تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٥٥٥

علمه تفصيلا أو إجمالا بتوجّه الخطاب إليه.

والمفروض أنّه لا علم له أصلا فلم يتنجّز عليه التكليف بالاغتسال فلم يكن تركه إيّاه عصيانا ، والعقاب من غير عصيان قبيح ، ومن أمثلتها أيضا دخول المسجدين ، واللبث في سائر المساجد ومسّ كتابة القرآن ، وقراءة سور العزائم ونحو ذلك.

وأمّا الصورة الثانية : فمن أمثلتها اقتداء ثالث بهما في صلاة واحدة بناء على أنّ خلوّ المصلّي عن الجنابة شرط واقعي لصحّة صلاته ، ومرجعه إلى اشتراط الصحّة بالطهارة عن الحدث ، فإنّ صلاة أحد الشخصين باطلة قطعا لفقدانه شرط الصحّة فيبطل ببطلانها بعض صلاة المقتدي ، وبطلانه يقضي ببطلان البعض الآخر فيبطل صلاته بتمامها وهو يعلم ببطلانها تفصيلا ، فيكون اقتدائه بهما مخالفة للعلم التفصيلي من حيث العمل ، بل هو ترك للصلاة عن علم ، لأنّ فعلها على وجه البطلان عن علم كتركها عن علم.

وكذلك حمل أحدهما الآخر وإدخاله المسجد الحرام للطواف وغيره ، بناء على أنّه كما يحرم على الجنب دخول نفسه في المسجد كذلك يحرم عليه إدخال الجنب فيه ، وعلى أنّ الدخول والإدخال يتحقّقان بحركة واحدة وإن تعدّد اعتبارها من حيث إنّها إن أخذت مقيسة إلى الحامل كانت دخولا وإن أخذت مقيسة إلى المحمول كانت إدخالا ، فإنّ هذه الحركة محرّمة قطعا والحمل للدخول والإدخال ارتكاب للمحرّم عن علم تفصيلي بالحرمة ، فيكون مخالفة عمليّة للعلم التفصيلي.

وأمّا الصورة الثالثة : فمن أمثلتها اقتداء ثالث بهما في صلاتين كالظهر والعصر ، فإنّ صلاة أحدهما باطلة بحكم فقدانه شرط الصحّة ، وكما لا يجوز للمصلّي أن يقتدي بإمام يعلم تفصيلا بطلان صلاته ، فكذلك لا يجوز له أن يقتدي بأحد إمامين يعلم بطلان صلاته وهو مشتبه ، فهو مخاطب بترك الاقتداء بأحدهما ، وهذا خطاب تفصيلي مشتبه مصداق متعلّقه فيكون اقتداء بهما في صلاتين مخالفة للعلم الإجمالي الّذي مرجعه إلى مخالفة الخطاب التفصيلي فيحرم ، وكذلك حمل أحدهما الآخر وإدخاله المسجد بناء على عدم تحقّقه مع الدخول بحركة واحدة ، وعلى رجوعهما إلى قدر مشترك بين إدخال نفسه وإدخال غيره وهو إدخال الجنب المتحقّق في ضمن كلّ من الإدخالين ، ولا ريب أنّه محرّم فتحريمه خطاب تفصيلي مشتبه مصداق متعلّقه ، إذ لا يدري أنّ هذا الإدخال المحرّم هل هو في ضمن إدخال النفس أو في ضمن إدخال الغير؟

٦١

وأمّا الصورة الرابعة : فمن أمثلتها حمل أحدهما الآخر وإدخاله المسجد ، بناء على عدم رجوع الدخول إلى إدخال النفس وعدم تحقّقه مع إدخال الغير بحركة واحدة ، فإنّه حينئذ يعلم بأنّه يحرم عليه أحد الأمرين من دخوله لكونه جنبا أو إدخاله الغير لكونه الجنب ، وهذا خطاب إجمالي مردّد بين خطابين ، كما لو علم بأنّه يحرم عليه إمّا وطئ هذه المرأة أو أكل هذا الشيء ، وقد تقدّم أنّ في مثله يحتمل وجوه وأقواها عدم جواز المخالفة مطلقا.

وهل يجوز لثالث الاقتداء بأحدهما في صلاة واحدة أو في صلاتين؟

الوجه المنع لقاعدة الاشتغال ، فإنّ اشتغال الذمّة اليقيني يستدعي اليقين بالبراءة ، ولا يحصل إلاّ بترك هذا الاقتداء.

مضافا إلى أنّه مخاطب بترك الاقتداء بمن يعلم إجمالا بطلان صلاته في نفس الأمر ، فيكونان كالمشتبهين في الشبهة المحصورة الّتي تقرّر في محلّه أنّ الأقوى فيها وجوب الاجتناب عن الجميع مطلقا ، ولذا قد يقال ـ في بيان أحكام صور اقتداء الغير بهما أو بأحدهما في صلاة واحدة أو في صلاتين ـ : أنّ المقتدي بهما في صلاة واحدة كمن ارتكب الإنائين المشتبهين معا دفعة واحدة ، والمقتدي بهما في صلاتين كمن ارتكب الإنائين معا تدريجا ، والمتقدي بأحدهما في صلاة واحدة أو صلاتين كمن ارتكب أحد الإنائين.

والوجه في الجميع على القول بوجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة مطلقا المنع ، هذا كلّه في الحكم التكليفي.

وأمّا الحكم الوضعي وهو بطلان صلاة المقتدي على تقدير اقتدائه فلا ينبغي التأمّل في البطلان في الصورة الاولى ، ولا في بطلان إحدى صلاته في الصورة الثانية ، فكان كمن فات عنه إحدى الصلاتين وهو لا يعلمها بعينها ، فيجب عليه إعادتهما أو قضائهما معا تحصيلا ليقين البراءة.

وأمّا في الصورة الثالثة فالبطلان وعدمه يبنى على مصادفة اقتدائه الجنب ، فيبطل صلاته في الواقع.

ويظهر الثمرة فيما لو انكشف له بعد ذلك كون إمامه الجنب فيعيد أو يقضي ، بخلاف ما لو لم يصادف فصلاته مجزية إن احرز فيها القربة ، وهل يعاقب على مخالفته لحكم الشبهة المحصورة؟ مبنيّ على كون التجرّي عصيانا موجبا لاستحقاق العقاب وقد تقدّم تحقيقه.

وهل يجوز لثالث استيجارهما لكنس المسجد أو تعميره والعمل فيه؟ وجهان من أنّ

٦٢

دخول أو لبث من كان منهما جنبا في الواقع محرّم ، فاستيجارهما معا إعانة على هذا الإثم فيحرم ، ومن أنّ الاستيجار في حكمه من حيث المنع والجواز ـ لكونه إعانة على الإثم وعدمه ـ يتبع الدخول أو اللبث في كلّ منهما في كونه إثما وعدمه ، والإثم محلّ منع لأنّ كلاّ في دخوله أو لبثه يعتمد على أصل البراءة ، فيكون الدخول أو اللبث في كلّ منهما مباحا بالإباحة الظاهريّة ، فاستيجارهما إعانة على المباح لا على الإثم ، وليس

في الاستيجار جهة اخرى تقتضي تحريمه غير استلزامه دخول الجنب الواقعي أو لبثه ، وهذه الجهة لا تقتضي التحريم إلاّ من حيث الإعانة على الإثم ولا إثم على ما بيّناه ، وهذا أوجه.

وأمّا القسم الثاني : فيلاحظ فيه الشخص المردّد بين عنوانين أيضا حاله في الواقعة الّتي يبتلى بها فيستفيد حكمه من حاله في الواقعة المبتلى بها ، ومن أفراده الخنثى ، ولها في معاملاتها وعباداتها أحكام كثيرة فيتعرّض لها الفقهاء في أبواب متفرّقة ولا بأس بالإشارة إليها.

منها : حكمها في نكاحها بتزويجها إمرأة أو تزوّجها برجل ، وقد صرّحوا بعدم جوازه.

وحكى عن بعضهم دعوى الإجماع عليه ، قال بعض مشايخنا (١) قدس‌سره : والظاهر أنّه إجماعي وهو مع ذلك يوافق الاصول لأصالة عدم ترتّب الأثر على النكاح الواقع عليها في مسألتي التزويج والتزوّج ، وعدم حصول علقة الزوجيّة بينها وبين طرفها رجلا كان أو إمرأة ، فإنّ عقد النكاح عقد وضع لأن يقع بين الرجل والمرأة لإفادة الزوجيّة ، فلا بدّ في تأثيره من إحراز الذكوريّة والانوثيّة والمفروض عدم كون شيء منهما محرزا فيها لتردّدها بين الذكر والانثى ، فالأصل في العقد الذي يقع عليها عدم ترتّب أثر الزوجيّة عليه وعدم حصول العلقة بينها وبين طرفها ، فلا تصير زوجا ولا زوجة.

ومنشأ الشكّ في الصحّة أنّها في مسألة تزويجها إمرأة يحتمل كونها إمرأة ، وفي مسألة تزوّجها برجل يحتمل كونها رجلا فالعقد على التقديرين غير صحيح ، ضرورة عدم صحّة العقد بين إمرأتين وبين رجلين.

وقد يقرّر الأصل الموضوعي أيضا وهو أصالة عدم ذكوريّته في مسألة التزويج وأصالة عدم انوثيّته في مسألة التزوّج ، والمراد بها أصالة النفي بمعنى استصحاب العدم الأزلي.

والظاهر أنّ النظر فيها إلى ما قبل انعقاد النطفة فإنّ كلاّ من الذكوريّة والانوثيّة هناك كانت معدومة ، فيشكّ في انقطاع ذلك العدم الأزلي والأصل يقتضي بقاؤه. ويقصد به في

__________________

(١) فرائد الاصول : ٢٤ / ١٠١.

٦٣

المسألتين نفي آثار الذكوريّة أو الانوثيّة الّتي منها حصول علقة الزوجيّة بينها وبين طرفها بالعقد الواقع عليها ، فلا يقصد بأصالة عدم الذكوريّة إثبات كونها إمرأة ولا بأصالة عدم الانوثيّة إثبات كونها رجلا.

وها هنا إشكال ربّما يصعب دفعه وهو : أنّ الشيخ ـ على ما حكي عنه ـ في مبسوطه ورّثها بالزوجيّة ـ في باب مواريث الخناثي ـ وقال : « لو كان الخنثى زوجا أو زوجة كان له نصف ميراث الزوج ونصف ميراث الزوجة » (١) مع كون المسألة مفروضة في دورانها بين الزوج والزوجة ، وهذا بظاهره لا ينطبق على القواعد والاصول.

أمّا أوّلا : فلأنّه كيف يصحّ فرض عنوان الزوجيّة فيها ، مع ما عرفت من إجماعهم على عدم وقوع العقد عليها في شيء من طرفي الزوج والزوجة.

وأمّا ثانيا : فلأنّه كيف يعقل فرض دورانها بين الزوج والزوجة في واقعة واحدة ، فإنّها إن أخذت إمرأة فهي زوج ولا يعقل كونها زوجة ، وإن أخذها رجل فهي زوجة ولا يعقل كونها زوجا ، إلاّ أن يفرض العقد بينها وبين مثلها من الخناثي مع فرض تحقّق الإيلاج من كلّ منهما في الاخرى ثمّ مات إحداهما ، ولكن يشكل ذلك أيضا بأنّ التوريث يتبع الزوجيّة الشرعيّة ، وهي فرع على صحّة العقد والمفروض خلافها نظرا إلى الإجماع والأصل.

ومع هذا كلّه فقد ورد في بعض الروايات ما لا يكاد يعقل ، وهو ما رواه في الفقيه عن عاصم بن حميد عن محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : « إنّ شريحا القاضي بينما هو في مجلس القضاء إذ أتته إمرأة ، فقالت أيّها القاضي : اقضي بيني وبين خصمي ، فقال : ومن خصمك؟ قالت : أنت ، قال : أفرجوا لها ، فأفرجوا لها فدخلت ، فقال لها : وما ظلامتك؟ قالت : إنّ لي ما للرجال وما للنساء ، قال شريح : فإنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يقضي على المبال ، قالت : فإنّي أبول بهما جميعا ويسكنان معا ، قال شريح : والله ما سمعت بأعجب من هذا ، قالت : وأعجب من هذا ، قال : وما هو؟ قالت : جامعني زوجي فولدت منه ، وجامعت جاريتي فولدت مني ، فضرب شريح إحدى يديه على الاخرى متعجّبا! ثمّ جاء إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : يا أمير المؤمنين لقد ورد عليّ شيء ما سمعت بأعجب منه ، ثمّ قصّ عليه قصّة المرأة ، فسألها أمير المؤمنين عليه‌السلام من ذلك ، فقالت : هو كما ذكر ، فقال لها ومن زوجك؟ قالت : فلان فبعث إليه ودعاه ، فقال : أتعرف هذه؟ قال : نعم هي زوجتي ، فسأله عمّا

__________________

(١) المبسوط ٤ : ١١٧.

٦٤

قالت فقال هو كذلك ، فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام : لأنت أجرأ من راكب الأسد حيث تقدّم عليها بهذا الحال.

ثمّ قال : يا قنبر ادخلها بيتا مع إمرأة فعدّ أضلاعها ، فقال زوجها : يا أمير المؤمنين لا آمن عليها رجلا ولا ائتمن عليها إمرأة ، فقال عليه‌السلام : عليّ بدينار الخصي ـ وكان من صالحي أهل الكوفة كان يثق به ـ فقال له ـ يا دينار أدخلها بيتا وعرّها من ثيابها ومرها أن تشدّ مئزرا وعدّ أضلاعها ، ففعل ذلك فكان أضلاعها سبعة عشر ، تسعة في اليمين وثمانية في اليسار ، فألبسها عليه‌السلام ثياب الرجال والقلنسوة والنعلين وألقى عليه الرداء وألحقها بالرجال ، فقال زوجها : يا أمير المؤمنين إبنة عمّي وقد ولدت مني تلحقها بالرجال؟ فقال : إنّي حكمت عليها بحكم الله تبارك وتعالى ، خلق حوّاء من ضلع آدم الأيسر الأقصى ، فأضلاع الرجال تنقص وأضلاع النساء تمام » (١) إلى آخره.

وهذه الرواية تشبه بكونها كذبا من حيث اشتمالها على ما يكذّبه العقل ، فإنّ توليد المرأة أمر محال ، حيث إنّ النساء ليس لهنّ قوّة مولّدة ، كيف وأنّ نطفة الرجل ونطفة المرأة نوعان مختلفان ، ولهما مقرّان مختلفان فيستحيل اجتماعهما في شخص واحد ، ومن ثمّ ألحقها أمير المؤمنين عليه‌السلام بالرجال.

ومنها : حكمها في النظر إلى الرجال والنساء ونظر كلّ من الطائفتين إليها فمقتضى القاعدة حرمة النظر إلى الطائفتين عليها ، وجواز النظر لكلّ من الطائفتين إليها.

أمّا الأوّل : فلأنّها بتردّدها بين الرجل والمرأة يعلم بأنّها مخاطب بحرمة النظر إلى إحدى الطائفتين ، فقضيّة علمها الإجمالي وجوب الاجتناب عن النظر المحرّم الواقعي ، ولمّا كان ذلك مشتبها عليها فيجب عليها الاجتناب عن النظرين من باب المقدّمة كما في الشبهة المحصورة.

وتوهّم أنّ المسلّم في العلم الإجمالي حرمة المخالفة القطعيّة لا وجوب الموافقة القطعيّة.

يدفعه : أنّ قضيّة حجّيّة العلم الإجمالي وجوب الموافقة أيضا كحرمة المخالفة ، فإنّ الخطاب المعلوم بالإجمال يجب امتثاله واليقين بالبراءة عنه ، ولا يحصل إلاّ بالاجتناب عنهما إلاّ أن يتضمّن ذلك عسرا شديدا ومشقّة عظيمة عليها ، بل قد يقال : بأنّ العسر هنا ليس بأخفى من العسر في الشبهة الغير المحصورة ، فإن تمّ ذلك إتّجه الجواز مطلقا لسقوط العلم الإجمالي حينئذ عن الاعتبار ، كما في الشبهة الغير المحصورة.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٤ : ٣٢٧ ـ ٣٢٨ / ٥٧٠٤.

٦٥

وأمّا الثاني : فلأصالة البراءة الجارية لكلّ من الطائفتين في نفسه ، فإنّ الرجل لمكان شكّه في انوثيّتها يشكّ في حرمة النظر إليها ، كما أنّ المرأة لمكان شكّها في رجوليّتها يشكّ في حرمة النظر إليها ، وهو من كلّ منهما شكّ في التكليف وإن نشأ عن الشبهة الموضوعيّة ، والأصل براءة الذمّة عنه.

ومنها : حكمها في لباسها فيختار من الألبسة ما هو مشترك بين الرجال والنساء ، ويتجنّب عمّا يختصّ بالرجال كالعمامة والمنطقة وعمّا يختصّ بالنساء كالمقنعة ونحوها ، لأنّها تعلم إجمالا بتوجّه خطاب إلزامي إليها وهو مردّد بين قوله : « لا تتعمّم » وقوله : « لا تتقنّع » مثلا ، فيجب الاجتناب عنهما من باب المقدّمة.

وبالجملة : يعلم بأنّ أحد اللباسين حرام عليها لا محالة فيجب عليها تجنّبه ولا يحصل إلاّ بالتجنّب عنهما جميعا.

ومنها : ستارتها في الصلاة فيتجنّب عن لبس الحرير فيها وتستر جميع بدنها تحصيلا للبراءة اليقينيّة عن الصلاة ، ولا تحصل إلاّ بإحراز الشرطين : خلوّ المصلّي عن الحرير إذا كان رجلا ، وستر جميع البدن إذا كان إمرأة ، وهو مشتبه بينهما.

ومنها : حكم الجهر والإخفات في الصلاة الجهريّة كالعشائين والصبح ، فإن قلنا بكون الإخفات فيها على النساء رخصة ـ كما هو الأظهر ـ جاز لها كلّ من الجهر والإخفات.

وإن قلنا بكونه عزيمة فيجب عليها تكرار الصلاة بالجهر تارة والإخفات اخرى ، إلاّ إذا قام الإجماع على عدم وجوب التكرار في حقّها ، فيتخيّر حينئذ ، وقد يتخيّل التخيير لها مطلقا ، نظرا إلى ما ورد من معذوريّة الجاهل في الجهر والإخفات ، وهذا سهو لوجهين :

أحدهما : أنّ النص إنّما دلّ على معذوريّة الجاهل في لزوم الإعادة والقضاء إذا خالف الواقع في صلاته المأتيّ بها لجهله بالمسألة ، وكلامنا في تكليف هذا الجاهل من أوّل الأمر أهو الجهر أو الإخفات؟ وبينهما بون بعيد ، حتّى أنّه لو جهر أو أخفت متردّدا بطلت صلاته.

والآخر : أنّ مورد النصّ إنّما هو الجاهل بالحكم ، وما نحن فيه جاهل بالموضوع فلا يقاس على الجاهل بالحكم.

وبالجملة ما ورد في الأخبار (١) من معذوريّة الجاهل إنّما هو من كان جهله في مجرّد الحكم وكان مقصّرا في تحصيل العلم به ، فلا يشمل المقام الّذي جهله من جهة الموضوع

__________________

(١) انظر الوسائل ٦ : ٨٦ / ١ ، الباب ٢٦ من ابواب القراءة.

٦٦

لا من جهة الحكم ، لأنّه يعلم بأنّ الرجل يجب عليه الجهر والمرأة يجب عليها الإخفات.

أمّا المقام الثاني : ففي اعتبار العلم الإجمالي في ارتفاع التكليف الثابت بالعلم التفصيلي أو الإجمالي ، ـ على معنى كفاية الامتثال الإجمالي في سقوط التكليف المعلوم بالتفصيل أو الإجمال ـ ولو مع التمكّن من الامتثال التفصيلي ، كإكرام شخصين علم أنّ أحدهما زيد عند الأمر بإكرام زيد مع إمكان معرفته بالفحص والسؤال ، وعدم كفايته إلاّ حيث لم يتمكّن من الامتثال التفصيلي.

ويظهر الثمرة في مسألة اشتباه الماء المطلق بغيره ، أو اشتباه جهة القبلة بغيرها ، أو اشتباه الثوب الطاهر بغيره.

فعلى الأوّل يكفي الامتثال الإجمالي الحاصل بالتوضّي أو الاغتسال بالمائين ، وبالصلاة إلى الجهتين معا ، وبالصلاة في الثوبين معا حتّى مع التمكّن من الاستعلام بالفحص والسؤال ، فيه إشكال ممّا نسب إلى المشهور من عدم جواز الاكتفاء بالاحتياط إذا توقّف على تكرار العبادة ، بل قيل : إنّ ظاهرهم ـ كما هو المحكي عن بعضهم (١) ـ ثبوت الاتّفاق عليه بل نسب إلى ظاهر الحلّي ـ فيما حكي عنه في مسألة الصلاة في الثوبين « عدم جواز التكرار للاحتياط حتّى مع عدم التمكّن من العلم التفصيلي » (٢).

وتحقيق المقام : أنّ ما ثبت التكليف به تفصيلا أو إجمالا إمّا أن يكون معاملة ويقال لها : الواجب التوصّلي ـ وهو ما كان الغرض من الأمر به حصوله في الخارج كيفما اتّفق وإن لم يكن الإتيان به بداعي امتثال الأمر وقصد التقرّب ـ أو يكون عبادة ويقال [ لها ] : الواجب التعبّدي ـ وهو ما أمر به لغرض التعبّد الّذي لا يحصل إلاّ بالإتيان به بداعي امتثال الأمر وقصد التقرّب ـ.

فإن كان من الأوّل فلا ينبغي التأمّل في جواز الاكتفاء بالامتثال الإجمالي الذي يحصل بالاحتياط المبني على التكرار والجمع بين المحتملات ، كإزالة النجاسة عن المسجد عند اشتباه الموضع ، وكذلك إزالة النجاسة عن البدن أو الثوب ، فيكفي في سقوط الأمر حصول الإتيان بها بغسل الموضعين معا ، كما يشهد به القوّة العاقلة وعليه بناء العقلاء ، والظاهر خروج ذلك عن محلّ النزاع.

كيف وقد عرفت أنّ المعاملة عبارة عمّا يكفي حصوله كيفما اتّفق في سقوط الأمر به ،

__________________

(١) الحدائق ٥ : ٤٠١.

(٢) السرائر ١ : ١٨٥.

٦٧

والإتيان به على نحو الإجمال من جملة صور اتّفاقه.

وإن كان من الثاني فالشكّ في كفاية الامتثال الإجمالي وعدم كفايته يتصوّر من وجهين :

أحدهما : أن يكون الشكّ راجعا إلى اشتراط معرفة التفصيل في أصل صدق الإطاعة الواجبة في العبادة عرفا أو عند العقلاء ، مع الإتيان بها على وجه الإجمال ـ كما في الأمثلة المتقدّمة ـ وعدمه.

وثانيهما : أن يكون الشكّ راجعا إلى اشتراط معرفة التفصيل في صحّة العمل مع فرض صدق الإطاعة عرفا أو عند العقلاء مع الإتيان بها على وجه الإجمال وبدون معرفة التفصيل ، وهذا في الصورتين نظير الشكّ في شرطيّة شيء في العبادة على القول بالصحيحة وعلى القول بالأعمّ ، من حيث رجوعه على الأوّل إلى صدق الاسم بدون الشرط المشكوك ، وعلى الثاني إلى صحّة العمل مع فرض صدق الاسم بدونه.

فإن كان من الوجه الأوّل فمقتضى القاعدة عدم كفاية الامتثال الإجمالي ، نظرا إلى أنّ الشغل الذمّة بالطاعة في العبادة يستدعي المبرأ اليقيني ولا يحصل إلاّ بالامتثال التفصيلي ، وهو أن يعلم حين الفعل المأتيّ به أنّه المأمور به الموجب إتيانه الامتثال ، فيجب عليه تحصيل العلم التفصيلي بالمكلّف به ، ولا يجزيه الاحتياط بتكرار العمل الموجب بعده للعلم بإتيانه.

وإن كان من الوجه الثاني فمقتضى القاعدة كفاية الامتثال الإجمالي وجواز الاحتياط بتكرار العبادة ، لرجوع الشكّ بمقتضي إلى اعتبار شيء زائد مع المكلّف به ، وهو الامتثال التفصيلي المتوقّف على تحصيل العلم التفصيلي بالمكلّف به ، والمفروض عدم وصول بيانه من الشارع فيجري أصل البراءة ، ويقضي بعدم اعتبار التفصيل المستلزم لكفاية الإجمال في حصول الامتثال ، هذا كلّه في الكبرى.

وإنّما الشأن في بيان الصغرى ، وهو أنّ الامتثال التفصيلي هل هو معتبر في صدق الإطاعة الواجبة مع العبادة أو لا؟

وقد يقال : بأنّه معتبر في صدقها ، وعليه مبنى المشهور المحكي فيه دعوى الاتّفاق لوجهين :

أحدهما : بناء العرف وطريقة العقلاء ، فإنّ من أتى بفعلين يعلم أنّ أحدهما المكلّف به مع تمكّنه من العلم به تفصيلا ، لا يقال ـ عرفا ولا في نظر العقلاء ـ : أنّه أطاع مولاه ، وإنّما يقال « إنّه أطاعه » بالإتيان بما يعلم حين العمل أنّه بعينه المأمور به وهو الامتثال التفصيلي ،

٦٨

فلا يكفيه الإتيان بأمرين يعلم أنّ أحدهما المأمور به ولا يدري أيّهما هو؟ وهو الامتثال الإجمالي.

وثانيهما : قاعدة الاشتغال ، وبيانه : أنّ قصارى ما يقال في كفاية الامتثال الإجمالي هو : أنّ الغرض المطلوب للآمر في العبادات هو حصول الامتثال ، وهذا ممّا يحصل بالتكرار أيضا.

ويزيّفه : أنّ الإطاعة واجبة في العبادة قطعا ، ونحن إن لم ندّع العلم بعدم صدقها عرفا بدون التفصيل فلا أقلّ من الشكّ في صدقها ، وشغل الذمّة اليقيني يستدعي المبرأ اليقيني وليس إلاّ الامتثال التفصيلي المتوقّف على تحصيل العلم التفصيلي.

وتوهّم : التمسّك بإطلاق الأمر لنفي احتمال اعتبار خصوص التفصيل في الامتثال ، ولا تأثير معه لأصل الاشتغال.

يدفعه : أنّ التمسّك بالإطلاق لنفي اعتبار التفصيل في الامتثال إنّما يصحّ إذا كان الامتثال من قيود المأمور به لا من أغراض الآمر ، وهو خلاف التحقيق بل غير معقول ، فإنّ امتثال الآمر في لحاظ الأمر إنّما يلاحظ من باب العلّة الغائيّة ، فلا يكون من قبيل القيود ليكون اعتبار التفصيل فيه تقييدا في المأمور به فيصحّ نفيه بإطلاق الأمر ، وإذا كان من قبيل الأغراض فلا يمكن نفي اعتبار التفصيل بالتمسّك بالإطلاق ، إذ لا يلزم على تقديره تقييد في المأمور به ، فيبقى الأصل سليما عمّا يوجب الخروج عنه.

والوجهان كلاهما ضعيفان.

أمّا الأوّل : فلمنع عدم صدق الإطاعة بدون العلم التفصيلي ، إذ الإطاعة لا معنى لها عرفا إلاّ الامتثال وهو عبارة عن موافقة الأمر ـ بمعنى موافقة المأتيّ به للمأمور به ـ ووجوبها ليس زائدا على وجوب نفس الفعل ، فالاشتغال بها هو بعينه الاشتغال بالفعل نفسه ، ويرتفع ذلك الاشتغال بأداء المأمور به على حسبما امر بداعي الأمر به ، وهذا يتأتّى تارة بالإتيان بما يعلم أنّه المأمور به بداعي الأمر به.

واخرى بالإتيان بأمرين أو امور يعلم أنّ أحدهما المأمور به بداعي الأمر به ، بأن يكون داعيه من حين الشروع إلى الفراغ الإتيان بما هو مأمور به منهما ، ويكون داعيه من الإتيان بما هو مأمور به مجرّد الإطاعة وامتثال الأمر.

وغاية الفرق بين الصورتين أنّ العلم بأدائه على الوجه المذكور في الصورة الاولى حاصل من حين الإتيان ، وفي الثانية يحصل بعد الإتيان بالجميع ، ودعوى عدم صدق الإطاعة عرفا في الثانية غير مسموعة.

٦٩

وأمّا الثاني : فلأنّ التشكيك في صدق الإطاعة بدون العلم التفصيلي بالمكلّف به بعينه حين الإتيان لا بدّ له من موجب ، وهو إمّا احتمال وجوب قصد الوجه من الوجوب في الواجب ، والندب في المندوب ، أو احتمال وجوب معرفة الوجه على أنّها في نفسها معتبرة في الصحّة ، لا على أنّها مقدّمة لإحراز قصد الوجه ، أو إطلاق الإجماعات المنقولة على عدم معذوريّة الجاهل في عباداته وعلى أنّها باطلة ، فإنّه يشمل الجاهل بالمكلّف به الّذي يحرز الإتيان به بطريقة الاحتياط ، والكلّ باطل.

أمّا الأوّلان : فلما حقّقناه في غير موضع من عدم اعتبار قصد الوجه ولا معرفته في صحّة العبادة ، على أنّ قصد الوجه عند معتبريه إنّما يعتبر على أنّه من شروط الامتثال لا على أنّه من قيود المأمور به ، وقد عرفت صدق الامتثال بدونهما.

وأمّا الثالث : فلمنع تناول هذه الإجماعات لهذا الجاهل ، فإنّ معقدها الجاهل المتسامح في أمر دينه التارك للطريقين لتسامحه في الدين الغير المبالي للمخالفة فيه ، أو الجاهل المقصّر الّذي لم يطابق عمله الواقع ، أو الجاهل الّذي لم يحرز في عمله القربة ، لتردّده حين العمل في كونه المأمور به أو المأمور به شيء آخر غيره.

وأيّا مّا كان فلا يندرج فيه المحتاط ، السالك لطريقه بالجمع والتكرار بداعي إدراك الواقع لاهتمامه في أمر الدين.

ثمّ إنّ في العمل بالاحتياط مزيد مباحث أوردناها مشروحة في موضعين من الكتاب :

أحدهما : في ذيل بحث أصل البراءة عند التكلّم في وجوب الفحص وعدمه.

وثانيهما : باب الاجتهاد والتقليد عند البحث في عبادات الجاهل.

نعم ينبغي [ أن يعلم ] أنّ الكلام في كفاية الامتثال الإجمالي لا يجري في العمل بالاحتياط عند الشكّ في أجزاء المكلّف به أو شروطه الموجب لدورانه بين الأقلّ والأكثر ، فإنّ الاحتياط هنا إنّما هو بمراعاة الإتيان بالأكثر المتحقّق بالإتيان بجميع الأجزاء المشكوكة والشرائط المشكوكة ، فإنّه في الحقيقة موافقة تفصيليّة ، لا أنّه موافقة إجماليّة لمكان العلم بكون المأتيّ به في صورة الاحتياط هو الفرد الكامل من المكلّف به على الأجزاء والشرائط المستحبّة زائدة على الأجزاء والشرائط الواجبة ، فهو إتيان بالمكلّف به مع زيادة.

غاية الأمر عدم التمييز فيما بين الأجزاء والشرائط الواجبة والمستحبّة ، وهذا لا يوجب كون الموافقة المتحقّقة فيه إجماليّة لا تفصيليّة ، بل الموافقة الإجماليّة مقصورة على ما كان المكلّف به دائرا بين أمرين متبائنين ، أو امور متبائنة على سبيل الانفصال الحقيقي

٧٠

لشبهة موضوعيّة كاشتباه جهة القبلة ، أو حكميّة كاشتباه المسألة في الظهر والجمعة مثلا.

فصار محصّل الكلام في المقام : أنّ الاحتياط بالجمع والتكرار مع التمكن من العلم التفصيلي محلّ إشكال بالنظر إلى اشتهار عدم جوازه ، وإن كان الأقوى على ما بيّناه هو الجواز ، كالاحتياط الغير المستلزم للتكرار كما في دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر على ما عرفت من جواز الاكتفاء فيه بالاحتياط في تحصيل الإطاعة وموافقة الأمر ، وأمّا إذا [ لم ] يتمكّن منه فلا يخلو إمّا أن يتمكّن من الظنّ التفصيلي المعتبر أو لا.

فعلى الثاني لا إشكال في جواز الاكتفاء بالموافقة الإجماليّة الحاصلة بالاحتياط ، سواء تمكّن من الظنّ الغير المعتبر الّذي وجوده بمنزلة عدمه ، أو لم يتمكّن منه أيضا ، إذ التكليف بما لا يطاق قبيح فالأمر دائر بين الموافقة القطعيّة الحاصلة بالتكرار ، والموافقة الاحتماليّة بناء على الاكتفاء بواحد من المحتملات والمخالفة القطعيّة بترك العبادة رأسا ، والثالث باطل لما تقدّم من حرمة المخالفة القطعيّة.

ولا ريب في اولويّة الأوّل ، بل تعيّنه بحكم العقل المستقلّ وفي نظر العقلاء ، مضافا الى أصل الشغل المستدعي المبرأ اليقيني الّذي لا يتأتّى باحتمال الموافقة ، وعلى الأوّل فلا يخلو أيضا إمّا أن يكون الظنّ التفصيلي المفروض الممكن حصوله من الظنّ المطلق الّذي حصل الاضطرار إلى العمل به من جهة الانسداد ، أو من الظنّ الخاصّ الّذي قام الدليل على اعتباره بالخصوص.

أمّا الأوّل : ففي جواز الاكتفاء بالموافقة الإجماليّة أو وجوب الموافقة التفصيليّة الظنّيّة وجهان : من أنّ العلم ولو إجماليّا أرجح من الظنّ لعدم احتماله مخالفة الواقع ، ومن أنّ التفصيل ولو ظنّيّا أحوط من جهة مصير جماعة إلى المنع من هذا الاحتياط أيضا ، مع كونه خلاف السيرة المستمرّة بين العلماء بل المسلمين كافّة.

ولكنّ الأقوى هو الأوّل ، لقضاء القوّة العاقلة ، وبناء العقلاء أيضا ، مع عدم منع في دليل الانسداد ، فإنّ المأخوذ في مقدّماته عدم وجوب الاحتياط لافضائه إلى العسر والحرج المنفيّين في الشريعة السمحة السهلة لا عدم جوازه ، فلا يعقل كون الظنّ الثابت اعتباره من جهته مانعا منه ، وتوهّم المنع من السيرة المستمرّة ، مدفوع : بأنّ السيرة قائمة على عدم الالتزام بالاحتياط ، ولعلّه لما فيه من الكلفة والمشقّة بالإضافة إلى العمل بالظنّ الّذي هو طريق شرعي قائم مقام العلم ، لا على المنع منه كما لا يخفى.

وأمّا الثاني ففيه أيضا وجهان : من أنّ العلم وإن كان إجماليّا ولكنّه لا يحتمل معه عدم

٧١

الإتيان بالمأمور به أصلا ، بخلاف الظنّ التفصيلي فإنّه غير مانع من احتمال الخلاف.

ومن أنّ الظنّ بعد ثبوت اعتباره بالخصوص ممّا قام شرعا مقام العلم ، وأنّه ما نزّله الشارع منزلته فمع إمكانه لا معنى لرفع اليد عنه.

وبالجملة : فالأمر في امتثال الأمر يدور بين رفع اليد عن جهة العلم والاكتفاء بالظنّ على جهة التفصيل ، ورفع اليد عن جهة التفصيل اكتفاء بالإجمال على جهة العلم ، ولكلّ وجه ، ولكنّ المشهور هو الوجه الأوّل والأقرب على حسب القواعد هو الوجه الثاني ، أعني الاكتفاء بالإجمال وعدم تعيّن الظنّ التفصيلي ، وما عرفت من دليل الوجه الأوّل فيه شيء لا يجوز معه الاعتماد عليه في ترجيحه على الوجه الثاني ، وهو أنّ المستفاد من أدلّة الظنّ الخاصّ هو جواز الاكتفاء به عن العلم ، لا وجوبه وتعيّن العمل به ولو في موضع إمكان العلم ولو إجمالا.

وبعبارة اخرى : العمل بالظنّ الخاصّ إنّما ثبت بدليله من باب الرخصة وهو مجرّد جواز الأخذ به ، لا من باب العزيمة وهو وجوب الأخذ به ، فليس في أدلّته ما يقضي بتعين العمل به في مقابلة العمل بالاحتياط الحاصل من اتّباع العلم الإجمالي ، فيبقى أولويّة جهة العلم سليمة عن المعارض ، إذ معنى قيام الظنّ مقام العلم جواز الاكتفاء به لا وجوبه.

هذا مع ما عرفت من أنّ الأقوى جواز الاحتياط بالجمع المستلزم للتكرار ، المقتضي لجواز الاكتفاء بالامتثال الإجمالي في مقابلة العلم التفصيلي الممكن حصوله ، فكيف به في مقابلة الظنّ التفصيلي المفروض إمكان حصوله دون العلم التفصيلي.

وأمّا الإشكال من جهة وجوب قصد الوجه الّذي لا يتأتّى مع العلم الإجمالي ، والاستناد إليه في إثبات تعيّن العمل بالظنّ.

ففيه : مع أنّ قصد الوجه من أصله غير واجب عندنا ، أنّه إنّما ثبت وجوبه عند معتبريه في موضع التمكّن منه ، والعالم بالإجمال غير متمكّن منه ، ودليل وجوبه إنّما دلّ عليه إذا كان علميّا ، وأمّا إذا كان ظنّيّا فلا دليل على وجوبه خصوصا في مقابلة العلم الإجمالي بإدراك الواقع ، بل هو بعد الفراغ آئل إلى العلم التفصيلي به ، بل قد عرفت أنّ تحصيل الواقع بطريق العلم ولو إجمالا أولى من تحصيل الاعتقاد الظنّي به ولو تفصيلا ، ولكنّ الأحوط في المقامين مراعاة الظنّ التفصيلي خروجا عن شبهة الخلاف في مسألة قصد الوجه وإن أحرز بطريق الظنّ ، أو في مسألة العمل بالاحتياط المتوقّف على الجمع والتكرار ، لمصير جمع إلى المنع منه بقول مطلق.

* * *

٧٢

المقصد الثاني

في الظنّ

واعلم أنّه قد عرفت في مقدّمات الباب أنّ القطع لا يحتاج إلى دليل الاعتبار لأنّه حجّة ومعتبر في نفسه ، بخلاف الظنّ فإنّه في حجّيّته واعتباره يحتاج إلى دليل ، فالظنّ يجامع كلاّ من منع الشارع من العمل به وتجويزه للعمل به.

والسرّ فيه : أنّ الظنّ بالشيء لا يلازم كون المظنون هو ذلك الشيء في الواقع ولو في نظر الظانّ ، ويجامع القطع بخلاف حكم الواقع كما لو ظنّ المكلّف بخمريّة شيء مثلا ، فإنّه يجامع القطع بكون ذلك الشيء غير محرّم ، نظرا إلى عدم كون الحرمة محمولة على مظنون الخمريّة ، بل على الخمر الواقعي من غير مدخليّة للعلم والظنّ فيه ، فمجرّد الظنّ بخمريّته لا يوجب القطع بحرمته بل يجامع كلاّ من القطع بالحرمة والقطع بعدم الحرمة والشكّ فيهما ، وإنّما يختلف ذلك باعتبار قيام الدليل القطعي على كلّ من المنع والتجويز ، وعدم قيام الدليل على شيء منهما ، فالظنّ يمتاز عن القطع بإمكان كونه معتبرا وكونه غير معتبر ، بخلاف القطع فإنّه لا يمكن كونه غير معتبر بمنع الشارع من اتّباعه للزوم التناقض ، أو خلاف الفرض الّذي يبطله دليل الخلف ، كما أنّ الشكّ يمتاز عنهما بعدم إمكان الاعتبار ، لأنّه بما هو شكّ عبارة عن تساوي الطرفين ، فلا يعقل أن يكون مناطا للأخذ بأحدهما.

نعم يمكن أن يقوم في المقام أمارة تعبّديّة توجب لزوم الأخذ بأحدهما ، غير أنّه ليس من اعتبار الشكّ بنفسه في شيء ، كما لا يخفى على الفطن العارف.

فالكلام في الظنّ يقع تارة : في إمكان اعتباره الّذي يعبّر عنه بإمكان التعبّد به عقلا.

واخرى : في وقوع التعبّد به عقلا أو شرعا وعدمه ، نظرا إلى أنّ الإمكان لا يستلزم الوقوع.

وثالثة : في خصوصيّات الموارد الّتي وقع فيها التعبّد بالعمل على الظنّ ، وتميّزها عن غيرها ممّا لم يقع التعبّد به ، ويتبعه البحث في مسألة الظنّ الخاصّ ، والظنّ المطلق الّذي

٧٣

صار إليه المتأخّرون ، ففي هذا المقصد مقامات :

المقام الأوّل في أنّه هل يمكن عقلا أن يتعبّدنا الله سبحانه بالعمل بالظنّ ، أو يستحيل ذلك عقلا استحالة عرضيّة ، من جهة استلزامه القبح ومنافاة الحكمة مع إمكانه الذاتي كالظلم منه تعالى ، لا استحالة ذاتيّة كالجمع بين النقيضين ونحوه.

وقد وقع الخلاف في ذلك بين العامّة والخاصّة غير أنّ المعروف بين الفريقين إمكانه.

وعن جماعة من المتكلّمين منّا كإبن قبة (١) وأتباعه ، ومن العامّة كالجبّائيين امتناعه ، غير أنّ هؤلاء لم يصرّحوا بذلك في خصوص الظنّ حيث لم نجد منهم هذا العنوان بخصوصه ، وإنّما أحالوا التعبّد بخبر الواحد استنادا إلى ما لا فرق فيه بينه وبين غيره من الأسباب الغير العلميّة الّتي منها الظنّ ، فبملاحظة جريان دليلهم في الظنّ على حدّ جريه في خبر الواحد نقطع بعموم كلامهم في دعوى الاستحالة.

فكيف كان فاستدلّ على القول بالإمكان : بأنّا نقطع بأنّه لا يلزم من التعبّد به محال.

ونوقش في هذا التقرير : بأنّ القطع بعدم لزوم المحال في الواقع موقوف على إحاطة العقل بجميع الجهات المحسّنة والجهات المقبّحة ، وعلمه بانتفاء الجهات المقبّحة ، والإحاطة مع العلم المذكور غير حاصلين في المقام.

فالأولى أن يقرّر : بأنّا لا نجد في عقولنا بعد التأمّل ما يوجب الاستحالة وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان ، ويخدشه : بأنّ عدم وجدان ما يوجب الاستحالة لا يستلزم عدم وجوده في الواقع ، فلا بدّ في الحكم بالإمكان معه من وسط آخر وهو بمجرّده لا يصلح وسطا ، ولعلّه الأصل في نظر المستدلّ وإن لم يصرّح به في الدليل ، فيرجع حينئذ إلى ما قد يقال ـ في الاستدلال ـ : من أنّ الأصل هو إمكان التعبّد ، لما هو المقرّر من أنّه كلّما دار الأمر في شيء بين الإمكان والامتناع فالأصل هو الإمكان.

وقد أشار إليه الشيخ الرئيس أيضا ـ فيما حكي عنه ـ « من أنّه كلّما قرع سمعك شيء ولم يقم على امتناعه برهان فذره في بقعة الإمكان » ولم نتحقّق لهذا الأصل معنى إلاّ أن يراد منه القاعدة ، وهو قاعدة أنّ المانع يكفيه المنع ولا يطالب بالدليل ، بخلاف المدّعي

__________________

(١) هو أبو جعفر محمّد بن عبد الرحمن بن قبة الرازي وكان معتزليّا ثمّ تبصّر ، رجال النجاشي : ٣٧٥ / ١٠٢٣.

٧٤

فإنّه يحتاج إلى دليل ويطالب به ، فالمدّعي للامتناع هو المحتاج إلى الدليل المطالب به دون القائل بالإمكان (١).

والسرّ فيه : أنّ الامتناع عبارة عن ضرورة جانب العدم ، وهذه الضرورة مزيّة لجانب العدم على جانب الوجود ، فلا بدّ في الإذعان بها من دليل فالمدّعي لها يطالب بدليله والقول بالإمكان منع لهذه المزيّة فلا يطالب قائله بالدليل ، وقد يجعل من فروع هذه القاعدة ما تقرّر في الدعوى والانكار من أنّ البيّنة على المدّعي ، فإنّه يدّعي أمرا زائدا على تصرّف المتصرّف وهو كون تصرّفه غصبا وعدوانيّا فيطالب بالبيّنة ، والمنكر بعد عجز المدّعي عن البيّنة يكفيه اليمين.

وفيه نظر ، بل المدّعي في مسألة دعوى الغصبيّة إنّما يطالب بالبيّنة لأنّه يدّعي خلاف الظاهر ، وهو ظهور التصرّف في الملكيّة لا لمجرّد أنّه يدّعي أمرا زائدا على أصل تصرّف المتصرّف.

وكيف كان فقد يحتمل في الأصل المذكور أن يراد به الاستصحاب في الأمر العدمي ، فإنّ الأصل في ضرورة جانب العدم ـ المأخوذة في مفهوم الامتناع ـ عدمها ، وهو واضح الفساد لانتفاء الحالة السابقة ، فإنّ الضرورة واللاضرورة في الأمر الدائر بين الإمكان والامتناع ليس شيء منهما حالة سابقة فيه يشكّ في بقائها وارتفاعها حتّى يصحّ الحكم ببقائها للاستصحاب ، ومثله في الفساد جعل الأصل بمعنى الظاهر المستند إلى الغلبة ، لغلبة الممكنات وندرة الممتنعات ، والظنّ يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب.

ووجه الفساد : منع الصغرى تارة ومنع الكبرى اخرى.

أمّا الأوّل : فلعدم إمكان إحراز الغلبة والندرة إلاّ بعد الإحاطة بجميع الممكنات والممتنعات ، وهي غير ممكنة لامتناع إحاطة امور غير متناهية في زمان متناه ، والممكنات غير متناهية وكذلك الممتنعات ، بل عدم تناهي الممتنعات كالممكنات يأبى كونها نادرة بالندرة المعتبرة في الظنّ باللحوق.

وأمّا الثاني : فلامتناع ظنّ اللحوق فيما كان الشكّ في وصفه باعتبار الشكّ في اندراجه في أيّ النوعين المتّصفين بوصفين متقابلين ، كما لو شكّ في بياض فرد من الإنسان وسواده ، باعتبار اشتباهه بين الرومي الغالب في أشخاصه البياض ، والحبشي الغالب في أشخاصه السواد ، فإنّ غلبة أشخاص الرومي مثلا على أشخاص الحبشي لا يجدي نفعا في

__________________

(١) الأسفار ١ : ٣٦٤.

٧٥

الظنّ بكونه أبيض كما هو واضح ، ومرجعه إلى انتفاء الاتّحاد فيما بين المشكوك فيه والأفراد الغالبة في العنوان الصادق عليهما صنفا أو نوعا أو جنسا.

ولا ريب أنّ الممكن والممتنع نوعان متقابلان ليس بينهما جهة جامعة ، وعنوان صادق عليهما يكون صنفا أو نوعا أو جنسا ، ومحلّ الشكّ مشكوك في اندراجه في أيّ النوعين حتّى يتّصف بوصفه من الإمكان والامتناع ، فالشكّ في وصفه إنّما هو باعتبار اشتباهه بين النوعين فيستحيل الظنّ بإمكانه من جهة غلبة الممكنات وندرة الممتنعات وإن فرضناها في كمال الندرة.

فالصحيح من محامل الأصل هنا هو ما ذكرناه من القاعدة وهو الّذي يقتضيه كلام الشيخ الرئيس أيضا ، لمكان قوله : « ولم يقم على امتناعه برهان » فإنّه كالصريح في أنّ المحتاج إلى إقامة البرهان إنّما هو القائل بالامتناع ، وأمّا المدّعي للإمكان فيكفيه مجرّد عدم قيام البرهان على الامتناع.

واحتجّ ابن قبة (١) بوجهين :

أحدهما : أنّه لو جاز التعبّد بخبر الواحد في الإخبار عن النبيّ لجاز التعبّد به في الإخبار عن الله تعالى لجامع كون المخبر عادلا في الصورتين ، والتالي باطل إجماعا ، وهو ضعيف من وجوه :

الأوّل : أنّ الإخبار في الصورتين إمّا أن يتعلّق باصول الدين أو بفروعه ، وعلى الأوّل فبطلان اللازم والملازمة كلاهما مسلّمان ، غير أنّ محلّ البحث ليس هو التعبّد به في اصول الدين ، فإنّ التعبّد به فيها غير جائز لا في الإخبار عن الله ولا في الإخبار عن النبيّ ولا في الإخبار عن الوصيّ ، لأنّ المطلوب فيها العلم وخبر الواحد لا يوجبه ، فيلزم بالتعبّد به على تقدير وقوعه إمّا التكليف بما لا يطاق إن قصد به إيجاب تحصيل العلم بالخبر الغير المفيد له ، أو نقض الغرض إن قصد به الأخذ بمؤدّى الخبر الغير العلمي وكلاهما قبيحان.

وعلى الثاني : فالملازمة مسلّمة ولكن بطلان التالي ممنوع ، إذ لا دليل على عدم حجّيّة الإخبار عن الله إذا تعلّق بالفروع ، والإجماع المدّعى عليه غير مسلّم ولذا يعمل بالأحاديث القدسيّة من غير نكير بقول مطلق ، بل قد يقال : إنّ لازم من يقول بحجّيّته عن المعصوم أن يقول بها عن الله تعالى أيضا ، لاتحاد الطريق ووحدة المناط وجريان دليل الحجّيّة فيهما معا.

__________________

(١) حكاه المحقّق في المعارج : ١٤١.

٧٦

الثاني : أنّ التعبّد بخبر الواحد إمّا أن يراد به ما هو فعل المكلّف أعني العمل به ، أو ما هو فعل الله سبحانه ـ كما هو ظاهر اللفظ لوقوعه مسند إليه تعالى ـ يراد به معنى استعبدنا ، أي طلب منّا العبوديّة بمقتضى خبر الواحد ، أي الالتزام به والأخذ به على أنّه حكم الله.

فعلى الأوّل : يرد عليه عدم انطباق الدليل على المدّعى على فرض صحّة الإجماع ، فإنّ محلّ البحث إمكان تعبّده تعالى واستحالته ، وغاية ما يقضي به بطلان التالي ـ المستند إلى الإجماع على عدم جواز العمل بخبر الواحد في الإخبار عن الله تعالى ـ إنّما هو نقيض المقدّم ، وهو عدم جواز العمل بخبر الواحد في الإخبار عن النبيّ ، وهذا كما ترى لا يستلزم عدم إمكان تعبّده تعالى ، لجواز أن يكون مستند عدم جواز العمل في الإخبار عن الله عدم وقوع التعبّد منه تعالى ، نظرا إلى أنّه كاف في الحكم بعدم جواز العمل ، ويكون هذا هو مدرك الإجماع على عدم جواز العمل أيضا.

لا يقال : إذا ثبت عدم جواز العمل به ثبت عدم إمكان تعبّده تعالى بأنّه : لو تعبّدنا الله به مع عدم جواز العمل به الثابت بالإجماع لزم التكليف بما لا يطاق ، ونقض الغرض ، وكلاهما قبيحان عليه تعالى فيمتنع صدوره منه ، لمنع الملازمة فإنّ عدم جواز العمل المستند إلى عدم وقوع التعبّد منه تعالى حكم تعليقي مراعى بعدم وقوع التعبّد وحيث وقع ذلك التعبّد منه ارتفع به ذلك الحكم التعليقي.

وعلى الثاني : يرد عليه منع بطلان التالي بمنع الإجماع عليه ، إذ لو فرضنا أنّه تعالى أقام لنا دليلا قطعيّا على أنّه يجوز لكم أو يجب عليكم في امتثال أحكامي العمل بخبر الواحد عنّي ، لا يلزم بذلك قبح ولا محذور آخر ، ولا إجماع على قبحه أيضا ولم يدّعه أحد ، ولو ادّعاه لم يكن منه مقبولا بل لا نظنّ قائلا بقبحه ، ولعلّ المستدلّ أيضا لا يرضى به.

الثالث : أنّ محلّ البحث إنّما هو التعبّد بخبر الواحد بعد استقرار الشريعة وانتشار أحكامها واختفاء الطرق القطعيّة المنصوبة عليها منه تعالى علينا ، وحينئذ نقول : إن اريد من التعبّد به في الإخبار عن الله المأخوذ في قضيّة التالي تعبّده به في أصل بناء الشرع وابتداء تأسيسه فبطلان التالي ودعوى الإجماع عليه ، ولذا يعتبر في المخبر عن الله في ابتداء بناء الشرع ـ الّذي يقال له : « المتنبّي » أن يكون معه معجزة قطعيّة تدلّ على صدقه وتفيد العلم بحقيّة كلّما جاء به عن الله سبحانه ، ولكن الملازمة ممنوعة ، لأنّ التعبّد به في الإخبار عن النبيّ جائز بعد استقرار الشريعة.

٧٧

وإن اريد منه التعبّد به بعد استقرار الشريعة مع اختفاء الطرق القطعيّة علينا فالملازمة مسلّمة وبطلان التالي ممنوع ، إذ لا دليل على عدم الجواز والإجماع المدّعى عليه ممنوع ، لعدم استتباعه قبحا ولا محذورا ، ولو بأنّه يؤدّي إلى تحليل الحرام وتحريم الحلال رجع الوجه الأوّل إلى الوجه الثاني فلا يكون دليلا على حدّة.

وثانيهما : أنّ التعبّد بخبر الواحد يؤدّي إلى تحليل الحرام وتحريم الحلال ، والتالي باطل ، فكذا المقدّم.

أمّا الملازمة : فلأنّ الخبر الواحد العاري عن قرائن الصدق محتمل للصدق والكذب ، فلا يكون دائم المصادفة للواقع بل كثيرا مّا يخالفه ، فما أخبر بحلّه لا يؤمن أن يكون حراما ، كما أنّ ما أخبر بحرمته لا يؤمن أن يكون حلالا ، فيلزم بهما في موضع المخالفة ما ذكر من تحليل الحرام وتحريم الحلال.

وأمّا بطلان [ التالي ] : فهو وإن لم يكن مذكورا في كلام المستدلّ ، ولكن يمكن أن يكون نظره فيه إلى لزوم أحد المحذورين من اجتماع الضدّين ونقض الغرض.

أمّا لزوم الأوّل : فلأنّ الحلّيّة والحرمة متضادّتان ، وتحليل الحرام حكم بحلّيّته وتحريم الحلال حكم بحرمته فيلزم ما ذكر.

وأمّا لزوم الثاني : فلأنّ الغرض من الحرام الامتناع عنه ومن الحلال عدم الامتناع عنه ، وتحليل الأوّل يقتضي عدم الامتناع عمّا تعلّق الغرض بالامتناع عنه ، كما أنّ تحريم الثاني يقتضي الامتناع عمّا تعلّق الغرض بعدم الامتناع عنه ، وكلاهما نقض للغرض.

ثمّ إنّ المراد من التحليل في عنوان « تحليل الحرام » ليس خصوص دلالة خبر الواحد على الحلّيّة بالمعنى المرادف للإباحة ، بل أعمّ منها ومن الدلالة على الوجوب أو الندب أو الكراهة ، كما أنّ المراد من الحلال في عنوان « تحريم الحلال » ليس خصوص المباح بالمعنى الأخص ، بل أعمّ منه ومن الواجب والمندوب والمكروه ، لأنّ الشيء قد يكون حراما وخبر الواحد المتعبّد به فيه يدلّ على وجوبه أو ندبه أو كراهته أو إباحته ، والكلّ من تحليل الحرام بالنظر إلى عموم الدليل ، وقد يكون واجبا أو مندوبا أو مكروها أو مباحا وخبر الواحد المتعبّد فيه يدلّ على حرمته ، وهو في الكلّ من تحريم الحلال بالنظر إلى عموم الدليل أيضا.

وكيف كان فقد اجيب عنه بوجوه (١) :

__________________

(١) انظر الفصول : ٢٧١.

٧٨

منها : أنّ التحليل والتحريم مع حرمة الحرام وحلّيّة الحلال إن فرضا متّحدين في الظرف وهو الواقع ، بأن يكون كلّ من الحرمة أو الحلّيّة مع مفاد خبر الواحد من الحلّيّة أو الحرمة حكما واقعيّا ، فالملازمة ممنوعة ، لأنّ دلالة خبر الواحد ليست علميّة فالحكم المستفاد منه حكم ظاهري ، وإن فرضناهما متعدّدين بحسب الظرف بأن يكون أحد الحكمين ثابتا له في الواقع ، والحكم الآخر المستفاد من خبر الواحد ثابتا له في الظاهر ، فبطلان اللازم ممنوع ، إذ لا ضير في مخالفة الحكم الظاهري في الشيء لحكمه الواقعي في نفس الأمر على القول بالتخطئة ، بل جميع الأحكام الاجتهاديّة المستنبطة من الأدلّة الغير العلميّة في مواضع عدم مصادفة الواقع ـ في الواقع على القول المذكور ـ أحكام ظاهريّة مخالفة للأحكام الواقعيّة ، ولا يلزم شيء من المحذورين ، لتعدّد الموضوع وانتفاء شرط تنجّز الحكم الواقعي ، وهو العلم بالخطاب تفصيلا أو إجمالا.

ومنها : نقض الاستدلال بأمارات غير علميّة وقع التعبّد بها في الشريعة ، كالفتوى في الأحكام للمقلّد ـ كما عن العلاّمة في النهاية (١) ـ والبيّنة واليد ونحوهما في الموضوعات للمجتهد والمقلّد ، لعدم دوام مصادفتها الواقع ، فلا يؤمن شيء منها عن تحليل الحرام وتحريم الحلال.

وعن بعضهم أيضا نقضه بالتعبّد بالقطع الّذي لا يؤمن من مخالفة الواقع.

ومنها : أنّ التعبّد بخبر الواحد إمّا أن يفرض مع انسداد باب العلم على المكلّف في المسألة ، على معنى عجزه وعدم تمكّنه من العلم فيها ، أو يفرض مع انفتاح باب العلم وتمكّن المكلّف منه.

وعلى الأوّل : فإمّا أن يقول المستدلّ بأنّ المكلّف ليس له في الواقعة حكم أصلا لا واقعا ولا ظاهرا ، فيكون فيها كالبهائم والمجانين ، أو يقول بأنّ له حكما ظاهرا لا واقعا ، أو يقول بأنّ له حكما واقعا لا ظاهرا.

فإن كان نظره في الصورة الاولى ، ففيه : مع أنّه كلمة هو قائلها بل لا نظنّه قائلا بها ـ لمنافاته عبارة الدليل المشتمل على تحليل الحرام وتحريم الحلال المقتضي لأن يكون هناك حراما وحلالا في حقّ المكلّف ـ أنّ ذلك خارج عن المتنازع وليس لنا فيه كلام ، لأنّ محطّ النظر في تلك المسألة جواز التعبّد بخبر الواحد ، أو بمطلق الظنّ على فرض بقاء التكليف والحكم على حدّ ما هو ثابت للمشافهين المتمكّنين من العلم.

__________________

(١) لم نعثر عليه.

٧٩

وإن كان نظره في الصورة الثانية ، ففيه : أنّه ليس في التعبّد بخبر الواحد حينئذ تحليل حرام ولا تحريم حلال ، إذ المفروض انتفاء الحليّة والحرمة الواقعيّين في حقّه ، وإنّما خبر الواحد وغيره من أنواع الظنون حكم ظاهري في حقّه ، والمفروض أنّه ممّا سلّمه المستدلّ فلا مجال لتوهّم الملازمة.

وإن كان نظره إلى الصورة الثالثة ، ففيه : إذا لم يجز للشارع أن يتعبّده بخبر الواحد ، فلا يخلو إمّا أن لا يتعبّده بشيء فهو في معنى ترخيصه تعالى في كلّ من الفعل والترك ، فلا يؤمن من أن يكون ترخيصا لفعل الحرام أو لترك الواجب ، أو يتعبّده بالعلم فهو تجويز للتكليف بالمحال ، أو يتعبّده بخلاف مقتضى خبر الواحد وهو الاحتمال الموهوم ، فهو خروج عن الإنصاف بل خلاف بديهة العقل ، لتضمّنه رفع اليد عن الراجح وإيجاب الأخذ بالمرجوح.

وإمّا أن يتعبّده بغير الخبر من سائر الأمارات الغير العلميّة بل الاصول أيضا ، فهو كرّ على ما فرّ ، لمشاركة الجميع في التأدية إلى تحليل الحرام وتحريم الحلال.

وإمّا أن يتعبّده بالاحتياط فهو إخراج للمقام عن محلّ الكلام من حيث إنّ الاحتياط أيضا طريق علمي ، وقد فرضناه غير متمكّن عن الطرق العلميّة بأسرها ، أو أنّه يفضي إلى العسر والحرج المنفيّين ، بل كثيرا مّا يتعذّر فيلزم تكليف ما لا يطاق.

وظنّي أنّ المستدلّ لا يلتزم بشيء من هذه الصور ، بل الظاهر أنّ محطّ نظره في الاستدلال على المنع إنّما هو صورة انفتاح باب العلم ، وربّما يؤيّده ما قيل من أنّه بحسب العصر أسبق من السيّد وتابعيه القائلين بانفتاح باب العلم في أعصارهم.

وممّا ذكرنا حينئذ ينقدح أنّه لا وقع لنقض الاستدلال بالفتوى كما عرفته عن العلاّمة ، لأنّ الآخذ بالفتوى ليس له طريق في التعبّد إلاّ الفتوى ، لأنّ المفروض انسداد باب العلم عليه.

وقد يقال : بأنّه ليس له شيء أبعد من تحريم الحلال وتحليل الحرام من العمل بالفتوى ولا لنقضه بالقطع مع احتمال كونه في الواقع جهلا مركّبا.

أمّا أوّلا : فلعدم كون القطع ممّا تعبّد به شرعا ، لما عرفت في مقدّمات الباب من عدم كون حجّيّته بجعل الشارع ، لأنّ قبول الجعل مقصور على ما كان قابلا لأن يقع وسطا في الدليل ، وليس إلاّ ما كان قابلا للمنع ولا يتأتّى ذلك إلاّ في موضع الاحتمال ، والقاطع ما دام قاطعا لا يحتمل في قطعه احتمال الخلاف ، فلا يعقل منعه من العمل بقطعه لأجل مخالفته الواقع.

وأمّا ثانيا : فلأنّ القاطع المخالف قطعه الواقع هو الجاهل المركّب ، وأيّ عاجز عن العلم

٨٠