تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٥٥٥

بكونه كذلك في عمله تعالى ، لا ما احتمله بعض الفضلاء بقوله : « هذا الكلام يحتمل وجوهاً :

الأوّل : أنّ النزاع في إدراك العقل حسن حكمه تعالى بشيء أو قبحه.

الثاني : أنّ النزاع في إدراك حسن الفعل وقبحه المؤثّرين في وقوع حكمه به على حسبه من إيجاب أو غيره.

الثالث : أنّ النزاع في إدراك العقل حسن الفعل أو قبحه بالنسبة إليه تعالى » (١) لكون هذه الوجوه بمراحل عن هذه العبارة ولا تتحمّلها بظاهرها ، وظاهر أنّ كون الفعل بحيث يستحقّ فاعله المدح أو الذمّ في حكمه تعالى وعلمه لزمه المحبوبيّة والمبغوضيّة له تعالى ، وهما تستلزمان كونه بحيث أوجبه أو حرّمه ، ثمّ يترتّب عليهما استحقاق الثواب والعقاب على الموافقة والمخالفة.

وأمّا ثانيا : فلانّه لو دخل استحقاق الثواب والعقاب فيما أدركه العقل عند العدليّة من الحسن والقبح مع فرض كونه من لوازم الحكم الشرعي لزم أن لا يكون للنزاع في الملازمة ـ الّذي وقع لمتأخّري المتأخّرين ـ محلّ ، إذ المفروض كون الحكم الشرعي ممّا أدركه العقل بواسطة إدراكه ما هو من لوازمه ، ومعه لا معنى للنزاع في الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي ، لأنّ ما أدركه هو الحكم الشرعي لا غير.

نعم ربّما وقع النزاع في حجّية هذا الإدراك على معنى وجوب متابعته ، بناء على ما عليه جماعة من الأخباريّة من إنكارهم حجّية إدراكات العقل في النظريّات.

وأنت خبير بأنّ الكلام في حجّية إدراكات العقل غير الكلام في الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي ، ولا يمكن إرجاع أحدهما إلى الآخر ، وطريق ردّ المنكرين للحجّية على نهج آخر مقرّر في مباحث حجّية القطع ، ولذا توجّه إليهم ثمّة لزوم التناقض أو اجتماع النقيضين لو أرادوا من إدراك العقل إدراكه القطعي ـ كما هو ظاهر أكثرهم ـ ومن عدم حجّيته ما هو بالقياس إلى القاطع ، ولم يتوجّه نحوه هاهنا إلى منكري الملازمة.

وأمّا ثالثا : فلأنّ من منكري الملازمة كالفاضل التوني من بنى إنكاره على التفكيك بين الواجب والحرام العقليّين ، فعرّف الواجب : « بما يستحقّ فاعله المدح وتاركه الذمّ والحرام عكسه » (٢) والواجب والحرام الشرعيّين فعرّف الواجب : « بما يستحّق فاعله الثواب وتاركه العقاب والحرام عكسه » (٣) فوافق العدليّة في القول بالواجب والحرام العقليّين وتنظّر في استلزامهما

__________________

(١) الفصول : ٣١٦.

(٢ و ٣) الوافية : ١٧١.

٤٨١

الواجب والحرام الشرعيّين تمسّكا بوجوه تأتي ذكرها في محلّه ، وهذا يدلّ على أنّ استحقاق الثواب والعقاب اعتبار يؤخذ في جانب الحكم الشرعي لا في جانب الحكم العقلي.

وأمّا رابعا : فلأنّ استحقاق الثواب والعقاب بالقياس إلى الحكم العقلي من عوارض الشخص لا من لوازم الماهيّة ، والكلام في مسألة التحسين والتقبيح إنّما هو في إثبات الماهيّة لا في إثبات شخص يكون الاستحقاق المذكور من عوارضه ، وذلك : أنّ الحسن والقبح بالمعنى المبحوث عنه يراد به أعمّ ممّا يرجع إلى أفعال الله تعالى وما يرجع إلى أفعال العباد.

مع إمكان أن يقال : إنّ الغرض الأصلي من عقد المسألة في أصل تدوينها باعتبار كونها كلاميّة إنّما هو إثبات ما يرجع إلى أفعال الله تعالى ونفيه ليتفرّع عليه مطالب كلاميّة اختلف فيها العدليّة والأشاعرة ، وكانت مبنيّة عند العدليّة على قاعدة التحسين والتقبيح العقليّين ، مثلا أنّهم كانوا يقولون : إنّه تعالى ليس بخالق لأفعال العباد لأنّه يثيبهم ويعذّبهم عليها ، والعقل يحكم باستحقاق من يفعل ثمّ يثيب ويعاقب على فعل نفسه للذمّ ، ويقولون : إنّه لا يفعل فعلا إلاّ لغرض ، لأنّ من يكون عمله لغير داع مستحقّ للذمّ ، وأنّهم يقولون : لا يجوز له تعالى أن يفضّل المفضول على الفاضل ، لأنّ من يفعل ذلك يستحقّ الذمّ عند العقل ، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى كثرة.

وظاهر أنّ دخول استحقاق الثواب والعقاب فيما يرجع إليه تعالى غير معقول ، وإنّما يصحّ اعتباره بالقياس إلى ما يرجع إلى أفعال العباد ، فوجب تعرية موضوع المسألة عن ذلك ليصحّ رجوعه إلى أفعاله تعالى أيضا.

ثمّ إنّه قد ظهر من تضاعيف كلماتنا المتقدّمة أنّ محلّ النزاع بالقياس إلى الأفعال الموصوفة بالحسن والقبح أعمّ من أفعال الخلق وأفعال الخالق ، والأشاعرة ينكرون اتّصاف أفعاله تعالى بالحسن والقبح ، ولذا يجيزون عليه الظلم والجبر والفعل لا لغرض وداع ، والتكليف بالمحال وتعذيب المطيع حتّى نحو النبيّ ، وتنعيم العاصي حتّى نحو قاتل النبيّ ، وتفضيل المفضول على الفاضل كما في أمر الخلافة ، على خلاف العدليّة في جميع ذلك استنادا إلى قاعدة التحسين والتقبيح.

لكن ينبغي تخصيصه بالقياس إلى أفعال الخلق بأفعال المكلّفين ، لوضوح عدم لحوقهما أفعال غيرهم كالصبيّ والمجنون ، ولذا لا يمدح عند العقلاء بعطائه ولا يذمّ بمنعه.

ومن هنا ينبغي القطع باختصاص النزاع بالنسبة إلى المكلّفين بأفعالهم الاختياريّة وأمّا

٤٨٢

الأفعال الاضطراريّة الّتي ليس للفاعل جهة اختيار فيها فلا يلحقها حسن ولا قبح ، ولا يستحقّ الفاعل من جهتها مدحا ولا ذمّا ، حتّى أنّ الأشاعرة في بعض أدلّتهم لنفي التحسين والتقبيح العقليّين استدلّوا بكون أفعال العباد اضطراريّة ، بناء منهم على أصلهم الفاسد من كون العباد مجبورين في أفعالهم.

وإذا تمهّد هذا كلّه فنقول : إنّ الأصحّ بل الحقّ الّذي لا محيص عنه ما عليه العدليّة لأنّه العدل لقضاء الضرورة بذلك ، فإنّ من الأفعال على ما يعرف بالعيان ويدرك بالوجدان ما يحسّنه العقل ويحكم باستحقاق فاعله من حيث هو فاعله المدح كالعدل والإحسان والصدق النافع ، ومنها ما يقبّحه العقل ويحكم باستحقاق فاعله من حيث هو فاعله الذمّ كالظلم والعدوان والكذب الضارّ ، ومن أوضح المحاسن مجازاة المسيء بالإحسان ، ومن أقبح القبائح مجازاة المحسن بالإساءة ، فإنّ العقلاء مطبقون على مدح الأوّل وذمّ الثاني ، وليس إلاّ لشهادة عقولهم باستحقاق الأوّل للأوّل واستحقاق الثاني للثاني ، وكون الاستحقاقين من القضايا المركوزة في أذهانهم ، كما يجده كلّ ذي مسكة راعى الإنصاف وجانب الاعتساف ، وخلّى نفسه عن الشكوك والشبهات ، وخلع عن قلبه العصبيّة والعناد ومتابعة الشهوات.

وتوهّم كون كلّ ذلك من جهة الانس بالشرع حيث أمر ببعض ما ذكر ونهى عن بعض.

يدفعه : فرض الكلام فيمن لا يقول بشرع كالبراهمة وغيرهم من منكري وجود الصانع.

هذا مضافا إلى أنّ مرجع معاني الحسن والقبح على ما أشرنا إليه سابقا إلى أمر واحد ، ووجه اعتبار الجميع وجه واحد ، وهي مع ذلك متشاركة في الخواصّ والآثار في المحبوبيّة والمبغوضيّة والمدح والذمّ ، فالالتزام بالإدراك العقلي في البعض يوجب الالتزام به في الجميع وإنكاره في البعض يوجب الإنكار في الجميع ، والتفصيل بالإثبات في بعض والنفي في غيره غير صحيح.

وتوضيح ذلك : أنّهما في جميع موارد إطلاقهما مفهومان انتزاعيّان ينتزعهما العقل لمنشأ المحبوبيّة والمبغوضيّة الناشئتين :

تارة باعتبار كون الشيء كمالا أو نقصا.

واخرى باعتبار ملائمة الطبع ومنافرته.

وثالثة باعتبار موافقته الغرض ومخالفته.

ورابعة باعتبار موافقته المصلحة ومخالفته.

٤٨٣

وخامسة باعتبار عنوانه الخاصّ كالعدل والإحسان ومجازاة المسيء بالإحسان ، والظلم والعدوان ومجازاة المحسن بالإساءة ، فإن كلّ عاقل راجع وجدانه يجد أنّه بعقله أو طبعه يحبّ كلّ صفة كمال كالعلم وما يلائم طبعه وما يوافق غرضه أو مصلحته والعدل بعنوان كونه عدلا وغيره ممّا ذكر ، ويمدح على الجميع ويبغض أضدادها ويذمّ على الجميع ، والعقل ينتزع عن الأشياء بالمعنى الدائر بين الصفات والملكات والأفعال وما يعمّها باعتبار المحبوبيّة والمبغوضيّة أو إحدى الجهات المذكورة المقتضية للمحبوبيّة والمبغوضيّة مفهوما يعبّر عنه بالحسن أو القبح المفسّرين في الترجمة الفارسية ب « خوبي » و « بدي » ومعنى إدراك العقل للحسن والقبح حينئذ إمّا انتزاعه لذلك المفهوم أو انتقاله إلى المفهوم المنتزع الموجود في الذهن.

وإذا جاز ذلك الانتزاع أو الانتقال إلى المنتزع للعقل في نحو العلم والجهل ، وشرب الماء البارد مع شرب الدواء المرّ ، وقتل زيد لأعدائه وأحبّائه ، جاز في نحو العدل والإحسان ، ومجازاة المسيء بالإحسان ، والظلم والعدوان ، ومجازاة المحسن بالإساءة ، وإذا لم يجز في الأخير لم يجز في غيره والفرق تحكّم أو مكابرة.

ولعلّه إلى هذا البيان يشير ما عرفته عن العلاّمة من ذكر العلم والجهل في عداد أمثلة ما يحسّنه العقل ويقبّحه ، مع كونه من أمثلة ما يحسن عند العقل لكماله وما يقبح عنده لنقصه ، نظرا إلى أنّ وجه اعتبار الحسن والقبح فيما هو من محلّ النزاع هو وجه اعتبارهما فيما هو من غيره.

فإن قلت : وجه الفرق لعلّه أنّ انتزاع العقل لهما في غير محلّ النزاع إنّما هو لإدراكه الجهة المنتزع بها كملائمة الطبع ومنافرته وغيره ولو بمعونة الوجدان وعدم إدراكه لها في محلّ النزاع.

قلت : ـ مع أنّه ينتقض في نحو الصدق النافع والكذب الضارّ المعدودين عند العدليّة ممّا يحسّنه العقل ويقبّحه مع كون الجهة المقتضية للانتزاع فيهما إنّما هي جهة النفع وجهة الضرر وهما عند التحقيق من قبيل الأغراض ، فالأوّل يحسّن عند العقل لموافقته غرض العقلاء والثاني يقبّح لمخالفته غرض العقلاء ، وبه يتمّ المقصود بالاستدلال من إثبات الإيجاب الجزئي ـ أنّ هذا الفرق يبطله أنّ العنوان الخاصّ في نحو العدل والظلم أيضا ممّا يدركه العقل ولو بمعونة الوجدان ، كما أنّ كونه جهة للمحبوبيّة والمبغوضيّة واستحقاق

٤٨٤

الفاعل فيهما للمدح أو الذمّ ممّا يدركه العقل بمعونة الوجدان.

فالفرق أيضا تحكّم والمكابرة بإنكار إدراكه المحبوبيّة والمبغوضيّة تكذيب للوجدان فلا يلتفت إليه.

واحتجّوا على المختار بوجوه اخر :

أحدها : أنّ الحسن والقبح لو كانا بالشرع لا بالعقل لزم إفحام (١) الأنبياء ، فتنفي فائدة بعثهم ، واللازم باطل بالضرورة.

بيان الملازمة : أنّ النبيّ إذا طلب من المكلّف اتّباعه فللمكلّف أن يقول : ليس عليّ اتّباعك إلاّ إذا علمت صدقك ، ولا أعلم صدقك إلاّ بالنظر في معجزتك ، ولا أنظر في معجزتك ، إلاّ إذا وجب عليّ النظر ، ولا يجب عليّ النظر إلاّ بقولك ، وقولك قبل ثبوت صدقك ليس حجّة ، فينقطع النبيّ.

وقد يقرّر الملازمة : بأنّه إذا قال النبيّ : « انظروا في معجزتي لتعلموا صدقي » كان لهم أن يقولوا : « لا ننظر حتّى يجب علينا النظر ، ولا يجب حتّى ننظر ، ولا ننظر ليجب » وهذه معارضة لا مدفع للنبيّ عنها وهو معنى الإفحام.

واعترض عليه : بأنّ إفحام الأنبياء مشترك اللزوم بين القولين ، لأنّ وجوب النظر عقلا على معنى كونه بحيث يستحقّ فاعله المدح وتاركه الذمّ ليس ضروريّا ، لتوقّفه على إعمال مقدّمات كلّها نظريّة لوقوع الخلاف في الجميع ، كون النظر مفيدا للعلم مطلقا والمخالف فيها السمينة ، وكونه مفيدا له في الإلهيّات والمخالف فيه المهندسون ، وكون المعرفة واجبة والمخالف فيه الحشويّة ، وتوقّف المعرفة على النظر والمخالف فيه الصوفيّة لبنائهم على تحصيل المعرفة بطريق المكاشفة ، ووجوب مقدّمة الواجب والمخالف فيه جماعة من الاصوليّين وهذه المقدّمات إن لم يكن كلّها نظريّا فلا أقلّ من كون بعضها نظريّا ، وحينئذ فلهم أن يقولوا : « لا ننظر حتّى يجب ، ولا يجب حتّى ننظر » أي لا ننظر في معجزتك إلاّ بإلزام ولا إلزام إلاّ بالنظر في المقدّمات المذكورة.

وجوابه : مضافا إلى أنّ أكثر هذه المقدّمات بديهيّ الثبوت أو بمثابة البديهي بالقياس إلى الأذهان الصافية الخالية عن الشكوك والشبهات ، ولا سيّما المقدّمة الاولى والثانية ، لأنّ كون جملة كثيرة من علوم آحاد الناس نظريّة معلوم لهم ببداهة وجدانهم ، مع العلم

__________________

(١) أي إلزامهم وإسكاتهم ( منه ).

٤٨٥

الضروري لأكثر الموحّدين المتشرّعين الناظرين في الإلهيّات ببلوغ نظرهم فيها ـ ولا سيّما أركان الإيمان وصفات الواجب ـ إلى مرتبة العلم ، أنّ هذا إنّما يتوجّه لو كان مبنى الاستدلال على إثبات وجوب النظر بالعقل باعتبار كونه مقدّمة لمعرفة الله الواجبة وليس كذلك ، بل على إثباته باعتبار حكم العقل عموما بوجوب دفع الضرر المحتمل وإزالة خوف العقوبة عن النفس ، الّذي يكفي في حصوله احتمال صدق المقدّمات المذكورة مع احتمال صدق النبيّ في إخباره بنبوّته وحقيّة شريعته ، ووجوب معرفة الله سبحانه ووعيده على المخالفة بالعذاب الأليم والخلود في نار الجحيم في دار الآخرة.

وتوهّم لزوم توسيط قاعدة المقدّمية في تتميم الاستدلال على هذا التقدير أيضا باعتبار كون النظر مقدّمة لدفع الضرر فيتوجّه سؤال نظريّة وجوب المقدّمة وبه يلزم الإفحام أيضا.

يدفعه : منع مقدّميّة النظر لدفع الضرر ، بل هو من أفراده ومصاديقه ، وإجراء حكم الكلّي الثابت له بالعقل أو الشرع عموما على فرد له ليس من باب قاعدة المقدّمية ، لما قرّرناه في محلّه من عدم كون فرد الكلّي من مقدّماته ، ولو سلّم كون النظر مقدّمة سببيّة لدفع الضرر من غير جهة الفرديّة فهو من الأسباب الّتي وجوبها عين وجوب مسبّباتها ، لا أنّها من الأسباب الّتي تجب بوجوب المسبّبات لقاعدة المقدّمية ، بأن يكون وجوبها متفرّعا على القول بوجوب المقدّمة ، وهي الّتي يكون بينها وبين مسبّباتها ترتّب في الوجود الخارجي وتغاير بحسب المفهوم والمصداق ، فإنّ النظر وجوده في الخارج عين وجود مسبّبه وهو دفع الضرر وإزالة الخوف عن النفس من دون تغاير بينهما إلاّ بحسب المفهوم والعنوان ، كتكرار الصلاة في جميع موارده لتحصيل العلم بأداء المأمور به الواقعي ، وقد تقدّم في بحث المقدّمة أنّ وجوب نحو هذا السبب عين وجوب مسبّبه ولا يمكن التفكيك بينهما في الوجوب بناء على القول بعدم وجوب المقدّمة ، وحينئذ نقول : إنّ العقل إنّما يحكم بوجوب النظر على معنى استحقاق تاركه الذمّ بلحاظ أنّه بعينه دفع للضرر وإزالة للخوف لعدم تغايرهما بحسب الوجود ، إذ بمجرّد حصوله يزول الخوف بانكشاف صدق النبيّ المستتبع لحصول معرفة الله تعالى.

نعم إنّما يتغاير معه في الوجود زوال الخوف ويكون النظر بالقياس إليه من الأسباب الّتي بينها وبين مسبّباتها ترتّب في الوجود الخارجي ، ولكن موضوع حكم العقل ليس هو النظر بعنوان أنّه زوال الخوف ليتفرّع وجوبه على القول بحكم العقل بوجوب مقدّمة

٤٨٦

الواجب ، بل بعنوان أنّه إزالة للخوف.

ولا ريب أنّهما لا يتغايران إلاّ بحسب العنوان من دون ترتّب بينهما في الوجود ، والفرق بين إزالة الخوف وزواله واضح من حيث إنّ الأوّل فعل اختياري للمكلّف ولا خارج له إلاّ النظر ، فإذا حصل باستكمال النظر لزمه ترتّب الزوال عليه قهرا.

ثمّ إنّ هذا الوجوب العقلي كاف في إقدام المكلّف على النظر ، لأنّ العقل بمجرّد إدراك هذا الوجوب يلزم المكلّف به ويحرّكه إليه ، ولا حاجة معه إلى إلزام آخر من الشرع ليعود محذور الإفحام.

وثانيها : أنّهما لو لم يكونا عقليّين لم تجب معرفة الله تعالى ، لتوقّف معرفة الإيجاب على معرفة الموجب ، المتوقّفة على معرفة الإيجاب ، فيدور.

وتفصيل ذلك : أنّ الاشاعرة لمّا أنكروا الحسن العقلي ، قالوا : إنّ حسن المعرفة ووجوبها إنّما كان بأمره تعالى وإيجابه ، حيث يقول : ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ )(١) وحينئذ فيتوجّه أنّ معرفة إيجابه موقوفة على معرفته بالضرورة لمكان الاضافة ، فيجيء الدور.

وأمّا عندنا فلمّا كان شكر المنعم واجبا عقليّا لزمنا معرفته لنتمكّن من شكره بما يليق ، إذ لا يعقل شكر من لا يعرف ، هذا على ما في كلام السيّد الكاظمي رحمه‌الله في شرحه للوافية.

ولنا في وضع الدليل نظر ، مرجعه إلى منع الدور ثمّ منع الملازمة ، إذ لا يعتبر في معرفة الله تعالى معرفته بوصف كونه موجبا ليتوقّف على معرفة إيجابه ، بل معرفته من حيث هو ، وهي لا تتوقّف على معرفة إيجابه المعرفة بل على النظر في تحصيل المعرفة ، فقصارى ما يلزم من انتفاء معرفة الله هو عدم معرفة ايجابه المعرفة لا عدم وجوب معرفته في الواقع ، فيتطرّق المنع حينئذ إلى الملازمة.

إلاّ أن يقال : إنّ المراد من قولنا : « لم يجب معرفة الله » أنّه لم يعرف وجوب معرفة الله.

ويرد عليه : مع ما فيه من التكلّف ، عدم ابتنائه على إلزام الدور مع عدم لزومه على ما عرفت.

ثمّ إنّه لمّا كان مبنى هذا الدليل في طريقة أصحابنا على وجوب شكر المنعم فلا بأس بالتعرّض لبيانه ، والإشارة إلى ما يرد عليه ثمّ إصلاحه ، وبيان تقريب الاستدلال به.

فنقول : إنّ المعروف من تقريره أنّ كلّ عاقل يراجع نفسه يرى أنّ عليه نعما ظاهرة

__________________

(١) محمّد : ١٩.

٤٨٧

وباطنة ، جسميّة وروحانيّة ممّا لا يحصى كثرة ، ولا شكّ ولا ريب أنّها من غيره ، فهذا العاقل إن لم يلتفت إلى منعمه ولم يعترف له بإحسان ولم يذعن بكونه منعما ولم يتقرّب إلى مرضاته يذمّه العقلاء ويستحسنون سلب تلك النعم عنه ، وهذا معنى الوجوب العقلي.

وأيضا إذا رأى العاقل نفسه مستغرقة بالنعم العظام يجوّز أنّ المنعم لها قد أراد الشكر عليها ، وإن لم يشكره يسلبها عنه ، فيحصل له خوف العقوبة ، ولا أقلّ من سلب تلك النعم ، ورفع الخوف عن النفس واجب مع القدرة وهو قادر على ذلك فلو تركه كان مستحقّا للذمّ ، وإذا ثبت وجوب شكر المنعم ووجوب إزالة الخوف عن النفس فهو لا يتمّ إلاّ بمعرفة المنعم حتّى يشكره على حسب مرتبته ، وعلى ما يستحقّه ويمكن المناقشة في إناطة حكم العقل بالوجوب بخوف زوال النعم لو لا الشكر حتّى ينتج وجوب المعرفة ، بأنّ أعظم النعماء وأصلها نعمة الحياة ، والعاقل يقطع بأنّها زائلة بالموت لا محالة شكر أم لم يشكر ، مع القطع بعدم كون المدار فيما عداها على المعرفة ولا الشكر ليزول بعدمهما وإلاّ وجب زوالها عن الكفّار على اختلاف أصنافهم ، وعن أهل المعاصي المحرز كونهم كذلك بعدم قيامهم بشكر منعمهم ، ولا ريب أنّ الالتفات إلى ذلك ربّما يأمنه من خوف زوال النعم بما عدا الموت.

والأولى لإثبات وجوبه بطريق العقل أن يقال : إنّ شكر المنعم من حيث إنّه شكر المنعم ـ على ما يدرك بالوجدان السليم ـ ممّا يحسّنه العقل ويقبّح تركه ، كما أنّه يحسّن ردّ الوديعة ويقبّح تركه ، والمنكر مكابر.

فلو قيل : إنّ الحسن بهذا الاعتبار وإن كان مسلّما إلاّ أنّه لا يصلح ملزما للعبد بالشكر إلاّ إذا استلزم إيجابا ، فإن كان من المنعم فهو موقوف على معرفته وبدونها لا إيجاب ، وإن كان من غيره فمع أنّه لا يجدي نفعا في الإلزام يبطله دليل الخلف.

لقلنا : مع أنّ الموقوف على المعرفة إنّما هو العلم بالإيجاب لا نفس الإيجاب إن اريد به الواقعي لا الظاهري ، ولعلّ احتمال الإيجاب من المنعم في نظره على وجه أوجب خوف العقوبة على المخالفة ولو في دار الآخرة الّتي يكفي فيها الاحتمال الناشئ عن إخبار مخبر كاف في قيامه والتزامه بالشكر ، أنّ العاقل المجانب للعناد إذا تفطّن بحكم عقله بالحسن فلا يجوّز بإرشاد عقله لنفسه الإقدام على القبيح لئلاّ يتوجّه إليه ذمّ العقلاء ، بل لئلاّ يستحقّ ذمّهم كما هو شيمة المعتدلين في ارتكاب المحاسن واجتناب القبائح ولو مع قطع النظر عن

٤٨٨

الشرع ووروده ، بل ومع إنكار الشرائع ، وليس هذا إلاّ من جهة تحريك العقل وإرشاده بعد إدراكه الحسن والقبح من غير حاجة إلى إيجاب من موجب.

ويمكن تقرير الدليل المذكور على وجه يكون نتيجته وجوب النظر في معرفة الله تعالى ، بأن يقال : إنّهما لو لم يكونا بالعقل لما وجب النظر في معرفة الله تعالى وإلاّ لزم الدور ، لأنّ وجوب النظر المفروض استفادته من إيجابه تعالى موقوف على معرفة الله ، وأنّه هل يجب اتباعه أم لا؟ ومعرفته كذلك موقوفة على وجوب النظر في معرفة الله المفروضة.

وأمّا عندنا فوجوبه عقليّ مستفاد إمّا من قاعدة وجوب شكر المنعم وقد تقدّم تقريرها ، لكن لا بدّ من انضمام مقدّمة اخرى إلى البيان المتقدّم وهو أنّ معرفة المنعم إنّما تتمّ بالنظر ، لأنّ التقليد غايته إفادة الظنّ وهو لا يزيل الخوف ، وما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب ، لأنّه لو لا انضمامه لم يفد البيان المتقدّم كيفيّة تحصيل المعرفة ولا تعيّن كونها بالنظر.

أو قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل وإزالة الخوف عن النفس ، وقد عرفت بيانها أيضا في تتميم الاستدلال بالوجه الأوّل.

ونزيد هاهنا أنّ العاقل المتفطّن قبل دخوله في الإسلام أو غيره إذا سمع المسلمين يقولون : إنّ للعالم صانعا ، وقد خلق جنّة وجحيما ، وأرسل نبيّا بشريعة ونصب له وصيّا لحفظ شريعته ، وأراد من العباد معرفته ومعرفة نبيّه ووصيّ نبيّه والتصديق بشريعته والتديّن بجميع ذلك بعد المعرفة ، وفرض عليهم طاعته وطاعة نبيّه ووصيّ نبيّه ، ووعد لمن عرف جميع ذلك وتديّن وأطاع الدخول في الجنّة والخلود في نعيمها ، وأوعد لمن جهل شيئا من ذلك أو جحده عنادا بالدخول في الجحيم والخلود في عذابها ، فهو لا محالة يحسّ في نفسه الخوف بترك المعرفة ، فيجب إزالته عقلا بتحصيل المعرفة ، ولا تتمّ إلاّ بالنظر المفيد للعلم.

ولو أردنا تقرير هذا الدليل لنفي كفاية الظنّ ولا التقليد في معرفة الله أضفنا إليه أنّ الخوف لا يزول بالتعويل على الأمارات الظنّية الّتي ليس من شأنها دوام الإصابة للواقع ، ولا الركون إلى التقليد الّذي لو خلّي وطبعه ليس بدائم الإفادة للمعرفة ولا بدائم الإصابة للواقع ، ولو من جهة اشتباه المحقّ بالمبطل وعدم التمكّن من تميز أهل الحقّ من أهل الباطل إلاّ بالنظر.

هذا ولكنّ التقرير المذكور للدليل أيضا يندفع بمنع التوقّف في المقدّمة الاولى ، فإنّ المتوقّف على معرفة الله هو العلم بوجوب النظر لا نفس وجوب النظر ، بحيث يلزم من انتفائها عدم وجوب النظر في الواقع ، ثمّ بمنع التوقّف في المقدّمة الثانية لعدم توقّف معرفة

٤٨٩

الله على وجوب النظر بل إنّما يتوقّف على أصل النظر وجب أو لم يجب ، فالإنصاف أنّه لا يمكن إلزام الأشاعرة على بطلان مذهبهم بهذا الدليل بشيء من تقريريه.

وثالثها : أنّهما لو لم يكونا بالعقل لجاز منه تعالى إظهار المعجزة بيد الكاذب إضلالا للعباد فينسدّ باب إثبات النبوّات ، ولجاز منه الكذب في وعده ووعيده فيرتفع الوثوق بهما فينتفي فائدة التكليف.

وبيان الملازمة : واضح ، لبناء مذهب الخصم على أنّه لا يقبح عليه تعالى شيء عقلا ، وبطلان اللازم أوضح ، بخلاف ما عليه العدليّة لقبح الإضلال والكذب عليه تعالى عقلا ، فيمتنع صدوره منه لعلمه وحكمته وغنائه.

وتوهّم أنّه يكفي في الامتناع قبحه في الشرع واضح الفساد ، لأنّ القبح الشرعي إنّما يثبت باعتبار كونه منهيّا عنه ومن المستحيل توجّه ذلك النهي إليه تعالى ، مع أنّ هذا القبح يثبت بالشرع والكلام إنّما هو في إثبات الشرع الّذي منه هذا القبح فيستحيل توقّفه عليه لرجوعه إلى توقّف الشيء على نفسه.

وأمّا ما عن بعض قاصريهم في دفع الاستدلال من أنّ صدقه تعالى في وعده ووعيده وصدق أنبيائه في دعوى النبوّة إنّما يحرز بجريان عادته تعالى بعدم الكذب وعدم إظهار المعجزة بيد الكاذب.

فيدفعه : أنّ جريان عادته تعالى بذلك إن اريد به إمكانه فلا ينفع لأنّه لا يوجب الوقوع ، وإن اريد به الوقوع فلا محرز له في نظر المكلّف لقيام احتمال إظهاره المعجزة بيد الكاذب عنده في جميع الأنبياء ، وقيام احتمال الكذب في وعده ووعيده الواردين في جميع الشرائع ، مع أنّه لا داعي له إلى هذه العادة بعد الالتزام بأنّه لا يقبح عليه شيء.

وتوهّم أنّ الداعي عدم خروج فعله تعالى في بعث الأنبياء وجعل التكاليف بلا فائدة.

يدفعه أنّه لا ضير في ذلك عندهم لتجويزهم عليه تعالى أن يفعل لا لغرض ولا داع ، مع أنّ العادة لكونها ناشئة عن التكرّر والغلبة أمارة ظنّية وغايتها الظنّ وهو لا يدفع احتمال الكذب في المقامين ، فالمحذور على حاله سيّما مع ملاحظة جواز التخلف في العادات ، مع أنّ العادة إنّما تنشأ عن التكرار وهو مسبوق على المرّة فيستحيل إحراز العادة بالقياس إلى المرّة الاولى والثانية فلا نافي للاحتمال فيهما ، ويلزم منه عدم التمكّن من إحرازها بالقياس إلى الثالثة وهكذا إلى آخر النبوّات.

٤٩٠

ومن الفضلاء من أورد في المقام سؤالا وهو كون إشكال ارتفاع الوثوق بإخباره تعالى بالمعاد وبسائر مواعيده مشترك الورود بين القول بنفي التحسين والتقبيح وبين القول بثبوتهما بالوجوه والاعتبارات ، إذ على هذا القول يجوز عند العقل أن يتحقّق في الكذب مصلحة مرجّحة لوقوعه رافعة لقبحه ، فإذا تطرّق هذا الاحتمال إلى تلك الإخبار عاد الإشكال.

قال : « وربّما أمكن تأييده بما ثبت عند أصحابنا الإماميّة من جواز التقيّة على الإمام ، فإنّها لا تختصّ عندهم بالأفعال بل يجري في الأقوال أيضا ، فإذا جاز أن يقول الإمام عبارة كاشفة عن الواقع على خلاف ما هو عليه مراعاة لمصلحة التقيّة جاز مثله في حقّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل وفي حقّه تعالى أيضا ، فكيف يحصل الوثوق بتلك الأخبار.

ومن هنا ذهب بعض الزنادقة من المنتسبين إلى الإسلام إلى أنّ الأخبار الواردة في الشريعة ممّا يتعلّق بتعذيب الكفّار والفسّاق بأسرها أخبار صوريّة غير مطابقة للواقع ، قصد بها مجرّد التخويف لحفظ النظام وتكميل الأنام » (١).

ويدفعه : أنّ قضيّة قاعدة التحسين والتقبيح العقليّين قبح الكذب على الله تعالى مطلقا حتّى على القول المذكور ، لامتناع تحقّق الجهة المحسّنة له في حقّه تعالى وهو الاضطرار إليه لحفظ نفس محترمة أو دفع ضرر يخاف طروّه ولا يتسامح فيه عند العقلاء ، وضابطه انحصار الطريق في الإتيان بكلام غير مطابق يترتّب عليه ما قصد من حفظ نفس أو دفع ضرر ، ومنه التقيّة في القول الواجبة على الإمام عليه‌السلام من الوقاية بمعنى الحفظ ، فإنّه إنّما كان يراعيها عند الاضطرار إلى الإتيان بعبارة غير مطابقة ـ ولو بطريق التورية ـ لحفظ نفسه الشريفة أو دفع شرّ الأعداء عنه أو عن شيعته في العاجل أو الآجل ، وهذه هي الحكمة الباعثة على التقيّة في أفعالهم أيضا حتّى أنّها قد تبلغ بهم إلى اختيار الغيبة على الظهور ـ مع توقّف الحكمة الباعثة على نصبه وهو التصرّف والتدبير في الامور الدينيّة على ظهوره ـ إذا لم يكن مندوحة في حفظ نفسه الشريفة عنها ، كما اتّفق ذلك لإمام عصرنا عجّل الله فرجه ، حيث إنّه لما انتهت نوبة الإمامة إليه عليه‌السلام ولم يكن له بدل يقوم مقامه فيما وجوده لطف فيه على تقدير إصابة الأعداء إيّاه بقتل أو إهلاك ـ كما كان لآبائه السالفين عليهم‌السلام ـ تعيّن عليه التوقّي عن ضررهم بما لم يتعيّن على آبائه عليهم‌السلام وهو الغيبة.

ووجه امتناع الاضطرار إلى الكذب في حقّه تعالى رجوعه إلى العجز عمّا يترتّب عليه

__________________

(١) الفصول : ٣١٩.

٤٩١

بدونه ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا ، فبقى من الكذب المحتمل في حقّه تعالى ما روعي فيه مصلحة لم ينحصر طريقها فيه وتأثير نحو هذه المصلحة في حسنه غير واضح ، بل خروج ما لم يبلغ حدّ الاضطرار بالقياس إلى المكلّفين عن حدّ القبح العقلي موضع منع ، وإن قصد به استجلاب المنافع أو استدفاع المضارّ المتسامح فيها عند العقلاء ، ولذا ترى أنّ من يرتكب الأقاويل الكاذبة لمجرّد استجلاب المنافع لنفسه أو لغيره كان ساقط المحلّ عند العقلاء مذموما لديهم ، ولا يعذّره كونه طريقا إلى استجلاب تلك المنافع ، وليس هذا إلاّ لعدم تأثير ما عدا الاضطرار في حسن الكذب من أيّ قائل كان.

ولهذا كلّه ظهر فساد مقالة بعض الزنادقة ، فإنّ تجويز ما ذكر في الأخبار المشار إليها دائر بين تجويز العجز في حقّه تعالى أو ارتكاب القبيح ، لعدم خلوّ الفرض عن الاضطرار فيلزم الأوّل أو عدمه فيلزم الثاني ، وهذا هو الوجه في امتناع وقوع الكذب من الأنبياء لقبحه ما لم يحصل الاضطرار إليه.

نعم ربّما أمكن فرض تحقّق الاضطرار في حقّهم لكنّه لا يؤثّر في حسنه ورفع قبحه ، لمنافاته الحكمة الباعثة على بعثهم وهو إظهار الحقّ وإمحاق الباطل وإتمام الحجّة وقطع المعاذير على من آمن برسالته ومن كفر بها ، وهذه مصلحة عظيمة لا يعارضها مصلحة حفظ النفس والاحتراز عن الضرر وإن كان معلوما ، ولذا كان يجب عليهم الدعوة إلى الحقّ مع الأمن من شرّ أهل الباطل ومع عدمه ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ )(١) بل ربّما كانوا مأمورين على الجهاد والقتال وإن تضمّن إصابة ضرر عليهم من جرح أو قتل ، ومن هنا ظهر أنّه لا معنى للتقيّة في حقّهم فعلا ولا قولا كذبا ولا تورية.

والفرق بين النبيّ والإمام أنّ الأوّل على ما عرفت مبعوث لإظهار الحقّ وإتمام الحجّة ، ولا يتمّ ذلك إلاّ ببيان الواقع في جميع الوقائع المتعلّقة بالامور الدينيّة من المعارف اليقينيّة والأحكام الفرعيّة ، والإمام بعده منصوب لحفظ الشريعة وإزاحة العلّة والجهل عن الأنام ببيان ما يحتاجون إليه من المعارف والأحكام بعد ما تمّت الحجّة ولزمت البيّنة ببيان الرسول حتّى بالنسبة إلى وجوب معرفة الإمام واتّباعه ، كما نصّ عليه قوله عزّ من قائل : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً )(٢) وكما أنّ وجود كلّ من النبيّ والإمام من الألطاف الواجبة عليه تعالى فكذلك تصرّف كلّ منهما وتدبيره في

__________________

(١) الأنفال : ٤٢.

(٢) المائدة : ٣.

٤٩٢

الامور الدينيّة لطف واجب عليه ، ولكنّه بالقياس إلى الثاني مشروط بمساعدة مصلحة التقيّة لعدم منافاة الاشتراط للحكمة الباعثة على نصبه ، وبالقياس إلى الأوّل مطلق بالنسبة إلى هذا الشرط لمنافاة الاشتراط للحكمة الباعثة على بعثه.

وبالجملة التعليق في إيجاب التصرّف والتدبير في الامور الدينيّة بالقياس إلى مصلحة التقيّة يخلّ باللطف الواجب على النبيّ ولا يخلّ باللطف الواجب على الإمام ، لأنّ مصلحة الدعوة وإتمام الحجّة وإظهار الحقّ أقوى من مصلحة التقيّة ، كما أنّ مصلحة التقيّة بعد ما ظهر الحقّ وتمّت الحجّة أقوى من مصلحة إزاحة العلّة وإزالة الجهل ، لأنّ عدمهما لا يستند إلى الإمام بل إلى الرعيّة لامتناعهم عن الرجوع إليه أو منعهم إيّاه عن القيام بمنصبه.

احتجّت الأشاعرة بوجوه واهية نقتصر منها على وجهين ذكرهما العلاّمة في التهذيب (١) :

أحدهما : أنّ أفعال العباد اضطراريّة فينتفي اتّصافها بالحسن والقبح عقلا اتّفاقا ، أمّا عندنا فواضح ، وأمّا عند الخصم فلأنّهما عنده من صفات الأفعال الاختياريّة لا غير.

وثانيهما : قوله تعالى : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً )(٢).

وجه الاستدلال : أنّ الحسن والقبح لو كانا بالعقل لزم حصول التعذيب قبل بعث الرسول ، والتالي باطل فالمقدّم مثله.

بيان الملازمة : أنّ التعذيب لازم للوجوب على تقدير تركه وللحرام على تقدير فعله ، فإذا كان الوجوب والحرمة بالعقل لم يتوقّفا على بعث الرسول فيتحقّق التعذيب قبله ، وأمّا بطلان التالي فلقوله عزّ من قائل : ( وَما كُنَّا ... ) إلخ (٣) ، فإنّه نفى التعذيب من دون بعثة الرسول.

وفيه : أنّ أقصى ما في الآية نفي فعليّة التعذيب وهو لا ينافي استحقاق العذاب ، لإمكان العفو وهو اللازم للوجوب والحرمة لا غير ، ودعوى امتناع العفو عندهم عن الإخلال بالواجبات العقليّة بإطلاقها حتّى قبل البعثة بل مطلقا ممنوعة ، كيف ولم يظهر إلى الآن قائل بذلك ، ولذا قيل : « إنّه افتراء لو اريد نسبته إلينا » وعلى تقدير وجود قائل به فهو ممّن لا يعتدّ به ولا يوجب قوله إطباقهم عليه.

ولو سلّم الاستلزام فليس في الآية عموم ولا إطلاق بحيث يشمل المقام ، بل غاية مفادها نفي استحقاق العذاب على طريقة القضيّة المهملة.

__________________

(١) تهذيب الوصول إلى علم الاصول : ٥٣.

(٢) الإسراء : ١٥.

(٣) الإسراء : ١٥.

٤٩٣

ولو سلّم الظهور فلعدم صلاحيتها لمقاومة العقل المستقلّ لا بدّ من تأويلها بتخصيص أو تعميم ، فقد يحمل على ما لا يستقلّ به العقل ، وقد يجعل الرسول أعمّ من الظاهر والباطن.

ومع الغضّ عن جميع ذلك فهو لا يدفع مقالة من يعترف بالحكم العقلي وينكر الملازمة بينه وبين الحكم الشرعي ، كما عليه بعض أصحابنا تبعا للزركشي.

إلاّ أن يقال : إنّ مبنى الاستدلال على ما أطبق عليه الفريقان من ثبوت الملازمة على تقدير ثبوت الملزوم ، والخلاف إنّما هو في إثبات الملزوم ونفيه ، وإذا جاز للخصم الاكتفاء في إثبات الملازمة بإثبات الملزوم اعتمادا على الاتّفاق المذكور جاز لنا الاكتفاء في نفي الملزوم بنفي اللازم تعويلا على الاتّفاق المذكور ، الّذي مرجعه إلى الإجماع المركّب ، فيلزم أن يكون القول بإثبات الملزوم ونفي الملازمة خرقا لهذا الإجماع فلا يلتفت إليه.

وكيف كان فينبغي التكلّم في الدليل الأوّل.

فنقول : إنّ لهم في إثبات صغرى هذا الدليل ـ على ما عزى إليهم ـ طريقين :

أحدهما : أنّه تعالى علم بأفعال العباد قبل وقوعها ، فيمتنع وقوع خلاف ما علم منهم ، وإلاّ لا نقلب علمه جهلا وهو محال.

وعن الفخر الرازي في أربعينه تحرير ذلك بما محصّله : « أنّه كما أنّ بين وقوع كلّ من الفعل والترك من الفاعل في وقت واحد ووقوع الآخر منه منافاة ذاتيّة لامتناع الجمع بينهما ، كذلك بين العلم بأحدهما ووقوع الآخر منافاة ذاتيّة ، إذ المطابقة للواقع معتبرة في ذات العلم ، فإذا فرض علمه تعالى بأحدهما تحقّق المنافي الذاتي لوقوع الآخر فيمتنع القدرة عليه ، إذ لا يتمّ القدرة على الشيء مع تحقّق المنافي الّذي لا سبيل إلى رفعه » (١).

وفيه : أنّ علمه تعالى ـ كما حقّق في محلّه ـ ليس علّة للمعلوم ، بل هو في أصل تعلّقه وكيفيّته تابع له ، فإن كان ما سيقع من الفاعل في وقته باختياره هو الفعل تعلّق به العلم كذلك ، وحينئذ فإذا جاء الوقت واختار الفاعل الفعل على حسب ما تعلّق به العلم كان الواقع في الخارج هو الفعل الاختياري الّذي كونه سيختاره الفاعل أوجب تعلّق العلم به لا غير ، وبعد وقوعه بالاختيار امتنع وقوع الترك معه ، لا لخروجه عن الاختيار بالذات ، بل لعدم تعلّق قدرة المختار به باعتبار الوصف وهو اجتماعه مع ما ينافيه ، فإنّ كلاّ من الفعل والترك قبل اختيار أحدهما اختياريّ على معنى كون الفاعل القادر على كلّ منهما بالذات

__________________

(١) حكاه عنه في الفصول : ٣٢٢.

٤٩٤

بحيث إن شاء اختار الفعل وإن شاء اختار الترك ، وإذا اختار أحدهما لم يخرج الآخر عن كونه اختياريّا بالذات ، بل يمتنع وقوعه لعدم كون وصف الاجتماع بينهما مقدورا ، وإذا كان علمه تعالى تابعا لاختياره لم يعقل كونه مؤثّرا في عدم اختياريّته.

وبالتأمّل فيما قرّرناه يظهر أنّ دعوى المنافاة الذاتيّة بين العلم بأحدهما ووقوع الآخر وهم ، إذ لا منافاة بالذات إلاّ بين وقوع المعلوم ووقوع الآخر.

نعم لمّا كان العلم باعتبار ما أخذ فيه من المطابقة للواقع تعلّق بما سيقع في الخارج بالاختيار صحّ إسناد المنافاة إليه ، ووقوع الآخر على سبيل العرض والمجاز من باب وصف الشيء بحال متعلّقه ، وبذلك علم أنّ امتناع القدرة على الآخر ليس لمنافاة العلم إيّاه بالذات بل لفرض وقوع متعلّق العلم الّذي هو المنافي له بالذات ، كما علم أيضا أنّ انقلاب علمه تعالى جهلا على تقدير وقوع خلاف المعلوم ليس من آثار اختياريّته بل من آثار فعليّة وقوعه ، فاستحالته إنّما تنفي فعليّة وقوعه لا اختياريّته ، لا بمعنى كون العلم مانعا من وقوع خلاف المعلوم ومقتضيا لعدمه ، فإنّ معنى العلم بالشيء انكشاف الواقع للعالم لا التأثير في وقوعه أو عدم وقوع خلافه بل باعتبار استحالة تعلّقه بغير الواقع.

قال بعض الفضلاء : « إنّ المستحيل هناك أمران :

الأوّل : وقوع غير ما يقع من الفاعل المختار ، ومرجع هذه الاستحالة إلى وجوب الصدور منه من جهة تحقّق علّته التامّة الّتي من جملتها الاختيار والقدرة ، وهذا هو الوجوب بالاختيار الّذي لا ينافي الاختيار بل يحقّقه.

الثاني : تخلّف علم العالم عمّا علمه ، ومرجع هذه الاستحالة إلى استحالة علمه تعالى بغير الواقع لا إلى سببيّته للواقع واستدعائه له » (١).

وأمّا ما توهّم من أنّ القدرة على خلاف ما علمه تعالى قدرة على قلب علمه تعالى جهلا وهو محال.

فيدفعه ما ذكره الفاضل المذكور من : « أنّا نلتزم بأنّ لا قدرة على قلب علمه تعالى جهلا ، لكن نمنع منافاة ذلك القدرة على خلاف المعلوم.

وتوضيحه : أنّه تعالى لمّا كان عالما بالأشياء على ما هي عليه في الواقع فلا بدّ أن يكون علمه بالفعل الاختياري على وجهه ، من وقوعه من الفاعل على وجه الاختيار ،

__________________

(١) الفصول : ٣٢٧.

٤٩٥

وحينئذ فيرجع الحاصل إلى أنّه تعالى عالم بأنّ الفاعل المختار يفعل كذا حال قدرته على خلاف ما يفعله ، فإنّ ذلك معنى اختياريّة الفعل له ، فقدرة الفاعل على خلاف ما علمه منه تعالى ليس قدرة على قلب علمه تعالى جهلا ، كيف وقد علم بوقوعه منه في هذه الحالة ، فقدرته عليه محقّقة لعلمه تعالى بفعله على وجهه ، وإنّما يلزم القلب إذا فعل خلاف ما علمه تعالى لكنّه محال ، فاتّضح أنّ استحالة قلب علمه تعالى جهلا راجعة إلى استحالة علمه تعالى بخلاف ما يقع منك لا إلى استحالة قدرتك على خلاف ما علمه ، فأنت قادر في نفسك على خلاف ما علمه لكنّه محال في حقّه أن يعلم خلاف ما تفعله » (١) إلى آخر ما ذكره وله لتحقيق المقام بيانات وافية وإفادات شافية ومن يطلبها فليراجع كتابه.

وثانيهما : أنّ أفعال العباد لو كانت اختياريّة فصدورها إمّا أن يكون بمرجّح أو لا وكلاهما باطل.

أمّا الثاني : فللزوم الترجيح بلا مرجّح.

وأمّا الأوّل : فلأنّ المرجّح إمّا من قبله تعالى فيجب فلا يقدر على تركها ، أو من قبل العباد فننقل الكلام إليه ، فنقول صدوره إمّا بمرجّح أو لا ، فثبت كونها اضطراريّة.

وعن جماعة تقريره : بأنّ فعل العبد لو كان اختياريّا لاحتاج إلى مرجّح ، وننقل الكلام إلى ذلك المرجّح ، فإن كان اختياريّا تسلسل وإلاّ فالاضطرار.

وعن العضدي تقريره : بأنّ فعله إن كان لازم الصدور بحيث لا يمكنه الترك فذلك الاضطرار ، وإن جاز وجوده وعدمه فإن افتقر إلى مرجّح قلنا هو مع مرجّحه إمّا لازم الصدور أو جائزه ، فإن كان لازما فالاضطرار ، وإلاّ فلا بدّ له من مرجّح وتسلسل ، وإن لم يفتقر إلى مرجّح بل كان بحيث يصدر عنه تارة ولا يصدر عنه اخرى مع تساوي الحالين من غير تجدّد أمر من الفاعل فهو اتّفاقي لا اختياري.

وعن بعض المتأخّرين تقريره : بأنّه إن وجب صدور الفعل فلا اختيار ، وإلاّ فلا صدور لمّا تقرّر من أنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد.

وقد يقرّر أيضا : بأنّ جميع ما يتوقّف عليه الفعل إذا تحقّق فإمّا أن يلزم الفعل أو لا ، وعلى الأوّل يلزم الاضطرار ، وعلى الثاني يلزم جواز تخلّف المعلول عن علّته العامّة ، بل يلزم مع الصدور الترجيح لا لمرجّح ، إذ المفروض أنّه لم يزد على عدم الصدور.

__________________

(١) الفصول : ٣٢٧ ـ ٣٢٨.

٤٩٦

وقد يقرّر أيضا : بأنّ الفعل الاختياري ما لا يقع إلاّ بإرادة ، فإن كانت من فعله أيضا تسلسل ، وإن كانت من فعل الغير جاء الاضطرار.

وعن بعضهم التعلّق في دفع الشبهة بالتزام الترجيح بلا مرجّح.

وقد نصّ في المنية (١) بجواز ترجيح القادر لأحد الطرفين الفعل والترك على الآخر لا لمرجّح كالهارب من السبع إذا صادف طريقين متساويين.

وعن آخرين بأنّه لا ضرر في العجز عن حلّ الشبهة بعد ثبوت الحقّ بالبيّنة ، وهذا ممّا لا كرامة فيه إذ لا داعي إلى الاعتراف بالعجز بعد سهولة دفع الشبهة. وأضعف منه الالتزام بجواز الترجيح من غير مرجّح ، لأنّه يخالف صريح الوجدان والاستشهاد بالمثال المذكور ونحوه واضح الدفع ، لمنع بنائه على الترجيح من غير مرجّح.

وتوضيح المقام : أنّ « الترجيح » في هذا العنوان وفي عنوان « ترجيح المرجوح على الراجح » عبارة عن اختيار أحد طرفي الممكن من الفعل والترك ، و « المرجّح » عبارة عمّا يوجب رجحانه في نظر الفاعل المختار ، وهو قد يكون عقلائيّا إذا كان ممّا يعتبره العقلاء مناطا للترجيح ، وقد يكون فاعليّا وهو ما اعتبره الفاعل المختار مناطا له وإن لم يصلح له في نظر العقلاء بحيث يتوجّه إليه من الترجيح بسببه ذمّ العقلاء.

فضابط الفرق بين النوعين كون المرجّح بحيث يرفع ذمّ العقلاء وعدمه ، والمراد من « عدم المرجّح » في عنوان « الترجيح بلا مرجّح » انتفاء المرجّح رأسا حتّى ما يكون فاعليّا ، والمراد من « ترجيح المرجوح على الراجح » اختيار أحد طرفي الممكن لمرجّح غير عقلائي ، ومحصّله ترجيح المرجوح العقلائي على الراجح العقلائي لمرجّح غير عقلائي أوجب فيه رجحانا فاعليّا ، ومن آثاره قضاؤه باستحقاق الفاعل ذمّ العقلاء.

وبهذا علم السرّ في الفرق بين العنوانين ، حيث حكم على الأوّل بالاستحالة وعلى الثاني بالقبح على معنى كونه بحيث يستحقّ فاعله الذمّ.

وبذلك ظهر أنّ اللازم من مذهب الأشاعرة في إنكارهم التحسين والتقبيح العقليّين تجويز ترجيح المرجوح على الراجح ، كما أنّهم يجوّزون على الله تعالى تفضيل المفضول على الفاضل ، بخلاف الترجيح من غير مرجّح لعدم كون استحالته من جهة قبح عقلي ، وظاهر أنّ استحالة هذا العنوان ليست لمدخليّة المرجّح في تحقّق ما يختاره الفاعل

__________________

(١) منية اللبيب : ١٩.

٤٩٧

المختار من أحد طرفي الممكن من غير واسطة بل لمدخليّته في تحقّق ما هو من مقدّمات تحقّقه وهو « الإرادة » بمعنى الجزم بالإيقاع ، الّذي هو المقدّمة الأخيرة من مقدّمات الفعل الاختياري عقلا ، لاستلزام انتفائه انتفاء هذه المقدّمة.

ومن البيّن استحالة وجود الشيء مع انتفاء مقدّمة وجوده ، والسرّ في مقدّميته أنّ انتفاء الجزم مع الالتفات إلى طرفي الفعل والترك يلازم التردّد بينهما ، ومن المستحيل اختيار أحدهما ما دام متردّدا ، فلا بدّ في الترجيح من دفع التردّد بمراعاة مرجّح عقلائي أو فاعلي أوجب رجحان أحد الطرفين المستتبع للجزم بإيقاعه.

فظهر أنّ مراعاة المرجّح في الترجيح إنّما تجب على الفاعل المختار حال التردّد ، ورفعه عبارة عن الجزم بإيقاع أحد الطرفين المردّد فيهما ، وهذا التردّد قد يحصل في شيء بعينه بين فعله وتركه فلابدّ فيه من مرجّح أوجب رجحان أحدهما المستتبع للجزم بإيقاعه وقد يحصل في أشياء بين فعل أحدها وترك الجميع ، فلا بدّ فيه من مرجّح أوجب رجحان أحدهما على وجه يستتبع الجزم بايقاعه ، ولو فرض وجوده في جانب فعل أحدها كفى ذلك في اختيار بعض معيّن منها وخروجه عن عنوان الترجيح من غير مرجّح ، إذ التعيين ليس من الترجيح حال التردّد ويكفي فيه الرجحان المشترك على البدل ، ضرورة أنّه في مقابلة ترك الجميع ترجيح مع المرجّح ، وأمّا هو في مقابلة اختيار المعادل فلا تردّد بينهما ليستدعي مراعاة مرجّح آخر ، وبذلك ظهر خروج المثال المذكور ونظائره عن عنوان الترجيح من غير مرجّح.

نعم لو فرض بعد حصول مرجّح القدر المشترك عروض تردّد له في مصاديقه فلا بدّ حينئذ من مرجّح آخر يرفع هذا التردّد وأوجب رجحان المصداق المعيّن ، ولا يكفي في ترجيحه على معادله وجود مرجّح القدر المشترك ، وبدونه يستحيل الترجيح أيضا ، فملاك الترجيح بلا مرجّح المحكوم عليه بكونه مستحيلا عند العقل هو ترجيح أحد الطرفين المردّد فيهما حال التردّد ، ولا فرق في استحالته عند العقل بين كون التردّد حاصلا بين فعل شيء بعينه وتركه ، أو بين فعل أحد أشياء وترك الجميع ، أو بين أحد هذه الأشياء بعينه ومعادله ، والتردّد مانع في الجميع ورفعه الّذي هو عبارة عن الجزم بإيقاع أحد الطرفين بعينه معتبر في اختيار أحدهما في الجميع ، فليتدبّر.

وبالجملة « المرجّح » في هذا العنوان مأخوذ عن الرجحان وهو أن يكون لأحد طرفي

٤٩٨

الوجود والعدم مزيّة على الآخر ، وإنّما يكون كذلك إذا اشتمل على نفع أو غرض عقلائي أو فاعلي. و « الترجيح » عبارة عن اختيار الفاعل أحدهما. ومعنى كونه بلا مرجّح خلوّه عن المزيّة باعتبار عدم اشتماله على نفع وغرض عقلائي ولا فاعلي ، ولا إشكال في استحالته حتّى عند الأشاعرة ، ولا ينافيه ما اختلفت فيه الأشاعرة والمعتزلة في مسألة أنّ الإرادة بمجرّدها تصلح مرجّحة لأحد طرفي الفعل والترك على معنى كونها داعية إلى اختياره وإن لم يكن فيه مزيّة على الآخر ، فاختارت الأشاعرة جوازه ، إذا الإرادة يراد بها القصد إلى أحد الطرفين على معنى الجزم بإيقاعه ، فلو فرض حصولها من غير مزيّة فلا ينبغي التأمّل في كفايتها في الاختيار ، وإنّما الكلام في صحّة الفرض وهو موضع منع ، وهذا هو معنى ما ذكرناه من أنّ وجود المرجّح إنّما يعتبر في الترجيح لمدخليّته في تحقّق مقدّمة وجود الفعل الاختياري.

فالوجه أن يدفع الشبهة تارة بالنقض واخرى بالحلّ.

أمّا الأوّل : فبالنقض بأفعاله تعالى حرفا بحرف ، مع اتّفاق الملّيين على اختياره تعالى فيها كما هو معنى كونه فاعلا مختارا لا فاعلا موجبا ، فأقصى ما في التعلّق بشبهة الجبر عدم اتّصاف أفعال العباد بالحسن والقبح عند العقل فيلزم خروج هذه القاعدة عن كونها مدركا للأحكام الشرعيّة الفرعيّة ، والغرض الأصلي من تدوين هذا الباب وتمهيد هذه القاعدة إنّما هو تعرّف الأحكام الراجعة إلى أفعاله تعالى فالشبهة المذكورة بعد تمامها لا تستلزم عدم حكم العقل ، بل غاية ما فيها عدم جريانه في هذا النصف من الأفعال.

ومن هنا ربّما يتوجّه إليهم سؤال آخر وهو أنّ التعلّق بشبهة الجبر هاهنا خروج ما عن معقد البحث ، إذ الكلام في أنّ العقل هل يدرك في أفعال العباد حسنا وقبحا أو لا؟

والشبهة المذكورة إنّما تقضي بعدم صلوحها للاتّصاف بهما لا بعدم إدراك العقل لهما فيها على تقدير صلوحها للاتّصاف بهما ، وحينئذ فيجوز دعوى إدراكه لهما على طريقة القضيّة الشرطيّة ، بأن يقال : إنّ أفعال العباد على تقدير كونها اختياريّة فالعقل يدرك حسنها وقبحها ، ولا يقدح في صدق هذه الدعوى كونها اضطراريّة ، لما تقرّر من أنّ كذب الشرط لا يستلزم كذب الشرطيّة ولا ينافي صدقها.

وأمّا الثاني : فالأوجه في طريقه أن يقال : إنّ صدور الأفعال من العباد لابدّ وأن يكون لمرجّح ، ولكن لا يلزم في المرجّح أن يكون من قبله تعالى أو من قبل العباد ، بل قد يكون

٤٩٩

شيئا آخر في نفس تلك الأفعال كملائمة طبع أو موافقة غرض أو موافقة مصلحة ، أو حسن ذاتي أو وصفي أو اعتباري ولو باعتبار اشتماله على منفعة ، أو كونه بحيث يدفع به مضرّة.

وتوهّم لزوم الاضطرار حينئذ بناء على الوجه الثاني من وجوه تقرير الشبهة لكون الامور المذكورة للترجيح جهات غير اختياريّة.

يدفعه : أنّ مرجّحات الأفعال والتروك بالقياس إليهما في نظر الفاعل من قبيل الدواعي ، ومن شأن الداعي أن يدعو الفاعل المختار إلى اختيار ما هو راجح في نظره وإن كان مرجوحا بحسب الواقع ، ومن لوازم اختياره أن ينقدح في نفسه الإرادة الحتميّة المتعلّقة بإيقاعه المعبّر عنها بالعزم عليه ، بمعنى الجزم به في وقت له مدخليّة في تحقّق المرجّح ، فإذا أوقعه فيه لزمه وقوعه بوصف الوجوب الّذي لا ينافي الاختيار ، بل لكونه من آثار الاختيار يؤكّده ويحقّقه ، كما أنّه لزمه امتناع الطرف المقابل الّذي هو أيضا لكونه من آثار الاختيار لا ينافي الاختيار بل يؤكّده ويحقّقه ، لقضاء الوجدان الصريح بأنّه حال ظهور رجحان أحد الجانبين أو حال تردّده بينهما كان مختارا فيهما معا ، بل معنى تردّده قبل ظهور الرجحان أو بعده هو التردّد في اختيار هذا أو ذاك ، فهو بحيث في نفسه الاختيار وتردّده يكون في محلّ بروز ذلك الاختيار ، فكلّ من الوجوب والامتناع مسبوقان بذلك الاختيار مترتّبان عليه ناشئان عنه ، وهذا هو معنى ما اشتهر في حلّ الشبهة واعتمد عليه العلاّمتان وغيرهما من أنّ الوجوب بالاختيار كالامتناع بالاختيار ـ لا ينافي الاختيار بل يؤكّده ، وإنّما يلزم الجبر لو كان الوجوب لا عن قدرة واختيار.

ولا يتوهّم من بياننا هذا كون الإرادة الّتي هي شرط في وقوع الفعل الاختياري اضطراريّة ليتوجّه إلينا شبهة الجبر بالبيان الأخير ، لكون الإرادة أيضا كصدور الفعل اختياريّة ، فإنّ الفاعل المختار إذا راجع وجدانه عند التردّد بين الفعل والترك وتطلّب وجود الداعي إلى أحدهما كما يجد نفسه بصريح وجدانه مختارا في الفعل والترك كذلك يجده مختارا في إرادة الفعل وترك إرادته الّذي مرجعه إلى إرادة الترك ، ووجود الداعي في الحقيقة ـ على ما بيّنّاه مرارا ـ شرط لتحقّق الإرادة في نفسه باختياره ، وتحقّقها شرط لصدور الفعل منه باختياره ، فهو حال كلّ من وجود الفعل وتحقّق الإرادة مختار في كلّ من الفعل والترك وإرادة خلاف محلّ هذه الإرادة إلى أن يتشاغل بأحدهما بعد إرادة ذلك بعينه فيجب هذا ويمتنع الآخر ، إلاّ أنّه لا يختار ولا يريد إلاّ ما ساعد عليه الداعي وتعلّق به

٥٠٠