تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٥٥٥

أمارة ظنّية توجب الظنّ الاطمئناني بمطابقة الواقع أخذنا بها وتركنا من جهتها الاحتياط ، وكلّ مسألة لم يوجد فيها نحو هذه الأمارة ، يعمل فيها بالاحتياط سواء لم يوجد فيها أمارة أصلا كالمسائل المشكوكة ، أو كانت ولم تبلغ مرتبة الاطمئنان.

نعم لو لم يمكن الاحتياط من جهة دوران الأمر بين المحذورين ، تعيّن البناء على التخيير في المسائل المشكوكة ، والعمل بالظنّ في المظنونة بالظنّ الغير الاطمئناني وإن كان في غاية الضعف ، لأنّ الموافقة الظنّية أولى من غيرها.

أقول : وهذا التفصيل عندنا بمعزل عن التحقيق ، لما يرد عليه بظاهره من خروج الأصل القطعي وهو أصل البراءة ـ على ما بيّناه عند الكلام في مقدّمات دليل الانسداد ـ في الشبهات الحكميّة بلا مورد ، وهو خلاف مقتضى العقل والنقل بل الإجماع ، حتّى على طريقة الأخباريّة ولكن في الشبهات الوجوبيّة ، فهو بالإعراض عنه أحرى.

وعمدة المطلب في المقام هو النظر في ثبوت الترتّب بين الظنّ الاطمئناني والظنّ الغير الاطمئناني ، على معنى عدم جواز العدول إلى الثاني ولا الاكتفاء به إلاّ إذا تعذّر الأوّل وعدم ثبوته.

فنقول : إنّ المسائل الغير العلميّة بعد استفراغ الوسع لها في الأمارات الظنّيّة إمّا أن لا يوجد فيها أمارة أصلا ، فالمرجع فيها إلى الاصول الأربع ـ وهي الاستصحاب وأصالة البراءة وأصالة الاشتغال وأصالة التخيير ـ أو يوجد فيها من الأمارات الموجبة للظنّ الاطمئناني تعيّن متابعتها والعمل بالظنّ الحاصل منها وافق الاحتياط أو خالفه ، أو يوجد فيها من الأمارات الموجبة للظنّ الغير الاطمئناني ، فإن كانت بحيث علم عدم إمكان حصول أمارة اخرى موجبة للظنّ الاطمئناني ، تعيّن متابعتها والعمل بالظنّ الحاصل منها وافق الاحتياط أو خالفه مع جواز العدول إلى العمل بالاحتياط وهو أحوط ، أو كانت بحيث أمكن حصول أمارة اخرى موجبة للظنّ الاطمئناني فيها.

فإن كانت تلك الأمارة الممكن حصولها مطابقة لها جاز متابعتها والعمل بالظنّ الحاصل منها أيضا ، ولا يجب تحصيل ما يمكن حصوله من الأمارة الموجبة للظنّ الاطمئناني ، كما في تقليد غير الأعلم الموافق للأعلم ، وإن كانت مخالفة لها مع موافقة الأوّل للاحتياط ومخالفة هذه له جاز العمل بها أيضا ، لأنّه في معنى العمل بالاحتياط ، كما جاز العمل بالاحتياط مع فرض حصول الظنّ الاطمئناني على خلافه.

وهذه الأقسام كلّها خارجة عن محلّ البحث في الترتّب بين الظنّ الاطمئناني وغيره ،

٣٦١

بل محلّ البحث صور اخرى ، وهي ما لو خالفت أمارة الظنّ الغير الاطمئناني للاحتياط مع موافقة أمارة الظنّ الاطمئناني له ، أو عدم مخالفة شيء منهما الاحتياط لعدم إمكانه ، إمّا لدوران الأمر بين المحذورين بأن يدلّ إحداهما على الوجوب واخراهما على الحرمة ، أو لدوران المكلّف به بين المتبائنين ، بأن يدلّ إحداهما على أنّ المكلّف به هذا ، والاخرى على أنّه ذاك ، كما في القصر والإتمام ، والظهر والجمعة وما أشبه ذلك.

وحينئذ فالذي يساعد عليه النظر ، كون حكم العقل مقصورا على الظنّ الاطمئناني ، لأنّه أقرب إلى العلم ، ومعناه الأقربيّة إلى الواقع ، فإنّه إذا تعذّر إدراك الواقع بطريق العلم تفصيلا أو إجمالا تعيّن في حكم العقل المستقلّ إدراكه بالأقرب إلى العلم الّذي معناه الأقرب إلى نفس الواقع ، فإنّ الرجحان في الظنّ الاطمئناني أكثر منه في غيره لكون احتمال الخلاف في غيره أقوى منه فيه ، هذا.

ولكنّ الإنصاف : أنّه لا جدوى لما ذكرنا من التفصيل ، بالنظر إلى أنّ موضوع دليل الانسداد هو الظنّ بنفس الواقع الّذي لا يكون إلاّ فعليّا ، ومن المستحيل اجتماع ظنّين في طرفي النقيض ، فالوجه أن يقال : إنّ الواجب تحصيله على المجتهد هو الظنّ القوي الاطمئناني لأنّه الأقرب إلى العلم ، وإن لم يمكن إلاّ الظنّ الغير الاطمئناني فالعمل به إذا وافق الاحتياط أو فيما لم يمكن الاحتياط لدوران الأمر بين المحذورين حسن ، وهو في غيرهما في حكم الشكّ فيدخل في أصالة التحريم ، ويرجع في مورده إلى الاصول.

وأمّا توهّم : وجوب العمل بالاحتياط في المظنونات بالظنون الغير الاطمئنانيّة ، وفي المشكوكات إلى أن يلزم منه العسر ، فيرجع حينئذ إلى الاصول ، أو إلاّ أن لا يمكن الاحتياط فيبنى على الظنّ في المظنونات ، وعلى التخيير في المشكوكات ، فممّا لا مقتضى له من عقل ولا نقل ، لعدم بقاء العلم الإجمالي بوجود التكاليف الإلزاميّة بعد العمل بالظنون الاطمئنانيّة على كثرتها المخرجة للباقي عن طرف العلم الإجمالي ، فإنّ أخبار الآحاد الموثوق بصدورها من الصحاح ، والموثّقات والحسان والضعاف المنجبرة بعمل الأصحاب أو الأكثر منهم ، أو جماعة من معتبريهم ، أو المعتضدة بما يوجب الاطمئنان منضمّة إلى الإجماعات المنقولة إلاّ ما شذّ منها لخصوصيّة في المورد مانعة من حصول الاطمئنان ، والشهرات المحقّقة إلاّ ما قلّ منها أيضا ، والأمارات المتراكمة الموجبة بتراكهما الاطمئنان من الاستقراء والأولويّة ، وظهور الإجماع ونفي الخلاف والشهرة المحكيّة ، وفتوى من

٣٦٢

يعتمد على فتاويه عند إعواز النصوص ، كافية وافية بمعظم الأحكام جدّا.

وبالجملة : فكثرة الظنون الاطمئنانيّة في الأخبار ، وغيرها من الأمارات بحيث يرجع في الموارد الخالية عمّا يوجبه إلى الاصول وإن وجد فيها ظنون لا تبلغ مرتبة الاطمئنان ، ممّا لا ينبغي الاسترابة فيه.

تذنيب :

ما تقدّم من الكلام إنّما هو في الظنّ المتعلّق بنفس الواقع ، وأمّا الظنّ المتعلّق بطريقه حيث لم يفد الظنّ بالواقع ، فلم نقف في الوجوه العقليّة ولا النقليّة على ما يقتضي حجّيّته بحيث يخرج معه الأمارة المظنون كونها طريقا عن أصالة حرمة العمل بما وراء العلم ، وتوهّم عموم دليل الانسداد وجريانه فيه ، مدفوع : بمنع العلم الإجمالي بنصب الطرق الغير العلميّة إلى الأحكام الواقعيّة.

لا يقال : إنّ الظنّ الاطمئناني الحاصل من أمارة ، أو أمارات إذا تعلّق بحجّيّة أمارة كالإجماع المنقول أو الشهرة مثلا ، كان في حكم الظنّ الاطمئناني المتعلّق بنفس الواقع في كونه مبرئ للذمّة ، وكما أنّ العمل بالظنون المتعلّقة بنفس الواقع يوجب براءة الذمّة عن الأحكام المعلومة بالإجمال ، فكذلك الأخذ بمؤدّيات الأمارة المظنون كونها طريقا يوجبها ، لأنّها دعوى بلا شاهد وقياس مع الفارق ، فإنّ الظنّ بنفس الواقع إنّما يوجب البراءة اليقينيّة لاستقلال العقل بملاحظة مقدّمات دليل الانسداد بأنّ الشارع بعد تعذّر العلم التفصيلي وتعسّر العلم الإجمالي أو سقوط اعتباره ، اكتفى في موافقة أحكامه المعلومة بالإجمال بالموافقة الظنّية ، وأقام الظنّ فيها مقام العلم بها.

وأمّا الظنّ بحجّيّة الأمارة ، فكون الأخذ بمؤدّى متعلّقها مبرءا إمّا من جهة كون مؤدّاها نفس الواقع ، أو من جهة كونه بدلا عنه ، ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلضرورة عدم الملازمة بين مؤدّاها وبين الواقع ، وإلاّ كان معلوما أو مظنونا ، والمفروض أنا نتكلّم على تقدير عدم اتّفاق الظنّ منها بنفس الحكم الواقعي ، وغايته الاحتمال فيكون الأخذ به موافقة احتماليّة ، فكيف يتصوّر كونها مبرئة للذمّة بطريق اليقين ، مع عدم دليل على اكتفاء الشارع بها.

وأمّا الثاني : فلأنّ البدليّة عن الواقع ـ مع ابتنائها على الجعل الموضوعي في الأمارات ،

٣٦٣

وقد ظهر بطلانه في مباحث حجّيّة القطع ، لكونه من التصويب الباطل ـ لكونها على خلاف الأصل يحتاج إلى دليل ، وأيّ دليل دلّ عليه؟

فإن قلت : دلّ عليه دليل الانسداد.

قلنا : دليل الانسداد كما أشرنا اليه سابقا غير جار في الظنّ في الطريق.

أمّا أوّلا : فلانتفاء العلم الإجمالي بنصب الطرق الغير العلميّة.

وأمّا ثانيا : فلأنّ مناط حكم العقل بملاحظة مقدّمات الدليل ، كون الظنّ أقرب إلى العلم ومعناه الأقربيّة إلى الواقع ، وقضيّة البدليّة هو المغايرة والبينونة ، فكيف يشمله الحكم المنوط بالأقربيّة؟

المقام الثالث :

فيما قام دليل قطعي على منع العمل ببعض الظنون كالقياس ونحوه ، فكيف يصير خروج ذلك عن دليل الانسداد بحيث لا يلزم تخصيص في الدليل العقلي؟ وفيما قام ظنّ على عدم اعتبار ظنّ آخر ، ولا ريب في عدم إمكان العمل بهما جميعا ، فهل يطرحان معا أو يرجّح الظنّ المانع أو الممنوع ، أو يرجع إلى الترجيح؟ وجوه بل أقوال ، ففي المقام مطلبان :

المطلب الأوّل :

في بيان كيفيّة خروج القياس ونحوه عن دليل الانسداد بحيث لا يلزم فيه التخصيص ، فنقول : إنّ من القضايا المشتهرة عندهم المسلّمة لديهم عدم جواز التخصيص في الدليل العقلي وجوازه في الأدلّة اللفظيّة ، للزوم التناقض في الأوّل ، من جهة أنّ قضيّة حكم العقل إذا كانت محصورة كلّيّة لا تكون إلاّ بشمول الحكم العقلي لجميع أفراد الموضوع شمولا واقعيّا ، بحيث يحصل القطع بذلك ، ولو أخرج منه حينئذ بعض الأفراد بالاستثناء ونحوه ، بإعطاء نقيض ذلك الحكم له يلزم التناقض ، وهو اختلاف القضيّتين بحيث يلزم من صدق إحداهما كذب الاخرى ، وعدم لزومه في الثاني لعدم كون دخول الفرد المخرج في العموم دخولا واقعيّا تابعا لإرادة اللافظ ، بل هو دخول صوري تابع لوضع اللفظ الموجب لظهوره في إرادة العموم من دون أن يكون مرادا في الواقع ، وإذا أخرج الفرد حينئذ فقد أخرج عمّا هو ظاهر اللفظ ، لا عمّا هو المراد في الواقع ، فالحكم ليس بشامل له في الواقع ، حتّى يلزم

٣٦٤

من إثبات نقيضه له التناقض.

وتوهّم لزومه في المقام مبنيّ على جعل نتيجة دليل الانسداد مطلقة ، على معنى المحصورة الكلّيّة ، بأن يحكم العقل بملاحظة مقدّمات ذلك الدليل بوجوب العمل بكلّ ظنّ ، سواء فرض كونه على وجه الكشف أو من باب الحكومة ، فيندرج الظنّ القياسي في عموم ذلك الحكم وإلاّ لم تكن القضيّة كلّيّة ، خصوصا إذا كان مناط حكمه كون العمل به إطاعة ظنّيّة ، أو كون الظنّ أقرب إلى العلم.

والتحقيق في دفعه : منع الملازمة ، لمنع شمول الحكم العقلي للظنّ القياسي ونحوه ممّا يقطع بمنع الشارع للعمل به بالخصوص ، فإنّ معنى دوران نتيجة الدليل هنا بين الجزئيّة والكلّيّة ، دوران حكم العقل بوجوب العمل بالظنّ بين البعض أو الجميع من الظنون المحتملة الحجّيّة ، المنقسمة عندهم إلى مظنون الاعتبار ومشكوكه وموهومه.

والمفروض أنّ موضوع دليل الانسداد أيضا هو هذه الظنون ، ومن المعلوم بالبداهة عدم اندراج الظنّ القياسي ونحوه في عنوان هذه الظنون ، فلا إخراج ولا تخصيص بل هو خارج من موضوع القضيّة من أصله ، ولو جعلنا نتيجة الدليل مهملة ثمّ ضممنا إليها شيئا من المقدّمات المعمّمة المتقدّمة لتعميم حكم العقل بالنسبة إلى جميع الظنون لم يدخل فيه الظنّ القياسي ونحوه أيضا ، كما يظهر بأدنى تأمّل.

وبالجملة : هذا الظنّ لا يدخل في عموم حكم العقل على تقدير كلّيّة النتيجة ، ولا في التعميم المستفاد من إحدى مقدّماته على تقدير إهمالها ، حتّى يحتاج إلى إخراج ويلزم منه إشكال التخصيص في الدليل العقلي.

والسرّ في عدم دخوله في التعميم ، عدم شمول شيء من مقدّماته له ، أمّا مقدّمة الترجيح بلا مرجّح فلعدم لزومه بتعيين ما عداه للعمل ، لكفاية منع الشارع من العمل به في كونه مرجّحا لما عداه ، بل ربّما يكتفى في مقام الترجيح بظنّ منع الشارع بالخصوص ، بل احتماله فضلا عن القطع به.

وأمّا مقدّمة عدم الكفاية ، فلوضوح [ كفاية ] ما عداه من الظنون في معظم الأحكام ، بحيث لا يلزم بالرجوع في موارد القياس إلى الاصول محذور أصلا.

وأمّا الإجماع المركّب ، فلمعلوميّة الإجماع على الفرق ، فإنّ كلّ من فتح باب الظنّ المطلق وجوّز العمل به منع العمل به.

٣٦٥

وأمّا قاعدة الاشتغال ، فلأنّ مجراها كلّ ظنّ محتمل الوجوب ، وهذا مقطوع الحرمة.

وأمّا الإغراء بالجهل ، والتكليف بما لا يطاق على ما اعتمدنا عليه في التعميم فلوضوح عدم كونه من الجملة المعيّنة عند الشارع المجهولة عندنا ، حتّى يلزم من وجوب الاقتصار عليه الإغراء [ بالجهل ] والتكليف بما لا يطاق.

وقيل على تقدير كون مقدّمات دليل الانسداد موجبة لحكومة العقل المفروض كونها مطلقة ، يشكل توجيه خروج القياس وأمثاله ممّا يقطع بعدم اعتباره وحرمة العمل به من الظنون ، لئلاّ يلزم منه التخصيص في الدليل العقلي المؤدّي إلى التناقض ، حتّى أنّ المتعرّضين لدفع هذا الإشكال والجواب عن ذلك السؤال ذكروا في توجيهه وجوها :

منها : ما ذكره القمّي رحمه‌الله من منع حرمة العمل بالقياس في أمثال زماننا ، لأنّ دليله إن كان الأخبار (١) الناهية عن العمل به ، فهي مسوقة لردّ العامّة حيث خالفوا أئمّتنا ، وأعرضوا عن أهل الذكر الّذين أمر الله بسؤالهم ، وتركوا الثقلين بتركهم الثقل الأصغر الّذي عنده علم الثقل الأكبر ، فاتّبعوا آرائهم وركنوا إلى أقيستهم فضلّوا أو أضلّوا ، وإلى ذلك أشار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جملة حديث بقوله : « برهة يعملون بالقياس » (٢) وكذلك مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام بقوله : « أنّ قوما اعيتهم الأحاديث أن يحفظوها وأعوزتهم النصوص من أن يعوها (٣) فتمسّكوا بآرائهم (٤) » الحديث.

فلا تشملنا لعدم مخالفتنا الأئمّة وإعراضنا عن أهل الذكر وتركنا الثقلين ، وإن كان الإجماع والضرورة عند علماء المذهب كما ادّعي ، فقيامهما في كلّ زمان محلّ المنع ، كيف فأيّ إجماع دلّ وأيّ ضرورة قضت بحرمة العمل بما يظنّ من جهة القياس لو فرض انسداد باب الظنّ أيضا ، وانحصار طرقه في القياس لعامّة المكلّفين ، أو لمكلّف خاصّ باعتبار بعده عن بلاد الإسلام (٥).

وفيه : أنّ منع شمول الأخبار لأمثال زماننا خلاف الإنصاف ، كيف وأنّ أكثرها مطلقة إطلاقا شاملا لجميع الأزمان ، وجملة منها معلّلة بعلل لا يعقل فيها الفرق فيها بين الأزمان ،

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ٣٨ / ٢ و ٣ و ٤ و ١٠ و ١١ و ١٥ و ١٨ و ٢٠ ، ب ٦ من أبواب صفات القاضي.

(٢) بحار الأنوار ٢ : ٣٠٨ / ٦٨.

(٣) وعى يعي من الاستماع وجمعه يعوا.

(٤) بحار الأنوار ٢ : ٨٤ / ٩ والمستدرك ١٧ : ٣٠٨ / ٦.

(٥) قوانين الاصول ١ : ٤٤٩.

٣٦٦

كقولهم عليهم‌السلام : « إنّ دين الله لا يصاب بالعقول » (١).

وقوله عليه‌السلام : « لا شيء أبعد من عقول الرجال عن دين الله » (٢).

وقوله عليه‌السلام : « السنّة إذا قيست محق الدين » (٣).

وقوله عليه‌السلام : « كان ما يفسده أكثر مما يصلحه (٤).

وقوله عليه‌السلام : « أوّل من قاس الشيطان » (٥) وما أشبه ذلك.

وأمّا منع الإجماع والضرورة عند علماء المذهب مكابرة ، فإنّ معاقد الإجماعات المنقولة في ذلك مطلقة ، وضرورة المذهب في الجملة معلومة ، وممّا يقضي الضرورة ببطلانه ما لزم القول بدخول القياس في مطلق الظنّ المحكوم بحجّيّته العمل بالقياس المفيد للظنّ في مقابل الخبر الصحيح.

ومنها : ما ذكره الفاضل المذكور أيضا من منع حصول الظنّ من القياس ، ولا سيّما مع ملاحظة أنّ مبنى الشرع على التفريق بين المتّفقات والجمع بين المختلفات ، ولا سيّما أيضا مع ملاحظة قولهم عليهم‌السلام : « أنّ دين الله لا يصاب بالعقول ، وأنّه ليس شيء أبعد من عقول الرجال عن دين الله ، وأنّ السنة إذا قيست محق الدين » وغيره ممّا دلّ على غلبة عدم مصادفة الواقع في العمل بالقياس (٦).

وفيه : أيضا أنّ منع حصول الظنّ من القياس بقول مطلق مكابرة للوجدان ، ودعوى منع كون مبنى الشرع على التفريق والجمع من حصوله ، مدفوعة : بمنع كون مبنى الشرع على ذلك مطلقا.

نعم قد يتّفق فيه أنّ الشارع جمع بين المختلفات وفرّق بين المتّفقات ، وهذا في جنب ما فرّق فيه بين المختلفات وجمع بين المتّفقات ليس إلاّ أقلّ قليل.

نعم ملاحظة الأخبار المذكورة ربّما توهّن القياس في إفادة الظنّ ، وربّما توجب ارتفاع الظنّ الحاصل منه في بادئ الأمر ، وأمّا منعه من حصوله دائما فلا ، كيف وقد يحصل منه

__________________

(١) كمال الدين : ٣٢٤ / ٩ ، بحار الانوار : ٢ : ٣٠٣ / ٤١.

(٢) الوسائل : ٢٧ / ٢٠٣ / ٦٩ و ٧٣ ، ب ١٣ من أبواب صفات القاضي.

(٣) الوسائل : ٢٧ / ٤١ / ١٠ ب ٦ من أبواب صفات القاضي.

(٤) الوسائل : ٢٧ : ٢٥ / ١٣ ب ٤ من أبواب صفات القاضي.

(٥) الوسائل ٢٧ : ٤٦ / ٢٤ ، ب ٦ من أبواب صفات القاضي.

(٦) قوانين الاصول ١ : ٤٤٨ و ٢ : ١١٢.

٣٦٧

القطع ـ على ما قيل ـ كما في تنقيح المناط القطعي مثلا ، مع أنّ الأولويّة الظنّيّة المعدودة عندهم من الظنون

المطلقة ليست إلاّ من القياس المفيدة للظنّ الّذي منشؤه ملاحظة العلّة المستنبطة ، وأمّا آكديّة العلّة في الفرع فلا مدخليّة له في حصول الظنّ وعدمه ، فتأمّل.

ومنها : ما ذكر الفاضل المذكور أيضا ، من « منع انسداد باب العلم بالنسبة إلى موارد القياس ، فإنّ الأدلّة القطعيّة القائمة بمنع العمل به ، أوجب لنا العلم بأنّ الشارع أرجعنا في موارده إلى الأدلّة السمعيّة والاصول اللفظيّة والاصول العمليّة ، فلا يجري فيه الدليل الّذي عمدة مقدّماته انسداد باب العلم » (١).

وفيه : أيضا أنّ هذا ليس إلاّ تقريرا للإشكال وتكريرا للسؤال ، فإنّ العلم الحاصل من الأدلّة المانعة بإرجاع الشارع هو الباعث على إخراج القياس من عموم حكم العقل ، ودعوى خروجه عن موضوع ذلك الحكم وهو مقدّمة انسداد باب العلم ، مدفوعة : بأنّ هذه المقدّمة عبارة عن انسداد باب العلم بالأحكام الواقعيّة.

ولا ريب أنّ العلم المفروض حصوله في موارد القياس من الأدلّة المانعة من العمل به ، ليس علما بالأحكام الواقعيّة لتلك الموارد.

ومنها : ما ذكره الفاضل المذكور أيضا ، من « أنّ التكليف بما لا يطاق وانسداد باب العلم وبقاء التكليف أوجب جواز العمل بما يفيد الظنّ ، يعني في نفسه ، ومع قطع النظر عمّا يفيد ظنّا أقوى.

وبالجملة ما يدلّ على مراد الشارع ولو ظنّا ، ولكن لا من حيث إنّه يفيد الظنّ ، لا أنّه يوجب جواز العمل بالظنّ المطلق النفس الأمري ، وهذا المعنى قابل للاستثناء فيقال إنّه يجوز العمل بكلّ ما يفيد الظنّ بنفسه ويدلّ على مراد الشارع إلاّ بالقياس ، وبعد وضع القياس عن البين ، فإذا تعارض باقي الأدلّة المفيدة للظنّ فحينئذ يعتبر الظنّ النفس الأمري » (٢) انتهى.

وذكر في الحاشية ـ في توضيح قوله : وهذا المعنى قابل للاستثناء » ـ : « أنّه استثناء من الدالّ على الحكم ، فالمستثنى منه هو أسباب الظنّ لذواتها لا باعتبار افادتها الظنّ الفعلي ، فيكون المستثنى أيضا ذات القياس لا [ وصف ] الظنّ الحاصل منه فعلا » (٣).

__________________

(١) قوانين الاصول : ١ : ٤٤٨ ـ ٤٤٩ و ٢ : ١١٢.

(٢) قوانين الاصول ١ : ٤٤٠١ و ٢ : ١١٤.

(٣) قوانين الاصول ١ : ٤٤٨.

٣٦٨

ويمكن أن يقرّر محصّل مرامه بوجهين :

الأوّل : أنّ دليل الانسداد بمقدّماته مفروض في أسباب الظنّ الّتي بطبائعها ولذواتها تفيد الظنّ ، بأن تكون الذات فيها مقتضية لحصول الظنّ ، وإن لم يحصل في بعض الأحيان لمانع ، فيخرج عنها القياس لعدم إفادته الظنّ بطبعه ولذاته ، وعدم كون ذاته مقتضية له ، وإن كان قد يفيده من باب المقارنة الاتّفاقيّة ، والمنع في الأدلّة المانعة لأجل الإرشاد إلى ذلك والتنبيه عليه ، ومرجعه إلى رفع توهّم كونه من الأسباب المفيدة للظنّ لذواتها ، فيكون استثنائه المفروض مع دليل الانسداد للانقطاع (١).

وثانيهما : أنّ الشارع جعل لنا أحكاما ، وأرادها منّا من الأسباب المفيدة للظنّ ، الّتي يقال لها : الأدلّة الدالّة على مراد الشارع ظنّا ، فدليل الانسداد مفروض في الأسباب المفيدة للظنّ بالأحكام على أنّها مرادة للشارع منها ، فيخرج منها القياس ، فإنّه وإن كان قد يفيد الظنّ بالحكم ، ولكن لا من حيث إنّه مراد منه ، فإنّ الأدلّة المانعة من العمل به لبيان أنّ الأحكام المجعولة لموارد القياس لم يردها الشارع من القياس.

وعلى أحد هذين التوجيهين ينطبق أيضا قوله في موضع آخر : « أنّ القياس مستثنى من الأدلّة الظنّيّة ، لا أنّ الظنّ القياسي مستثنى من مطلق الظنّ » والاستثناء في الموضعين على كلا التوجيهين عبارة عن التنبيه على خروج القياس من موضوع حكم العقل لا عن الإخراج من حكمه.

وعلى ما بيّناه فلا ينبغي دفع كلامه « بأنّ نتيجة المقدّمات المذكورة لا تتغيّر بتقريرها على وجه دون وجه ، فإنّ مرجع ما ذكر من الحكم بوجوب الرجوع إلى الأمارات الظنّيّة في الجملة إلى العمل بالظنّ في الجملة ، إذ ليس لذات الأمارة مدخليّة في الحجّيّة في لحاظ العقل ، والمناط هو وصف الظنّ سواء اعتبر مطلقا ، أو على وجه الإهمال.

وقد تقدّم أنّ النتيجة على تقدير الحكومة ليست مهملة ، بل هي معيّنة للظنّ الاطمئناني مع الكفاية ومع عدمها فمطلق الظنّ ، وعلى كلا التقديرين لا وجه لإخراج القياس.

وأمّا على تقرير الكشف فهي مهملة لا يشكل معها خروج القياس ، إذ الإشكال مبنيّ على

__________________

(١) أي يكون الاستثناء المفروض حينئذ على طريقة الاستثناء المنقطع وهو إخراج القياس عن موضوع حكم العقل الّذي هو مورد دليل الانسداد لا عن حكمه ليكون تخصيصا في الدليل العقلى.

٣٦٩

عدم الإهمال وعموم النتيجة » إنتهى (١) ، كما صنعه الشيخ الاستاد قدس‌سره.

بل الوجه في دفعه أوّلا : أنّ صرف دليل الانسداد عن نفس الظنّ إلى أسبابه غير جيّد ، لأنّه خلاف ما علم ضرورة من كون موضوع حكم العقل هو صفة الظنّ لا سببه ، ولذا كان مناط حكم العقل بوجوب العمل به كونه امتثالا ظنّيّا مقدّما على الامتثال الاحتمالي.

وثانيا : عدم جدواه بشيء من التوجيهين في دفع الإشكال.

أمّا على التوجيه الأوّل : فلأنّه إن اريد من عدم كون القياس مفيدا للظنّ بطبعه ولذاته ، أنّه لا يفيده لأجل ملاحظة منع الشارع من العمل به ، أو من جهة الأخبار المانعة من العمل به ، ففيه : أنّ عدم حصول الظنّ منه لمانع لا ينافي كون ذاته مقتضية للظنّ.

وإن اريد أنّه لا يفيده مطلقا ولو مع قطع النظر عن منع الشارع والأخبار المانعة ، فهو خلاف الإنصاف ، بل نحن ندرك بالوجدان أنّ الذهن عند النظر في القياس يتسارع إليه الظنّ أكثر ممّا يتسارع إليه عند النظر في أكثر ما عداه من الأمارات ، فهو أيضا ممّا يفيد بطبعه ولذاته الظنّ بالحكم.

وأمّا على التوجيه الثاني : فلأنّ كون الأحكام المجعولة الإلهيّة مرادة من الأسباب الظنّيّة ، فتكون تلك الأسباب أدلّة دالّة على مراد الشارع ظنّا إمّا أن يحرز بدليل الانسداد أو بغيره ، ولا سبيل إلى الثاني لأنّه لو كان هناك ممّا عدا دليل الانسداد ما يدلّ على أنّ الشارع أراد أحكامه المجعولة من الأسباب المفيدة للظنّ ، لأغنى عن النظر في دليل الانسداد ، لكون أسباب الظنّ على هذا التقدير ظنونا خاصّة قائمة مقام العلم ، ومعه لا مجرى لدليل الانسداد.

وأمّا الأوّل فحكم العقل ـ بملاحظة بقاء الأحكام والتكاليف ، وفقد الطرق العلميّة وقبح تكليف ما لا يطاق ، وانحصار المناص في الأسباب الظنّيّة ـ بأنّ الشارع أرادها من تلك الأسباب ، وأنّه يجب العمل بها لأجل أنّها دالّة على مرادات الشارع منها يعمّ القياس أيضا ، لأنّه كغيره من الأسباب الظنّيّة ، وإنّما نعلم عدم كون الأحكام المجعولة لموارده مرادة منه بواسطة الأدلّة الناهية عن العمل به ، بحيث لولاها كان داخلا في عنوان الأسباب المفيدة للظنّ بالأحكام على أنّها مرادة منها ، الّذي هو موضوع حكم العقل على ما فرضه ، وهذا بعينه التخصيص في الدليل العقلي.

لا يقال : إنّ لكلامه قدس‌سره معنى ثالث وهو أن يكون موضوع حكم العقل الناشئ من

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٥٢٥.

٣٧٠

مقدّمات دليل الانسداد أسباب الظنّ من حيث ذواتها لا من حيث إفادتها ، فيكون الحكم العقلي القائم بتلك الانسداد نظير الإجماع القائم على وجوب العمل بها ، فكما أنّ الأدلّة المانعة من العمل بالقياس تكشف عن [ عدم ] اندراجه في معقد الإجماع (١) ، فكذلك في الحكم العقلي القائم بها تكشف عن عدم اندراجه في موضوع حكم العقل ، فلا يخصّص.

لأنّا نقول : إنّ هذا بقرينة التنظير بالإجماع يتمّ على تقدير الإهمال ، ليكون النتيجة وجوب العمل بأسباب الظنّ في الجملة ، فيصحّ حينئذ دعوى كشف الأدلّة المانعة من العمل بالقياس ، ولكنّه خارج عن مفروض السؤال ، لابتنائه على حكومة العقل ، مع كون حكمه على الوجه الكلّي ، ولا محيص حينئذ من التخصيص ، لأنّ من دأب العقل أنّه ما لم يحط في قضيّة حكمه بجميع أطراف القضيّة ، ولم يلاحظ جميع خصوصيّات موضوع القضيّة ومشخّصاته لم يحكم فيها بشيء إثباتا ونفيا ، وإذا كان قضيّة حكمه محصورة كلّيّة فلا يحكم فيها على الوجه الكلّي إلاّ بعد ملاحظة جميع أفراد الموضوع ملاحظة تفصيليّة ، أو إجماليّة بأن يلاحظ عامّا مندرجا فيه الجميع.

ففي المقام لابدّ أن يلاحظ ذوات أسباب الظنّ من حيث سببيّتها له ، فإذا لاحظها بهذه الحيثيّة وحكم عليها بوجوب العمل ، اندرج فيه القياس لا محالة ، فيكون المنع المستفاد من الأدلّة المانعة من العمل به تخصيصا في حكم العقل.

فإن قلت : إنّ العقل إنّما يلاحظ الأسباب المحتملة الحجّيّة من الحيثيّة المذكورة ، ويحكم عليها بوجوب العمل على الوجه الكلّي ، ومن المعلوم ضرورة حينئذ عدم دخول القياس في حكمه ، لخروجه عن موضوعه.

قلت : إذا كان مبنى دفع الإشكال على هذا الاعتبار ، فلا داعي إلى العدول عن الظنون في تقرير دليل الانسداد إلى أسبابها ، لرجوع البيان المذكور إلى ما قرّرناه في دفع الإشكال.

ومنها : ما نقله شيخنا من « أنّ دليل الانسداد إنّما يثبت حجّيّة الظنّ الّذي لم يقم على عدم حجّيّته دليل ، فخروج القياس على وجه التخصّص لا التخصيص.

توضيح ذلك : أنّ العقل إنّما يحكم باعتبار الظنّ ، وعدم الاعتناء بالاحتمال الموهوم في مقام الامتثال ، لأنّ البراءة الظنّيّة يقوم مقام البراءة العلميّة ، وأمّا إذا حصل بواسطة منع الشارع القطع بعدم البراءة بالعمل بالقياس ، فلا يبقى براءة ظنّيّة حتّى يحكم العقل بوجوبها.

__________________

(١) وفي الأصل : « القياس » بدل « الإجماع » وهو سهو منه والصواب ما أثبتناه فى المتن.

٣٧١

وإن شئت فاستوضح ذلك من حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ ، وطرح الاحتمال الموهوم عند انفتاح باب العلم في المسألة ، كما تقدّم في تقرير أصالة حرمة العمل بالظنّ ، فإذا فرض قيام الدليل من الشارع على اعتبار ظنّ ووجوب العمل به ، فإنّ هذا لا يكون تخصيصا في حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ مع التمكّن من العلم ، لأنّ حرمة العمل بالظنّ مع التمكّن إنّما هو لقبح الاكتفاء بما دون الامتثال العلمي مع التمكّن من العلمي ، فإذا فرض الدليل على اعتبار ظنّ ووجوب العمل به صار الامتثال في العمل بمؤدّاه علميّا فلا يشمله حكم العقل بقبح الاكتفاء بما دون الامتثال العلمي ، وما نحن فيه على العكس من ذلك » (١) انتهى.

ومحصله : أنّ العقل إنّما يحكم بوجوب العمل بالظنّ لكونه براءة ظنّيّة ، والعمل بالقياس ليس براءة ظنّية ليشمله حكم العقل ، لمكان القطع بعدم البراءة الحاصل من منع الشارع الّذي هو مع الظنّ بالبراءة متنافيان.

وفيه : أنّ إنكار الظنّ بالبراءة بالعمل بالقياس مع الاعتراف بحصول الظنّ بالحكم الواقعي متنافيان يستحيل اجتماعهما ، لكون المراد بالبراءة هو الموافقة لحكم الله وجوبا كان أو حرمة أو استحبابا أو كراهة أو إباحة ، والظنّ بموافقة الحكم في العمل بالظنّ به لازم عقلي للظنّ به ، كما أنّ العلم بموافقته في العمل بالعلم به لازم عقلي للعلم به ، فالبراءة الظنّية كالبراءة العلميّة ليست بأمر جعلي ، حتّى يتبع منع الشارع من العمل بالعلم أو الظنّ وعدمه ، فإمّا أن يقال : بعدم حصول ظنّ بالحكم من القياس ، أو يقبل كون العمل به براءة ظنّيّة بمعنى الموافقة الظنّيّة ، والتفكيك بينهما بإثبات الأوّل ونفي الثاني تناقض.

وقد يجاب أيضا بما محصّله : أنّ حال الظنّ عند الانسداد كحال العلم عند الانفتاح ، وكما يقبح النهي عن العمل بالعلم على وجه الطريقيّة مع التمكّن منه لأنّه مفوّت للواقع وهو نقض للغرض ، فكذلك يقبح النهي عن العمل ببعض الظنون على وجه الطريقيّة مع عدم التمكن من العلم ، لأنّه مفوّت للواقع وهو نقض للغرض ، ومبناه على تسليم عدم لزوم التخصيص والتناقض بالبيان المذكور ، وقد عرفت لزومه أيضا.

ومنها : « أنّ النهي يكشف عن وجود مفسدة غالبة على المصلحة الواقعيّة المدركة على تقدير العمل به ، فالنهي عن الظنون الخاصّة في مقابل حكم العقل بوجوب العمل بالظنّ مع الانسداد ، نظير الأمر بالظنون الخاصّة في مقابل حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ مع الانفتاح.

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٥٢٥ ـ ٥٢٦.

٣٧٢

فإن قلت : إذا بني على ذلك فكلّ ظنّ من الظنون يحتمل أن يكون في العمل به مفسدة كذلك.

قلت : نعم ، ولكن احتمال المفسدة لا يقدح في حكم العقل بوجوب سلوك طريق يظنّ معه بالبراءة عند الانسداد ، كما أنّ احتمال وجود المصلحة المتداركة لمصلحة الواقع في ظنّ لا يقدح في حكم العقل بحرمة العمل بالظنّ عند الانفتاح ، وقد تقدّم في آخر مقدّمات الانسداد أنّ العقل مستقلّ بوجوب البراءة الظنّيّة مع عدم العلم ، ولا اعتبار باحتمال كون شيء آخر هو المتعبّد به غير الظنّ ، إذ لا يحصل من العمل بذلك المحتمل سوى الشكّ في البراءة أو توهّمها ، ولا يجوز العدول عن البراءة الظنّيّة اليهما » (١).

ومحصّله : أنّ العقل بملاحظة انسداد باب العلم يحكم بوجوب العمل بكلّ ظنّ ، من حيث إنّ فيه إدراكا لمصلحة الواقع ، أو المصلحة المتداركة لمصلحة الواقع ، وهذا لا ينافيه النهي عن القياس من حيث وجود مفسدة فيه غالبة على مصلحة الواقع ، فلا تخصيص لعدم وحدة الموضوع الّتي هي من شروط التناقض ، نظير حكم العقل بحسن كلّ صدق من حيث كونه صدقا ، الّذي لا ينافيه حكمه بقبح الصدق الضارّ من حيث كونه ضارّا ، من جهة تعدّد الموضوع باعتبار قيدي الحيثيّة ، وعلى عكسه قبح كلّ كذب وحسن الكذب النافع ، ويشكل : بأنّ الحيثيّة إذا كانت تعليليّة كما فيما نحن فيه ، فلا يجدي تعدّدها في تعدّد الموضوع.

والأولى أن يوجّه عدم التنافي : بأنّ العقل إنّما يحكم بوجوب العمل بكلّ ظنّ إدراكا لمصلحة الواقع ، أو ما يتدارك به تلك المصلحة ما لم يكن فيه مفسدة غالبة على مصلحة الواقع ، وإلاّ فيحرّم العمل فلا تنافي ، لكون علّة وجوب العمل مقيّدا بالخلوّ عن المفسدة الغالبة ، والنهي كاشف عن وجود المفسدة الغالبة ، فلا يكون مورده مشمولا لحكم العقل ، لانتفاء علّته باعتبار انتفاء قيدها.

هذا ولكنّ الشيخ الاستاد طاب ثراه زيّفه بعد ما كان يستحسنه في سابق الزمان بقوله : « إنّ ظاهر أكثر الأخبار الناهية عن القياس أنّه لا مفسدة فيه إلاّ الوقوع في خلاف الواقع ، وإن كان بعضها ساكتا عن ذلك ، وبعضها ظاهرا في ثبوت المفسدة الذاتيّة ، إلاّ أنّ دلالة الأكثر أظهر ، فهي الحاكمة على غيرها كما يظهر لمن راجع الجميع ، فالنهي راجع إلى سلوكه من باب الطريقيّة ، وقد عرفت الإشكال في النهي على هذا الوجه.

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٥٢٨.

٣٧٣

إلاّ أن يقال : إنّ النواهي اللفظيّة عن العمل بالقياس من حيث الطريقيّة لابدّ من حملها في مقابل العقل المستقلّ على صورة انفتاح باب العلم بالرجوع إلى الأئمّة عليهم‌السلام ، والأدلّة القطعيّة منها كالإجماع المنعقد على حرمة العمل به حتّى مع الانسداد لا وجه له غير المفسدة الذاتيّة ، كما أنّه إذا قام دليل على حجّيّة الظنّ مع التمكّن من العلم نحمله على وجود المصلحة المتداركة لمخالفة الواقع ، لأنّ حمله على العمل من حيث الطريقيّة مخالف لحكم العقل بقبح الاكتفاء بغير العلم مع تيسّره (١).

أقول : ويمكن الذبّ عن الإشكال الّذي أشار إليه بقوله : « وقد عرفت الإشكال في النهي عنه على هذا الوجه » ـ ، وهو لزوم تفويت الواقع الموجب لنقض الغرض من النهي عن العمل بالظنّ على وجه الطريقيّة مع الانسداد : بأنّه قد يجوز عند العقل الفرق والتفصيل بين الظنّ الغالب مطابقته الواقع ، والظنّ الغالب عدم مطابقته الواقع ، بايجاب العمل بالأوّل مراعاة لغلبة مطابقته ، والنهي عن العمل بالثاني لغلبة عدم مطابقته ، ولا قبح فيه ، ولا يستفاد من الأخبار الناهية عن القياس أزيد من غلبة عدم المطابقة فيه ، بل هذا صريح ما تقدّم من قوله عليه‌السلام : « كان ما يفسده أكثر ممّا يصلحه ».

نعم هذا لا يجدي مع انحصار الطريق في المسألة الفرعيّة في الظنّ القياسي.

ثمّ لا يخفى عليك أنّ ما استشكله إنّما هو إشكال في جواز النهي على الوجه المذكور ، لا أنّه إلزام على بقاء إشكال التخصيص في حكم العقل على حاله ، فإنّه مندفع على كلّ حال ، فتأمّل.

ومنها : ما اعتمد عليه شيخنا قدس‌سره من « أنّ خصوصيّة القياس من بين سائر الأمارات هي غلبة مخالفته للواقع ، كما يشهد به قوله عليه‌السلام : « إنّ السنّة إذا قيست محق الدين » (٢) ، وقوله : « كان ما يفسده أكثر ممّا يصلحه (٣) » ، وقوله : « ليس شيء أبعد من عقول الرجال عن دين الله (٤) » ، وغير ذلك وهذا المعنى خفي على العقل الحاكم بوجوب سلوك الطرق الظنّيّة عند فقد العلم ، فهو إنّما يحكم بها لإدراك أكثر الواقعيّات المجهولة بها ، فإذا كشف الشارع عن حال القياس وتبيّن عند العقل حاله ، فيحكم حكما إجماليّا بعدم جواز الركون إليه.

__________________

(١) فرائد الاصول : ١ : ٥٢٩.

(٢) الوسائل ٢٧ : ٤١ / ١٠ ، ب ٦ من أبواب صفات القاضي.

(٣) الوسائل ٢٧ : ٢٥ / ١٣ ، ب ٤ من أبواب صفات القاضي.

(٤) الوسائل ٢٧ : ٢٠٣ / ٦٩ و ٧٣ ، ب ١٣ من أبواب صفات القاضي.

٣٧٤

نعم إذا حصل الظنّ منه في خصوص مورد لا يحكم بترجيح غيره عليه في مقام البراءة عن الواقع ، لكن يصحّ للشارع المنع عنه تعبّدا ، بحيث يظهر منه : أنّي لا اريد الواقعيّات الّتي تضمّنها ، فيحسن له النهي عن العمل به في جميع موارده حتّى مورد حصل الظنّ منه بالواقع ، وإن فرض مطابقته الواقع في هذا المورد ، فالمحسّن لنهي الشارع عن سلوكه على وجه الطريقيّة كونه في علم الشارع مؤدّيا في الغالب إلى مخالفة الواقع.

والأصل في ذلك : أنّه كما أنّ العقل مستقلّ بإدراك حسن الوقوع في مفسدة قليلة دفعا للمفاسد الكثيرة ، وبإدراك حسن الوقوع في مفسدة يسيرة توصّلا إلى المصالح الكثيرة ، وبإدراك حسن تفويت محصلة قليلة دفعا للمفاسد الكثيرة ، وبإدراك حسن تفويت مصلحة يسيرة توصّلا إلى المصالح الكثيرة ، فكذلك مستقلّ بإدراك حسن أن ينهى الشارع عن سلوك طريق ظنّي يغلب مخالفته الواقع في جميع موارده حتّى مورد حصل منه الظنّ بالواقع وإن فرض مطابقته له ، إذ غاية ما يلزم منه تفويت مصلحة الواقع في ذلك المورد ، وهو إذا كان لدفع الوقوع في المفاسد الكثيرة اللازم من غلبة مخالفته الواقع ممّا لا قبح فيه ، بل قد عرفت استقلال العقل بحسنه ، ونظيره في الشرعيّات أنّه يصحّ للشارع أن يقول للوسواسي القاطع بنجاسة ثوبه « لا اريد منك الصلاة بطهارة الثوب » ، وإن كان ثوبه في الواقع نجسا حسما لمادّة وسواسه ، وفي العرفيّات ما لو نصب الرجل ولده الصغير في دكّانه ، وهو يعلم من حاله أنّه يبيع أمتعة الدّكان بحسب ظنونه القاصرة للمنفعة الّتي يغلب فيها المخالفة الموجبة لغلبة الخسارة ، فيصحّ له نهيه عن البيع بحسب ظنونه في جميع مواردها ، وإن لزم منه في بعض الموارد فوات المنفعة ، لأنّه تفويت منفعة يؤدّي إلى دفع الخسارات الكثيرة.

ولا ريب أنّ العقل بعد ما اطّلع على حال القياس بكشف الشارع عن غلبة مخالفته الواقع ، لا يعمّ حكمه القياس ولا الظنّ القياسي بوجوب سلوك الطرق الظنّيّة لإدراك أكثر الأحكام الواقعيّة المجهولة المسدود فيها باب العلم ، فلا تخصيص في حكم العقل أصلا.

وإن شئت قلت : إنّ حكمه بوجوب سلوك الطرق الظنّيّة مبنيّ على غلبة مطابقتها الواقع ، فيخرج عنها ما يغلب مخالفته له ، وقد كشف الشارع له عن كون القياس على هذه الحالة ، فليتأمّل (١).

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٢٥٩ ـ ٥٣٠ ـ ٥٣١ ـ نقلا بالمعنى.

٣٧٥

المطلب الثاني :

فيما لو قام ظنّ بعدم حجّيّة ظنّ آخر ، على معنى منعه من العمل به ، وتحريمه إيّاه ، لا على عدم الدليل على حجّيّته كالشهرة القائمة على عدم حجّية الشهرة ، استنادا إلى عدم الدليل على الحجّيّة ، ويسمّى الظنّ الأوّل بالمانع والثاني بالممنوع ، ففي وجوب الأخذ بالظنّ الممنوع أو المانع ، أو بالأقوى منهما ، أو التساقط وجوه ، بل قيل أقوال :

وقد نسب شيخنا (١) أوّلها إلى بعض مشايخه (٢) ، بناء منه على ما يراه من أنّ دليل الانسداد يثبت به حجّيّة الظنّ في الفروع لا في المسائل الاصوليّة ، والظنّ القائم بعدم حجّيّة ظنّ آخر ظنّ في المسألة الاصوليّة فلا اعتبار به ، فيتعيّن الأخذ بالظنّ الممنوع لأنّه ظنّ في المسألة الفرعيّة.

واللازم من مذهب (٣) أهل القول بالظنّ في الطريق ثانيها ، لأنّه الّذي اقتضى دليل الانسداد اعتباره لا الظنّ بنفس الواقع ، بناء على أنّ الظنّ في الطريق أعمّ ممّا يفيد إثبات الطريق وما يفيد نفيه.

ومن مشايخنا من اختار الرجوع إلى الأقوى ، ممنوعا كان أو مانعا إن كان وإلاّ فالتساقط ، قال : « وإذا ظنّ بالشهرة نهى الشارع عن العمل بالأولويّة فيلاحظ مرتبة هذا الظنّ ، فكلّ أولويّة في المسألة كان أقوى مرتبة من ذلك الظنّ الحاصل من الشهرة اخذ به ، وكلّ أولويّة كان أضعف منه وجب طرحه ، وإذا لم يتحقّق الترجيح بالقوّة حكم بالتساقط ، لعدم استقلال العقل بشيء منهما حينئذ » (٤).

أقول : وظنّي أنّ القولين الأوّلين خارجان عن مسألة مزاحمة الظنّ المانع للظنّ الممنوع ، لأنّ المنع أمر نسبي بين المانع والممنوع ، ولا يعقل تحقّقه مع عدم ثبوت حجّيّة أحدهما بدليل الانسداد.

وقضيّة بناء الأخذ بالظنّ الممنوع في القول الأوّل على عدم ثبوت حجّيّة الظنّ في المسائل الاصوليّة ، بقاء الظنّ الممنوع سليما عمّا يزاحمه ، لأنّ ما فرض كونه مانعا باق تحت أصالة التحريم ، فلا يعقل منه المنع من العمل بالظنّ في المسألة الفرعيّة ، كما أنّ قضيّة بناء الأخذ بالظنّ المانع في القول الثاني على عدم ثبوت حجّية الظنّ بنفس الواقع بدليل

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٥٣٢.

(٢) هو شريف العلماء رحمه‌الله.

(٣) هو صاحب الفصول : ٢٧٧.

(٤) فرائد الاصول ١ : ٥٣٦.

٣٧٦

الانسداد بقاء ذلك الظنّ في حكم الأصل ، سواء وجدت الأمارة الدالّة على حرمة العمل به أو لم توجد ، فيكون وجود الظنّ المانع بمثابة عدمه ، فلا منع بين الظنّين على القولين ، بل المزاحمة المنوط بها المنع مبتنية على ثبوت حجّيّة كلّ من الظنّين بدليل الانسداد ، بفرض جريانه في المسائل الفرعيّة والمسائل الاصوليّة معا.

وحينئذ يشكل الحال في تحقّق المنع ، بفرض كون الشهرة مثلا مانعة من العمل بالأولويّة ، لأنّ معنى ثبوت حجّيّة الأولويّة بدليل الانسداد وجوب العمل بالظنّ الحاصل منها ، ومقتضى ثبوت حجّية الشهرة المانعة به حرمة العمل به ، فيلزم التناقض في مدلول الدليل العقلي ، بل هو من اجتماع المتنافيين وهو محال ، وليس لقائل أن يقول : بأنّ الحجّيّة بدليل الانسداد إنّما ثبتت في نوعي الشهرة والأولويّة ، والتناقض إنّما يلزم من اجتماع الشخصين ، فنلتزم بخروج أحد الشخصين من دليل الانسداد دفعا لمحذور التناقض في مدلوله ، لأنّ خروج أحد الشخصين لابدّ له من مخرج ، وهو إمّا دخول الشخص الآخر فيه ، أو نفس تناقض المدلولين ولزوم اجتماع المتنافيين ، ولا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ دخول أحد الفردين عند التنافي في العامّ لا يصلح دليلا على خروج الفرد الآخر منه ، لكون أفراد العامّ متساوية الأقدام بالنسبة إلى عمومه ، وأنّه متساوي النسبة إلى الجميع ، فجعل أحد الظنّين مخرجا للظنّ الآخر من دليل الانسداد محال آخر.

وأمّا الثاني : فلأنّه يوجب التخصيص في الدليل العقلي وهو أيضا محال. إلاّ أن يذبّ : باعتبار كون الخروج الملتزم به خروجا عن موضوع الدليل العقلي لا من حكمه ، بدعوى : أنّ الأمارة المانعة ـ مع فرض اندراجها في دليل الانسداد بعنوان القطع ـ مع مزاحمتها للأمارة الممنوعة كالأولويّة في المسألة ، لها نوع حكومة بل ورود على الأمارة الممنوعة ، ومرجعها إلى رفعها لموضوع الدليل العقلي عن الأمارة الممنوعة ، إمّا لأنّها تمنع من حصول الظنّ منها ، وموضوع حكم العقل إنّما هو الظنّ الحاصل من الأمارة لا ذات الأمارة ، أو لأنّ دليل الانسداد إنّما قضى بوجوب العمل بالظنّ بالحكم لأنّه مصلحة ظنّيّة خالية عن أمارة المفسدة ، والأمارة المانعة توجب الظنّ بالمفسدة ، فيصير الحكم المظنون مصلحة ظنّيّة جامعها المفسدة الظنّية ، فالظنّ المفروض حينئذ لمجامعة الظنّ بالمفسدة لا يكون مشمولا لحكم العقل ، أو لأنّ دليل الانسداد إنّما قضى بحجّيّة الأمارات الظنّيّة لغلبة مطابقتها الواقع ، فيخرج منه ما يغلب مخالفته ، والأمارة المانعة كالشهرة القائمة بحرمة

٣٧٧

العمل بالأولويّة مثلا كاشفة ظنّا عن غلبة مخالفتها الواقع ، فلا تكون مشمولة لحكم العقل.

وعلى جميع التقادير يتعيّن الأخذ بالظنّ المانع نظرا إلى حكومته ، وهذا هو المختار في المسألة ، غير أنّه مبنيّ على ثبوت حجّيّة الظنّ في المسائل الاصوليّة بدليل الانسداد ، وسيأتي تحقيق القول في ذلك إن شاء الله تعالى.

الأمر الثالث

مقتضى عموم نتيجة دليل الانسداد لكلّ ظنّ ، أو تعميمه بإحدى المعمّمات لكلّ ظنّ في الأحكام الشرعيّة ، عدم الفرق في وجوب العمل بالظنّ بالحكم الشرعي بين ما لو كان الظنّ به مستفادا من أمارة قائمة بنفس الحكم كالإجماع المنقول والشهرة وغيرهما في المسألة الفرعيّة ، وما لو كان مستفادا من أمارة مسوقة لبيان مسمّى اللفظ الوارد في الدليل ـ كتابا أو سنّة ـ باعتبار وضعه لغة ، كالصعيد إذا ظنّ من جهة قول لغوي ظنّي كونه لمطلق وجه الأرض ، وهو يؤدّي بملاحظة قوله تعالى : ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً )(١) إلى الظنّ بجواز التيّمم على الحجر ولو مع وجود التراب.

أو عرفا كالدابّة إذا ظنّ من جهة الشهرة في استعمالات أهل العرف كونه بالوضع العرفي الثانوي للأنعام الثلاثة ، أعني الخيل والبغال والحمير ، فيحصل منه الظنّ بطهارة أبوالها مثلا ، من جهة النصّ الدالّ على طهارة بول الدابّة.

أو شرعا كما في الحقائق الشرعيّة إذا ظنّ من جهة الشهرة والغلبة في استعمالات الشارع وتابعيه كونها بالوضع الشرعي التعييني أو التعيّني للمعاني الشرعيّة ، فيحصل منه الظنّ بأحكام علّقت في الكتاب أو السنّة عليها.

أو من أمارة قائمة ببيان المراد من اللفظ الوارد في الدليل كتفسير الراوي للّفظ في المشترك ، وغلبة الإطلاق بالقياس إلى فرد في المتواطئ ، والشهرة في المجاز المشهور ، أو الأمر الواقع عقيب الحظر بالنسبة إلى الإباحة المطلقة ، أو الإباحة الخاصّة.

أو من أمارة متعلّقة بالموضوع الخارجي ككون الراوي عادلا أو إماميّا ، أو كون « أبي بصير » هو المرادي لا غير في المشتركات ، أو كون المرويّ عنه في المضمرات هو الإمام ،

__________________

(١) سورة النساء : ٤٣.

٣٧٨

وما أشبه ذلك ممّا يحصل الظنّ به من القرائن الخارجيّة بحيث يلزم منه الظنّ بالحكم الشرعي من جهة رواية في سندها من ذكر ، وهو من الموضوعات الخارجيّة.

والضابط الكلّي : كلّ ظنّ في تشخيص الظواهر أو تعيين المرادات ، أو تميز الموضوعات الخارجيّة إذا تولّد منه الظنّ بالحكم الشرعي ، فإنّه من حيث كونه ظنّا بالحكم الشرعي حجّة ، ويجب العمل به لعموم وجوب العمل بالظنّ في الأحكام الشرعيّة الثابت بدليل انسداد باب العلم في الأحكام ، ولا حاجة في إثباته إلى كلفة إثبات انسداد باب العلم في اللغات وأوضاع الألفاظ والحقائق الشرعيّة والموضوعات الخارجيّة ، ولا إلى إحراز الانسداد الأغلبي فيها ، حتّى لو قلنا بانفتاح باب العلم في اللغات وأوضاع الألفاظ والمطالب الرجاليّة إلاّ في أقلّ قليل منها ولو موردا واحدا ، وجب العمل بالظنّ بالحكم الحاصل فيه من أمارة موجودة فيه بالفرض.

والسرّ فيه : ما تبيّن بما لا مزيد عليه ، من أنّ مناط حكم العقل بملاحظة انسداد باب العلم في الأحكام بوجوب العمل بالظنّ فيها كونه امتثالا ظنّيّا ، وموافقة ظنّيّة للأحكام ، وهذا المناط مطّرد في كلّ ظنّ بالحكم من أيّ سبب حصل ، وإن لم يكن من الأمارات المعدودة من أدلّة الأحكام.

وبما ذكرناه يعلم : أنّ الظنون الرجاليّة عندنا معتبرة من باب الظنّ الاجتهادي المعبّر عنه بالظنّ المطلق في الأحكام.

وعلى هذا فتزكية أهل الرجال وتعديلاتهم إنّما تعتبر من حيث اعتبار الظنّ المطلق في الأحكام ، لا من باب الشهادة ولا من حيث الرواية.

وقد ظهر من باب التنبيه : أنّ الظنّ في اللغات إذا استند إلى أمارة خارجيّة ، سواء رجع إلى إحراز الظواهر وإثبات الأوضاع ، أو إلى إحراز الدلالات وتشخيص المرادات من حيث هو ظنّ في اللغات ليس بحجّة ، كما تقدّم تحقيقه سابقا عندالكلام في الظنون المدّعى خروجها من أصالة التحريم ، بل في المجلّد الأوّل من الكتاب عند الكلام في حجّيّة قول أهل اللغة (١) ، وكذا الظنّ المطلق في مسائل اصول الفقه ـ وفاقا لشريف العلماء ومن تبعه ـ كما حقّقناه أيضا في ذيل البحث عن حجّيّة قول أهل اللغة ، لا لما استدلّ عليه من استلزام الحجّيّة عدمها ـ نظرا إلى نقل الإجماع وتحقيق الشهرة في عدم الحجّيّة ، وهذه أيضا مسألة

__________________

(١) تعليقة على معالم الاصول ٢ : ٥١ ـ ١٦.

٣٧٩

اصوليّة يحصل منهما الظنّ فيها.

وقضيّة حجّيّة الظنّ في المسائل الاصوليّة حجّيّة الظنّ الحاصل منهما في هذه المسألة ، ويلزم عدم حجّيّة الظنّ فيها ، لمنع انعقاد الإجماع وتحقّق الشهرة في عدم الحجّيّة ، لكون أصل المسألة من المستحدثات.

ولو سلّم نقل الإجماع وحكاية الشهرة ، فلا تحصل منهما الظنّ بعدم الحجّيّة بعد مساعدة الدليل على الحجّيّة ، لأنّ مدرك الإجماع لو كان ، والشهرة لو حصلت إنّما هو أصالة التحريم ، بناء على عدم دليل على الحجّيّة ، فخرج من الأصل بل لأصالة التحريم وعدم شمول دليل الانسداد للظنّ في المسائل الاصوليّة.

فإنّ متوهّم الشمول ، إمّا أن يريد به جريان دليل الانسداد في نفس المسائل الاصوليّة كجريانه في المسائل الفرعيّة ، أو يريد به جريانه في الأحكام الشرعيّة المندرج فيها الأحكام الاصوليّة ، كحجّيّة الإجماع المنقول ، وحجّيّة خبر الواحد ، وحجّيّة الشهرة ، وحجّيّة الاستقراء ، ونحو ذلك على معنى وجوب العمل بها ، أو يريد به جريانه في المسائل الفرعيّة ، فيثبت به حجّيّة الظنّ في الأحكام الفرعيّة وإن تولّد من ظنّ آخر ، والمفروض أنّ الظنّ في المسائل الاصوليّة يتولّد منه الظنّ بالأحكام الفرعيّة ، فيكون حجّة بنفس دليل الانسداد.

وأيّا مّا كان فهو ليس بشيء ، أمّا الأول : فلانفتاح باب العلم في مباحث الألفاظ ، بالمعنى المتناول للمبادئ اللغويّة منها ، لكون المرجع فيها غالبا إلى العرف المفيد للقطع ، ولو اتّفق منها ما لم يحصل فيه القطع من العرف فهو نادر ، لا يلزم من ترك العمل بالظنّ فيه محذور.

وأمّا المسائل العقليّة كمباحث الحسن والقبح وغيرها ممّا يرجع فيها إلى العقل ومنه المبادئ الأحكاميّة غالبا ، فالعقل إن حكم فيها فلا يكون حكمه إلاّ بعنوان القطع ، وإلاّ فلا حكم له ولو ظنّا.

وبالجملة باب العلم فيها أيضا مفتوح ، لكون مدركها العقل الّذي لا يكون حكمه إلاّ بعنوان القطع.

وأمّا مباحث الحجّيّة منها ، فجريان دليل الانسداد فيها بالخصوص مبنيّ على تقرير الدليل على وجه يكون نتيجته حجّيّة الظنّ في الطرق ، وقد عرفت منعه.

وأمّا الثاني : فمع عدم انحصار المسائل الاصوليّة في مباحث الحجّيّة ، لا يتمّ إلاّ بتقرير دليل الانسداد في الظنّ بنفس الواقع والظنّ في طرقه ، وقد عرفت منعه.

٣٨٠