تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٥٥٥

عليه ، لأنّه على تقدير كون المجمع عليه على خلاف ما عنده ، فإجماعهم عليه إمّا أن يكون لأمر يرجع إلى الإمام من تقصيره في تبليغ الأحكام الّتي منها الحكم المجمع على خلافه ، أو نصب الطرق الّتي هي وسيلة لبلوغ الأحكام إلى جميع المكلّفين الذين منهم المجمعون ، أو لأمر يرجع إلى المجمعين من عدم رجوعهم بتقصيرهم وسوء اختيارهم إلى الطرق المنصوبة لهم وأخذهم بالرأي والقياس واتّباعهم للجبت والطاغوت ، أو لأمر يرجع إلى غيرهم ممّن حال بينهم وبين الطرق المنصوبة ومنعهم من الوصول إليها أو منعها من الوصول إليهم ، أو سعى في إخفائها أو إعدامها ، أو وقوع الاختلال فيها من جهات شتّى مخرجة لها عن الطريقيّة أو القطعيّة.

ولا سبيل إلى أوّل الوجوه ، لضرورة أنّ الإمام كالنبيّ لم يقصّر في شيء من تبليغ الأحكام ونصب الطرق الموصلة إليها المفيدة للقطع بها ما دام مختارا أو متمكّنا من جميع ذلك.

ولا إلى الثاني ، لوضوح أنّ علماء الطائفة الّذين هم عدول ليس لهم حدّ من التقصير في الاجتهاد ولا في مقدّماته ، فتعيّن الوجه الأخير وهو ليس من موارد اللطف ، لما تقدّم من أنّ اللطف يعتبر فيه عدم البلوغ حدّ الإلجاء ، والردع عن الباطل في هذه القضيّة الإجماعيّة ممّا لا يتأتّى إلاّ بقلع الأعادي والمعاندين لأهل الشرع ورفع منعهم ، أو دفعهم عن مقام المنع وإخفاء الطرق وإعدامها قهرا عليهم وإجبارا لهم.

وهذا على ما عرفت خارج عن حدّ اللطف ، مع أنّه لو صحّ الوجه الثاني لكان هو أيضا خارجا عن حدّ اللطف ، لأنّ ردع المجمعين في المسألة الإجماعيّة ـ على التقدير المذكور ـ لا معنى له إلاّ صرفهم عن التقصير واتّباع الهوى ومتابعة الجبت والطاغوت قهرا عليهم وإجبارا لهم.

وبالتأمّل في أكثر ما ذكرناه ـ في إبطال طريقة اللطف هنا ـ يظهر وجه دفع طريقة من يعتمد على التقرير في إثبات الملازمة بين الإجماع وموافقة قول الإمام.

ونزيد هنا أنّ التقرير إنّما يكون دليلا باعتبار كشفه عن رضا المعصوم الّذي هو مطابق للواقع وهو مشروط بامور :

منها : أن لا يكون لسكوت الإمام وعدم ردعه جهة من حكمة مقتضية لإخفاء الواقع ، أو جهة مانعة من إظهاره من خوف أو تقيّة ، ومن المحتمل قيام مثل الحكمة أو الجهة المانعة من التصرّف الكلّي هنا أيضا.

١٨١

فإن اريد بالتقرير تقرير إمامنا الغائب عجلّ الله فرجه ، فهو مع قيام الاحتمال المذكور لا يكشف عن رضاه بالحكم المجمع عليه على أنّه الحكم الواقعي ، وكذلك لو اريد به تقرير سائر أئمّتنا عليهم‌السلام كلّ في زمانه ، مضافا إلى أنّه إنّما يتّجه التمسّك بتقريرهم على تقدير كون انعقاد الإجماع في أعصارهم عليهم‌السلام ، وهو ليس بواضح إن لم نقل بوضوح خلافه.

وربّما يستشمّ من كلام بعض الأعلام (١) أنّ الشيخ في إثبات الإجماع على طريقته اعتمد على الأخبار المتواترة في « أنّ الزمان لا يخلو عن حجّة كي إن زاد المؤمنون شيئا ردّهم وإن نقصوا أتمّه لهم ، ولولا ذلك لاختلط على الناس امورهم » (٢).

والحديث بهذا اللفظ في عدّة طرق وفي المستفيض منها : « أنّ الأرض لا تخلو إلاّ وفيها عالم إذا زاد المؤمنون شيئا ردّهم إلى الحقّ وإن نقصوا شيئا تمّم لهم ، ولولا ذلك لالتبس عليهم أمرهم ولم يفرّقوا بين الحقّ والباطل » (٣).

وفي المروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « أنّ لكلّ بدعة من بعدي يكاد؟ بها الإيمان وليّا من أهل بيتي موكّلا به يذبّ عنه ويبيّن الحقّ ويردّ كيد الكائدين » (٤). وفي آخر « ويعلن الحقّ ويردّ كيد الكائدين ».

وعنهم عليهم‌السلام « إنّ لنا في كلّ خلف عدولا ينفون عن الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين » (٥).

وفي عدّة أخبار في تفسير قوله تعالى ( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ )(٦) « أنّ المنذر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي كلّ زمان إمام منّا يهديهم إلى ما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (٧) ، وفي بعضها « والله ما ذهبت منّا وما زالت فينا إلى الساعة » (٨).

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « ولم تخل الأرض منذ خلق الله [ تعالى ] آدم من حجّة له فيها [ إمّا ] ظاهر مشهور أو غائب مستور ، ولا تخلو إلى أن تقوم الساعة من حجّة الله فيها ولولا ذلك لم يعبد الله تعالى ، قيل : كيف ينتفع الناس بالغائب المستور؟ قال : كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب » (٩).

__________________

(١) قوانين الاصول ١ : ٣٥٠. (٢) بحار الأنوار ٢٣ : ٢٧ / ٣٨.

(٣) بحار الأنوار : ٢٣ : ٢٦ / ٣٦. (٤) بحار الأنوار ٢ : ٣١٥ / ٧٩.

(٥) بحار الأنوار ٢ : ٩٢ / ٢١. (٦) سورة الرعد : ٨.

(٧) بحار الأنوار ٢٣ : ٥ / ٥.

(٨) بحار الأنوار ٢٣ : ٤ / ٥.

(٩) بحار الأنوار ٢٣ : ٦ / ١٠.

١٨٢

وعن الحجّة القائم عليه‌السلام : « وأمّا وجه الانتفاع في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيّبها عن الأنظار السحاب ، وأنّي أمان لأهل الأرض كما أنّ النجوم أمان لأهل السماء » (١).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام في عدّة طرق « اللهم إنّك لا تخلو الأرض من قائم بحجّة إمّا ظاهر مشهور أو خائف مغمور لئلاّ تبطل حججك وبيّناتك » (٢) وفي بعضها « اللهم لابدّ لأرضك من حجّة لك على خلقك يهديهم إلى دينك ، ويعلّمهم علمك لئلاّ تبطل حجّتك ولا تضلّ تبع أوليائك بعد إذ هديتهم ، إمّا ظاهر ليس بمطاع ، أو مكتتم مترقّب إن غاب عن الناس شخصه في حال هدايتهم ، كان علمه وآدابه في قلوب مثبتة فهم بها عاملون » (٣).

والجواب : أنّ مفاد هذه الأخبار أيضا كمفاد دليل اللطف وطريق الجواب واحد ، ومحصّله ـ أنّه كما ظهر بما بيّناه مشروحا ـ أنّ دليل اللطف ساكت عن الدلالة على موافقة الحكم المجمع عليه في الإجماعيّات لما عند الإمام عليه‌السلام من الحكم الواقعي ، فكذلك هذه الأخبار أيضا ساكتة عن الدلالة على الموافقة ، إذ كما أنّ وجود ما لا نصّ فيه من الأحكام في الشرع الدائر بين ما بلّغه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الوصيّ بعده ولم يصل إلينا من جهة الحوادث ، وما لم يبلّغاه لقيام مصلحة مقتضية لإخفائه الّذي يرجع فيه إلى الاصول العمليّة لا ينافي مفاد هذه الأخبار ، فكذلك اختفاء ما عند الإمام على تقدير مخالفة الحكم المجمع عليه في الإجماعيّات له لا ينافي مفادها جزما.

وبعد ما بيّناه مشروحا من منع الملازمة ـ بين اتّفاق من عدا الإمام من العلماء وموافقة قول الإمام ، لفساد دليل الملازمة وقصور دلالته عليها ـ تبيّن أنّ نقل الإجماع المتمّم بقاعدة اللطف أو الأخبار المطابقة لها في المؤدّى من أيّ ناقل كان ليس نقلا للسنّة ولا نقلا لملزوم السنّة.

أمّا الأوّل : فلأنّ المفروض أنّه في كلام الناقلين عبارة عن اتّفاق جميع العلماء عدا الإمام ، فليس الإمام من جملة المجمعين ولا قوله في جملة أقوالهم.

وأمّا الثاني : فلوضوح انتفاء الملازمة بين الاتفاق المذكور وموافقة قول الإمام من جهة قصور دليلها.

نعم ناقله إنّما نقله باعتقاد الملازمة غير أنّ اعتقاده مع وضوح فساد مستنده لا يوجب الملازمة الواقعيّة.

__________________

(١) بحار الانوار ٥٢ : ٩٢ / ٧.

(٢) بحار الانوار ٢٣ : ٢٠ / ١٧.

(٣) بحار الانوار ٢٣ : ٤٩ / ٩٤.

١٨٣

وأمّا المعنى الثالث : أعني اتّفاق جماعة يكشف اتّفاقهم عن رأي المعصوم فنقول : إنّ الظاهر أنّ التعبير بجماعة منكرة في هذا المعنى إنّما هو لتعميمه بالقياس إلى اتّفاق الكلّ واتّفاق ما دون الكلّ ، ومن المعلوم أنّ الاطّلاع على اتّفاق الجماعة بالمعنى الأعمّ المدّعى كونه كاشفا عن رأي المعصوم إنّما يحصل بتتبّع فتاويهم ، والمسألة المفتى بها في كلام العلماء على وجه الاتفاق إمّا أن تكون ضروريّة أو تكون نظريّة ، والأوّل خارج عن معقد البحث في حجّيّة الإجماع وحجّيّة نقله ، لأنّ المسألة الضروريّة في الشرعيّات لا تكون إلاّ في ضروري الدين أو المذهب.

وأيّا مّا كان فالضرورة المفروضة مع المسألة الإجماعيّة تغني عن النظر في الإجماع وترفع الحاجة إلى إثبات حجّيّته أو اثبات حجّيّة منقوله.

وعلى الثاني : فمحلّ البحث منها ما كانت المسألة نظريّة توقيفيّة صرفة من غير أن يكون للعقل مجال لإدراك حكمها ، وإلاّ كان حكم العقل فيها مستقلاّ أو تبعا لخطاب الشرع مغنيا عن النظر في الإجماع ومنقوله ، ورافعا للحاجة عن إثبات حجّيّتهما ، فبعد ما كان محلّ البحث اتّفاق الجماعة في مسألة نظريّة توقيفيّة صرفة يتطرّق المنع إلى كونه كاشفا عن رأي المعصوم ، لأنّ طريقه على ما ذكروه الحدس وهو غير ممكن غالبا ، على معنى عدم حصول العلم للناظر في اتّفاق الجماعة ، ولو في ضمن الكلّ بمطابقة الحكم المتّفّق عليه للحكم الواقعي الّذي هو رأي الإمام ومعتقده في غالب موارده.

فإنّا نقطع بأنّ لهم في المسألة الإجماعيّة الّتي حصل الإجماع فيها من تطابق الفتاوى على حكم واحد مستندا ، ونقطع أيضا بأنّ الغالب في المسائل النظريّة التوقيفيّة ـ الّتي منها المسائل الإجماعيّة ـ كون مستندها الأدلّة الغير العلميّة تعبديّة وظنّيّة ، كما يرشد إليه ما فرض من الانسداد الأغلبي في الأحكام ، فهم أو أكثرهم غير جازمين بما أفتوا به من الحكم المجمع عليه ، حتّى أنّه لو سئل كلّ واحد منهم أنّك هل تقطع بمطابقة ما أفتيت به الواقع؟ أجاب : « بأنّي لا أقطع بل أظنّ أو احتمل مخالفة الواقع. نعم إنّما أقطع بكونه الحكم الظاهري الّذي يجب التديّن به ». ومن المستحيل أن يحصل لغيرهم من اتّفاقهم على الفتوى الغير العلميّة ـ مع ملاحظة احتمال كلّ واحد منهم فيها مخالفة الواقع ـ الحدس والكشف العلمي على معنى العلم بمطابقتها الواقع ، وإن بلغوا في الكثرة إلى ما بلغوا ، حتّى أنّ الألف منهم أو أزيد إذا اتّفقوا عن ظنّ على حكم لا يفيد اتّفاقهم لغيرهم المطّلع على ظنّيّة فتواهم العلم بمطابقة الواقع.

١٨٤

حتّى أنّ الخبر المتواتر ـ الّذي عرّفوه بأنّه يفيد بنفسه العلم بصدقه ـ لا يفيد العلم بالصدق إذا كان أخبار المخبرين كلّهم أو جلّهم عن ظنّ بالمخبر به ، وإن بلغوا في الكثرة إلى ما بلغوا ، والكثرة الّتي اعتبروها فيه لإفادة العلم بالصدق إنّما اعتبرت لرفع احتمال الكذب القائم في نظر السامع خاصّة ، لا لإفادة العلم له مع قيام احتمال الكذب في نظر المخبرين بل هو إنّما يفيده بواسطة الكثرة بشرط كون خبرهم عن علم بصدق المخبر به.

فدعوى الكشف عن رأي المعصوم من جهة الحدث في اتّفاق الجماعة ممّا يشهد الذوق الصريح والاعتبار الصحيح بكذبه.

وغاية ما يمكن تسليمه الكشف عن وجود دليل معتبر على الحكم لو عثرنا عليه لعلمنا به ، وهذا انكشاف للحكم الظاهري لعدم معلوميّة حال ذلك الدليل من حيث المطابقة وعدمها.

وقضيّة ذلك أن لا يكون الإجماعات المنقولة في كلام أصحابنا المتأخّرين المحصّلة بطريق الحدس أيضا نقلا للسنّة ولا نقلا لملزوم السنّة.

أمّا الأوّل : فلأنّه نقل لاتّفاق الجماعة.

وأمّا الثاني : فلانتفاء الملازمة بينه وبين قول المعصوم إذ لا موجب لها ، بل لوجود المانع عنها وهو كون الاتّفاق في غالب موارده عن مستند غير علمي.

وملخّص القول : في القدح في حجّيّة الإجماع المنقول في كلام أصحابنا الناقلين للإجماعات بلفظ الإجماع المطلق من باب حجّيّة الخبر المصطلح ، إمّا بإرادة نقل قول المعصوم في ضمن الاتّفاق ، أو نقل ملزوم قول المعصوم.

هو : أنّ مستند الناقل في إدراك قول الإمام إمّا أن يكون هو الحسّ ، كما لو فرض أنّ سائلا ورد على جماعة منهم الإمام وهو لا يعرفه بشخصه ، وسألهم عن حكم مسألة فأجابوه كلمة واحدة بحكم ، فإنّه حينئذ أدرك قول الإمام بالحسّ والسماع منه وإن لم يعرفه بشخصه ، فإذا نقل إجماع الجماعة كان كالرواية المصطلحة نقلا للسنّة ، من غير فرق بينهما إلاّ في التفصيل والإجمال.

حيث إنّ القول المحكي في الرواية سنّة تفصيليّة ، لأنّ الراوي له سمعه من إمام عرفه بشخصه ، والمنقول في ضمن الإجماع سنّة إجماليّة ، حيث إنّ ناقله سمعه في ضمن أقوال الآخرين من إمام لم يعرفه بشخصه.

أو العقل كدليل اللطف ، سواء كان ناقله على هذه الطريقة هو الشيخ أو غيره ، وسواء

١٨٥

قلنا بعدم انحصار طريقة الشيخ في تحصيل الإجماع وإدراك قول الإمام معه في هذه الطريقة كما جزم به بعض الأعلام (١) ، أو قلنا بانحصار طريقته فيها كما جزم به شيخنا قدس‌سره (٢) ويشهد له جملة من عباراته المحكيّة عن العدّة وغيرها.

ومن ذلك ما نقل عنه في ردّ مقالة السيّد في تزييف الإجماع بطريقة اللطف ، بدعوى أنّه فيما لو اتّفق الإماميّة على الباطل لا يجب على الإمام ردعهم ولا الظهور وإظهار الحقّ لهم ، تعليلا : « بأنّا إذا كنّا نحن السبب في استتاره ، فكلّ ما يفوتنا من الانتفاع به وبما معه من الأحكام يكون قد فاتنا من قبل أنفسنا ، ولو أزلنا سبب الاستتار لظهر وانتفعنا به وأدّى إلينا الحقّ الّذي كان عنده » (٣).

قال الشيخ : « وهذا عندي غير صحيح ، لأنّه يؤدّي إلى أنّ لا يصحّ الاحتجاج بإجماع الطائفة أصلا ، لأنّا لا نعلم دخول الإمام عليه‌السلام فيها إلاّ بالاعتبار الّذي بيّناه ، ومتى جوّزنا انفراده بالقول وأنّه لا يجب ظهوره منع ذلك من الاحتجاج بالإجماع » (٤) انتهى.

وهذا ظاهر كالصريح في انحصار الطريقة في الإجماع بطريق اللطف ، أو النقل ، كالأخبار المتقدّمة المطابقة لدليل اللطف في المؤدّى.

أو العادة ، على معنى أنّ العادة تحكم فيما لو اتّفقت الطائفة على شيء بأنّه قول إمامهم المعصوم ، ونظيره ما لو دخل أحد على أهل بلد مثلا هم مقلّدة مجتهد بينهم ، ووجدهم متّفقين على العمل بفتوى فإنّه يعلم بحكم العادة أنّه فتوى مجتهدهم الموجود بينهم ، فيكون الاتّفاق حينئذ ملزوما عاديا لقول الإمام ، ومن علامته كونه كاشفا عنه لكلّ أحد ، من دون اختصاص كاشفيّته ببعض دون بعض ، أو ضرورة دين أو مذهب أو حكم عقل مستقلّ.

أو جملة من المقدّمات النظريّة والاجتهادات الظنّيّة والأمارات الغير العلميّة ، على معنى إدراك قول الإمام بملاحظة الاتّفاق مع انضمام هذه الامور ، كما رأى أنّ جماعة نقلوا الإجماع وآخرين نفوا الخلاف ، وأنّ الطرف المقابل ورد على طبقه نصوص معتبرة وأخبار صحيحة لم يلتفتوا إليها ، وأنّ الحكم المجمع عليه لم يوجد على طبقه رواية ولو ضعيفة ، وأنّه مطابق لمسألة اصوليّة كعدم جواز اجتماع الأمر والنهي واقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضدّ ، أو موافقة أصل من الاصول العامّة المعوّل عليها كأصالة عدم المعارض بعد الفحص أيضا فيما حصل الإجماع على بعض أفراد عامّ أو مطلق وما أشبه ذلك.

__________________

(١) قوانين الاصول ١ : ٣٥٠. (٢) فرائد الاصول ١ : ١٩٣.

(٣) فرائد الاصول ١ : ١٩٤. (٤) العدّة ٢ : ٦٣١.

١٨٦

أو نفس الاتّفاق إذا حصل إدراك قول الإمام معه لضرب من الاتّفاق من دون أن يكون ملزوما عاديا له ، ولا معتضدا بمقدّمات نظريّة واجتهادات ظنّيّة.

فهذه وجوه متصوّرة لمستند ناقل الإجماع في إدراك قول الإمام إذا قصد به نقل السنّة ، أو نقل ملزوم السنّة ، ولا يمكن التعويل على نقله من باب العمل بالخبر المصطلح استنادا إلى أدلّة حجّيّته.

أمّا الوجه الأوّل : فلأنّه فرض يعزّ تحقّقه بل لا تحقّق له في أزمنة الغيبة ، وفي أزمنة الحضور نادر الوقوع ، مع أنّ القطع حاصل بعدم كون شيء من الإجماعات المنقولة في كلام الأصحاب من هذا القبيل.

وأمّا الوجه الثاني : فلفساد المستند ، لما عرفت من أنّ دليل اللطف لقصور دلالته على موافقة قول الإمام لا يصلح طريقا إلى إدراك قول الإمام.

وأمّا الوجه الثالث : فكذلك لما عرفت من قصور دلالة الأخبار على موافقة قول الإمام.

وأمّا الوجه الرابع : فلامتناع حكم العادة في اتّفاق أهل عصر واحد أو عصرين ، بل من شرط حكمها اتّصال السلسلة إلى أعصار الأئمّة عليهم‌السلام ، أو إلى ما يقرب من أعصارهم عليهم‌السلام ، وهذا وإن كان نفى البعد عنه شيخنا قدس‌سره في إجماعات المحقّق والعلاّمة ، تعليلا : « بأنّ الظاهر من ديدنهما أنّهما لا يقتصران في نقل الإجماع على اتّفاق أهل عصر واحد ، بل يعتبران اتّفاق علماء جميع الأعصار المتقدّمة أكثرها » (١) ولكنّه عند التحقيق والنظر الدقيق بعيد ، وحكم العادة مع هذا البعد أبعد.

نعم ، لا يبعد حكمها بوجود دليل معتبر ثمّة نشأ الاتّفاق منه ، وهذا ممّا لا كلام فيه ولا يوجب كون نقل الإجماع نقلا لملزوم السنّة ، بل هو نقل لملزوم الدليل المعتبر ، فيكون العمل به حينئذ لاندراجه في الظنّ الاطمئناني لا في الخبر المصطلح.

وأمّا الوجه الخامس : فلعدم كون محلّ البحث من الإجماعات المنقولة ما شهد الضرورة أو حكم العقل بصحّته ، لعدم الحاجة معهما إلى النظر في الإجماع المنقول ، ولا إلى إثبات حجّيّته.

وأمّا الوجه السادس : فلكثرة وقوع الخطأ في الامور الاجتهاديّة الظنّيّة ، وهذا يقضي بنفي الملازمة.

وأمّا الوجه السابع : فهو أردأ الوجوه ، لأنّ مقتضى الفرض انتفاء الملازمة ، وإلاّ لم يكن

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٢١١.

١٨٧

إدراك قول الإمام على وجه الاتّفاق ، فيقوى احتمال الخطأ في حدس مدّعيه على هذا الوجه.

فالإنصاف : أنّ إثبات حجّيّة الإجماع المنقول على إطلاقه من جهة حجّيّة الخبر المصطلح في غاية الإشكال ، فلا يندرج في أدلّة حجّيّة الخبر الّتي عمدتها آية النبأ.

هذا مضافا إلى كثرة الموهنات القادحة في الحجّيّة ، باعتبار استلزامها قوّة احتمال الخطأ في النقل الّتي لا تنفيه أدلّة حجّيّة الخبر وإنّما تنفي احتمال الكذب ، مثل تعارض الإجماعين المنقولين من ناقل واحد في كتاب واحد أو في كتابين ، أو من ناقلين معاصرين أو متقاربي العصر ، ومثل كثرة ما يتّفق من أنّ العدل ينقل الإجماع على قول في مسألة ثمّ يعدل عن هذا القول في موضع آخر أو في كتاب آخر ، وكثيرا مّا ينقله في المسألة مع اشتهار خلافه عند الأصحاب ، أو ينقله على قول مع مخالفة غير واحد أو جمع من الأجلاّء وما أشبه ذلك ، مثل كثرة ما يوجد في كلام المحقّق والعلاّمة من الطعن في إجماعات غير واحد من ناقليها كالحلّي والسيّد ابن زهرة وكذلك الشهيد ونظرائه.

ومن ذلك ما قال المحقّق في موضع من المعتبر : « ومن المقلّدة من لو طالبته بدليل المسألة ، استند إلى الإجماع ، وليس عنده إلاّ فتاوى المشايخ الثلاث يعني السيّد والمفيد والطوسي ، فادّعى الإجماع لمجرّد ذلك من جهة حسن ظنّه بهم وبفتاويهم » (١) ويطعن أيضا كثيرا مّا على الإجماع المنقول بأنّه إجماع في محلّ الخلاف.

وإن شئت لاحظ المعتبر في مسألة تحديد الكرّ بثلاثة أشبار ونصف في كلّ من أبعاده الثلاث.

ولأجل بعض ما ذكرناه أوّل الشهيد في الذكرى (٢) ـ على ما حكاه صاحب المعالم ـ كثيرا من الإجماعات المنقولة بتأويلات عديدة « من إرادة الشهرة ، أو عدم الظفر على المخالف حين النقل ، أو إرادة الإجماع على الرواية وتدوينها في كتب الحديث » (٣) ونحو ذلك.

ولكن لا يذهب عليك ، أنّه لا يلزم ممّا أنكرناه من وجه الحجّيّة سقوطه على إطلاقه عن الحجّيّة رأسا ، بل حيث أفاد الظنّ بالحكم الشرعي يدخل في عنوان الظنّ الاطمئناني الّذي نقول بحجّيّته.

وسيجيء الكلام فيه وفي إقامة الدليل عليه.

__________________

(١) المعتبر ١ : ٦٢.

(٢) الذكرى : ٥١١.

(٣) معالم الدين : ١٧٤.

١٨٨

ثمّ إنّ لبعض أفاضل الاصوليّين كالشيخ أسد الله التستري في حجّيّة نقل الإجماع تفصيلا ، حكاه شيخنا قدس‌سره (١) عن كتابه المسمّى بكشف القناع (٢) ، ورسالته التي ألّفها في المواسعة والمضايقة ، وقد نقل كلامه بطوله ، ولا جدوى فيه بل العمدة بيان أصل التفصيل ، ثمّ التكلّم في صحّته وسقمه.

وملخّصه ـ على ما استفيد من كلامه ـ الفرق في الحجّيّة وعدمها بين نقل السبب الكاشف والمنكشف وهو قول الحجّة ، فالحجّيّة بالاعتبار الأوّل دون الاعتبار الثاني ، فإنّ الاتّفاق الّذي ينقله العدل سبب للكشف عن قول الحجّة وملزوم له ، أمّا عدم الحجّيّة بالنسبة إلى المنكشف ، فلأنّ أدلّة حجّيّة خبر العدل إنّما دلّت على حجّيّته في حسّيّاته ، وهي الامور المدركة بطريق الحسّ ، وقول المعصوم في محلّ الإجماع إنّما يدرك بطريق الحدس ، وأدلّة الحجّيّة لا تتناوله.

وأمّا الحجّيّة بالنسبة إلى السبب الكاشف ، فلأنّ الاتّفاق الّذي يخبر به العدل في محلّ نقل الإجماع عبارة عن الأقوال المجتمعة الّتي أدركها العدل إمّا بالسماع منهم أو بالمشاهدة في كتبهم ، فيكون من الامور الحسّية.

وإذا ثبت حجّيّة خبر العدل فيه ثبت السبب والملزوم بذلك الخبر ، فيترتّب عليه المسبّب واللازم ، فكان ثبوت السبب الكاشف بخبر العدل كما لو علمناه بطريق علمي كما في الإجماع المحصّل.

وبالجملة خبر العدل بالنسبة إلى السبب قائم مقام العلم به ، وبعبارة اخرى : إذا ثبت اعتبار خبر العدل بالنسبة إلى الملزوم كان كافيا في ترتّب اللازم عليه ، كما في صورة العلم بالملزوم ، وأمّا اعتبار خبر العدل بالنسبة إلى السبب والملزوم ، فلأنّ الأصل في كلّ خبر للعدل متعلّق بموضوع خارجي هو منشأ لحكم شرعي وطريق إلى استنباطه ، أو مقدّمة من مقدّمات الاستنباط وشرط من شروط طريقه. الحجّيّة وجواز العمل.

وعمدة الدليل عليه إجماع العلماء فتوى وعملا ، ولذا تراهم في المطالب الرجاليّة المتعلّقة بالآحاد يعتمدون على أخبار الآحاد من غير نكير وبلا خلاف.

بناء على أنّ مخالفة صاحبي المعالم (٣) والمدارك (٤) ـ حيث يعتبران التعدّد في التزكية ،

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٢١٨ ـ ٢٢٤.

(٢) كشف القناع : ٤٠٠ ـ ٤٠٥.

(٣) معالم الدين : ٢٠٤.

(٤) مدارك :

١٨٩

فلا يعتمدان على نقل الواحد ـ غير قادحة ، لكونها ناشئة عن اشتباه موضوعي ، وهو توهّم كون الإخبار بالعدالة من باب الشهادة لا الرواية ، وكذلك لا يتأمّلون في قبول العدل الواحد في تحرير أسئلة الروايات ، وحكاية الوقائع المأخوذة في السؤالات الّتي سئل عنها الإمام وصدر على طبقها الجواب.

وكذلك في ضبط أسانيد الروايات وذكر الوسائط وغير ذلك ، فإنّها من الموضوعات الخارجيّة الّتي هي من مقدّمات استنباط الحكم الشرعي وشروط طريقه ، وأنت خبير بما فيه.

أمّا أوّلا : فلكثرة الموهنات القادحة في التعويل على نقل السبب نفسه ، وقد تقدّم الإشارة إلى جملة منها ، فيقوى بها احتمال الخطأ في النقل وكونه لمجرّد وهم ، ومفاد أدلّة حجّيّة خبر العدل هو عدم الالتفات من جهة عدالته إلى احتمال الكذب في خبره ، لا عدم الالتفات إلى احتمال الخطأ والوهم في نقله ، بل كثيرا مّا توجب خروجها عن ظهورها في نقل السبب في خصوص شخص المسألة الفرعيّة ، كما هو المقصود بالأصالة ، لقوّة احتمال نقله وهما من ظاهر الروايات المدوّنة في كتب الأصحاب بتخيّل أنّ ذلك ملزوم لأن يتّفق على العمل به الأصحاب ، أو من قاعدة مجمع عليها أو أصل مجمع عليه أو نحو ذلك ، ممّا يستلزم الإجماع فيه الإجماع في شخص المسألة ، كما لو فرضنا الإجماع على جواز اجتماع الأمر والنهي في المسألة الاصوليّة مثلا ، فإنّه لا يلازم الإجماع على صحّة الصلاة في المكان المغصوب كما هو واضح.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ثبوت السبب والملزوم بخبر العدل القائم مقام العلم بهما ، إنّما يفيد في ترتيب المسبّب واللازم عليهما بعد الفراغ عن إثبات السببيّة للسبب والملازمة بين الملزوم وما يفرض لازما.

وقد منعناهما مشروحا في الإجماع المحصّل لجميع المذاهب في طريق الكشف ، فكيف بالإجماع المنقول.

وملخّص المنع : أنّ الملازمة بين اتّفاق العلماء وقول الحجّة ، لابدّ وأن تكون إمّا عقليّة أو شرعيّة أو عاديّة

أو اجتهاديّة ـ وهي الّتي تثبت بانضمام المقدّمات النظريّة والاجتهادات الظنّيّة إلى الاتّفاق ـ ولا سبيل إلى شيء منها.

أمّا الاولى : فلما عرفت من قصور دليلها وهو دليل اللطف.

وأمّا الثانية : فلأنّه لا دليل عليها إلاّ ما تقدّم من الأخبار ، وقد عرفت قصور دلالتها أيضا.

١٩٠

وأمّا الثالثة : فلعدم حكم للعادة بموافقة قول الحجّة إلاّ على تقدير اتّصال سلسلة الاتّفاق بأعصار الأئمّة عليهم‌السلام ، وتحقّقه في الإجماعات غير محرز ، إن لم نقل بمعلوميّة خلافه في الأكثر.

نعم إنّما يسلّم قضائها في الأكثر بوجود دليل معتبر للمجمعين لو عثرنا عليه لعملنا به ، ولكنّه لا يلازم مطابقة الواقع.

وأمّا الرابعة : فلأنّ غاية ما ثبت بالمقدّمات الظنّيّة الاجتهاديّة المنضمّة إلى الاتّفاق في محلّ وجودها ، إنّما هي الملازمة الظنّيّة وهي لا تزيد على الظنّ الاطمئناني بالحكم الواقعي.

ولا كلام لنا في الحجّيّة بهذا الاعتبار كما نبّهنا عليه سابقا.

ومع الغضّ عن ذلك كلّه نقول : بأنّ المخبر [ به ] في المقام لكونه اتّفاقا في النظريّات التوقيفيّة الناشئة عن الأدلّة الظنّيّة أو الأمارات التعبديّة ، فهو ليس بملزوم دائمي ولا غالبي للواقع أو قول الإمام ، الملازم له على تقدير كونه محقّقا ومعلوما لنا ، فكيف به على تقدير كونه منقولا ، وإن قلنا بحجّيّة نقل العدل بنوعه ، لأنّ حجّيّته بالنسبة إلى مطلوب المقام إنّما يثمر على تقدير ثبوت الملازمة الدائميّة بين المنقول المدّعى كونه كاشفا وبين المكشوف عنه. وينبغي ختم المسألة برسم امور :

الأمر الأوّل :

إنّ الإجماع المنقول إن قلنا بكونه نقلا للسنّة أو نقلا لملزوم السنّة ، هل يطابق الرواية المصطلحة في كونها حكاية لقول المعصوم أو فعله أو تقريره؟ أو أنّه حكاية للسنّة بالمعنى الأخصّ ، أعني قول المعصوم فقط؟

الظاهر أنّه يختلف على حسب اختلاف المذاهب في كيفيّة كاشفيّة الإجماع ، فعلى طريقة القدماء الّذين يعتبرون دخول شخص الإمام في المجمعين ، وقوله في أقوالهم ، كان نقل الإجماع حكاية لقول المعصوم خاصّة.

وعلى طريقة الشيخ كان حكاية لتقرير المعصوم ، لأنّ الإجماع على هذه الطريقة بانضمام دليل اللطف كاشف عن تقرير الإمام ، الكاشف عن رضاه بالمجمع عليه.

وعلى طريقة المتأخّرين كان حكاية للسنّة بالمعنى الأعمّ ، لأنّ الإجماع على هذه الطريقة باعتبار حكم العادة وغيره ، يكشف عن كون المجمع عليه مأخوذا عن رئيسهم الإمام ، وأخذ شيء من الإمام قد يستند إلى قوله ، وقد يستند إلى فعله ، وقد يستند إلى تقريره ، فيوافق الرواية المصطلحة في كونها أعمّ من حكاية قول المعصوم أو فعله أو تقريره.

١٩١

الأمر الثاني : [ في أنّ الإجماع المحصّل هل هو من الأدلّة اللفظيّة أو اللبّية؟ ]

إنّ الإجماع حيثما نقول بحجّيّته من باب كونه نقلا للسنّة ، أو نقلا لملزوم السنّة ، أو مفيدا للظنّ الاطمئناني ، دليل لفظي يجري عليه جميع أحكام اللفظ من عموم وخصوص ، وإطلاق وتقييد ، وبيان وإجمال ، وانصراف وعدمه ، ويقبل التخصيص أيضا ، هذا ممّا لا كلام فيه.

وإنّما الكلام في الإجماع المحقّق ـ إن قلنا بكونه كاشفا ـ فهل هو من الأدلّة اللفظيّة ـ كما اشتهر في الألسنة ـ أو اللبّيّة؟

ويظهر الفائدة في إجراء أحكام اللفظ فيه أيضا ، والّذي يقتضيه التأمّل الصادق أنّه يمكن كونه لفظيّا وكونه لبّيا على جميع الطرائق ، ويختلف ذلك باعتبار معقد الإجماع.

أمّا على طريقة القدماء : فإن حصل الاتّفاق على قضيّة ملفوظة وعبارة مخصوصة ، كما لو اتّفقوا على الإفتاء بعبارة « كلّ كلب نجس » ، أو « الكلب نجس » ، كان دليلا لفظيّا باعتبار لفظيّة معقده من باب وصف الشيء بحال متعلّق الموصوف ، فإنّ العبارة المذكورة قد [ علمنا ] بصدورها من الإمام بواسطة الإجماع الكاشف ، فتكون كما لو سمعناها منه مشافهة ، أو علمنا بصدورها منه بتواتر ونحوه ، كما في المتواترات اللفظيّة ، فتقبل التخصيص بإخراج البحري والتقييد بالبرّي ، كما تقبل دعوى الانصراف إلى البرّي ، وإن حصل على أمر معنوي ، وهو مدلول العبارة المذكورة ومضمونها ، وهو نجاسة الكلب من غير أن يكون هناك لفظ ، كان دليلا لبّيا فلا يقبل شيئا من أحكام اللفظ ، فالقول بأنّ الإجماع غير قابل للتخصيص لكونه دليلا لبّيّا منزّل على هذا الوجه.

وأمّا على طريقة الشيخ : فلأنّ الإجماع كاشف عن تقرير المعصوم ، والتقرير على ما حقّق في محلّه يكون في الأقوال ، كما لو سمع عبارة « الكلب نجس » من قائل ولم ينكر عليه بلا عذر من خوف أو تقيّة ، فيكشف عن صدقه ومطابقته الواقع ، كما يكون في الأفعال فيكشف عن جوازه وإباحته ، وفي الاعتقادات كأن يعتقد أحد بعينيّة صفاته تعالى فيكشف عن حقيّته ، وحينئذ فلو فرض حصول الإجماع على نحو العبارة المذكورة ، وكشف عن تقرير الإمام إيّاهم عليها كان لفظيّا ، ولو فرض حصوله على مدلولها من غير أن يكون هناك لفظ ، بأن تواردت فتاويهم بعبارات مختلفة على حكم واحد كان لفظيّا [ لبيّا ](١).

وأمّا على طريقة المتأخّرين : فقد يقال : بأنّه لا يكون إلاّ لبّيّا ، إذ المفروض كشفه عن حقيّة

__________________

(١) وفى الأصل « لفظيّا » وهو سهو ، والصواب ما أثبتناه في المتن كما يعطيه التأمّل فى السياق.

١٩٢

المورد باعتبار حكم العادة بامتناع التواطؤ على الخطأ ، وفيه : ما لا يخفى ، إذ العادة عند أهل هذه الطريقة الحكم بأخذ المورد عن الرئيس المعصوم ، ولا ريب أنّ المأخوذ عن المعصوم قد تكون قضيّة ملفوظة ، وقد يكون أصل الحكم ، فيجري الاعتباران على هذه الطريقة أيضا.

وما قد يتراءى في بعض العبارات في مقام بيان قبول الإجماع التخصيص والتقييد ـ من أنّ الإجماع ثبت على القاعدة ، وهي قابلة لكلّ من التخصيص والتقييد ، فتطرقهما إلى مورده لا ينافي اللبّيّة ـ على إطلاقه غير سديد.

لأنّ قبولهما إنّما يكون فيما لو كان المورد قضيّة ملفوظة ، وحينئذ يخرج عن اللبّيّة ، إلاّ أن يقال : بأنّها اصطلاح في الإجماع وإن فرض مورده اللفظ ، أو يفرض حصول الإجماع على أصل تعليقي ، وهو حكم ينوط ثبوته بعدم الدليل على الخلاف ، كما لو فرض حصول الإجماع على أصالة الإباحة في الأشياء ما لم يعلم دليل على الحظر ، أو على أصالة الطهارة في الأشياء ما لم يعلم دليل على النجاسة ، فإذا علم ورود نصّ على حرمة شيء أو نجاسته كان مخرجا عن الأصل المذكور ، وهذا تخصيص في الإجماع ولا ينافي لبّيّنه.

ويزيّفه : أنّ هذا من باب الإخراج [ عن الموضوع ] كالاستثناء المنقطع ، لا عن الحكم ليكون من التخصيص المصطلح ، وهذا هو الممنوع في الأدلّة اللبّيّة لا ما يفيد الخروج الموضوعي ، فليتدبّر.

وبما حققّناه يعلم أنّ الإجماع حيثما حصل في العبارة كما يكون دليلا لفظيّا كذلك يكون دليلا ظنّيّا من حيث الدلالة ، وإن كان قطعيّا من حيث السند وهو صدور العبارة كالكتاب والخبر المتواتر ، بخلاف ما حصل في المعنى فإنّه قطعي سندا ودلالة.

الأمر الثالث :

الإجماع ينقسم إلى بسيط وهو : اتّفاق الامّة على قول واحد ، ومركّب وهو : اتّفاق الامّة على قولين يلزمه نفي الثالث المفصّل أو المبائن ، ومناط الحجّيّة فيهما على الكشف عن قول الحجّة واحد ، فاختيار القول الثالث المنفي ـ الّذي يقال له : خرق الإجماع المركّب ـ حرام عندهم ، لكونه مخالفة لقول الحجّة ، وهذا ممّا لا غرض فيه ، بل الغرض الأصلي هنا بيان طريق الاستدلال به ولمّه.

فنقول : إنّ الفقيه إذا وجد في المسألة الفرعيّة إجماعا مركّبا متضمّنا لاتّفاق الفريقين على نفي التفصيل ، فإمّا أن يجد على أحد شطريه دليلا اجتهاديّا أو لا.

١٩٣

فعلى الأوّل : ينهض الدليل الاجتهادي الموجود مرجّحا لذلك الشطر ، ويتبعه الشطر الآخر لملازمة شرعيّة بينهما أثبتها الإجماع ، فإنّ مرجع الإجماع على نفي القول الثالث ـ وهو التفصيل بين المسألتين في الحكم ـ إلى الإجماع على الملازمة المذكورة ، فمرجع الاستدلال إلى الإجماع المركّب النافي للقول بالفصل ـ الّذي يقال له : الإجماع على عدم الفصل أيضا ، وقد يعبّر عنه مسامحة بعدم القول بالفصل ـ إلى الاستدلال بهذه الملازمة ، وذلك كما في مسألتي تقصير الصلاة وإفطار الصوم بالمسير إلى أربعة فراسخ المختلف فيهما عند الامّة على قولين ، وجوب كلّ منهما ، وعدم جواز كلّ منهما ، مع اتّفاق الفريقين على نفي الفصل وهو وجوب الأوّل وعدم جواز الثاني أو بالعكس ، ومعناه الإجماع على الملازمة بين وجوب التقصير ووجوب الإفطار ، والملازمة بين عدم جواز الإفطار وعدم جواز التقصير ، فلو ورد نصّ في إحدى المسألتين كقوله : « قصّر صلاتك بأربعة فراسخ » مثلا دلّ بالمطابقة على وجوب التقصير وبالالتزام على وجوب الإفطار ، ودليل الملازمة هو الإجماع المركّب ، فلو ورد نصّ على عدم جواز الإفطار إنعكس الأمر ، ولو وجد النصّان معا وقع التعارض بينهما بالعرض من جهة الملازمة المذكورة الثابتة بالإجماع المركّب لا بالذات لتعدّد موضوعيهما ، فلابدّ من العلاج بما هو طريقة المقرّر في باب التعادل والتراجيح.

وعلى الثاني : فإن وجد أصل فقاهي في أحد الطرفين مؤدّاه إثبات الوجوب أو نفيه ، فلا إشكال أيضا في أنّه يلحق به الطرف الآخر استنادا إلى الملازمة بينهما في كلّ من الإثبات والنفي ، لئلاّ يلزم طرح قول الإمام والمخالفة القطعيّة للواقع بلا مسوّغ لها ، وإن وجد الأصل الفقاهي في كلّ من الطرفين فإن اتّفقا في المؤدّى فلا إشكال أيضا إذ لا يلزم من إعمالهما مخالفة ، وإن اختلفا في المؤدّى ففي إعمالهما والعدم إشكال ، من عموم أدلّة الاصول المقتضي لإعمالهما ، ومن لزوم مخالفة العلم الإجمالي في العمل ، فإنّ إعمالهما يوجب الفصل بين المسألتين ، وهو مخالفة قطعيّة وطرح لقول الإمام في إحدى المسألتين ، ومبنى الإشكال على أنّه كما أنّ القطع بمخالفة قول الإمام في مرحلة الواقع غير جائزة ، فهل هي في مرحلة الظاهر أيضا غير جائزة أو جائزة؟

وقد يقال : بأنّه لا ضير فيه عملا بالأصلين ، وغايته لزوم مخالفة العلم الإجمالي وجوازه في الشريعة غير عزيز بل كثير ، وعزي إلى شريف العلماء وصاحب الفصول.

ويزيّفه : أنّ جواز مخالفة العلم الإجمالي إنّما ثبت في الشبهات [ الموضوعيّة ]

١٩٤

وفي المرافعات وكلامنا في الشبهات الحكميّة ، والحقّ منع عموم أدلّة الاصول بحيث يلزم من إعمالها المخالفة القطعيّة للواقع ، فإنّها مقيّدة بجهالة الواقع وعدم العلم به تفصيلا وإجمالا.

وقضيّة ذلك كون مخالفة العلم الإجمالي اللازمة من إعمال أصل أو أصلين محرّمة.

وحينئذ ففي محلّ البحث يلاحظ الأصلان المختلفان في المؤدّى ، فإن كانا من باب الوارد والمورود يقدّم الوارد ولا يلتفت إلى الآخر (١) ، وإلاّ فلا محيص من البناء على التخيير في العمل والأخذ بأحد الأصلين وطرح الآخر حذرا عن مخالفة العلم الإجمالي (٢).

الأمر الرابع :

قد يلحق بنقل الإجماع في مسألة نقل التواتر في خبر في ثبوت الحجّيّة بذلك النقل ، فكما يثبت نقل الواحد حجّيّة الإجماع المنقول ، على معنى جواز التمسّك به في استكشاف قول المعصوم وترتيب آثار الواقع على الحكم المجمع عليه ، فكذلك يثبت بنقله التواتر في خبر حجّيّته ، على معنى الاستناد إلى التواتر المنقول فيه في استكشاف صدقه وترتيب أحكام الواقع على المخبر به.

ويظهر ثمرة هذا البحث في القراءات الثلاث المعروفة عن مشايخها أبي جعفر وخلف ويعقوب ، فإنّ الأصحاب بعد ما اتّفقوا على كون القراءات السبع متواترة ، اختلفوا في تواتر

__________________

(١) وذلك كأصالة عدم تملّك الامّ بالإرث لما زاد على ثلاث الباقي أو سدسه بعد إخراج فريضة الزوج أو الزوجة من النصف أو الربع في مسألتي ما لو ترك الميّت أبوين مع الزوج أو الزوجة الواردة على أصالة عدم تملّك الأب بالإرث من حيث القرابة للزايد ممّا بقي بعد إخراج فريضة الامّ ، فإنّ ذا القرابة يستحقّ الإرث في ما بقي من ذي الفريضة ، فاستحقاقه مترتّب على استحقاق ذي الفريضة ومتفرّع على بقاء ما بقي منه ، فيكون الشكّ في تملّكه الزايد مسبّبا عن الشكّ في تملّك ذي الفريضة كالامّ لما زاد على ثلث الباقى وسدسه بعد إخراج فريضة الزوج أو الزوجة ، ففيما لو كانت الفريضة من إثنى عشر في الأبوين مع الزوج يحكم باستحقاق الامّ للاثنين وهو ثلث الستّة الباقية لأصالة عدم تملّكها الزايد عليهما وهو الاثنان ، فيستحقّ الأب الأربعة الباقية ولا يعارضها أصالة عدم تملّكه لما زاد على الاثنين ، لورودها عليها السببيّة شكها. [ انظر حاشية المصنّف رحمه‌الله على القوانين : ٢٥٢ ]

(٢) كاستصحاب بقاء المال مع أصالة عدم حصول المال في مدعي الفقر لتلف مال ومدّعيه لعدم ماله له لأخذ الزكوة ، بناء على أنّ الامّة بين من قال بأنّه يقبل دعواه بلا بيّنة أو يمين في المسألتين ومن قال بأنّه لا يقبل فيهما إلاّ ببيّنه أو يمين من غير فصل بينهما ، ففي إعمال الأصلين معا كلّ في مورده المستلزم للتفصيل بين المسألتين وعدمه اشكال ... الخ [ حاشية المصنف على القوانين : ٢٥٢ ].

١٩٥

الثلاث الباقية ، فعن الشهيد في الذكرى (١) والعلاّمة (٢) إثباته ، وعن المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة (٣) وتلميذه في المدارك (٤) نفيه.

ويظهر فائدة تواترها في جواز قراءة القرآن في الصلاة بإحدى هذه الثلاث ، نظرا إلى قاعدتهم المعروفة من « أنّ القرآن متواتر فما نقل آحادا فليس بقرآن ».

وعن ثاني الشهيدين في روض الجنان (٥) والمحقّق الثاني في جامع المقاصد (٦) تجويزه ، استنادا إلى إخبار الشهيد والعلاّمة بكونها متواترة ، وعلّلاه بأنّ هذا لا يقصر عن ثبوت الإجماع بخبر الواحد ، فيجوز القراءة بها ، وفيه نظر بل منع واضح.

أمّا أوّلا : فلمنع الحكم في الأصل ، وهو حجّيّة الإجماع المنقول بخبر الواحد كما تقدّم الكلام فيه مشروحا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الأصل على تقدير تسليم حجّيّته ، فإنّما نسلّمها على تقدير كونه ملزوما واقعيّا لقول الحجّة عقلا أو شرعا أو عادة لا مطلقا ، بخلاف الفرع فإنّ الخبر المتواتر مناط حجّيّته ـ لمن تحقّق عنده تواتر ـ إنّما هو العلم بصدقه الحاصل من الخبر بنفسه ، فما لم يحصل العلم بصدقه منه بنفسه فهو داخل في خبر الواحد ، وإن تعدّد بل كثر مخبروه.

وعلى هذا فلا يجوز متابعة القراءات السبع في الصلاة إلاّ بتقدير ثبوت قرآنيّتها ، بتحقّق التواتر أو العلم بالتواتر فيها الحاصل من جهة النقل المفيد للعلم أو التسامع والتظافر.

ولا ريب أنّ إخبار الشهيد والعلاّمة بتواترها قاصر عن إفادة العلم به.

وقضيّة ذلك أن يكون إخبار كلّ واحد من مشايخها بما اختصّ به من القراءة ـ على تقدير عدم كونه من اجتهاده ـ من باب خبر الواحد ، لعدم تحقّق تواتره عندنا ، ولا العلم بتواتره الحاصل من جهة النقل وغيره.

وأمّا ثالثا : فلأنّ ثبوت حجّيّة الخبر بنقل التواتر فيه أو ثبوت التواتر فيه بخبر الواحد ممّا لم تحقّق معناه ، سواء اريد به كون الخبر المدّعى كونه متواترا بحيث يترتّب عليه آثار الصدق وعلى المخبر به أحكام الواقع ، أو كونه بحيث يترتّب عليه أحكام الخبر المتواتر لو

__________________

(١) الذكرى : ١٨٧.

(٢) لم نعثر عليه في كتب العلاّمة ، بل وجدنا خلافه ، انظر نهاية الإحكام : ١ : ٤٦٥ ـ والتذكرة ٣ : ١٤١.

(٣) مجمع الفائدة : ٢ : ٢١٧ ـ ٢١٨.

(٤) المدارك ٣ : ٣٣٨.

(٥) روض الجنان : ٢٦٢.

(٦) جامع المقاصد ٢ : ٢٤٦.

١٩٦

كان له أحكام خاصّة ، كالنذر فيما نذر حفظ عدّة أخبار متواترة فحفظ أخبار ادّعي تواترها ، والظهار فيمن علّق ظهار زوجته على إتيانها له بخبر متواتر فأخبرته بقراءة لأحد المشايخ الثلاث ، وذلك لأنّ التواتر صفة في الخبر تلحقه باعتبار إفادته بنفسه العلم بصدقه ، وقد حقّق في محلّه أنّه لا يكون كذلك إلاّ بواسطة كثرة المخبرين ليحكم العادة من جهتها بامتناع تواطئهم على الكذب ، وقد حقّق أيضا أنّ خصوصيّات المقامات المعبّر عنها بالقرائن الداخلة الراجعة إلى المخبر أو السامع أو المخبر به أو هيئة الخبر ـ حيث أثّرت في حصول العلم ـ لا تنافي مدخليّة الكثرة فيه.

ولا ريب أنّ هذه الكثرة الّتي لها مدخليّة في العلم بالصدق ، ليس لها عدد معيّن ولا حدّ منضبط حتّى يؤخذ به في مقام نقل التواتر ، بل يختلف على حسب اختلاف القرائن وخصوصيّات المقامات الراجعة إلى المخبرين أو السامعين ، وبذلك يختلف حال الأشخاص والأزمان والموارد في حصول العلم بصدق الخبر بملاحظة كثرة فيه وعدمه ، فربّ كثرة في المخبرين يفيد العلم لشخص ولا يفيده له مثلها في مخبرين آخرين ، وربّ كثرة توجب العلم لشخص ولا يفيد مثلها لشخص آخر ، وربّ كثرة توجبه في زمان ولا يوجبه مثلها في زمان آخر ، وربّ كثرة توجبه في مورد خاصّ من المخبر به ولا يوجبه مثلها في مورد آخر ، وعلى هذا فكلّ ما لم يحصل العلم بصدقه من هذه الفروض ونظائرها ـ ولو بملاحظة كثرة مخبريه ـ فهو لغير العالم بصدقه مندرج في خبر الواحد ، فكيف يترتّب عليه آثار الصدق ، وعلى المخبر به من جهة هذا الخبر أحكام الواقع من غير جهة أدلّة حجّيّة خبر الواحد؟

وكيف يمكن أن يرتّب عليه أحكام الخبر المتواتر من لم يتحقّق عنده كونه متواترا ، ولم يحصل له العلم أيضا بتواتره؟

نعم لو كان الخبر المدّعى تواتره ملزوما عاديّا للصدق في الواقع ، بحيث لم يتفاوت الأشخاص في إفادته العلم بصدقه ـ ولا يكون كذلك إلاّ إذا كانت خصوصيّات المقامات ملغاة عن التأثير باعتبار استقلال نفس الكثرة في التأثير ـ كان لما ذكر وجه ، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون كلّ ما ثبت كونه متواترا عند أحد متواترا عند غيره أيضا ، أو ملزوما واقعيّا للصدق بحكم العادة.

وبالجملة : نقل التواتر لا يفيد لنا كون الخبر المنقول تواتره حجّة باعتبار [ ه ] ، وإن جعلنا أصل النقل حجّة ، لأنّ أصل التواتر من جهة العدد كثرة وقلّة يتفاوت. ويختلف

١٩٧

باختلاف الأنظار والأزمان والأمكنة والأحوال والموارد ، إذ قد عرفت أنّ ربّ عدد معيّن يفيد العلم لأحد ولا يفيد مثله لغيره ، وربّما ينعكس الأمر ، وربّ عدد معيّن يفيده في زمان أو مكان أو حالة ولا يفيد مثله في غير هذا الزمان وهذه الحالة وهذا المكان ، وربّ عدد يفيده في مورد ولا يفيد مثله في غير ذلك المورد ، فليس له انضباط ولا انتظام ، ليكون ذلك معيارا للمطلوب ، ومعتبرا في الخبر عند النقل ، فيترتّب عليه أحكامه ولوازمه ، فمع ذلك كيف يكون مجرّد التواتر المنقول بخبر الواحد ملزوما واقعيّا للصدق وسببا عاديّا لمطابقة الواقع؟ مع أنّه كثيرا مّا يتّفق كون ذلك الّذي نقله هذا العادل منوطا بعدد عنده لا يفيدنا العلم بصدقه ، فكيف نصدّقه في الإخبار بالتواتر ونرتّب على الخبر لمجرّد إخباره أحكام المتواتر؟

وثالثها

أي ثالث ما ادّعي خروجه عن أصالة التحريم :

الشهرة الفتوائيّة

الحاصلة من مصير الأكثر إلى قول في المسألة ، سواء قابله قول آخر للأقلّ أو لا من جهة سكوت الأقلّ ، أو لعدم فتواه ، والمقصود بالبحث أيضا خروج ذلك من باب الظنّ الخاصّ لئلاّ يحتاج في إثبات حجّيّتها إلى فتح باب الظنّ المطلق وإثبات انسداد باب العلم ، فقد يتوهّم الحجّيّة فيها على الوجه المذكور استنادا إلى وجهين :

أحدهما : فحوى ما دلّ على حجّيّة خبر الواحد ، فإنّ الشهرة تفيد من الظنّ ما لا يفيده الخبر ، فيكون الظنّ الحاصل منها أقوى من الظنّ الحاصل من الخبر ، فتكون أولى بالحجّيّة.

وثانيها : توهّم الدلالة من مرفوعة زرارة ومقبولة عمر بن حنظلة الواردتين في بيان المرجّحات في الخبرين المتعارضين.

ففي أوليهما : « قال زرارة : قلت جعلت فداك يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان فبأيّهما نعمل؟ قال : خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر ، قلت : يا سيدي أنّهما معا مشهوران مأثوران عنكم ، قال : خذ بما يقوله أعدلهما (١) ... » إلى آخره.

بناء على كون الموصول كناية عن المشهور مطلقا رواية كان أو فتوى ، أو دلالة إناطة الحكم بالاشتهار على أنّ المناط هو الشهرة في نفسها وإن كانت في الفتوى.

__________________

(١) مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٣ / ٢.

١٩٨

وفي ثانيتها : قوله عليه‌السلام : ـ بعد ما فرض السائل تساوي الراويين في العدالة ـ « ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الّذي حكما به المجمع عليه بين أصحابك ، فيؤخذ به ويترك الشاذّ الّذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه وإنّما الامور ثلاثة ـ إلى أن قال السائل ـ قلت : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم (١) ... إلى آخره.

بناء على أنّ المراد بالمجمع عليه في الموضعين هو المشهور ، بقرينة إطلاق غير المشهور على ما يقابله في قوله عليه‌السلام : « ويترك الشاذّ الّذي ليس بمشهور » ، والتعليل يدلّ على أنّ المناط هو الشهرة وإن كانت في الفتوى ، ولا خفاء في ضعفهما.

أمّا ضعف الأوّل فتارة : لمنع الحكم في الأصل ، فإنّ حجّيّة خبر العادل ليست من حيث الوصف أعني الظنّ ، بل من حيث الذات أعني عنوان الخبريّة ، وقد يعبّر عنها بالحجّيّة من باب السببّية ، وقضيّة الدليل هو الحجّيّة من حيث إفادة الظنّ لا من حيث السببّية كما في البيّنة.

واخرى : منع الحكم في الفرع بإبطال دعوى الأولويّة ، فإنّ هذه الأولويّة إمّا أن يراد بها ما هو نظير الأولويّة المعتبرة في القياس بطريق أولى ، أو ما هو نظير الأولويّة المعتبرة في مفهوم الموافقة.

وأيّا مّا كان فهي لا تنطبق على شيء منهما.

أمّا الأوّل : فلأنّ المعتبر في أولويّة القياس بطريق أولى كونها قطعيّة ، ولا قطع هنا بل غايته كونها ظنّيّة.

وأمّا الثاني : فلأنّ المعتبر في الأولويّة المعتبرة في مفهوم الموافقة كونها عرفيّة ، منساقة في متفاهم العرف من ظاهر اللفظ الوارد في بيان الحكم المنطوقي ، كما في قوله تعالى : ( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ )(٢) وهي فيما نحن فيه ليست كذلك ، بل هي أولويّة اعتباريّة بشهادة الاستناد في إثباتها إلى أقوائيّة ظنّ الشهرة من ظنّ الخبر ، فالأولويّة المدّعاة اعتباريّة ظنّيّة ، ولا دليل على حجّيّتها من باب الظنّ الخاصّ حتّى يتمّ الاستدلال بها على حجّيّة الشهرة من باب الظنّ الخاصّ ، ولو استند في حجّيّتها إلى دليل الانسداد لزم من الاستناد إليها إثبات الظنّ الخاصّ بالظنّ المطلق ، وهذا كما ترى.

هذا مع ما قيل من أنّ الأولويّة الظنّيّة أوهن بمراتب من الشهرة ، فكيف يتمسّك بها في حجّيّتها؟

وأمّا ضعف الوجه الثاني : فلوضوح منع عموم الروايتين للشهرة في الفتوى أيضا ، بل

__________________

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٠٦ / ١ ، الباب ٩ من ابواب صفات القاضي.

(٣) سورة الإسراء : ٢٣.

١٩٩

هما في متفاهم العرف ظاهرتان ـ كالصريح ـ في بيان حكم للشهرة في الرواية ، فإنّ السؤال الوارد فيهما سؤال عن مرجّح الخبرين المتعارضين ، وقد جعل عليه‌السلام في الجواب الشهرة من جملة المرجّحات ، من غير نظر في ذلك إلى الشهرة في الفتوى أصلا.

ألا ترى أنّه لو سئل أحد وقيل له : « أيّ المسجدين أحبّ إليك »؟ فإن قال : « ما كان اجتماع الناس فيه أكثر » فهو لا يدلّ على أنّه يحبّ كلّ مكان يكون اجتماع الناس فيه أكثر ، بيتا كان أو سوقا أو غيرهما ، مع أنّ في نفس الروايتين باعتبار السابق واللاحق ما يكون قرينة على اختصاص الخطاب سؤالا وجوابا بشهرة الرواية ، ومن ذلك قوله في الاولى : « أنّهما معا مشهوران مأثوران عنكم » (١) وفي الثانية : « وإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم » (٢) فإنّ الشهرة في الشهرة في الفتوى لا يلزمها أن يقابلها فتوى اخرى بالخلاف ، كما عرفت سابقا عن كونها مشهورة أيضا ، مع أنّ حصول الشهرة في طرفي النقيض في المسألة الشخصيّة محال ، بخلاف حصولها في الخبرين المتعارضين.

وتوجيهه : بالشهرة عند القدماء والشهرة عند المتأخّرين ، يدفعه : ظهور المعيّة في كون مفروض السائل مشهوريّة المتقابلين في زمان واحد ، ولا يتوجّه إلى ما ذكرناه تخصيص العامّ بالمورد ، لأنّه تحصيل للعامّ في المورد ، ومعناه الأخذ بعمومه بقدر المورد ، فالسؤال والجواب متطابقان في الاختصاص بالشهرة في الرواية ، فما تقدّم في بيان وجه الاستدلال من دعوى عموم الموصول ، أو إناطة الحكم بالاشتهار مطلقا ، بعيد عن السياق سؤالا وجوابا.

ومن غرائب ما قيل في المقام هو : أنّ حجّيّة الشهرة ممّا يستلزم وجوده عدمه وهو محال ، فيكون الحجّيّة محالا.

أمّا الملازمة : فلأنّ المشهور بين العلماء الأعلام عدم حجّيّة الشهرة ، فهذه أيضا شهرة ، وحجّيّتها من حيث كونها من أفراد الشهرة المطلقة تستلزم عدم حجّيّة الشهرة المطلقة.

وفيه أوّلا : أنّ الّذي يقول بحجّيّة الشهرة يخصّ دعواه بالشهرة في المسائل الفرعيّة ، فهو لا يقول بحجّية الشهرة في المسألة الاصوليّة ، حتّى يتوجّه إليه المحذور.

وثانيا : أنّ مستند القول بعدم حجّيّة الشهرة هو الأصل وهو دليل تعليقي ، فإذا ثبت الحجّيّة بدليل كما يدّعيه القائل بها يرتفع الأصل المذكور ، ولازمه سقوط القول المشهور في المسألة الاصوليّة ، ورجوعه إلى القول بالحجّيّة ، فلا شهرة حينئذ في جانب عدم

__________________

(١) مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٣ / ٢.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٠٦ / ١ ، ب ٩ من أبواب صفات القاضي.

٢٠٠