تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٥٥٥

وأمّا الصورة الخامسة : فلسقوطهما أيضا عن الحجّيّة بالنسبة إلى مورد التعارض ، لأنّ أصالة عدم القرينة الّتي هي مناط الحجّيّة في كليهما ، معارضة في كلّ منهما بمثلها في الآخر.

ومن المقرّر في باب تعارض الأصلين أنّهما مع عدم حكومة أحدهما على الآخر يتساقطان ، فيتعيّن الرجوع إلى قاعدة أو أصل كان مرجعا لولا هذان المتعارضان ولا يسوغ العمل بالظنّ الموافق لأحدهما في هذه الصورة وسابقتها والصورة الاولى ، كالحاصل من شهرة النجاسة في بول الطير الغير المأكول وخرئه ، لأنّه حينئذ يصير مرجعا لا مرجّحا ، والمفروض حرمة العمل به بحكم أصالة التحريم.

والحاصل : أنّ مدار الدلالة اللفظيّة على الظهور ، ومناط ترجيح المتعارضين باعتبار الدلالة ـ على معنى تعارض الظاهرين ـ أظهريّة أحدهما من الآخر الّتي يعبّر عنها بالأقوائيّة ، والظنّ المطلق الحاصل من الأمارة الخارجيّة على طبق أحد الظاهرين لا يعطيه الأظهريّة ، وإن قلنا به من باب الظنّ النوعي ، فلا يكون مرجّحا لأحد الظهورين ، فالتعويل عليه يرجع إلى جعله مرجعا.

وأمّا المقام الثاني : فترجيح وجه الصدور بالظنّ الغير المعتبر الحاصل من الشهرة أو الإجماع المنقول أو غيرهما ، معناه ترجيح أصالة عدم التقيّة في أحد المتعارضين عليها في المتعارض [ الآخر ] ، فإنّها المرجع لإحراز وجه صدور الخبر ، وهو أصل معمول به عند الأصحاب مجمع عليه لديهم ، فلو ورد خبر معتبر سندا واحتمل فيه وروده مورد التقيّة لموافقته بعض مذاهب العامّة يدفع بذلك الأصل ، وإذا ورد خبران متعارضان واحتمل في كلّ منهما الورود تقيّة لموافقة كلّ قولا من قولي العامّة في المسألة ، كما لو وردا في الوضوء ودلّ أحدهما على وجوب مسح الرجلين فيه ، والآخر على وجوب غسلهما ، بحيث علمنا بورود أحدهما على وجه التقيّة ، وحصل من شهرة وجوب المسح عند أصحابنا ، أو من الإجماع المنقول فيه الظنّ بصدور الخبر الموافق له لبيان الواقع وإظهار الحق وصدور الخبر المخالف على وجه التقيّة ، فمعنى ترجيح الأوّل على الثاني ترجيح أصالة عدم التقيّة فيه عليها في الثاني ، لأنّها المرجع في إحراز وجه الصدور وعليها مدار حجّيّة الخبر.

فنقول : إنّ هذا الأصل إن جعل بمعنى أصالة العدم في كلّ حادث ، نظرا إلى أنّ الصدور على وجه التقيّة لابدّ له من موجب ، وهو الخوف من ضرر المخالفين ، وهذا الخوف مانع من إظهار الحقّ وبيان الواقع ، ويشكّ في حدوثه والأصل عدمه ، فهي في كلّ من الخبرين

٤٢١

معارضة بمثلها في الخبر الآخر فيتساقطان ، لعدم حكومة إحداهما على الاخرى ، فيبقى كلّ منهما بلا مرجع لإحراز كون وجه صدوره إظهار الحقّ وبيان الواقع.

وحينئذ فلو اخذ بالظنّ المذكور لإحراز ذلك ، كان مرجعا ودليلا مستقلاّ فخرج عن كونه مرجّحا ، وكذلك إن جعل ذلك الأصل بمعنى ظهور حال المتكلّم إذا كان إماما ـ بملاحظة كونه منصوبا لبيان الأحكام الواقعيّة ـ في كون كلامه صادرا لإظهار الحقّ وبيان الواقع ، مع كون هذا الظهور [ مشروطا ] بإفادته الظنّ الفعلي بذلك ، فإنّ الظهورين لفقد شرط اعتبارهما يسقطان عن الاعتبار ، فيبقى الظنّ الغير المعتبر لو عمل عليه مرجعا وخرج عن كونه مرجّحا ، هكذا قيل في الصورتين.

وفيه نظر : لأنّ [ المرجع ](١) في الحكم الواقعي الّذي يتديّن به هو الخبر ، وموافقة الظنّ المفروض له مزيّة توجب تقديمه على معارضه الخالي عن تلك المزيّة ، وهذا هو معنى الترجيح ، فلابدّ أن يتكلّم في جوازه لا في تحقّق موضوعه ، وإن جعل بمعنى الظهور المذكور أيضا ، ولكن يشترط في اعتباره عدم الظنّ على خلافه ، خرج الخبر المخالف للظنّ المفروض عن الحجّيّة لفقد شرط اعتبار أصالة عدم التقيّة فيه ، وانحصر الحجّة في الخبر الموافق له لبقائه سليما عن المعارض ، وإن جعل بمعنى الظهور المذكور مع كونه معتبرا من باب الظنّ النوعي ، نظير ظهور كلام المتكلّم في كونه قاصدا لا هازلا ، ولم يشترط في اعتباره الظنّ الفعلي ، ولا عدم الظنّ على الخلاف ، فيتعارض الأصلان بمعنى الظهورين.

وهذا هو محلّ الكلام في الترجيح بالظنّ الغير المعتبر المفروض ، والمتّجه فيه الجواز ووجهه يعلم ممّا نذكر.

وأمّا المقام الثالث : ففي الترجيح بالظنّ الغير المعتبر ـ المبنيّ عدم اعتباره على عدم القول بحجّيّة الظنّ المطلق ـ لأحد الخبرين المتعارضين من حيث الصدور ، بناء على القول بحجّيّتهما من باب الظنّ النوعي ، لا على الحجّيّة بشرط إفادة الظنّ ، ولا بشرط عدم الظنّ على الخلاف ، فهذه قيود ثلاث معتبرة في محلّ الكلام ، لخروج الظنّ المفروض بانتفائها عن المرجّحيّة ، فإنّه على القول بالحجّيّة يصير مرجعا وحجّة مستقلّة ، ويسقط الخبران على القول بحجّيّتهما بشرط إفادة الظنّ ، والخبر المرجوح خاصّة على القول بالحجّيّة

__________________

(١) وفى الأصل « المرجّح » بدل « المرجع » والظاهر أنّه سهو من قلمه الشريف والصواب ما اثبتناه في المتن كما يعطيه التأمّل فى السياق.

٤٢٢

بشرط عدم الظنّ على الخلاف عن الحجّيّة ، وانحصر الحجّة على الثاني في الخبر الموافق للظنّ المفروض ، وصار كالخبر السليم عن المعارض.

وتحرير المسألة : أنّ الظنّ الغير المعتبر إذا حصل على وفق مضمون أحد الخبرين كشف ظنّا عن صدوره ، أو صدور مرادفه عن الإمام ، فيكشف كذلك عن وجود خلل في الخبر الآخر ، إمّا في صدوره أو جهة صدوره أو دلالته ، فهل يوجب ذلك الظنّ استحقاق الأوّل لأن يقدّم على الثاني؟ بحيث يستحقّ الطرح على التقدير الأوّل ، أو الحمل على التقيّة ، أو غيرها على الثاني ، أو التأويل فيه على الثالث.

وبعبارة اخرى : أنّ موافقة الخبر الموافق مضمونة للظنّ المفروض ، هل تعدّ في نظر الشارع مزيّة فيه موجبة لتقديمه على معارضه أو لا؟

فقد يقال : بالمنع استنادا إلى الأصل الأوّلي في الظنّ ، إذ كما أنّ الأصل فيه عدم الحجّيّة المستقلّة ، فكذلك الأصل فيه عدم المرجّحيّة ، سواء جعلنا مدرك ذلك الأصل عموم الآيات الناهية عن اتّباع الظنّ ، والأخبار الناهية عن القول بما لا يعلم ، أو جعلناه قاعدة التشريع المحرّم بالأدلّة الأربعة ، بناء على الأخذ بمضمون الخبر الموافق لذلك الظنّ على وجه التديّن به ، والالتزام به على أنّه الحكم الشرعي الواقعي ، من غير دليل قطعي يدلّ عليه ، أو جعلناه مخالفة القواعد أو الاصول القطعيّة الموجود في المورد الّتي هي المرجع على تقدير عدم وجود هذين الخبرين ، فإنّ هذه الوجوه متساوي النسبة إلى الحجّيّة والمرجّحيّة جارية بعينها في الترجيح أيضا ، وقد عرفت في الترجيح بالقياس أنّ المرجّح يحدث حكما شرعيّا لم يكن مع عدمه ، وهو وجوب العمل بما يوافقه بعينه ، وحرمة العمل بمعارضه ، مع كون الحكم بدونه هو التخيير أو الرجوع إلى الأصل الموافق للآخر ، وقيل بالترجيح بسببه ، نسبه شيخنا إلى ظاهر كلمات المعظم قائلا :

« ولكنّ الّذي يظهر من كلمات معظم الاصوليّين هو الترجيح بمطلق الظنّ » (١) ، ويمكن أن يستدلّ عليه بوجوه :

أوّلها : قاعدة الاشتغال ، لدوران الأمر بين التعيين والتخيير ، من الشكّ في كون الموافقة للظنّ المفروض مزيّة موجبة لتعيين العمل بالخبر الموافق ، وعدمه المقتضي للتخيير بينه وبين الخبر المخالف في العمل.

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٦٠٥.

٤٢٣

ولا ريب أنّ الأخذ بالخبر الموافق يوجب اليقين بالبراءة ، بخلاف الأخذ بالخبر الآخر.

وتوهّم : أنّ الخبر المخالف قد يكون موافقا للاحتياط في المسألة الفرعيّة ، فيعارض قاعدة الاشتغال في المسألة الاصوليّة ، بل يرجّح عليه في مثل المقام مدفوع : بمنع المعارضة ، لو اريد بالاحتياط في المسألة الفرعيّة ما يفرض مع الشكّ في التكليف ، أو مع الشكّ في المكلّف به الّذي يؤول إلى الشكّ في التكليف ، لورود أصل البراءة عليه ، وهو موافق للخبر الموافق للظنّ.

ولو اريد به ما يفرض مع الشكّ في المكلّف به ، الّذي لا يؤول إلى الشكّ في التكليف ، الّذي هو مورد اجتماع قاعدة الاحتياط مع قاعدة الاشتغال في المسألة الفرعيّة.

ففيه : أنّه [ إن ] اريد بذلك أنّ نفس الاحتياط في المورد يقتضي الأخذ بمضمون الخبر المخالف للظنّ المفروض.

فيزيّفه : أنّ قاعدة التخيير في العمل بين الخبرين ، على تقدير عدم الترجيح بذلك الظنّ ، واردة على جميع الاصول المفروضة في المورد على تقدير فقد الخبرين معا الّتي منها قاعدة الاحتياط ، كما أنّ تعيين العمل بالخبر الموافق له على تقدير الترجيح به ، يوجب وروده على جميع الاصول الّتي منها قاعدة الاحتياط ، ولذا يحكم بالتخيير أيضا مع فقد المرجّح ، وإن كان أحدهما موافقا للاستصحاب والآخر مخالفا له ، المقتضي لجواز الأخذ بالخبر المخالف.

وإن اريد به أنّ بعض الأخبار (١) الدالّة على وجوب الأخذ بما وافق الاحتياط من الخبرين وطرح ما خالفه ، يقتضي وجوب الأخذ بمضمون الخبر المخالف للظنّ.

فيزيّفه : ما تقرّر في محلّه ، من عدم نهوض تلك الأخبار لتخصيص الأخبار الدالّة على التخيير.

نعم يرد عليه أوّلا : عدم نهوض قاعدة الاشتغال لاثبات المرجّحيّة بحسب الواقع للظنّ الغير المعتبر ، ولا استحقاق التقديم للخبر الموافق له ، بل غايته اقتضاء كون الأخذ بمضمونه مبرأ للذمّة على وجه اليقين.

وثانيا : إطلاق أخبار التخيير المتناول لصورة موافقة الأمارة الغير المعتبرة لمضمون أحد المتعارضين ، فإنّه حاكم على قاعدة الاشتغال كما هو واضح.

__________________

(١) مستدرك الوسائل ١٧ : ٣٠٣ / ٢ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي.

٤٢٤

وثالثا : النقض بصورة الشكّ في التعيين والتخيير ، من دون استناد له إلى موافقة الأمارة الغير المعتبرة ، فإنّ مناط جريان القاعدة هو ذلك الشكّ ، ولا يلزم فيه كونه مسبّبا عن اتّفاق موافقة الأمارة الغير المعتبرة.

ورابعا : النقض بصورة موافقة القياس لأحدهما ، لجريان القاعدة فيها أيضا لقيام احتمال التعيين والشكّ فيه أيضا.

وتوهّم : أنّ النواهي الكاشفة عن مبغوضيّة القياس عند الشارع ، حاكمة على قاعدة الاشتغال المقتضية لتقديم ما وافقه القياس.

يدفعه : أنّ الآيات الناهية عن اتّباع الظنّ ، الدالّة على أنّه لا يغني من الحقّ شيئا ، والأخبار الناهية عن القول بغير علم أيضا حاكمة عليها ، والفرق بين المقامين تحكّم صرف.

ثانيها : ظهور الإجماع على ذلك الّذي حكى شيخنا استظهاره عن بعض مشايخه (١) قال : « فتراهم يستدلّون في موارد الترجيح ببعض المرجّحات [ الخارجيّة ] بإفادته للظنّ بمطابقة أحد الدليلين للواقع ، فكان الكبرى وهي وجوب الأخذ بمطلق ما يفيد الظنّ على طبق أحد الدليلين مسلّمة عندهم ، ويؤيّده الإجماعات المستفيضة على وجوب الأخذ بأقوى المتعارضين وأرجحهما ، واستدلالهم على الترجيح في بعض المقامات بقبح ترجيح المرجوح على الراجح (٢).

وهذا أضعف من سابقه بل أوهن من بيت العنكبوت ، فإنّ ظهور الإجماع غايته الظنّ ، فالتمسّك به إثبات لمرجّحيّة الظنّ الغير المعتبر بالظنّ الغير المعتبر ، فإنّه من أفراد الظنّ المطلق بني المسألة على عدم القول بحجّيّته ، فيدور الكلام.

وأمّا التأييد بالإجماعات المستفيضة فكبرى الأخذ بأقوى الدليلين مسلّمة ، بل الإجماع عليها معلوم ، ولكن القدر المتيقّن من معقده الّذي هو معقد الإجماعات المستفيضة ما كان أقوى الدليلين في نفسه ، وهو الأقوى بأعدليّة الراوي ، أو أفقهيّته أو بكونه مسندا ، أو مشهورا روايته أو غير ذلك من المرجّحات الداخليّة والخارجيّة ، وكون ما وافق مضمونه أمارة غير معتبرة ـ كالاستقراء والأولويّة الظنّيّة ، بل الشهرة في الفتوى والإجماع المنقول ـ

__________________

(١) هو السيد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٧١٧.

(٢) نهاية الوصول ( مخطوط ) ٤٥١ ومفاتيح الاصول : ٦٨٦ وفرائد الاصول ١ : ٦٠٨.

٤٢٥

أقواهما ، أوّل المسألة.

نعم لو كانت هذه الأمارة بحيث كشفت بعنوان القطع عن مزيّة داخليّة لموافقتها على معارضه لو عثرنا عليها تفصيلا لأخذنا بمقتضاها من الترجيح ، وجب علينا الأخذ بها ، ودخل الموافق لها حينئذ في معقد الإجماع محصّلا ومنقولا ، لأنّ العمل بأرجح الدليلين واجب إجماعا ، سواء علم وجه الرجحان تفصيلا أو علم إجمالا ، ولذا قيل : إنّ الترجيح بالشهرة أو الإجماع المنقول حيث كشفا عن قرينة داخليّة في سند أحد الخبرين أو دلالته ممّا لا ينبغي الخلاف فيه.

وأمّا التأييد بقبح ترجيح المرجوح ، ففيه : أنّ كبرى هذه القاعدة مسلّمة ، بل هي قاعدة عقليّة لا يمكن الاسترابة فيها ، ولكنّ الكلام في الصغرى ، وكون ما خالف من المتعارضين للأمارة الغير المعتبرة مرجوحا ، وما وافق مضمونه الظنّ الغير المعتبر راجحا أوّل المسألة ، إذ العبرة بالراجح والمرجوح بحسب الواقع أو في نظر الشارع ، وكون ما ظننّا موافقة مضمونه الواقع من أمارة غير معتبرة راجحا في نظره يحتاج [ إلى دليل ] لعدم الملازمة ، ومجرّد الكبرى المذكورة لا تنهض دليلا عليه.

وممّا يؤكّد ذلك ، أنّه لو كانت هذه القاعدة تامّة بحسب كبراها وصغراها في مطلق الأمارات الظنّيّة ، لاقتضت حجّية نفس المرجّح بل حجّيّة الظنّ المطلق ، فيكون المرجّح مرجعا ودليلا مستقلاّ ولذا بني الكلام في المسألة على القول بعدم حجّيّة الظنّ المطلق ، وليس ذلك إلاّ للبناء على عدم تماميّة صغرى قاعدة قبح ترجيح المرجوح على الراجح بالنسبة إلى الظنّ المطلق.

والعجب عن شيخنا قدس‌سره فإنّه مع علوّ مقامه في التدقيق والتحقيق ، انتصر لشيخه المستظهر للإجماع مستشهدا بجملة من كلماتهم ، لا شهادة فيها على ما رامه شيخه.

فقال : « الإنصاف أنّ بعض كلماتهم يستفاد منه أنّ العبرة في الترجيح بصيرورة مضمون أحد الخبرين بواسطة المرجّح أقرب إلى الواقع من مضمون الآخر ، ولذا استظهر بعض مشايخنا (١) الاتّفاق على الترجيح بكلّ ظنّ ما عدا القياس.

فمنها : ما تقدّم عن المعارج (٢) من الاستدلال للترجيح بالقياس ، بكون مضمون الخبر الموافق له أقرب إلى الواقع من مضمون الآخر.

__________________

(١) هو السيد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٧١٧.

(٢) معارج الاصول : ١٨٦ ـ ١٨٧.

٤٢٦

ومنها : ما ذكروه في مسألة تعارض الناقل مع المقرّر ، فإنّ مرجع ما ذكروه فيها لتقديم أحدهما على الآخر إلى الظنّ بموافقة أحدهما لحكم الله الواقعي ، إلاّ أن يقال : إنّ هذا الظنّ حاصل من نفس الخبر المتصف بكونه مقرّرا أو ناقلا.

ومنها : ما ذكروه في ترجيح أحد الخبرين بعمل أكثر السلف ، معلّلين بأنّ الأكثر يوفّق الصواب بما لا يوفّق له الأقلّ ، وفي ترجيحه بعمل علماء المدينة ، إلاّ أن يقال أيضا : بأنّ ذلك كاشف عن مرجّح داخلي في أحد الخبرين.

وبالجملة فتتبّع كلماتهم يوجب الظنّ القوي ، بل القطع بأنّ بناءهم على الأخذ بكلّ ما يشتمل على ما يوجب أقربيّته إلى الصواب ، سواء كان الأمر راجع إلى نفسه أو لاحتفافه بأمارة أجنبيّة توجب قوّة مضمونها » (١) انتهى.

وفي جميع الكلمات ما لا يخفى ، أمّا ما تقدّم عن المعارج فقد تقدّم أنّ المحقّق في المعارج نقل الترجيح بالقياس ـ تعليلا بحصول الظنّ منه ، فتعيّن العمل بما طابقه ـ عن ذاهب بصيغة التنكير ، ثمّ ذيّله في آخر كلامه بقوله : « وفيه نظر ».

وهذا كلّه يشعر بتمريض هذا المذهب ، فكيف يستظهر اتفاقهم على الترجيح بالظنّ المطلق المفروض عدم حجّيّته.

ومع الغضّ عن ذلك ، فالأقربيّة إلى الواقع المستندة إلى ظنّنا الغير المعتبر لا تنهض مرجّحة إلاّ إذا كانت معتبرة في نظر الشارع ، وأنّه يحتاج إلى دليل يدلّ عليه ، وأيّ دليل عليه مستفاد من كلام هذا الذاهب؟ فإن قيل : بأنّه الإجماع الظاهر من كلامه ، فيدور عليه الإشكال السابق.

وأمّا كلامهم في مسألة تعارض الناقل والمقرّر ، فلأنّ المنساق من حجّتي الفريقين فيها رجوع نزاعهم إلى الصغرى ، وهو تعيين محلّ التأسيس من الخبرين المخالف للأصل والموافق له ، مع اتّفاقهم على كون الخبر الّذي فيه التأسيس أولى بالتقديم ، فمن يقدّم الناقل يزعم التأسيس فيه ، ومن يقدّم المقرّر يقدّمه بزعم أنّ فيه التأسيس.

ولا ريب أنّ المؤسّسيّة في أيّ منهما كانت مزيّة فيه نفسه ، موجبة للظنّ بكون مضمونه حكم الله الواقعي دون مضمون معارضه ، لخلوّه عن تلك المزيّة ولا كلام لأحد في مرجّحيّة نحو هذه المزيّة المندرجة في المرجّحات الداخليّة ، إلاّ أن يقال : بأنّها مع ذلك

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٦٠٩ ـ ٦١٠.

٤٢٧

ليست خارجة من الظنّ المطلق الّذي كلامنا في مرجّحيّته.

وأمّا ما ذكره في مرجّحية عمل أكثر السلف أو علماء المدينة ، فلقوّة احتمال كشفه عندهم عن مرجّح داخلي في أحد الخبرين ، عثر عليه الأكثر أو علماء المدينة ولم يكشف عنه عمل الأقلّ ، وهذا هو معنى أنّ الأكثر يوفّق للصواب بما لا يوفّق له الأقلّ ، ولذا خصّوه بأكثر السلف وعلماء المدينة ، فإنّ السلف لقرب عهدهم بأزمنة صدور الأخبار يجدون معها من القرائن الراجعة إلى الصدور أو جهته أو دلالته ما لا يجده المتأخّرون لبعد عهدهم ، كما أنّ علماء المدينة لكونهم في بلد الصدور يجدون منها ما لا يجده النائون عن البلد.

ومن المعلوم وجوب العمل بأرجح الخبرين لمرجّح فيه ، سواء علم المرجّح تفصيلا أو إجمالا.

ثالثها : جملة من الأخبار العلاجيّة الدالّة بالتعليلات الواقعة فيها وإشعاراتها وإشاراتها على كلّيّة مطّردة في جميع الأمارات الخارجيّة المندرجة في الظنون المطلقة ، وهي أنّ مناط الترجيح في الخبرين المتعارضين هو الأقربيّة إلى الواقع ، سواء كانت لمرجّح داخلي أو خارجي ، فكلّما كان أحد المتعارضين أقرب إلى الواقع تعيّن الأخذ به ، وإن استندت أقربيّته إلى أمارة خارجيّة غير منصوصة.

ويستفاد من هذا المناط من مواضع في تلك الأخبار ، وإن اختلفت في كيفيّة دلالاتها بالظهور كما في بعضها ، ودونه الّذي يقال له الإشعار كما في كثير منها ، إلاّ أنّ هذه الإشعارات بتراكم بعضها إلى بعض تبلغ حدّ الظهور ، فمن المواضع التعليلات المصرّح بها في الأخبار المستفيضة الآمرة بالأخذ بما خالف العامّة وطرح ما وافقهم ، فعلّل الحكم في بعضها : « بأنّ فيه الرشاد » ، وفي آخر : « بأنّ الرشد في خلافهم » ، وفي ثالث : « بأنّ الحقّ في خلافهم ».

ويوافقها في هذا التعليل ، ما ورد في صورة عدم وجود من يفتي بالحقّ في البلد ، من قوله عليه‌السلام : « ائت فقيه البلد فاستفته في أمرك ، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه ، فإنّ الحقّ فيه » (١) وإن لم يكن مثلها بحسب المورد.

والسرّ في هذه التعليلات الّذي هو وجه الحكمة للأمر بالأخذ بما خالفهم ، الجاري في الأخبار المطلقة الآمرة بذلك الغير المشتملة على العلّة المذكورة ، ما تكفّل لبيانه مرفوعة أبي إسحاق الأرجاني إلى أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال عليه‌السلام : « أتدري لم امرتم بالأخذ بخلاف ما

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١١٥ / ٢٣ ، ب ٩ من أبواب صفات القاضي.

٤٢٨

يقوله العامّة؟ فقلت : لا أدري ، فقال : إنّ عليّا عليه‌السلام لم يكن يدين الله بدين إلاّ خالف عليه الامّة إلى غيره إرادة لإبطال أمره ، وكانوا يسألون أمير المؤمنين عليه‌السلام عن الشيء الّذي لا يعلمونه ، فإذا أفتاهم بشيء جعلوا له ضدّا من عند أنفسهم ليلبّسوا على الناس » (١).

ويستفاد من الأخبار الاخر كون ذلك سيرة أهل الخلاف من امراء بني اميّة وبني العبّاس وعلمائهم بالنسبة إلى سائر الأئمّة عليهم‌السلام كلّ في عصره ، حتّى حكي عن أبي حنيفة أنّه قال : « خالفت جعفرا عليه‌السلام في كلّ ما يقول أو يفعل ، لكنّي لا أدري هل يغمض عينيه في السجود أو يفتحهما » (٢).

ولا ريب أنّ هذه بظهورها الّذي هو كالصريح باعتبار ما فيها من التعليلات ، تدلّ على أنّ المناط في الترجيح إنّما هو إصابة الحقّ ومطابقة الواقع ، فيؤخذ بما هو أقرب إليه وأشدّ مطابقة له.

وقضيّة حجّيّة العلّة المنصوصة إلغاء الخصوصيّة ، ولا ينافيه ما عن الشيخ والمحقّق من تعليل الترجيح بمخالفة العامّة بكون الخبر المخالف أبعد من التقيّة ، لأنّ معنى كونه أبعد من التقيّة كونه أقرب إلى الواقع ، بتقريب أنّ ما لم يكن وجه صدوره التقيّة ـ كما يكشف عنه المخالفة للعامّة ـ كان ظاهرا في القصد إلى إظهار الحقّ وبيان الواقع.

ومنها : تعليل الأخذ بالخبر المشهور بين الأصحاب الّذي رواه كلّهم ، دون الشاذّ الّذي يختصّ بروايته بعضهم : « بأنّ المجمع عليه لا ريب فيه » كما في مقبولة ابن حنظلة ، بتقريب : أن ليس المراد من نفي الريب نفي ماهيّته الموجبة لنفي جميع أفرادها ، حتّى يكون معناه : أنّ المجمع عليه لا ريب فيه من جميع الجهات ، ولا من إثبات الريب للشاذّ النادر على ما يقتضيه قرينة المقابلة ومفهوم التعليل ، أنّه لا ريب في بطلانه ، وإلاّ لم يكن لفرضهما مشهورين معا ولا لفرض وقوع التعارض معنى كما لا يخفى ، بل المراد نفي الريب بمعنى العيب والخلل المحتمل في الخبر الشاذّ احتمالا ظاهرا يعتني به العقلاء عن المجمع عليه ، على معنى خلوّه عن هذا العيب وإن احتمل فيه عيب آخر من جهة اخرى ، أو أنّه لا يحتمل فيه ذلك العيب احتمالا ظاهرا وإن احتمل ضعيفا لا يلتفت إليه العقلاء ، فيكون المراد من الريب المنفي فيه هو الريب الإضافي ، ولا ريب أنّ التعليل به على كلا

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١١٦ / ٢٤ ، ب ٩ من أبواب صفات القاضي ، علل الشرايع ١ : ٥٣١.

(٢) حكاه المحدّث الجزائري في زهر الربيع : ٥٢٢.

٤٢٩

الاحتمالين في معنى التعليل بكون المجمع عليه أقرب إلى الواقع ومعارضه أبعد عنه.

ومنها : ما دلّ على الترجيح بالأوثقيّة ، فإنّ كون الراوي ثقة معناه كونه بحيث يعتمد على روايته ، فمعنى أوثقيّته شدّة الاعتماد عليه ، فتعليق الأمر بالترجيح عليها يشعر بأنّ العلّة في الأخذ بخبره كونه أقرب مطابقة للواقع ، إذ لا معنى لشدّة الاعتماد على الراوي في روايته إلاّ هذا ، فإذا حصل هذا المعنى في أحد الخبرين من مرجّح خارجي لزم اتّباعه.

ومنها : ما في المقبولة من الترجيح بأصدقيّة راوي أحدهما ، وليس ذلك إلاّ لكون النظر إلى كون خبره أقرب مطابقة للواقع ، لأنّ الصدق عبارة عن المطابقة للواقع والأصدق يحتمل الملكة والحال معا.

فعلى الأوّل يراد منه أقوى ملكة للبعث على ملازمة الصدق ، كما أنّ الأعدل يراد منه أقوى ملكة للبعث على ملازمة التقوى.

وعلى الثاني يراد منه كون صدقه بحسب الوقوع الخارجي أكثر وأغلب من كذبه.

وأيّا مّا كان فمناط ترجيح خبره أقربيّته إلى الواقع ، بخلاف الترجيح بالأعدليّة فإنّه ربّما يكون النظر إلى مصلحة اخرى غير مجرّد الأقربيّة ، كما في اعتبار العدالة للبيّنة ، فإنّه ليس لمجرّد إحراز مطابقة شهادته للواقع ، ولذا لا يقبل شهادة الموثوق بصدقه لكونه متحرّزا عن الكذب أو متّسما بالصدق ، مع كونه فاسقا من جهة اخرى.

ومنها : الترجيح بالأفقهيّة كما في المقبولة أيضا ، فإنّها توجب أقربيّة مضمون خبر الأفقه إلى الواقع ، وتفصيل القول في تحقيق هذه المواضع ، إنّما هو في الجزء الأخير من الكتاب ، في باب التعادل والتراجيح عند شرح فقرات المقبولة.

تذنيب :

إذا لم يحصل العلم بمرجّحيّة الظنّ المطلق ، ولم يقم عليها دليل معتبر شرعا ، ولم يوجد ظهور لفظي فيها كما لو فرضنا عدم تماميّة ظهورات الأخبار العلاجيّة ، ولكن حصل الظنّ بمرجّحيّته من أمارة كظهور الاجماع المستنبط من كلمات العلماء كما تقدّم ، فهل هو حجّة ويجب العمل به أو لا؟

قيل : الظاهر وجوب العمل به في مقابل التخيير ، وإن لم يجب العمل به في مقابل الاصول ، لثبوت التكليف بالترجيح بين المتعارضين ، وانتفاء المرجّح اليقيني ، وفقد ما دلّ الشرع على كونه مرجّحا ، فيدور الأمر بين البناء على التخيير في جميع الموارد ، أو العمل

٤٣٠

بالظنّ المذكور ، ولا سبيل إلى الأوّل للزوم مخالفة الواقعي فتعيّن الثاني.

ولا خفاء في ضعفه لتهافت ما بين الالتزام بثبوت التكليف بالترجيح ، والاعتراف بانتفاء المرجّح اليقيني وفقد ما دلّ الشرع على كونه مرجّحا ، فإنّ انتفاء الأوّل مع فقد الثاني يوجب الشكّ في مرجّحيّة أقربيّة مضمون أحد المتعارضين إلى الواقع من جهة الظنّ المطلق ، وهو يستلزم الشكّ في ثبوت التكليف بالترجيح بذلك.

وغاية ما يلزم من فرض الظنّ بالمرجّحيّة ، كون ثبوت التكليف به مظنونا ، وهذا لا يكفي في الثبوت الشرعي ليترتّب عليه وجوب العمل بذلك الظنّ إلاّ على تقدير الالتزام بالدور ، لتوقّف ثبوت التكليف على حجّيّة ذلك الظنّ ، فلو توقّف حجّيّته على ثبوت التكليف كما هو مفروض الدليل لزم الدور.

ومع الغضّ عن ذلك فالقدر المتيقّن المقطوع به من التكليف بالترجيح هو ثبوته في موارد المرجّحات المنصوصة داخليّة أو خارجيّة ، وأمّا غيرها ممّا يكون من محلّ البحث ، فثبوته فيه غير معلوم لا تفصيلا ولا إجمالا.

فإن قلت : غاية ما يلزم ممّا ذكرت فساد المقدّمة الاولى من مقدّمات الدليل ، ولكنّا نقول ، بكفاية المقدّمتين الأخيرتين في تتميم الدليل بلا حاجة إلى اعتبار انضمام المقدّمة الاولى ، فإنّ الأمر يدور بين البناء على التخيير في جميع الموارد والعمل بالظنّ بمرجّحيّة الظنّ المطلق ، والأول مستلزم لمخالفة الواقع فتعيّن الثاني.

قلت : إنّ القبيح عقلا المحرّم شرعا إنّما هو المخالفة القطعيّة للواقع ، وإنّما يلزم ذلك من التخيير في جميع الموارد على تقدير كونه تخييرا استمراريّا مع اختيار أحد المتعارضين والعمل به تارة ، واختيار المتعارض الآخر والعمل به اخرى ، والتخيير الملتزم به في أمثال المقام كما حقّق في باب التعادل بدويّ ، واللازم منه إنّما هو المخالفة الاحتماليّة والموافقة الاحتماليّة لا المخالفة القطعيّة ، ولا حجر من المخالفة الاحتماليّة وإلاّ كان مطّردا في العمل بالظنّ أيضا.

هذا مضافا إلى قلّة موارد حصول الظنّ المطلق على طبق مضمون أحد المتعارضين في نفسها ، فإنّ مورد الترجيح على تقدير وجود المرجّح إنّما هو المتعارضان حيث تعذّر الجمع بينهما ، كما لو كانا متبائنين وما بمعناهما ، وهذا على أقسام ثلاث :

أحدها : ما يوجد فيه شيء من المرجّحات المنصوصة داخليّة أو خارجيّة ، ولا كلام في

٤٣١

وجوب الترجيح فيه ، فهذا القسم خارج عن معقد المسألة.

وثانيها : ما لا يوجد فيه شيء من المرجّحات المنصوصة ، ولكن يمكن الرجوع فيه إلى عموم كتاب أو سنّة قطعيّة أو أصل ، وهذا القسم أيضا خارج عن محلّ الكلام ، لأنّ العامّ المفروض مرجع ، أو موافقته مرجّحة على اختلاف الرأيين ، والأصل المفروض أيضا على ما قرّرناه ـ في مباحث تعارض المقرّر والناقل ـ مرجع ، لأنّ المتعارضين يتساقطان فيرجع إلى الأصل ، لدخول المورد بعد التساقط في عنوان ما لا نصّ فيه الّذي هو موضوع الأصل ، بناء على ما حقّق في محلّه من أنّه أعمّ من كونه لفقد النصّ أو إجماله أو تعارضه.

وثالثها : ما لا يمكن الرجوع إلى عموم ولا إلى أصل ، وهذا أيضا قد لا يتّفق فيه ظنّ مطلق على طبق مضمون أحد المتعارضين ، وهذا أيضا خارج عن محلّ الكلام ، وقد يتّفق الظنّ المطلق على طبق أحدهما مع فرض حصول الظنّ من أمارة بمرجّحيّة ذلك الظنّ ، وهذا هو محلّ الكلام ، ولا يتّفق إلاّ في أقلّ قليل من الموارد ، وأيّ مخالفة قطعيّة للواقع يلزم من التخيير البدوي في مثله؟ فالوجه فيه التخيير لا العمل بالظنّ المذكور عملا بعموم أخبار التخيير ، ولكنّ الأحوط اختيار الخبر الموافق للظنّ المطلق خروجا عن شبهة الخلاف ، تارة بالنسبة إلى الظنّ المحتمل للمرجّحيّة ، واخرى بالنسبة إلى الظنّ المحتمل للحجّيّة وهو الظنّ بمرجّحيّة الظنّ الأوّل.

هذا آخر ما أوردناه في مباحث الظنّ بعد الفراغ عن مباحث خبر الواحد.

* * *

٤٣٢

ـ تعليقة ـ

في الفعل والتقرير

وليعلم أنّ البحث في حجّيّة خبر الواحد ـ على ما تقدّم ـ يعمّ فعل المعصوم وتقريره ، لما ذكرناه في غير موضع من رجوع البحث عن حجّيّة خبر الواحد إلى أنّه هل يثبت السنّة بنقل الواحد الغير المفيد بنفسه العلم بصدقه ، وهو قول الراوي قال : الصادق عليه‌السلام كذا ، أو سمعته يقول كذا ، أو رأيته فعل كذا ، أو فعل بحضرته كذا ولم ينكر على الفاعل أو لم يردعه أو سكت عليه ، وكون السنّة ثابتة بالنقل الغير المفيد للعلم بصدقه وعدمه جهة مشتركة بين قول المعصوم وفعله وتقريره ، إذ السنّة عبارة عن قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، وخبر الواحد المأخوذ في العنوان أيضا عبارة عمّا يرادف الحديث وهو ما يحكي قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، بناء على أنّ الموصول كناية عن الكلام الحاكي لأحد الثلاثة ، والمراد به قول الراوي بإحدى العبارات المتقدّمة وما بمعناها.

وأمّا حجّيّة نفس قول المعصوم أو فعله أو تقريره بعد تحقّقه ودلالته على حكم معيّن ـ على معنى الملازمة الواقعيّة بينه وبين الحكم الواقعي المستندة إلى عصمة المعصوم نبيّا كان أو إماما ، عن الخطأ والنسيان والزلل والعصيان ـ فممّا لا كلام لأحد فيه ومن المسلّمات عندهم ، بل هو بملاحظة العصمة من القضايا الّتي قياساتها معها ؛ ومن الواضحات الّتي ليس من شأنها أن يبحث عنها في المسائل العلميّة النظريّة ، ولذا تراهم لا يتعرّضون في الكتب الاصوليّة للبحث عن أصل حجّيّة قول المعصوم أو فعله أو تقريره ، حتّى أنّ أصحابنا في باب الإجماع الّذي حجّيّته عندهم لأجل كشفه عن قول المعصوم لا يتكلّمون في حجّيّة هذا القول المكشوف عنه ، بل يتكلّمون في كشف الإجماع وعدمه عن قول المعصوم وفي كيفيّة الكشف على تقديره ، أهو من باب التضمّن أو الالتزام العقلي

٤٣٣

أو العرفي؟ ومرجعه إلى التكلّم في صغرى الدليل ، وهو أنّ قول المعصوم هل يثبت بإجماع الطائفة أو لا؟ لا في كبراه وهو أنّ هذا القول على فرض ثبوته هل هو حجّة أو لا؟ كما أنّ الكلام في حجّيّة خبر الواحد على ما وجّهناه راجع إلى الصغرى لا الكبرى.

وعلى هذا فليس غرضنا من البحث عن فعل المعصوم وتقريره القصد إلى بيان حجّيّة فعله وتقريره بعد تبيّن دلالتهما على الحكم الشرعي المعيّن ، ولا القصد إلى بيان حجّيّة خبر الواحد المتكفّل لنقل أحدهما ، لأنّ بيان الأوّل من توضيح الواضح وبيان الثاني إعادة لما سبق في بحث حجّيّة خبر الواحد ، بل القصد إلى بيان بقايا الأحكام المتعلّقة بالفعل والتقرير ، فالكلام في مقامين :

المقام الأوّل

فيما يتعلّق بفعل المعصوم

فنقول : الفعل الصادر من المعصوم قد يكون عادة في مقابل العبادة ، على معنى كونه من الطبيعيّات قبالا للشرعيّات ، كالأكل والشرب والنوم واليقظة والجلوس والقيام والمشي على الأرض والركوب ، وما أشبه ذلك ممّا ينوط به تعيّش نوع الإنسان إذا لو حظت بطبائعها من دون اشتمالها على خصوصيّة يحتمل دخلها في الرجحان ، وقد يكون متردّدا بين العادة والعبادة ، كأكل الزبيب على الريق ، ونوم القيلولة ، والجلسة عقيب السجدتين من غير مداومة عليها ، إذ لا يدري أنّه من باب نوع أكل الزبيب أو النوم أو الجلوس اتّفق وقوعه في حالة الريق أو وقت القيلولة أو عقيب السجدتين ، أو أنّه باعتبار تلك الخصوصيّة صار شرعيّا لتأثيرها في رجحانه الدائر بين الوجوب والاستحباب ، وقد يكون عبادة دائرة بين الواجب والمستحبّ ، وهذا الثالث أيضا إمّا أن يكون خاصّا به على معنى كونه من خصائصه ، أو يكون متردّدا بين الخاصّ وغيره ، أو لا يكون خاصّا به.

وهذا الثالث أيضا إمّا أن يكون بيانا لمجمل يعلم وجهه ، أو يكون بيانا لمجمل لم يعلم وجهه ، أو لا يكون بيانا لمجمل.

وهذا الثالث أيضا إمّا أن يعلم وجهه من وجوب أو ندب أو إباحة ، أو يعلم رجحانه من قصده القربة فيه فيكون متردّدا بين الواجب والمستحبّ ، أو لا يعلم وجهه أصلا فيكون متردّدا بين الواجب والمستحبّ والمباح بل المكروه أيضا إن جوّزنا صدوره من المعصوم ، فهذه صور تسع هي امّهات أقسام فعل المعصوم ، ويذكر أحكام هذه الأقسام في مسائل :

٤٣٤

المسألة الاولى :

فيما كان الفعل الصادر من المعصوم من الأفعال الطبيعيّة العاديّة ، ولا إشكال في حكمه كما هو المصرّح به في كلام جماعة بل ظاهرهم الإجماع عليه ، من حيث كون هذه الأفعال مباحة له ولنا ، بل الظاهر خروجها عن موضوع كلامهم في هذا الباب ، إذ النظر في فعل المعصوم إمّا من حيث التأسّي به في فعله وأنّه هل هو واجب علينا أو مستحبّ لنا أو مباح لنا ، أو من حيث دلالته في حقّنا على حكم لولا النظر فيه لم يكن ذلك الحكم ثابتا ، كما لو فعل ما يحتمل الحرمة أو ترك ما يحتمل الوجوب ، فيدلّ على الإباحة اللازمة لانتفاء الحرمة والوجوب في الصورتين ، نظرا إلى عصمته المانعة من ارتكاب الحرام وترك الواجب ، فتخرج الطبيعيّات عن كلتا الحيثيّنين لعدم كونها من جهة أنّها من لوازم تعيّش كلّ أحد محلاّ للتأسّي ، وكون إباحتها ثابتة في حقّنا من غير جهة فعل المعصوم كالضرورة وحكم العادة ، حتّى أنّ منهم من التزم بخروجها عن السنّة حيث قيّد تعريفها بما تقدّم بغير العاديّات احترازا عن العادي من قول المعصوم وفعله وتقريره.

والمراد بالعادي من فعل المعصوم هو هذه الأفعال ، نظرا منه في هذا الاحتراز إلى أنّ السنّة نوع من أدلّة الأحكام الشرعيّة ، ولا حاجة في معرفة الإباحة اللازمة للأفعال العاديّة إلى النظر في فعل المعصوم ، لكونها معلومة بالضرورة وبداهة العادة.

المسألة الثانية :

فيما كان الفعل الصادر منه متردّدا بين العادي والشرعي ، كالأمثلة المتقدّمة ونظائرها الّتي منها ما ذكره الشهيد في قواعده : « من دخوله صلى‌الله‌عليه‌وآله من ثنيّة كداء (١) بالفتح والمدّ ، وخروجه من ثنيّة كدى (٢) بالضمّ والقصر ، ونزوله بالمحصّب (٣) لمّا نفر في الأخير (٤) وتعريسه (٥)

__________________

(١) كداء ( بالفتح والمدّ ) الثنيّة العليا بمكّة ممّا يلي المقابر ، النهاية لابن الاثير : ٤ / ١٢ مادّة « كداء ».

(٢) كدى ( بالضمّ والقصر ) الثنيّة السفلى ممّا يلي باب العمرة ، النهاية : ٤ : ١٢.

(٣) المحصب هو الشعب الّذي مخرجه الى الأبطح بين مكّة ومنى ، النهاية ١ : ٢٣٢ مادّة حصب.

(٤) أي في اليوم الاخير وهو اليوم الثالث عشر من ذي الحجّة الّذي هو آخر أيّام التشريق وهي الحادي عشر والثانى عشر والثالث عشر ، والنفر هو نفر الحاجّ من منى إلى مكّة وهو نفران ، أحدهما : نفرهم فى اليوم ، الثاني عشر ويسمّى النفر الأوّل والآخر نفرهم فى اليوم الثالث عشر ويسمّى النفر الثاني وقد يعبّر عنه بالنفر الأخير باعتبار وقوعه فى اليوم الأخير ( راجع حاشيته على القوانين ٢ : ٦١ ).

(٥) التعريس نزول المسافر آخر الليل للنوم والاستراحة ، وذو الحليفة بضم الحاء المهملة وفتح اللام وإسكان الياء مصغّ الحلفة وهو موضع على ستّة أميال من المدينة وميقات الحاجّ ، كذا فى المجمع ( حاشية القوانين : ٢ : ٦١ ).

٤٣٥

لمّا بلغ ذا الحليفة (١) فهل هي أفعال عاديّة وقعت منه في هذه المواضع لضرب من الاتّفاق أو أنّها من الشرعيّات لرجحانها باعتبار الخصوصيّة؟

وقد اضطربت كلمة الأصحاب في حكم هذا القسم ، فإنّ منهم من رجّح كونه من الطبيعيّات استنادا إلى أصالة عدم التشريع.

ومنهم من رجّح كونه من الشرعيّات استنادا إلى ظاهر حاله عليه‌السلام من حيث إنّه بعث لبيان الشرع.

ومنهم من يظهر منه التوقّف في القول حيث ذكر الوجهين من غير ترجيح.

ومنهم من أرجع المقام إلى مسألة تعارض الأصل والظاهر ، فمن قدّم فيها الأصل كالمشهور يرجّح هنا الطبيعيّة ، ومن يقدّم الظاهر لزمه هنا ترجيح الشرعيّة.

ومنهم من اعترض على التمسّك بالأصل لترجيح الطبيعية برجوعه إلى الاصول المثبتة ، لأنّ أصالة عدم التشريع معناها أصالة عدم جعل الوجوب وعدم جعل الاستحباب ، ويقصد بها الحكم على مورد الشكّ من فعل المعصوم بكونه من أفعاله الطبيعيّة ، وهذا إثبات توصل إليه بالأصل ، وحيث إنّ الاصول المثبتة باطلة وليست بحجّة ، فلا يجوز التعويل على الأصل المذكور ويكون وجوده بمثابة عدمه ، فيبقى الظاهر سليما عن المعارض ، ومقتضاه كون الأصل بمعنى القاعدة في كلّ فعل للمعصوم كونه شرعيّا إلاّ ما خرج بالدليل ، وحيث لا دليل على خروج مورد الشكّ من أفعاله فيدخل في المستثنى منه ويحكم عليه بكونه من الشرعيّات.

وفيه : ما لا يخفى ، لمنع الظهور المدّعى في هذا المقام لولا غلبة يستند إليها الظهور ، ومجرّد كونه عليه‌السلام بعث أو نصب لبيان الشرعيّات لا يوجبه ، لأنّ معنى ذلك أنّ بيان الشرعيّات لا يتأتّى إلاّ منه من حيث إنّه منصبه ووظيفته وهو المقصود من بعثه ونصبه ، لا أنّ كلّما يتأتّى منه من الأفعال فهو بيان للشرع ، فإنّه ليس إلاّ كغيره من بني نوع البشر في أنّ له أيضا أفعالا عاديّة هي من لوازم تعيّشه كغيره من رعيّته وتابعيه ، ونحن إن لم ندّع الغلبة في أفعاله العاديّة الّتي لم يقصد بها بيان الشرع ، فلا أقلّ من منع دعوى الغلبة في كونها شرعيّة ، على معنى قصده فيها بيان الشرع الدائر بين الوجوب والاستحباب ، فالوجه هو التعويل على أصالة عدم التشريع لنفي الوجوب والاستحباب في حقّنا في نحو هذه

__________________

(١) القواعد : ١ / ٢١٢.

٤٣٦

الأفعال ، فنحكم على مثل الزبيب على الريق ، ونوم القيلولة ، وجلسة الاستراحة بعدم كونه واجبا علينا ولا مستحبّا لنا ، واللازم من ذلك كونه مباحا إجراء لحكم الأفعال العادية عليه.

ودعوى كونها أصلا مثبتا وهو باطل ، يدفعها : أنّا لا نقصد بأصالة عدم التشريع إثبات الموضوع وهو كون محلّ الشكّ فعلا طبيعيّا للمعصوم ، بل نفي آثار الشرعيّة عن فعله هذا ، وهو كونه محلاّ للتأسّي أو محلاّ للاستدلال به على ثبوت حكم في حقّنا ، على ما بيّناه من رجوع البحث في فعل المعصوم إذا كان شرعيّا تارة إلى التأسّي به في فعله وجوبا أو ندبا أو إباحة ، واخرى إلى دلالته على حكم في حقّنا.

فملخّص نفي هذه الآثار عدم كون ذلك الفعل بالنسبة إلينا محلاّ للتأسّي ، ولا محلاّ للاستدلال ، لبقائه على إباحة نوعه الثابتة بحكم الضرورة وقضاء العادة ، فلا حاجة لإثبات هذه الإباحة في حقّنا أيضا إلى النظر في ذلك الفعل ، كما ظهر وجهه في المسألة السابقة.

ومن الأعلام من قال في هذا المقام : « إنّ الكلام في ذلك يرجع إلى ما لا يعلم وجهه » (١) وقضيّة كلامه جريان النزاع الآتي فيما لا يعلم وجه فعل المعصوم وأقواله الآتية ، من وجوب التأسّي به أو استحبابه أو إباحته أو التوقّف هنا أيضا ، وفيه نظر واضح ، لأنّ محلّ النزاع الآتي فيما لم يعلم وجهه هو ما علم كونه شرعيّا ولم يكن من خصائصه ، وهذا غير معلوم الشرعيّة ، فبمقتضى أصالة عدم التشريع يخرج عن محلّ ذلك النزاع حسبما بيّناه.

المسألة الثالثة :

فيما كان الفعل الصادر منه شرعيّا مع العلم بكونه من خصائصه ، كالتهجّد وصوم الوصال (٢) والزيادة على أربع وما أشبه ذلك ، وهذا خارج عن محلّ نزاعهم الآتي ، لأنّ النزاع إن كان في حكم التأسّي فهذا ليس محلاّ للتأسّي لفرض اختصاصه به ، وإن كان في دلالته على حكم في حقّنا فهذا ليس محلاّ للاستدلال به على حكم في حقّنا ، لفرض اختصاصه به أيضا.

المسألة الرابعة :

فيما كان الفعل الصادر منه مع كونه شرعيّا مردّدا بين كونه من خصائصه وعدمه ، وهل

__________________

(١) قوانين ١ : ٤٩٠.

(٢) وهو أن ينوي صوم يومين فصاعدا كالثلثه ولا يفصل بينهما بفطر ، أو صوم يوم إلى وقت متراخ عن الغروب ومنه أن يجعل عشاؤه سحوره ( راجع المختلف ٣ : ٥٠٧ ).

٤٣٧

هنا أصل يقتضي الحكم عليه بأحد الطرفين أو لا؟ فقد يقال : إنّ الأصل عدم كونه من الخصائص لأصالة عدم الاختصاص ، وعورض : بأصالة عدم الاشتراك ، فإنّ كونه حكمه معلوم ، والمشكوك فيه كونه حكم الباقين.

فإن قلت : الاختصاص أمر زائد على كونه حكمه (١).

قلنا : الاشتراك أيضا أمر زائد على كونه حكمه ، ويبقى أصالة عدم كون هذا حكمنا في المورد لأجل فعله خاليا عن المعارض ، هكذا قرّر الأصل ومعارضته بالمثل في المناهج.

وكأنّه أراد بأصالة عدم الاختصاص أصالة عدم التخصيص ، فإنّ تخصيص الحكم به بعد جعله المتيقّن أمر حادث آخر يشكّ في حدوثه والأصل عدمه ، نظير تخصيص العامّ الّذي يقال بكونه خلاف الأصل ، فإنّ التلفظ بالعامّ أمر حادث حدث من المتكلّم يقينا ، وتخصيصه أمر حادث آخر يشكّ في حدوثه والأصل عدمه ، وحاصل معنى المعارضة : أنّ جعل أصل الحكم وتعلّقه به عليه‌السلام متيقّن وتشريك الامّة معه فيه أمر حادث يشكّ في حدوثه والأصل عدمه ، وحاصل السؤال : أنّ تعلّق الحكم به وإن كان متيقّنا ولكن اختصاصه به المتضمّن نفيه عمّن عداه أمر زائد عليه يشكّ في حدوثه والأصل عدمه ، وحاصل الجواب : أنّ اشتراك الغير معه المتضمّن لإثباته لمن عداه أيضا أمر زائد عليه يشكّ في حدوثه والأصل عدمه.

أقول : ويرد على أصالة عدم الاختصاص لإثبات الاشتراك على الوجه الذي قرّرناه ، أنّ اختصاص حكم مجعول بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يفتقر إلى تخصيص حتّى يقال إنّه أمر حادث يشكّ في حدوثه والأصل عدمه ، بل يكفي فيه تعلّقه به مع عدم ثبوت تعلّقه بغيره من امّته ، فإنّ جعل الحكم كائنا ما كان يقتضي تعلّقه بمكلّف ، والقدر المتيقّن منه في مفروض المسألة تعلّقه بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّا تعلّقه بغيره فمشكوك فيه فينفي بالأصل لكونه أمرا حادثا يشكّ في حدوثه ، وذلك نظير ما لو صدر ضرب من زيد واقع على عمرو مع الشكّ في وقوعه على بكر أيضا ، فينفي احتماله بالأصل لكونه حادثا يشكّ في حدوثه.

ودعوى : أنّ الاختصاص أمر زائد على كونه حكمه.

يدفعها : أنّه ليس أمرا حادثا زائدا على كونه حكمه يشكّ في حدوثه حتّى ينفي بالأصل ، بل هو أمر اعتباري انتزاعي ينتزع من الحكم من حيث تعلّقه به وعدم تعلّقه بغيره

__________________

(١) قوانين الاصول : ٤٩٠.

٤٣٨

ولو بحكم الأصل.

ولكن كون ذلك الأصل سليما عمّا يرد عليه مبنيّ على جواز خلوّ واقعة هذا الحكم في حقّنا عن حكم مجعول بكوننا فيها كالصبيان والمجانين والبهائم ، وهو خلاف التحقيق ، بل في كلّ واقعة في حقّنا بحكم الضرورة والإجماع والأخبار المتواترة ـ كما تقدّم بيانه في مقدّمات دليل الانسداد ـ حكم مجعول من الخمس المعروفة ، فيشكّ في تغائر حكمنا المجعول لحكمه والأصل ينفيه ، لأنّه يقتضي جعلا آخر زائدا على جعل حكمه والأصل عدمه ، وهو يقتضي المشاركة بكون الحكم المتعلّق بالنبيّ متعلّقا بغيره أيضا ، وهذا الأصل لسببيّة شكّه وارد على أصالة عدم التعلّق.

لا يقال : كون الشكّ في تعلّق الحكم المتعلّق بالنبيّ بغيره مسبّبا عن الشكّ في جعل حكم مغائر لذلك الحكم في حقّ غيره ، ليس بأولى من العكس ، فينعكس الورود ، إذ لا شبهة في تعلّق حكم بغيره مردّد بين كونه الحكم المتعلّق به ، أو الحكم الآخر بسبب الشكّ في جعل حكم آخر ، فبأصالة عدم جعل حكم آخر في حقّ غيره يحكم بتعلّق الحكم المتعلّق به بغيره ، وهذا هو معنى مشاركة غيره في الحكم الثابت له من غير فرق فيه بين كونه إباحة شيء له ، أو وجوب شيء أو حرمته عليه ، أو استحبابه ، أو كراهته له.

هذا ولكنّ الإنصاف : أنّ الأصل المذكور لا يثمر إلاّ على القول بالاصول المثبتة ، إذ لا تعارض بينه وبين أصالة عدم تعلّق ما تعلّق بالنبيّ بالذات ، بل التعارض يحصل بينهما لعارض من جهة مقدّمة عدم خلوّ الواقعة في حقّنا عن الحكم ، وهذا الحكم المعلوم بالإجمال مردّد بين الحكم المجعول للنبيّ وبين غيره ، فلا ترتّب بين الشكّين ، بل هما مسبّبان عن العلم الإجمالي الحاصل من المقدّمة المذكورة.

وقد يفصّل ويقال : بأنّه ليس في الاصول الفقاهيّة كأصل العدم وغيره ما يكون مرجعا في جميع فروض المسألة ، بل أصل العدم قد يقضي بالاشتراك وقد يقضي بالاختصاص فيختلف مقتضاه ، فإنّه لو ثبت في حقّه إباحة شيء وشككنا في أنّ الثابت في حقّنا أيضا هو الإباحة حتّى يلزم الاشتراك ، أو الحرمة حتّى يلزم الاختصاص ، فلا ريب في أنّ الأصل هو الأوّل ، لأنّ ثبوت الحرمة في حقّنا يحتاج إلى الجعل ، والأصل عدمه مضافا إلى أصالة البراءة.

وكذا لو شككنا في كون الثابت في حقّنا الوجوب ، وكذلك إذا ثبت له حرمة شيء

٤٣٩

وعلمنا بأنّ الحكم في حقّنا غير الإباحة ، ولكن شككنا في أنّه الحرمة أو غيرها من الوجوب أو الاستحباب أو الكراهة ، فلا شبهة في أنّ مقتضى الأصل هو الاشتراك ، لأنّ عدمه يوجب تعدّد الجعل وهو مشكوك فيه والأصل ينفيه.

وكذلك لو كان الثابت له وجوب شيء وعلمنا بأنّ حكمنا غير الإباحة ، وشككنا في أنّه الوجوب ليلزم الاشتراك ، أو غيره من الحرمة أو الكراهة أو الاستحباب.

وكذلك لو ثبت له استحباب شيء أو كراهته ، وشككنا في وجوب الأوّل وحرمة الثاني علينا ، فيحكم بالاشتراك لأصلي البراءة والإباحة ، مضافا إلى أصالة عدم تعدّد الجعل ، وأمّا لو ثبت له حرمة شيء وشككنا في حرمته علينا أيضا أو إباحته لنا ، فيحكم بالإباحة للأصل.

وكذلك لو ثبت له وجوب شيء وشككنا في وجوبه علينا أيضا وعدمه ، فيحكم بالعدم للأصل.

وهذا التفصيل كما ترى خال عن التحصيل ، لابتنائه على انتفاء الجعل في الإباحة ، وهذا تحكّم بل الأحكام الخمس الواقعيّة بأسرها مجعولة ، فلا يتفاوت الحال فيها من حيث جريان أصالة عدم الجعل ، وافقها أصل البراءة وأصل الإباحة أو لا ، لكون الجميع في الافتقار إلى الجعل على حدّ سواء ، وإلاّ كانت الواقعة كوقائع البهائم خالية عن الحكم.

فظهر أنّ الأصل من جهة أصالة عدم تعدّد الجعل هو الاشتراك ، ويؤيّده ندور المختصّات وغلبة المشتركات ، والظنّ يلحق الشيء بالأغلب.

والمناقشة فيه تارة : بمنع الظنّ باللحوق من الغلبة ، لأنّ العلم بالمخالفة في الحكم بين النبيّ والامّة ، كما في المختصّات مانع من حصوله.

واخرى : بمنع اعتبار الظنّ الحاصل منها ، لعدم الدليل عليه.

يدفعها : في المنع الأوّل عدم كون مبنى التمسّك بها على الاستقراء المنطقي المفيد للعلم ، أو الظنّ بالملازمة بين الحكم والكلّي ليثبت بها كبرى كلّيّة قطعيّة أو ظنّيّة ، حتّى يمنعه العلم أو الظنّ بوجود الفرد المخالف للأفراد الغالبة في الحكم ، بل على كون الغلبة في نفسها أمارة ظنّيّة كسائر الأمارات ، مثل الشهرة والإجماع المنقول والأولويّة ونحوها ، فالعلم بمخالفة النادر للغالب في الحكم لا يمنع من إفادتها الظنّ باللحوق.

وفي المنع الثاني البناء على حجّيّة الظنّ المطلق وهذا منه ، مع أنّ في بعض الأخبار إشارة إلى حجّيّة الغلبة من باب الظنّ الخاصّ ، كما في موثّقة إسحاق بن عمّار عن العبد

٤٤٠