأشياء في الخارج.

وهذا على تقدير صحّته قدح في الصغرى ولا يوجب كذب الكبرى ، لأنّ الحكم بإباحة ما ذكر إنّما هو على تقدير تحقّقه في الخارج.

وهاهنا إشكال مشهور ـ تقدّم الإشارة إليه وإلى دفعه في تعريف الدليل العقلي ـ متوجّه إلى أهل القول بالإباحة والحظر ، فإنّ القول بحكم العقل بأحدهما يناقض فرض كون هذه الأشياء ممّا لا يستقلّ فيه العقل.

ويندفع أوّلا : منع كونها ممّا لا يستقلّ فيه العقل ، وإخراجها عن عنوان ما يستقلّ فيه أمر حدث من المتأخّرين ، وإلاّ فهي بحسب أصل تدوين مسألة التحسين والتقبيح العقليّين وعند أوائل العدليّة كانت من أفراد ما يستقلّ فيه العقل ، المتنازع في استقلال العقل فيها بإدراك الحسن والقبح ، أو بإدراك الحكم الشرعي بدون ملاحظة خطاب الشرع ، ولذا يسمّى البحث فيها على رأي الأشاعرة بمسألة « التنزّل ».

وثانيا : أنّ معنى ما يستقلّ فيه العقل عند العدليّة ما يستقلّ فيه عند جميع العدليّة ، وكون هذه الأشياء ممّا لا يستقلّ فيه العقل معناه عدم استقلال العقل فيه عند كلّ العدليّة ، وهذا لا ينافي كونها ما يستقلّ فيه العقل عند بعضهم ، والمفروض أنّ القائل بأنّ العقل يحكم فيها بالإباحة أو الحظر بعض العدليّة لا كلّهم.

وثالثا : أنّ ما يستقلّ فيه العقل معناه استقلال العقل بإدراك حسنه أو قبحه بالمعنى المأخوذ فيه استحقاق المدح والذمّ ، وعدم استقلال العقل في هذه الأشياء بإدراك الحسن والقبح بهذا المعنى لا ينافي استقلاله بإدراك الحسن والقبح بمعنى آخر ، وقد تقدّم أنّ من

٥٣٩

معاني الحسن والقبح ما لا حرج في فعله وما في فعله حرج ، والإباحة معناها عدم الحرج في الفعل والحظر معناه الحرج فيه.

ورابعا : أنّ عدم استقلال العقل بإدراك الحسن والقبح في هذه الأشياء لا ينافي استقلاله بإدراك الحكم الشرعي من إباحة أو حظر بدون واسطة إدراكه الحسن والقبح.

وقد يجاب بوجهين آخرين :

الأوّل : أنّ معنى عدم استقلال العقل فيها عدم استقلاله لعناوينها الخاصّة مع قطع النظر عن اندراجها تحت عنوان عامّ استقلّ فيه العقل ، وهذا لا ينافي حكمه فيها بالاباحة أو الحظر بملاحظة اندراجها تحت العنوان العامّ ، وهو ما اشتمل على المنفعة ، أو التصرّف في ملك الغير من دون إذنه.

وردّ : بنقضه ببعض ما يستقلّ فيه العقل الّذي لا يحكم العقل بحسنه أو قبحه لعنوانه ، بل بملاحظة اندراجه تحت عنوان عامّ حكم بحسنه أو قبحه ، كلطم اليتيم المحكوم عليه بالقبح لاندراجه في عنوان الظلم.

الثاني : أنّ معنى عدم استقلال العقل فيه عدم حكمه فيه بشيء ابتداءا وبدون النظر في وسط ، وهذا لا ينافي حكمه بالنظر إلى وسط.

وردّ أيضا : بنقضه ببعض ما يستقلّ فيه العقل ، كإعطاء الفقير المحكوم عليه بالحسن بواسطة كونه إحسانا.

وقد يجاب أيضا : بأنّ معنى ما لا يستقلّ فيه العقل أنّه لا يدرك فيه الحكم الواقعي بالاستقلال ، وهذا لا ينافي إدراكه فيها ما يكون حكما ظاهريّا ، فإنّ المراد بالإباحة والحظر المبحوث عنهما الإباحة والحظر الظاهريّان ، كما نسب القول به إلى بعض.

ويشكل ذلك : بأنّ ملاك الحكم الظاهري دخول الجهل بالحكم الواقعي والشكّ فيه في موضوعه ، وإنّما يتمّ ما ذكر لو كان مناط حكم العقل بالإباحة أو الحظر في نظر المبيحين والحاظرين في هذه الأشياء جهالة حكمها الواقعي ، بأن يحكم العقل بأحدهما لأنّها مجهول الحكم ، وهو خلاف مقتضى كلمات الفريقين وأدلّتهما على ما ستعرفها ، فالأظهر كون المراد بهما الإباحة والحظر الواقعيّين ، ولذا تمسّك المبيحون بأنّه لو كان لها حكم غير الإباحة لبيّنه الشارع ، والحاظرون بحرمة التصرّف في مال الغير بدون إذنه ، إذ لا شكّ في أنّ هذه الحرمة حرمة واقعيّة.

٥٤٠