تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٥٥٥

ومنها المرسل من طريق الخاصّة الّذي رواه الطبرسي في مجمعه عن الشيخ الطوسي رحمه‌الله قال : « روي عنهم عليهم‌السلام جواز القراءة بما اختلف القرّاء فيه » (١).

وخبر سالم بن أبي سلمة قال : « قرأ رجل على أبي عبد الله عليه‌السلام وأنا استمع حروفا من القرآن ليس على ما يقرؤها الناس ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : كفّ عن هذه القراءة ، إقرأ كما يقرأ الناس حتّى يقوم القائم ، فإذا قام القائم قرأ كتاب الله على حدّه ، وأخرج المصحف الّذي كتبه علي عليه‌السلام ... » إلى آخره (٢).

ومرسل محمّد بن سليمان عن بعض أصحابه عن أبي الحسن عليه‌السلام « قال : قلت له : جعلت فداك إنّا نسمع الآيات من القرآن ليس هي عندنا كما نسمعها ولا نحسن أن نقرأها كما بلغنا عنكم فهل نأثم؟ فقال : لا اقرؤا كما تعلّمتم فسيجيئكم من يعلّمكم » (٣).

وخبر سفيان بن السمط « قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن ترتيل القرآن ، فقال : اقرؤا كما علّمتم » (٤).

وخبر داود بن فرقد والمعلّى بن خنيس جميعا « قالا : كنّا عند أبي عبد الله عليه‌السلام و [ ومعنا ربيعة الرأي ، فذكرنا فضل القرآن ] فقال : ابو عبد الله عليه‌السلام إن كان ابن مسعود لا يقرأ على قراءتنا فهو ضالّ ، فقال ربيعة الرأي : ضالّ؟ فقال : نعم ، [ ضالّ ] ثمّ قال أبو عبد الله عليه‌السلام : أمّا نحن فنقرأ على قراءة ابيّ » (٥).

وهذا ربّما يفوح منه رائحة التقيّة ولعلّه عليه‌السلام ذكر ذلك إصلاحا لما ذكر في شأن ابن مسعود الّذي هو من المخالفين وربيعة الرأي أيضا منهم ، كما أنّ ابيّ بن كعب منهم وإلاّ فائمّتنا عليهم‌السلام متبوعون لا تابعون ، فقراءتهم لا تكون إلاّ على قراءة أمير المؤمنين عليه‌السلام عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والظاهر أنّه عبّر بمثل ما سمعت في رعاية حكمة التقيّة لموافقة قراءة ابن مسعود قراءتهم عليهم‌السلام من حيث إنّه أيضا أخذ القرآن عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما روى : أو لكون قراءته أقرب إلى قراءتهم من قراءات الآخرين.

وربّما يرد الخدشة في دلالة ما عدا الخبر غير المرسل ، لظهورها في الأمر بالاقتصار

__________________

(١) مجمع البيان ١ : ١٣ ـ التبيان ١ : ٩.

(٢) الكافي ٢ : ٦٣٣ / ٢٣.

(٣) الكافي ٢ : ٦١٩ / ٢.

(٤) الكافي ٢ : ٦٣١ / ١٥.

(٥) الكافي ٢ : ٤٦٣ / ٢٧.

١٤١

في قراءة القرآن على ما في المصاحف العثمانيّة المتداولة بين الناس من السور والآي والكلمات والحروف من غير نظر فيه إلى وجوه القراءات المتداولة لديهم أيضا ، إلاّ أن يقال : بدخوله في الإمضاء والرخصة ضمنا باعتبار كونها ممّا يتداوله الناس في ضمن تداول أصل القرآن بمعنى المصاحف العثمانيّة لديهم ، فليتدبّر.

ثمّ إذا ثبت جواز متابعة القرّاء السبع وجواز الأخذ بقراءاتهم فهل يجب الاقتصار على هذه القراءات ولا يجوز التعدّي إلى غيرها أو لا؟ بل يجوز التعدّي إلى غيرها ، بل يجوز ترك متابعتها رأسا؟

قال في مفتاح الكرامة بالأوّل إستنادا إلى أصل الاشتغال بتوهّم جريانه في المقام ، بتقريب : « ملاحظة اتّفاق المسلمين على جواز الأخذ بها واختلافهم في الأخذ بغيرها ، ويقين البراءة لا يحصل إلاّ بالأخذ بها فيجب » (١) وفيه من الوهن ما لا يخفى ، إذ المقام من مجاري أصالة البراءة النافية لشرطيّة شيء في العبادة عند عدم الدليل على الشرطيّة لا أصل الاشتغال ، فإنّ اشتغال الذمّة بأصل قراءة القرآن في الصلاة وغيرها ثابت ، والشكّ في وجوب مراعاة إحدى القراءات السبع على أنّها شرط في صحّة القراءة ولا دليل على

الوجوب ، إذ ما تقدّم من الإجماعات المنقولة منقولة على الجواز ، لأنّه المأخوذ في معاقدها ـ كما تقدّم ـ فلا تفيد وجوب الأخذ.

وأمّا الأخبار : فعدم دلالة الأخير منها على الوجوب مع ما فيه من إيهام التقيّة واضح.

وأمّا ما قبله : فلظهور الأمر الموجود فيه في الاستحباب بقرينة وقوعه جوابا للسؤال عن الترتيل المجمع على استحبابه ، وهذا ربّما يقرب كون الترتيل عبارة عمّا فسّره في النفليّة ـ تبعا لعلماء التجويد على ما حكي ـ بتبيين الحروف بصفاتها المعتبرة من الهمس والجهر والاستعلاء والإطباق والغنّة وغيرها والوقف التامّ والحسن وعند فراغ النفس مطلقا.

وأمّا الخبران الآخران : فالأمر الواقع فيهما من الأمر الواقع عقيب توهّم الحظر أو ظنّه ، كما يرشد إليه قول الراوي في أحدهما : « فهل نأثم » فلا يفيد إلاّ الإباحة والرخصة في الفعل ، وكذا الكلام في المرسل ، ولعلّ النكتة في تعبير الأصحاب في الفتاوي ومعاقد الإجماعات المتقدّمة بالجواز هو كون الأوامر الواردة في أخبار الباب لا تفيد ـ لأجل ما ذكر ـ أزيد من الرخصة المرادفة للجواز.

هذا مضافا إلى أنّ « ما يقرأه الناس » ، و « ما تعلّمتم » ، و « ما علّمتم » في هذه الأخبار

__________________

(١) مفتاح الكرامه ٧ : ٢٢١.

١٤٢

امور مجملة ، إذ لا يدرى أنّ ما يقرأ الناس الّذي هو ما تعلّموا وعلّموا في أزمنة صدور هذه الروايات هل هو إحدى قراءات السبع ، أو إحدى العشر ، أو وجوه اخر غيرها ، أو مجموعها متفرقّة بين جميع الناس؟ أو ليس المراد منها اعتبارات القرّاء ووجوه قراءاتهم ، بل المراد أصل ما في المصاحف العثمانية المتداولة لديهم إلى يومنا هذا ، من السور والآيات والكلمات والحروف ، بما فيها من الإعراب والبناء والحركات والسكنات المأخوذة في بنية الكلمات أو أواخرها ، ولا يبعد دعوى ظهور ذلك بملاحظة موارد سؤالات هذه الأخبار.

ولقد أجاد كاشف الغطاء فيما أفاد في هذا المقام بقوله : « ولا يجب قراءة القرّاء السبعة ، وهم حمزة وعاصم والكسائي وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ونافع ، ولا العشرة بإضافة يعقوب وخلف وابن شعبة ولا التجسّس عليها.

وإنّما الكلام القراءة على نحو إعراب المصاحف وقراءة الناس ، ويجوز اتّباع السبعة بل العشرة في عملهم لا في مذاهبهم ، كاحتسابهم السور الأربع أربعا ، وإخراج البسامل من جزئيّة القرآن أو السور » إنتهى (١).

فالإنصاف : أنّ المدار في امتثال التكليف بقراءة القرآن ، استحبابا ووجوبا ، في الصلاة أو غيرها على إحراز صدق الاسم ، على وجه الصحّة المعتبرة في اللغة العربيّة ، بأن لا يكون أداء الكلمات وحروفها على خلاف قانون العربيّة ، بزيادة أو نقيصة أو الإخلال في مادّة وجوهر ، أو هيئة وبنية أو إعراب وبناء أو حركة وسكون في بنية الحروف أو أواخرها ، وموالاة بين الحروف في التأدية والنطق ، ويدخل في الضابط المذكور رعاية مخارج الحروف على وجه يمتاز بعضها عن بعض وأمن الالتباس وانقلاب حرف حرفا آخر ، لا على الوجوه الدقيقة حسبما تكلّفه أهل التجويد وضبطوه في كتبها ، ويدخل فيه أيضا مراعاة الإدغام في كلمة واحدة الّذي يقال له التشديد كما في « مدّ » و « مرّ » و « فرّ » ، فإنّ ترك مراعاته يوجب إمّا ترك الحرف المدغم أو تحريكه أو فكّ الإدغام الموجب لفوات الموالاة في النطق بين الحرفين المدغم والمدغم فيه ، والكلّ على خلاف القانون في اللغة العربيّة.

ولقد أشار إلى ما بيّناه من الضابط في القراءة كاشف الغطاء قبيل العبارة المتقدّمة عنه بقوله : « ويلزم المحافظة على الحروف بالإتيان بما يدخل تحت اسمها ، ولا عبرة بالمخارج المقرّرة عند القرّاء ، وإنّما المدار على المخارج الطبيعيّة فلو خرجت عن الاسم كجعل الضاد

__________________

(١) كشف الغطاء : ٢٣٦.

١٤٣

والظاء زاء والقاف غينا أو بالعكس لمقتضى العجميّة ، أو القاف همزة لمقتضى الشاميّة ، أو الظاء ضادا أو بالعكس لمقتضى العجميّة ، أو اشتباه العربيّة فسدت واعيدت على وجهها ، وفي العجز يقوم العذر ولا يجب الاهتمام ، ومع القدرة والتقصير في التعلّم يجب ذلك ، والمحافظة على الحركات والسكنات الداخلة في الكلمات ، أو الإعرابيّة والبنائيّة ممّا يعدّ تركها لحنا في فنّ العربية ، فمن بدّل فقد أبطل القراءة أو هي مع الصلاة على اختلاف الوجهين ، ولو وقف على المتحرّك أو وصل الساكن ، أو فكّ المدغم من كلمتين ، أو قصّر المدّ قبل الهمزة أو المدغم ، أو ترك الإمالة والترقيق ، أو الإشباع أو التفخيم أو التسهيل ، ونحوها من المحسّنات فلا بأس عليه ، وإبقاء همزة الوصل في الوصل زيادة مخلّة ، كما أنّ حذف همزة القطع فيه نقض مخلّ » انتهى (١).

وبالجملة : ما ذكرناه من عدم وجوب كون قراءة القرآن مطلقا بعد إحراز الصحّة بالمعنى المذكور فيه على طبق إحدى القراءات السبع أو الثلاث الباقية أو غيرها هو مقتضى أصل البراءة الجاري في مسألة الشكّ في شرطيّته في المكلّف به ، ولا يخرج عن هذا الأصل في شيء من اعتبارات القرّاء ومحسّناتهم ، حتّى في الإدغام بين كلمتين ولو مع التنوين والنون الساكنة في حروف يرملون ، والمدّ اللازم عندهم كما في « اولئك » و « مدهامّتان » ، والإشباع في مثل « له » و « به » إلاّ حيث ساعد عليه دليل معتبر ولو كان طريقة متداولة في لغة العرب ، وأمّا التكلّم في موارد وجود الدليل المخرج عن الأصل فهو خارج عن وظيفة الاصولي ، وإنّما اعتبرنا الصحّة بالمعنى المذكور لأنّ القرآن اسم للمقدار من السور والآي والكلمات والحروف الواقعي الموجود من لدن أعصار أئمّتنا إلى يومنا هذا في المصاحف العثمانية أو منصرف إليه عند الإطلاق ، ولا يكون إلاّ صحيحا بالمعنى المذكور والتكليف ندبا أو إيجابا وارد عليه فيجب اعتباره.

ثمّ بقي من الامور المتعلّقة بالقرآن امور اخر نذكرها في تنبيهات :

التنبيه الأوّل :

إذا اختلف القرّاء فهو على قسمين :

أحدهما : أن يكون فيما يرجع إلى صفات الكلمة كالمدّ وتركه ، والإدغام وتركه ، والإمالة

__________________

(١) كشف الغطاء : ٢٣٦.

١٤٤

وتركها ، والإشباع وتركه ، والإظهار والإخفاء والجهر والهمس والشدّة والرخوة ، وهذا ممّا لا كلام فيه هنا بعد ما ظهر حكم محسّنات القراءة من عدم وجوب اتّباع القرّاء فيها رأسا ، فيجوز في محلّ الاختلاف ترك العمل بالقراءتين إن أمكن ، والأخذ بإحداهما والاحتياط فيهما بالجمع.

وثانيهما : أن يكون الاختلاف في نفس الكلمة وحروفها وإعرابها وتقديمها وتأخيرها وحذفها وذكرها ، وله على ما ضبطه الطبرسي وغيره سبعة صور :

الاولى : الاختلاف في إعراب الكلمة بما لا يغيّر معناها ولا لفظها في وجوده الكتبي ، كما في قوله « فيضاعفه » (١) و « فيضاعفه » بالرفع والنصب.

الثانية : الاختلاف في الإعراب بما يغيّر المعنى دون اللفظ كما في قوله « تلّقونه » (٢) و « تلّقونه » بالفتحة والضمة.

الثالثة : الاختلاف في حروف الكلمة بما يغيّر المعنى دون اللفظ في الكتابة كما في قوله : « كيف ننشرها » و « ننشزها » (٣) بالراء والزاء.

الرابعة : الاختلاف في الكلمة بما يغيّر اللفظ دون المعنى كما في قوله : « إن كانت إلاّ صيحة » (٤) و « إلاّ زقية ».

الخامسة : الاختلاف في الكلمة بما يغيّر المعنى واللفظ كما في قوله : « طلح منضود » و « طلع » (٥).

السادسة : الاختلاف بالتقديم والتأخير ، كما في قوله : « وجاءت سكرة الموت بالحقّ » و « جاءت سكرة الحقّ بالموت » (٦).

السابعة : الاختلاف بالزيادة والنقصان ، كما في قوله : « وما عملت أيديهم » و « ما عملته أيديهم » (٧) هل الحكم في مثل ذلك هو التخيير بين القراءتين أو الجمع بينهما؟ والمعروف الأوّل ، ويدلّ عليه ظاهر المرسلة المتقدّمة عن الشيخ بعبارة : « روى جواز القراءة بما اختلف القرّاء فيه » ، والظاهر أنّ الشيخ (٨) عمل به ، ويظهر من الطبرسي (٩) أيضا العمل

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٤٥.

(٢) سورة النور : ١٥.

(٣) سورة البقرة : ٢٥٩.

(٤) يس : ٢٩.

(٥) الواقعة : ٢٩. (٦) ق : ١٩.

(٧) يس : ٣٥.

(٨) التبيان ١ : ٧ و ٩. (٩) مجمع البيان : ١ : ١٢ و ١٣.

١٤٥

عمل المسلمين ظاهرا من حيث اقتصارهم على قراءة واحدة وعدم التزامهم بالجمع ، ولكن طريق الاحتياط في محلّ التكليف ـ كما هو شيمة المتورّعين خصوصا في الصلاة ـ واضح.

التنبيه الثاني :

قد عرفت سابقا أنّهم ذكروا أنّ القرآن متواتر فما نقل آحادا فليس بقرآن ، وقد يعبّر عمّا نقل آحادا بالقراءة الشاذّة ، كلفظ « متتابعات » في ثلاثة أيّام كفّارة اليمين في قراءة عبد الله بن مسعود ويقولون : « لا عبرة بالشواذّ ».

وفي مفتاح الكرامة : « المعروف أنّ الشاذّ مرفوض » (١) ولا إشكال فيه من حيث القرآنيّة ، فلا يجري الأحكام الخاصّة بالقرآن كحرمة مسّه جنبا ، أو على حدث مطلقا في نحو ذلك ، و [ هل ] يعمل به في الحكم الفرعي المستفاد منه تنزيلا له منزلة خبر الواحد؟ ظاهرهم المنع وعن أبي حنيفة نعم ، زعما منه أنّه بمنزلة الآحاد فمن عمل بالآحاد فعليه العمل به ، وعلّله : بأنّه لا وجه لنقل العدل له في القرآن إلاّ السماع من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إمّا بوجه القرآن أو بوجه البيان.

واجيب : بمنع الانحصار لجواز أن يكون ذلك مذهبا للقارئ ، ودفعه بأنّ العدل لا يلحق مذهبه بالكتاب ، معارض بأنّ العدل لا يلحق الخبر بالكتاب ، على أنّ العدالة تمنع تعمّد الكذب والعادل ليس بمأمون من الخطأ والنسيان ، فلم لا يجوز أن يذكر اجتهاده مع القرآن خطأ أو نسيانا؟

وتوهّم : أنّ ما نحن فيه نظير ما قد يرد في الآحاد ممّا يدلّ على مطلب لغوي ككون [ الباء ] للتبعيض المستفاد من حديث زرارة ومحمّد بن مسلم (٢) ، أو كون « الصعيد » لوجه الأرض إذا ورد به رواية عن المعصوم ، أو اصولي اعتقادي ككفر المجسّمة مثلا لو ورد به رواية ، فهي وإن لم تكن وافية بإثبات هذا المطلب إذ لا عمل بالآحاد في اللغات ولا في اصول الدين ، إلاّ أنّه لا حجر من العمل بها في الحكم الفرعي لو كان المطلب اللغوي أو الاصولي مستلزما لحكم فرعي ، كجواز التيمّم على الحجر ، ونجاسة القائل بالتجسيم.

يدفعه : بأنّ القارئ لم ينقله مسندا إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطريق ليكون من قبيل أخبار الآحاد

__________________

(١) مفتاح الكرامة ٢ : ٣٩٦.

(٢) الوسائل ١ : ٤١٢ / ١ ب ٢٣ من أبواب الوضوء.

١٤٦

الّتي يعمل بها في الأحكام.

التنبيه الثالث :

اختلفوا في وقوع التحريف ـ وهو التغيير بالزيادة والإسقاط ـ في القرآن وعدمه ، وليس الغرض من عنوان هذه المسألة تحقيق القول فيها لقلّة جدواه ، بل بيان أنّ التحريف على تقدير وقوعه في القرآن هل يمنع من العمل بظواهره ويخلّ بحجيّتها أو لا؟ والحقّ العدم خلافا لمن توهّمه ، كما يظهر من منكري وقوع التحريف في احتجاجهم بأنّ القول بالجواز فتح لباب الكلام على إعجاز القرآن وعلى استنباط الأحكام.

لنا على المختار أوّلا : عدم العلم الإجمالي باختلال شيء من ظواهر الكتاب مطلقا.

وثانيا : كونه على تقدير حصوله في شبهة غير محصورة كالعلم بوجود أخبار كاذبة فيما بين الأخبار ، فلا يقدح في الحجّيّة مطلقا.

وثالثا : على تقدير كونه في شبهة محصورة يمنع كون ما اختلّ بالتحريف من آيات الأحكام ، لجواز كونه من سائر الآيات المتعلّقة بمطالب اخر كالقصص والأمثال وغيرها.

وبعبارة اخرى : أنّ المعلوم بالإجمال مردّد بين كونه من الظواهر المتعلّقة بالأحكام أو كونه من الظواهر الاخر الّتي تعلّق (١) بغير الأحكام ، فلم يتحقّق بالقياس إلى ظواهر آيات الأحكام الّتي هي مورد أدلّة الحجّيّة مانع ، ولا منع من التمسّك بها.

ويكفي في سند ذلك المنع ما قيل : من أنّ التحريف على تقديره وقوعه في القرآن ليس بالزيادة بل بالإسقاط ، بل عن التبيان (٢) ومجمع البيان (٣) الإجماع على عدم الزيادة ، مع ما قيل : من أنّ الظاهر أنّ التحريف بالإسقاط لم يقع في آيات الأحكام بل في غيرها ، ومرجع ذلك المنع بالسند المذكور إلى خروج آيات الأحكام عن طرف العلم الإجمالي ، فالمعلوم بالإجمال إنّما هو في ظواهر الآيات الغير المتعلّقة بالأحكام.

لا يقال : إنّ التحريف الواقع في القرآن متساوي النسبة إلى ظواهر آيات الأحكام وإلى ظواهر غيرها ، فيكون موجبا لسقوط الجميع عن الاعتبار والحجّيّة ، نظير عمومات كثيرة علم بوجود مخصّص لها إجمالا غير معلوم بالتفصيل ، فكما أنّه يمنع من العمل بالجميع فكذا ما نحن فيه.

__________________

(١) وفي الأصل : « لا تعلّق » الخ. والظاهر أنّه سهو منه رحمه‌الله والصواب ما أثبتناه في المتن.

(٢) التبيان : ١ : ٣.

(٣) مجمع البيان : ١ : ١٥.

١٤٧

لوضوح الفرق بين المقامين ، بأنّ جهة المنع في مثال العمومات إنّما هي الإجمال العرضي الناشئ من التخصيص المعلوم بالإجمال ولا إجمال فيما نحن فيه ، بل الاختلال في أيّ ظاهر حصل بسبب وقوع التحريف فيه فإنّما هو خروج ذلك الظاهر عن الحجّية ، لما اعتراه من تغيير الحكم الشرعي المستفاد منه بسبب ما اعتراه من الزيادة أو الإسقاط ، وغاية ما يلزم من العلم الإجمالي في المعلوم بالإجمال المردّد بين ظواهر آيات الأحكام وظواهر غيرها ، إنّما هو احتمال تحقّق هذه الجهة من المنع في بعض ظواهر آيات الأحكام ، ومجرّد ذلك الاحتمال لا يصلح مانعا من التمسّك بها.

وقد يقال في الفرق بين المقامين ، بأنّ المعلوم بالإجمال فيما نحن فيه مردّد بين ما يكون معارضا لما يجب العمل به من الظواهر ، وبين ما لا يكون معارضا لها على تقدير وقوعه فيما لا يجب العمل به من الظواهر وهي الّتي لا تعلّق لها بالأحكام ، ومثل ذلك لا يوجب اجمالا في ظواهر آيات الأحكام الّتي يجب العمل بها ، إذ الإجمال فرع العلم بوجود المعارض ، وهو غير معلوم بالنسبة إلى هذه الظواهر ، بل المعلوم مردّد بين كونه معارضا لها وكونه غير معارض لها فتكون باقية على ظهورها ، ومعه لا وجه لرفع اليد عنها ولا عذر في عدم العمل بها.

وهذا نظير ما لو قال المولى لعبده : « أكرم العلماء » وقال جاره أيضا لعبده : « أكرم العلماء » ، ثمّ سمع عبد المولى قول : « لا تكرم زيد العالم » وتردّد بين كونه صادرا من مولاه إليه ومن الجار إلى عبده ، فإنّ هذا العبد لا يجوز له التوقّف في إكرام زيد وترك العمل بعموم خطاب المولى اعتذارا باستماعه ما تردّد بين كونه معارضا لذلك الخطاب وعدم كونه معارضا له على تقدير صدوره من الجار ، بل لو توقّف معتذرا بذلك استحقّ عقاب المولى وذمّ العقلاء ، وليس ذلك إلاّ من جهة أنّ المعلوم بالإجمال المردّد بين المعارض لظاهر الخطاب وغير المعارض له لا يوجب إجمالا فيه ولا يصادم ظهوره.

التنبيه الرابع :

أنّه قد توهّم بعض الأعلام (١) ـ في باب الاجتهاد عند الكلام في حجّيّة ظنّ المجتهد ، ومنع حجّيّة ظواهر الكتاب في حقّ غير المشافهين ـ أنّ كون حجّيّة ظواهر الكتاب من

__________________

(١) قوانين الأصول : ٢ : ١٠٣.

١٤٨

باب الظنّ الخاصّ ما يستلزم وجوده عدمه وهو محال ، فحجّيّة الظواهر من باب الظنّ الخاصّ محال.

وبيان الملازمة : أنّ من جمله ظواهر الكتاب المفروض حجّيّتها العمومات الكتابيّة الناهية عن العمل بما وراء العلم ، مثل قوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )(١)( وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً )(٢).

ومقتضى تلك العمومات عدم حجّيّة ظواهر الكتاب وحرمة العمل بها ، لكونها ممّا وراء العلم.

وفيه : من المغالطة ما لا يخفى ، إذ الظواهر المأخوذة في أدلّة حجّيّتها من باب الظنّ الخاصّ أعمّ من الظواهر الأوّليّة ـ وهي الحقائق الأوّليّة بواسطة أصالة الحقيقة ـ والظواهر الثانويّة ـ وهي المجازات بمعونة قرائنها ـ فلو اريد من اندراج العمومات الناهية عن العمل بما وراء العلم في أدلّة حجّيّة ظواهر الكتاب اندراج ظهورها الأوّلي وهو العموم المتناول لظواهر الكتاب.

ففيه : منع الاندراج ، لأنّ أدلّة حجّيّة الظواهر مخرجة لظواهر الكتاب عن عموم الآيات الناهية ، لا أنّها شاملة له ، نظرا إلى أنّ أدلّة الحجّيّة واقعة في الطرف المقابل من أصالة حرمة العمل بالظنّ عموما ، فتكون مخرجة لموردها ـ وهو ظواهر الكتاب أوّليّة وثانويّة ـ عن هذا الأصل ، ومعنى إخراجه عنه تخصيص أدلّته الّتي منها الآيات الناهية ، فظواهر الكتاب مخرجة عن عموم هذه الآيات من جهة التخصيص ، فلا يعقل لها حينئذ ظهور أوّلي مندرج في أدلّة الحجّيّة ، ولو اريد به اندراج ظهورها الثانوي وهو حرمة العمل بما عدا ظواهر الكتاب ممّا وراء العلم ، فهو غير مناف لمقتضى أدلّة حجّيّة الظواهر ـ أوّلية وثانويّة ـ كما هو واضح.

ومرجع الجواب إلى منع الملازمة على تقديري إرادة الظهور الأوّلي وإرادة الظهور الثانوي ، فلا يلزم من حجّيّة ظواهر الكتاب عدم حجّيّتها.

لا يقال : إنّ التخصيص الملتزم به في العمومات الناهية معارض بمثله في أدّلة الحجّيّة ، فإنّها إنّما تدلّ على حجّيّة ظواهر الكتاب من حيث إنّها من المحكمات الّتي يجب العمل بها ـ على ما تقدّم في الأخبار الدالّة عليه ـ فهذه الأدلّة عامّة في نصوص الكتاب وظواهره ،

__________________

(١) سورة الإسراء : ٣٦.

(٢) سورة النجم : ٢٨.

١٤٩

كما أنّ الآيات الناهية عامّة في ظواهر الكتاب وغيرها من سائر أنواع الظنون ، فأدلّة الحجّيّة مع الآيات الناهية من باب العامّين من وجه فيتعارضان في ظواهر الكتاب ، والتخصيص بإخراج الظواهر ممكن فيهما معا فما وجه إرجاعه إلى الآيات الناهية دون أدلّة الحجّيّة ، لأنّ العامّ الأول أظهر في العموم لكونه أقلّ أفرادا ـ فإنّ مورد أدلّة الحجّيّة منحصر في نصوص الكتاب وظواهره ـ من العامّ الثاني ـ لكونه أكثر أفرادا بمراتب شتّى من العامّ الأوّل ، والعامّ كلّما قلّ أفراده إزداد ظهوره في العموم وكلّما كثر أفراده ضعف ظهوره في العموم ، فأظهريّة أحد العامّين ينهض قرينة على إرجاع التخصيص إلى العامّ الآخر ، كما في سائر موارد تقديم الأظهر على الظاهر ، ومعناه إرجاع التأويل إلى الظاهر.

وبالتأمّل فيما بيّناه في رفع محذور لزوم عدم الشيء من وجوده ، على تقدير حجّيّة الظواهر من باب الظنّ الخاصّ ، يعلم اندفاع ما تخيّله بعض الأعلام في هذا المقام ، على تقدير تخصيص آيات التحريم بما عدا ظواهر الكتاب بأدلّة حجّيّة تلك الظواهر من لزوم التخصيص في الإجماع ، لو كان دليل الحجّيّة هو الإجماع كما استدلّ به أيضا (١).

وبيان الملازمة : أنّ الإجماع قائم بحجّيّة الظواهر ، ومن الظواهر آيات التحريم ، والمفروض عدم حجّيّة ظاهرها وهو العموم ودليله الإجماع المذكور ، فيلزم التخصيص في نفس ذلك الإجماع بإخراج هذا الظاهر عن معقده بنفسه وهو باطل.

أمّا أوّلا : فلأنّ الإجماع دليل لبّي قطعي لا يقبل التخصيص.

أمّا ثانيا : فللزوم اتّحاد المخصّص والمخصّص وهو محال.

ووجه الاندفاع : أنّ الإجماع الدالّ على حجّيّة ظواهر الكتاب لا يدلّ على عدم حجّيّة ظاهر آيات التحريم ـ لو اريد به ظهورها الأوّلي ـ بل يوجب بتخصيصه تلك الآيات ارتفاع ظهورها الأوّلي وانقلابها إلى الظهور الثانوي ، فليس فيها ظهور أوّلي ليدلّ دليل حجّيّة على حجّيّة حتّى يلزم منه استلزم الوجود العدم ، أو على عدم حجّيّته حتّى يلزم التخصيص في دليل الحجّيّة وهو الإجماع بنفس دليل الحجّية ، وأمّا لو اريد ظهورها الثانوي فقد عرفت أنّه لا ينافي مفاد دليل الحجّيّة وإن كان هو الإجماع ، فليتدبّر.

أمّا المقام الثاني : في أنّ حجّيّة ظواهر الكتاب والسنّة مخصوصة بمن قصد إفهامه بها على جهة الخصوص ، كالخطابات الشفاهيّة بالنسبة إلى المشافهين ، ومن يحذو حذوهم من

__________________

(١) قوانين الاصول ٢ : ١٠٩.

١٥٠

الموجودين في زمن الخطاب الغائبين عن مجلسه ، أو على جهة العموم كما في الوصايا والكتب المصنّفة ونحوهما ، أو هي عامّة لمن لم يقصد إفهامه خصوصا ولا عموما أيضا.

وقد ذكرنا سابقا أنّ التشكيك في هذا المقام قد حصل لبعض الأعلام بل التتبّع في تضاعيف عباراته ـ في بحث حجّيّة الكتاب (١) وفي بحث حجّيّة أخبار الآحاد المستدلّ عليها بأدلّة حجّية مطلق الظنّ (٢) ، وفي باب الاجتهاد ـ يعطي كونه منكرا لحجّيّة الظواهر مطلقا في حقّ من لم يقصد إفهامه من باب الظنّ الخاصّ ، بل لا بدّ في حجّيّتها له من إثبات انسداد باب العلم وفتح باب حجّيّة مطلق الظنّ ، استنادا إلى دليل الانسداد وغيره ، ليندرج فيه الظواهر في حقّ من لم يقصد إفهامه بها من غير فرق في ذلك بين ظواهر الكتاب وظواهر الأخبار.

ومستنده في هذا التفصيل ـ على ما ينساق من تضاعيف عباراته في الأبواب المذكورة ـ عدم الدليل على الحجّيّة بالخصوص لغير من قصد إفهامه من إجماع ولا غيره ، إذ الإجماع على حجّيّة الظواهر ـ إن سلّمناه مع مخالفة الأخباريّين في ظواهر الكتاب ـ فإنّما يسلّم بالنسبة إلى متفاهم المشافهين المخاطبين ومن يحذو حذوهم.

قال ـ في تضاعيف باب الاجتهاد في تعليل ما ادّعاه من اختصاص المسلّم من الإجماع بمتفاهم المشافهين ـ : « لأنّ مخاطبته كأنّ معهم ، والظنّ الحاصل للمخاطبين من جهة أصالة الحقيقة والقرائن الخارجيّة حجّة إجماعا ، لأنّ الله تعالى أرسل رسوله وكتابه بلسان قومه ، والمراد بلسان القوم هو ما يفهمونه ، وكما أنّ الفهم يختلف باختلاف اللسان فكذلك يختلف باختلاف الزمان وإن توافق اللسان ، فحجّيّة متفاهم المتأخّرين عن زمن الخطاب وظنونهم يحتاج إلى دليل آخر غير ما دلّ على حجّية متفاهم المخاطبين المشافهين ، لمنع الإجماع عليه بالخصوص » انتهى (٣).

ومراده : من « اختلاف الفهم باختلاف اللسان » ما هو المعلوم بالضرورة من أنّ العجمي مثلا لا يفهم من الألفاظ العربيّة بمثابة ما يفهمه العربي ، بل بينهما تفاوت واضح في أصل الفهم وكيفيّته ومقداره وكذلك العكس ، ومن « اختلافه باختلاف الزمان » ما يرشد إليه الضرورة أيضا من أنّ ما يفهمه المتأخّرون عن زمن الخطاب ليس بمثابة ما يفهمه

__________________

(١) قوانين الاصول ١ : ٣٩٨ ـ ٤٠٣.

(٢) قوانين الاصول : ١ / ٤٤٠.

(٣) قوانين الاصول ١ : ٣٩٨ و ٢ : ١٠٣.

١٥١

المخاطبون ، لتطرّق التغيير إلى الحقائق بالنقل والهجر وإلى المجازات وقرائنها بالوجود والاختفاء أو بالجلاء والخفاء.

وبذلك كلّه ربّما يختلّ فهم المراد ، فيفهم المتأخّرون من الخطاب خلاف ما فهمه المخاطبون بزعم أنّه المراد ، وليس بمراد في نفس الأمر.

أقول : والحقّ عدم الفرق في حجّيّة الظواهر كتابا وسنّة بين المخاطب المقصود إفهامه وغيره الّذي لم يقصد إفهامه ، حضر في مجلس الخطاب أو لا ، كان موجودا في زمنه أو لا ، فهي بالنسبة إلى الكلّ معلوم الحجّيّة بالخصوص لاتّحاد الطريق وعدم الفرق في الدليل ، فإنّ الأدلّة العلميّة القائمة بحجّيّة الظواهر ، من بناء العرف وطريقة العقلاء وإجماع العلماء موجودة بالنسبة إلى الفريقين ، ولذا ترى أنّ أهل العرف والعقلاء والعلماء من جميع الملل والأديان ، في جميع الأصقاع والأزمان يستفيدون المطالب من المكاتبات المكتوبة إلى من عداهم ، والمراسلات المرسولة إلى من سواهم ، نحو ما يستفيدها المخاطب المرسول إليه والمقصود إفهامه المكتوب إليه بلا نكير ولا تعقّل فرق.

وتوهّم أنّ المكاتبات والمراسلات من قبيل تأليف المؤلّفين وتصنيف المصنّفين المقصود بقاؤه أبد الدهر ليستفيد الناظرون فيها المطالب ، يكذّبها الوجدان وضرورة العيان القاضيين بالخلاف.

نعم إنّما يسلّم ذلك في الوصايا والقبالجات وما أشبهها.

وبما بيّناه يندفع ما ذكره من اختلاف الفهم باختلاف الزمان ، فإنّ ذلك لا يمنع من حجّيّة أصل الظهور المحرز بالاصول اللفظيّة الّتي منها الاصول العدميّة ، كأصالة عدم النقل والهجر ، وأصالة عدم القرينة ، وأصالة عدم الالتفات إلى القرينة الموجودة ، وما أشبه ذلك ، ومعنى الحجّيّة وجوب الأخذ بها في استفادة المطالب منها على أنّها المرادات ، فوجب ترتيب آثار المراد عليها ما لم ينكشف الخلاف ، وحيث انكشف تبيّن الخطأ في إحراز الظهور ، وهو ليس بضائر في حجّيّة أصل الظهور.

وبالجملة : فإنّا نرى العقلاء مطبقين في المراسلات والمكاتبات على أخذ مطالب من أرسلها ومقاصده واستكشاف عقائده ، من غير مراعاة كونهم مقصودين بالإفهام وعدمه ، بل لو فرضنا أنّ أحدا يمنع من أن يستفيد المطلب وهو ليس ممّن قصد إفهامه من الاستفادة ، تعليلا بعدم القصد إلى إفهامه كان مذموما عندهم.

١٥٢

وكيف كان فهذا البناء منهم ثابت مستقرّ وليس ممّا يستراب.

وبالتأمّل فيما قرّرنا يندفع ما لو قرّر الاستدلال على التفصيل المذكور ، بأنّ العمدة من دليل حجّيّة الظواهر هو إطباق العقلاء وإجماع العلماء على حمل كلام كلّ متكلّم على كونه مقصودا به اللفظ والمعنى ، وإفهام المعنى المقصود مع ضميمة مقدّمة عقليّة وهي : أنّ المعنى الّذي قصد إفهامه إمّا أن يكون ظاهرا للّفظ أو خلافه من غير قرينة ، والثاني باطل لقبح الإغراء بالجهل اللازم من الخطاب بما له ظاهر وإرادة خلافه من غير قرينة ؛ فتعيّن الأوّل.

وهذه المقدّمة لا تجري في حقّ غير المشافه ، لأنّ إرادة خلاف ظاهر اللفظ من غير قرينة لا يوجب في حقّه الإغراء بالجهل من جهة عدم كونه مقصودا إفهامه.

ولو قيل : بأنّ هذه المقدّمة وإن لم تكن جارية بالنسبة إليه إلاّ أنّه يجريها بالنسبة إلى المخاطب المقصود إفهامه ، فيأخذ بالظهور الّذي كان يأخذ به المخاطب بواسطة هذه المقدمّة ، لدفعه : أنّه لا يتمكّن من إجرائها في حقّه أيضا فيما لو احتمل وجود القرينة مع الخطاب ثمّة وقد اختفت عليه.

ووجه الاندفاع : أنّ العمدة ممّا يحرز به ظهور الظواهر هي الاصول العدميّة الّتي عمدتها أصالة عدم القرينة ، ولا فرق في جريانها ، وهو كأصالة الحقيقة أصل متّفق عليه عند العقلاء ومجمع عليه عند العلماء ، ونحوه أصالة عدم غفلة المتكلّم وعدم سهوه ، وعدم نسيانه لنصب القرينة فيما أراد من الخطاب خلاف ظاهره.

والمراد بأصالة عدم القرينة أصالة عدم وجود قرينة مع الخطاب اعتمد عليه المتكلّم في إفادة مراده ، والمخاطب في استفادة مراد متكلّمه.

لا يقال : إنّ هذا حسن لو كان الشكّ في حدوث القرينة ، وقد يكون الشكّ في الحادث ، لمكان العلم الإجمالي بوجود حالة مخصوصة بين المتكلّم والمخاطب حال الخطاب ، والقرينة أعمّ من المقاليّة والحاليّة فلا يجري لنفي الحاليّة أصالة عدم وجود القرينة.

لأنّ مجرّد وجود ما يقترن به الخطاب لا يكفي في الصرف عن الظاهر ، بل لا بدّ من التفات الجانبين والأصل عدمه ، والأصل الّذي يحرز به الظهور أعمّ من أصالة عدم وجود القرينة وأصالة عدم الالتفات إلى القرينة الموجودة ، وكلّ منهما معتبر معوّل عليه عند العقلاء والعلماء.

ومنع الإجماع عليه بالخصوص في نوع الظواهر أو في خصوص ظواهر الكتاب حسبما عرفت عن المفصّل مجازفة واضحة ؛ لأنّا نرى العلماء قديما من لدن أصحاب

١٥٣

الأئمّة ، وحديثا إلى يومنا هذا على اختلاف مشاربهم ـ من فتح باب الظنّ المطلق من جهة الانسداد وعدمه ـ والقول بالظنون الخاصّة وعدمه ـ لا يتأمّلون في العمل بظواهر الكتاب والأخبار ، ولا يزالون يتمسّكون بها في احتجاجاتهم من غير نكير ، مع عدم كونهم ممّن قصد إفهامهم ، ولا ينافيه ما تقدّم من الأخباريّين من منع العمل بظواهر الكتاب لعدم كونه خلافا منهم فيمن لم يقصد إفهامه بل لشبهات اخر ، ولذا لا يتأمّلون في ظواهر الأخبار لانتفاء هذه الشبهات في زعمهم.

وإن شئت قلت : إنّ خلافهم نشأ عن أمر صغروي ، فإنّهم ينكرون بقاء ظواهر الكتاب على كونها ظواهر ، أو عن أمر كبروي حيث يدّعون منع الشارع من جهة الأخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي ، وإلاّ فهم على تقدير وجود الظواهر أو عدم ورود المنع المذكور مطبقون مع غيرهم في الحجّيّة ، كما يفصح عن ذلك موافقتهم المجتهدين في العمل بظواهر الأخبار ، بل هي ممّا يعمل بها جميع الامّة من العامّة والخاصّة مجتهديهم وأخباريهم.

ولا ريب أنّهم لا يفرّقون فيها بين من قصد إفهامه وغيره ، هذا مع عدم انحصار دليل حجّيّة الكتاب في الإجماع ، بل العمدة من أدلّته الأخبار المتقدّمة على اختلاف مضامينها ، فإنّ منها ما نقطع بعدم الفرق في مفادها بين الفريقين ، كالأخبار الآمرة بالرجوع إلى الكتاب والتمسّك بها ، والمفسّرة للمحكم بما يعمل به.

ومنها : ما يكون موردها الظواهر في حقّ غير المشافهين ، كالآمرة بعرض الخبرين المتعارضين على الكتاب لمعرفة الموافق والمخالف له ، بل مورد الأخبار الواردة في علاج الأخبار المتعارضة خصوص الإخبار في حقّ غير المقصودين بالإفهام كما هو واضح.

فعلم بما قرّرناه أنّه لا حاجة لإثبات حجّيّة الظواهر مطلقا إلى التزام عموم الخطابات الشفاهيّة للمعدومين ، ولا إلى إثبات كون وضع الكتاب العزيز والأخبار كتصنيف المصنّفين وتأليف المؤلّفين كما توهمه بعض الأعلام (١).

كما يعلم اندفاع ما يستشمّ من صاحب المعالم في بحث حجّيّة خبر الواحد في تتميم الاستدلال بدليل الانسداد ، حيث قال : « لا يقال : الحكم المستفاد من ظاهر الكتاب معلوم لا مظنون ، وذلك بواسطة ضميمة مقدّمة خارجيّة ، وهي قبح خطاب الحكيم بما له ظاهر وهو يريد خلافه من غير دلالة تصرف عن ذلك الظاهر ، سلّمنا ولكن ذلك ظنّ مخصوص ،

__________________

(١) قوانين الاصول ٢ : ١٠٣.

١٥٤

فهو من قبيل الشهادة لا يعدل عنه إلى غيره إلاّ بدليل.

لأنّا نقول : أحكام الكتاب كلّها من قبيل خطاب المشافهة ، وقد مرّ أنّه مخصوص بالموجودين في زمن الخطاب ، وأنّ ثبوت حكمه في حقّ من تأخّر إنّما هو بالإجماع وقضاء الضرورة باشتراك التكليف بين الكلّ ، وحينئذ فمن الجائز أن يكون اقترن ببعض تلك الظواهر ما يدلّ لهم على إرادة خلافها ، وقد وقع ذلك في مواضع علمناها بالإجماع ونحوه ، فيحتمل الاعتماد في تعريفنا بسائرها على الأمارات المفيدة للظنّ القويّ وخبر الواحد من جملتها ، ومع قيام هذا الاحتمال ينتفي القطع بالحكم ، ويستوي حينئذ الظنّ المستفاد من ظاهر الكتاب والحاصل من غيره بالنظر إلى إناطة التكليف به ، لابتناء الفرق بينهما على كون الخطاب متوجّها إلينا وقد تبيّن خلافه ، ولظهور اختصاص الإجماع والضرورة الدالّين على المشاركة في التكاليف المستفادة من ظاهر الكتاب بغير صورة وجود الخبر الجامع للشرائط الآتية ، المفيد للظنّ الراجح بأنّ التكليف بخلاف الظنّ الظاهر » (١). انتهى.

فإنّ ما ذكره في جواب « لا يقال » من منع قطعيّة الحكم المستفاد من ظاهر الكتاب ، كما نصّ عليه بقوله : « ومع قيام هذا الاحتمال ينتفي القطع بالحكم » وإن كان في محلّه ، نظرا إلى أنّ المقدمة الخارجيّة الّتي جعلها السائل واسطة في قطعيّة الحكم المستفاد من ظاهر الكتاب ـ وهي قبح الخطاب بما له ظاهر وإرادة خلافه من غير قرينة لكونه إغراء بالجهل ـ إن سلّمنا تمكّن المخاطب المشافه من إجرائها ، كما لو كان الخطاب بما له ظاهر في وقت الحاجة إلى البيان وانتفى معه احتمال وجود مصلحة مرجّحة لإخفاء القرينة مقتضية لحسن عدم البيان.

لا نسلّم تمكّن غيره ممّن ليس بمخاطب ولا مقصود إفهامه من إجرائها حتّى في حقّ المخاطب ، لقيام احتمال وجود قرينة مع الخطاب حين نزوله مفيدة لإرادة خلاف ظاهره قد اختفت علينا ، وإن التفت إليها المخاطب أو غفل عنها ، وغاية ما هنالك إعمال الأصل لنفي القرينة أو نفي الغفلة عن القرينة الموجودة ، غير أنّ الأصل واسطة لإحراز الظاهر ، ولا ينفي الاحتمال وهو مانع من القطع بإرادة الظاهر.

ولكن قوله : « ويستوي حينئذ الظنّ المستفاد من ظاهر الكتاب والحاصل من غيره

__________________

(١) معالم الدين : ١٩٣.

١٥٥

بالنظر إلى إناطة التكليف به » إخراج لظواهر الكتاب في الحجّيّة عن الظنّ الخاصّ إلى الظنّ المطلق ، لأنّ الظنّ الحاصل من غيره الّذي سوّى بينه وبين الحاصل من ظاهر الكتاب هو الظنّ الّذي أقام على حجّيّته الدليل الرابع ، وهو دليل الانسداد ولا يكون إلاّ الظنّ المطلق ، كما أشعر به أيضا قوله : « بالنظر إلى اناطة التكليف به ».

وقوله : « لابتناء الفرق بينهما على كون الخطاب متوجّها إلينا ـ إلى قوله : ولاختصاص الإجماع والضرورة » إلخ دفع للواسطة المحتملة بين قطعيّة الحكم المستفاد من ظاهر الكتاب ، والحجّيّة من باب الظنّ المطلق ، وهي الحجّيّة من باب الظنّ الخاصّ ، ومرجعه إلى نفي حجّيّة ظواهر الكتاب من باب الظنّ الخاصّ.

واحتجّ عليه : بابتناء الحجّيّة على هذا الوجه على أحد الأمرين : من عموم الخطابات الشفاهيّة للغائبين المعدومين وقد تبيّن خلافه ، ومن الإجماع والضرورة الدالّين على المشاركة في التكاليف المستفادة من الكتاب وهو أيضا باطل ، لاختصاص أدلّة المشاركة في التكاليف بغير صورة وجود الخبر الجامع لشرائط الحجّية المنافي ظاهره لظاهر الكتاب.

والجواب : منع الابتناء على شيء من الأمرين لما عرفت مشروحا من أدلّة حجّيّتها.

ثمّ إنّ ما في آخر كلامه من دعوى « اختصاص أدلّة الاشتراك في التكاليف المستفادة من ظواهر الكتاب بغير صورة وجود الخبر المذكور » على إطلاقه غير سديد ، لأنّ الخبر المخالف لظاهر الكتاب إن كان مخالفته بحيث لا يمكن الجمع بينه وبين ظاهر الكتاب أصلا ، كما لو ورد في الأخبار « الخمر طاهر » ، قبالا لما فرض في الكتاب من قوله : « الخمر نجس » ، أو أمكن الجمع عقلا ولكن لا شاهد عليه عرفا ، كما لو ورد « لا تكرم العلماء » و « لا تكرم زيدا العالم » مثلا ، قبالا لما فرض في الكتاب من قوله : « اكرم العلماء » أو « أكرم زيدا العالم » ، فإنّ الحمل على العدول والفسّاق والرخصة في الفعل ومرجوحيّته ليثبت الكراهة وجه جمع محتمل ، غير أنّه لا يساعد عليه شيء معتبر في العرف ، فالمتعيّن فيهما ـ على ما حقّق في باب التعادل والتراجيح ـ طرح الخبر ، لعدم مقاومة سنده ـ بعد تعذّر الجمع ـ لسند الكتاب ليرجع فيهما إلى الترجيح ، أو يبني على التعادل المقتضي للتخيير ، أو غيره.

أمّا الأوّل : فلأنّه ليس في المرجّحات السنديّة ما يبلغ قطعيّة صدور الكتاب مع انتفاء التقيّة.

وأمّا الثاني : فلما يتضمّنه التخيير من تجويز طرح سند الكتاب وهو غير معقول ، كما أنّ

١٥٦

التساقط أو التوقّف ثمّ الرجوع إلى الأصل غير معقول ، ومرجع الجميع إلى أنّ قطعيّة سند الكتاب مع انتفاء التقيّة تمنع عن إدراج ما ذكر في بابي التراجيح والتعادل فتعيّن إطراح الخبر.

وإن كان مخالفته بحيث أمكن الجمع بينهما جمعا يساعد عليه متفاهم العرف ، كما في الخبر من قوله عليه‌السلام : « ثمن العذرة سحت » (١) قبالا لقوله تعالى : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(٢) وما أشبه ذلك من أمثلة الخاصّ الخبري والعامّ الكتابي ، وما في معناهما من المقيّد والمطلق بناء على وجود تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، عملا بالنصوصيّة أو الأظهريّة اللتين هما من مرجّحات الدلالّة ، بل كلّ ما كان الخبر بحسب الدلالة من قبيل النصّ أو الأظهر والكتاب المقابل له من قبيل الظاهر ، فالخبر حينئذ بنصوصيّته أو أظهريّته ينهض بيانا لإرادة خلاف ظاهر الكتاب ، ويكون ذلك هو الحكم المشترك فيه المشافه وغير المشافه.

فبطل بذلك كلّه دعوى اختصاص الإجماع والضرورة الدالّين على المشاركة في التكاليف المستفادة من ظاهر الكتاب بغير صورة وجود الخبر الجامع لشرائط الحجّيّة ، لما عرفت من عموم المشاركة في جميع صور وجوده.

غاية الأمر كون ظهور الكتاب المعمول به في نحو الصورة الأخيرة من الصور الثلاث المذكورة لمخالفة الخبر هو الظهور الثانوي ، لانقلاب ظهوره الأوّلي إليه بواسطة نهوض الخبر بيانا.

تذنيب :

الظاهر أنّ حجّية الظواهر إنّما تكون بالنوع ، وقد يعبّر عنه بالظهور النوعي ، وقد يعبّر بالحجّيّة من باب الظنّ النوعي ، وقد يعبّر بكون مناط الحجّيّة هو الظهور العرفي.

والمراد بالجميع كون اللفظ بالنسبة إلى المعنى في نوع الاستعمالات بحيث يحمل عليه عرفا ، ولا يصرف عنه إلى غيره إلاّ بواسطة قرينة معتبرة في العرف ، ومن حكمه أن لا يعتبر في العمل به حصول الظنّ الفعلي بالمراد في شخص الاستعمال ، وأن لا يقدح فيه حصول الظنّ الغير المعتبر بخلافه ، ومرجعه إلى عدم كون الظنّ الفعلي بمقتضاه شرطا في حجّيّته ، ولا كون الظنّ الغير المعتبر بخلافه مانعا من حجّيّته.

وبالجملة : الظاهر حجّة بالنوع وعلى وجه الظهور العرفي ، سواء حصل الظنّ الفعلي

__________________

(١) تهذيب الأحكام : ٦ : ٣٧٢ / ١٠٨٠.

(٢) سورة البقرة : ٢٧٥.

١٥٧

بمقتضاه في شخص الاستعمال أو لا ، وسواء حصل الظنّ الفعلي الغير المعتبر بخلافه اولا ، خلافا لمن زعم كون الظاهر حجّة إن حصل الظنّ الفعلي بمقتضاه ، ولمن زعم كونه حجّة ما لم يظنّ ظنّا غير معتبر بخلافه ، استنادا إلى عدم الدليل على الحجّيّة إذا لم تفد الظنّ ، أو إذا حصل الظنّ الغير المعتبر على خلافها.

لنا : طريقة العرف وسيرة العقلاء من أهل اللسان في جميع الألسنة واللغات على الأخذ بظواهر الألفاظ من غير مراعاة للظنّ الفعلي ، ولا اعتناء بالظنّ الغير المعتبر إذا حصل بخلافها ، كما يكشف عن ذلك ما أمر السيّد عبده بضيافة العلماء ، بقوله : « أضف العلماء » ثمّ عثر أنّ واحدا منهم لم يحضر مجلس الضيافة ، فسأله عن ذلك ، فأجاب « بأنّي لم أعده » معتذرا بأنّه انقدح في نفسي التردّد في أنّك أردته من العامّ أم لا ، أو رأيتك في الطيف (١) تقول لي أنّ فلانا غير داخل في مرادي ، فحصل لي التردّد في دخوله في العموم ، أو الظنّ بعدم دخوله ، لم يكن عذره مقبولا ، بل كان مذموما عند العقلاء ، ويصحّ للسيّد عقابه بأنّي ما نبّهتك على عدم إرادته ، ولا نصبت القرينة عليه ، فقد خالفتني وخالفت ظاهر خطابي.

وبالجملة : المرجع في العمل بالظواهر وكيفيّته هو بناء العرف ، وطريقة أهل اللسان بالإجماع والنصّ ، كما قال عزّ من قائل : ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ )(٢) ونحن متى ما راجعنا أهل العرف نرى أنّ بناءهم مستقرّ في العمل بالظواهر على عدم مراعاة الظنّ الفعلي في شخص الاستعمال ، إذا كان اللفظ بحيث لو خلّي وطبعه لأفاد الظنّ به ، وعلى عدم الاعتناء بالشكّ ولا الظنّ الغير المعتبر ، فأصالة الحقيقة وما يحرزها من الاصول العدميّة ، كأصالة عدم القرينة وأصالة عدم التخصيص وأصالة عدم التقييد وأصالة عدم الحذف والإضمار وأصالة عدم النسخ كلّها معتبرة عندهم من حيث هي ، من غير أن يعتبر في التعويل عليها حصول الظنّ الشخصي بمقتضاها ، ولا أن يقدح في العمل عليها الظنّ الغير المعتبر على خلافها.

نعم إنّما يغلب في المحاورات ونوع الاستعمالات حصول العلم أو الظنّ الفعلي بالمراد الّذي هو مقتضى الظاهر نوعا ، فيدخل في الوهم كون العمل على الظواهر منوطا بحصوله وليس كما توّهم ، ولذا يؤخذ بمقتضى الظاهر في غير مورد الظنّ أيضا وإن كان نادرا ، بل

__________________

(١) طيف الخيال : مجيئه فى النوم [ مجمع البحرين ـ مادّه « طيف » ].

(٢) سورة ابراهيم : ٤.

١٥٨

على ما قرّرناه إجماع العلماء أيضا في ظواهر الكتاب والسنّة ، فإنّ الاصول المذكورة كلّها من الاصول المجمع عليها بقول مطلق.

ويكشف عنه عدّ بعض الأخباريّين (١) كالاصوليّين (٢) استصحاب حكم العامّ والمطلق إلى أن يثبت المخصّص والمقيّد من الاستصحابات المجمع عليها ، بناء على ما حقّق من أنّ ذلك ليس من الاستصحاب المصطلح ، بل المراد به لزوم التمسّك بعموم العامّ وإطلاق المطلق ، وعدم رفع اليد عنهما حتّى يعلم المخصّص والمقيّد وإن لم يحصل ظنّ ، أو حصل ظنّ غير معتبر في شخص المورد.

ولا ينافيه ما قد يظهر منهم من التوقّف في العمل بالخبر الصحيح المخالف لفتوى المشهور ، أو طرحه بمخالفة الشهرة الفتوائيّة ، مع اعترافهم بعدم حجّيّة الشهرة ، فإنّ ذلك ليس من جهة مزاحمة الشهرة لدلالة الخبر من حيث العموم أو الإطلاق ، بل من جهة أنّها تزاحم الخبر من حيث سنده ، إمّا لما قيل من أنّ الدليل الدالّ على حجّيّة الخبر من حيث السند لا يشمل الخبر المخالف للمشهور ، أو لأنّ الشهرة على الخلاف تكشف عن خلل في صدوره ، أو جهة صدور فيتوهّن بها فلا يحصل الوثوق والاطمئنان بصدوره ، أو كون صدوره على وجه بيان الواقع لا على جهة التقيّة ، ولذا لا يتأمّلون في العمل بالظواهر القطعيّة صدورا على جهة بيان الواقع ، كالكتاب والسنّة النبويّة المتواترة إذا خالفها الشهرة الفتوائيّة.

نعم لو اقترن الظاهر بحال أو مقال صالح للقرينيّة بحيث أوجب إجمالا فيه سقط العمل به في محلّ الإجمال لا مطلقا ، ومن ذلك المجاز المشهور لأجل الشهرة الموجبة لإجماله بالنسبة إلى الحقيقة الموجب للتوقّف كما عليه المشهور ، والأمر الوارد عقيب يقين الحظر أو ظنّه أو توهّمه الموجب لإجماله بالنسبة إلى الوجوب ، والعامّ المتعقّب بضمير يختصّ ببعض أفراده ، والعمومات المتعقّبة بالاستثناء الصالح للرجوع إلى الجميع.

ولا يذهب عليك أنّ ما بيناه بعبارة الاستدراك ليس قولا بالتفصيل في العمل بالظواهر ، إذ لا ظهور في الموارد المذكورة ونظائرها حتّى يعمل به ، فخروجها عن العمل بالظواهر موضوعي لا حكمي ، ولذا لو كان ما يصلح لكونه قرينة كلاما مستقّلا منفصلا عن الظاهر لا يعتنى به في منع العمل بالظاهر ، لعدم استتباعه الإجمال فيه عند العرف ، وذلك كما لو قال المولى لعبده : « أكرم العلماء » ، ثمّ سمع العبد قول : « لا تكرم زيدا العالم » ، واشتبه قائله بين

__________________

(١) هو المحدّث البحراني في الدرر النجفيّة : ٣٤.

(٢) انظر تمهيد القواعد : ٢٧١ والقواعد والفوائد ١ : ١٣٣.

١٥٩

كونه مولاه أو غيره ، فإنّه لا يرفع اليد عن عموم خطاب المولى بمجرّد الاحتمال ، ونحوه ما لو قال المولى بعد العامّ : « لا تكرم زيدا » ، وكان زيد مشتركا بين عالم وجاهل ، وكذلك ما لو قال بعد العامّ في المثال : « أكرم الاشتقاقيّين » بحيث احتمل ذلك كونه قرينة كاشفة عن المراد بالعامّ ، وأنّه خصوص الاشتقاقيين.

ولقد أجاد من (١) قال بما حاصله : « أنّ الكلام إن كان مقرونا بحال أو مقال يصلح أن يكون صارفا عن المعنى الحقيقي فلا يتمسّك فيه بأصالة الحقيقة ، وإن كان الشكّ في أصل وجود الصارف ، أو كان هناك أمر منفصل يصلح لكونه صارفا فيعمل فيه على أصالة الحقيقة ».

كما حكاه شيخنا عن بعض معاصريه واستحسنه ، وقال : « بعدم كونه تفصيلا في حجّيّة الظهور اللفظي ، بل مرجعه إلى تعيين الظهور العرفي وتمييزه عن موارد الإجمال ، فإنّ اللفظ في القسم الأوّل يخرج عن الظهور إلى الإجمال بشهادة العرف ، ولذا توقّف جماعة في المجاز المشهور والعامّ المتعقّب بضمير يرجع إلى بعض أفراده ، والجمل المتعدّدة المتعقبة للاستثناء ، والأمر والنهي الواردين في مظانّ الحظر والإيجاب إلى غير ذلك ، ممّا احتفّ اللفظ بحال أو مقال يصلح لكونه صارفا ، ولم يتوقّف أحد في عامّ بمجرّد الاحتمال في دليل منفصل يحتمل كونه مخصّصا له ، بل ربّما يعكسون الأمر فيحكمون بنفي ذلك الاحتمال وارتفاع الإجمال لأجل ظهور العامّ ، ففي نحو ما لو قال المولى : « أكرم العلماء » وقال في خطاب آخر : « لا تكرم زيدا » ، مع اشتراك زيد بين عالم وجاهل لا يرفع اليد عن العموم بمجرّد الاحتمال ، بل يرفع الإجمال بواسطة العموم ، فيحكم بإرادة زيد الجاهل من النهي » (٢).

وأمّا ما قيل : من أنّ احتمال إرادة خلاف مقتضى اللفظ إن حصل من أمارة غير معتبرة فلا يصحّ رفع اليد عن الحقيقة ، وإن حصل من دليل معتبر فلا يعمل بأصالة الحقيقة ، ومثّل له بما إذا ورد في السنّة المتواترة عامّ ، وورد فيها أيضا خطاب مجمل يوجب الإجمال في ذلك العامّ ولا يوجب الظنّ بالواقع ، فلا دليل على لزوم العمل بالأصل تعبّدا ، ولا يمكن دعوى الإجماع على لزوم العمل بأصالة الحقيقة تعبّدا ، فإنّ أكثر المحقّقين توقّفوا فيها إذا تعارض الحقيقة المرجوحة مع المجاز الراجح » (٣).

__________________

(١) هو الشيخ محمّد تقي في هداية المسترشدين ١ : ٢١١.

(٢) فرائد الاصول ٢٤ : ١٧١.

(٣) هذا التفصيل للسيّد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٣٥ ـ ٣٦.

١٦٠