تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٥٥٥

محلّ الكفر عن غيره :

الاولى : إنكار ما علم كونه ما أتى به النبيّ من عند الله بضرورة الدين ، أو المذهب ، أو بالنظر والبرهان ، ولا ريب في كونه كفرا بجميع تقاديره الثلاث.

الثانية : إنكار ما ظنّ كونه كذلك بواسطة الدليل الظنّي الثابت حجّيته بالأدلّة القطعيّة ، وهذا بواسطة عدم العلم بكونه بالخصوص ممّا أتى به النبيّ لا يوجب الكفر ، بل غايته الفسق والإثم.

نعم لو كان إنكاره ايّاه بحيث يؤدّي إلى إنكار الحكم الكلّي الاصولي ، وهو وجوب اتّباع ذلك الدليل الظنّي كما هو مفاد أدلّة الحجّيّة لزم منه الكفر ، لأنّ من جملة ما جاء به النبيّ هو ذلك الحكم الاصولي ، وكذا الحال في إنكار مؤدّى الدليل التعبّدي الغير المنوط حجّيّته بحصول الظنّ الفعلي ، كخبر العادل عند من يرى أدلّة حجّيّته بالخصوص تامّة ، فإنّ إنكاره وعدم التديّن به في الواقعة الخاصّة فسق ، وإذا رجع إلى إنكار الحكم الكلّي الاصولي الّذي هو أيضا ممّا أتى به النبيّ مع العلم به بواسطة قطعيّة أدلّة حجّيّته لزم منه الكفر ، وكذلك إنكار مفاد الأصل العملي كالاستصحاب وأصل البراءة ، فإنّه أيضا من حيث الخصوص ليس كفرا ، وإذا رجع إلى إنكار الحكم الكلّي المجعول للجاهل المعبّر عنه بالحكم الظاهري لزم الكفر.

الثالثة : انكار مؤدّى الأمارات الشرعيّة المعمول بها في الموضوعات كالبيّنة واليد وغيرها ومنها حكم الحاكم الشرعي ، فإنّ انكاره إنّما يوجب الكفر إذا رجع إلى إنكار وجوب اتّباعه الّذي هو مفاد أدلّة الحجّيّة ، لعموم أدلة الإقرار بما جاء به النبيّ.

وربّما يشير إلى ذلك في خصوص الحكم ما في مقبولة عمر بن حنظلة من قوله عليه‌السلام : ينظران إلى من كان منكم قد روى حديثنا ، ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما ، فإنّي قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّه استخفّ بحكم الله وعلينا ردّ ، والرادّ علينا الرادّ على الله وهو على حدّ الشرك (١).

وبما بيّناه ظهر حكم خرق الإجماع بسيطا ومركّبا المفيد للعلم بالحكم الواقعي باعتبار كشفه عن قول المعصوم ، أو عن رضاه ، أو عن كون المجمع عليه مأخوذا منه ، بناء على أنّ الأئمّة عليهم‌السلام كانوا يصدرون عن النبيّ ، فإنّه إذا كان على سبيل ردّ ما علم كونه ممّا

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٣٦ / ١ ، ب ١١ من أبواب صفات القاضي.

٤٠١

جاء به النبيّ من عند الله ، وعدم قبوله دينا كفر ، لأنّه خلاف الإقرار بكلّ ما جاء به النبيّ من عند الله المأخوذ في الإسلام ، ولعموم ما تقدّم في المعتبرة من قوله عليه‌السلام : « يخرج من الإسلام إذا زعم أنّها حلال » ، وما بمعناه.

ومن ذلك علم حكم مخالفة الحكم العقلي فيما يستقلّ به العقل ، بناء على الملازمة بينه وبين الحكم الشرعي ، إذا كانت على سبيل الردّ وعدم قبوله دينا.

المسألة الرابعة : اختلف الأكثر القائلون بوجوب تحصيل المعارف بطريق العلم مطلقا أو اليقين الحاصل بالدليل ، وعدم كفاية التقليد فيها في وقت التكليف بتحصيل المعارف على أقوال :

فعن بعض المتكلّمين : أنّه وقت إمكان تحصيلها سواء كان قبل البلوغ الشرعي بسنين أو بعده كذلك ، فحيث أمكن توجّه الخطاب بتحصيلها ولو قبل البلوغ ، ومتى لم يمكن لم يتوجّه ولو بعد البلوغ ، لأنّ من شروط صحّة التكليف القدرة على المكلّف به ، ومع عدمها كان التكليف محالا.

وعن بعض الفقهاء : أنّ وقت التكليف بالمعارف هو وقت التكليف بسائر العبادات ، وهو البلوغ الشرعي الّذي هو في الذكر عبارة عن بلوغه خمسة عشر سنة ، وفي الانثى عن بلوغها تسعة سنين ، غير أنّه يجب المبادرة إلى تحصيل المعارف قبل الامتياز (١) بالأعمال.

وعن الشيخ : أنّ وقت التكليف بالمعارف في الذكر هو بلوغه عشر سنين عاقلا ، واعترض عليه : بحديث رفع القلم عن الصبيّ حتّى يحتلم أو حتّى يبلغ ـ على اختلاف الرواية ـ كما في النبويّ المروي بطرق الفريقين « رفع القلم عن ثلاثة عن الصبيّ حتّى يحتلم ، وعن المجنون حتّى يفيق ، وعن النائم حتّى ينتبه أو يستيقظ » (٢) ، على اختلاف الرواية أيضا ، كما أعترض على سابقه : بأنّ الاناث مع ضعفهنّ ونقصان عقولهنّ ، كيف يكلّفن بتحصيل المعارف بعد تسعة سنين ، ولا يكلّف به الذكور إلى ستّة عشر سنة مع كمال عقلهم.

ودفع تارة : بالنقض بسائر العبادات والأعمال.

واخرى : بأنّ عدم بلوغ عقولنا إلى حكمة الفرق بين الفريقين لا يقضي بعدمها ، وفعل الشارع الحكيم لا يخلو عن حكمة ولو خفيّة لا ينتهي إليها العقول القاصرة ، مع أنّ صحّة

__________________

(١) كذا فى الأصل.

(٢) بحار الأنوار ٤ : ٢٧٧ / ٤١ وصحيح البخاري كتاب الطلاق : ١١ ، وسنن الترمذيّ كتاب الحدود : ١.

٤٠٢

التكليف منوطة بالعقل ، والقدر المشترك منه الكافي في صحّة الخطاب حاصل لكلّ من الفريقين بعد بلوغه ، والفرق بينهما غالبا بالقوّة والضعف لا يوجب تفاوتا في الحكم ، مع أنّا نرى غالبا في الانثى بعد استكمالها التسع من الإدراك والتميز ما لا نجده للذّكر في هذا السنّ إلى ما يقرب من بلوغه الخمسة عشر.

وقد يجاب أيضا : بأنّ التكليف إنّما هو دون الطاقة بل الوسع ، والفرق مع الطاقة والوسع لعلّه لكونهنّ أحقّ بتعجيل الحمى ـ لنقصان عقولهنّ ، فعلمهنّ بعدم التكليف ادعى لهنّ إلى المعاصي ـ من الذكور ، ولأنّ الذكور لكونهم أكثر موردا للمحن والمصائب ، وأثقل أحمالا لتحمّلهم أحمال الإناث ، وتكلّفهم مؤنتهنّ لابدّ لهم في تحصيل التدرّب في امور المعاش من فرصة ليكمل لهم فيه التجارب.

فأقوى الأقوال أوسطها : لأصالة البراءة ، واستصحاب الحالة السابقة على حصول الإمكان قبل البلوغ الشرعي ، والإمكان حيثما حصل إنّما يجعل المورد متأهّلا لأن يتوجّه إليه الخطاب ، ولا يصلح مثبتا له ، بل المثبت له الدليل ، ولا دليل عليه من عقل ولا نقل.

أمّا الأوّل : فلأنّ الّذي يمكن توهّم الاستناد إليه من جهة العقل ، إنّما هو حكمه بوجوب النظر في معرفة الله دفعا للضرر المحتمل ، أو لإزالة خوف زوال النعمة ، أو خوف العقوبة عن النفس المترتّبين على عدم معرفة المنعم وعدم شكره بما يليق ، ويدفعه : أنّ القدر المسلّم منه إنّما هو حكمه بما ذكر بعد البلوغ الشرعي ، وأمّا قبله فلحكمه بالبراءة الأصليّة يؤمنه من ضرر زوال النعمة والعقوبة ، فتأمّل.

وأمّا الثاني : فلأنّ غاية ما يمكن الاستناد إليه من جهة النقل ، إنّما هو عمومات التكليف بالمعارف ، من نحو قوله ( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ )(١) وقوله : ( اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها )(٢).

ويدفعه : أنّ هذه العمومات كسائر عمومات التكاليف معلّقة بشرائط التكليف التي منها البلوغ ، عملا بعمومات البلوغ الحاكمة عليها في متفاهم العرف ، مثل حديث « رفع القلم عن الصبيّ حتّى يحتلم » ، أو يبلغ (٣) وما روي عن النبيّ أيضا ، أنّه قال : « إذا استكمل المولود خمسة عشرة كتب ما له وما عليه وأخذ منه الحدود » (٤) ، وغير ذلك من أخبار إناطة

__________________

(١) سورة محمّد ( ص ) : ١٩.

(٢) سورة الحديد : ١٧.

(٣) بحار الأنوار : ٤٠ : ٢٧٧ / ٤.

(٤) الخلاف ٣ : ٢٨٣ ، وتلخيص الحبير ٣ : ٤٢ / ١٢٤١ ، وفتح العزيز ١٠ / ٢٧٨.

٤٠٣

تكاليف الصبيان وأحكامهم ببلوغهم ، وأدلّة تبعيّة أولاد المسلمين والكفّار لآبائهم في الطهارة والنجاسة إلى أن يبلغوا.

ويؤيّد الجميع : ظاهر المنقول في المصابيح (١) من إجماع الإماميّة بل إجماع المسلمين كافّة ، فإنّ العلماء مع اختلافهم في حدّ البلوغ بالسنّ مجمعون على أنّ البلوغ الرافع للحجر هو الّذي يثبت به التكليف ، وأنّ الّذي يثبت به التكليف في العبادات هو الّذي يثبت به التكليف في غيرها ، وأنّ الّذي يثبت به التكليف في بعض العبادات كالصلاة مثلا هو الّذي يثبت به التكليف في العبادات الباقية ، وهذا أمر ظاهر في الشريعة معلوم من طريقة فقهاء الفريقين وعمل المسلمين في الأعصار والأمصار من غير نكير.

ثمّ اختلف في أنّ المكلّف بالمعارف إذا اشتغل بالنظر في تحصيلها ، فهل هو في هذه الحالة كافر أو مؤمن؟ فعن المرتضى الجزم بكونه كافرا (٢).

واستشكله الشيخ زين الدين ـ على ما حكي عنه ـ « بأنّه يلزم حينئذ أن نحكم بكفر كلّ أحد في أوّل كمال عقله الّذي هو أوّل وقت تكليفه بالمعرفة ، ويلزم أيضا لو مات في ذلك الوقت أن يكون مخلّدا في النار ، وهذا كلّه في غاية البعد من عدالته تعالى وسعة رحمته بل في بعض الصور يلزم الظلم وتكليف ما لا يطاق ، كما لو لم يقصّر فمات في ذلك الوقت ، أو قبل مضيّ زمان يسع النظر إلى أن يستكمل المعرفة ، إلاّ أن يقال : بأنّ هذا النوع من الكفر لا يوجب في صاحبه العذاب ، ويقال : بأنّ الإجماع على خلود الكافر في نار جهنّم مقصور على من اختار الكفر عن اعتقاد.

ولو قيل : بأنّ كلّ من لم يكن من أهل النار يدخل الجنّة ، بناء على عدم الواسطة بين هذين الفريقين ، فيلزم أن يكون غير المؤمن مخلّدا في الجنّة ، وهذا خلاف إجماعهم على عدم دخول غير المؤمن الجنّة.

فجوابه : إمكان كون دخول ذلك فيها نوعا من التفضّل ، كأطفال المؤمنين حيث يدخلونها تفضّلا ، بدعوى اختصاص الإجماع المذكور بمن كلّف بالإيمان ، ومضى عليه مدّة تسع تحصيله وقصّر فيه.

والتحقيق : أنّ مثل ذلك المفروض لا يحكم بإيمانه ولا بكفره حقيقة في مدّة نظره في تحصيل المعارف ، بل إنّما يجري عليه حكم الإيمان بتبعيّة أبيه وامّه كالأطفال ، لعدم تحقّق

__________________

(١) المصابيح : ( مخطوط ) ١٧.

(٢) رسائل الشريف المرتضى ٢ : ٣١٧.

٤٠٤

التكليف عليه بتمامه حتّى يخرج من حكم الأطفال ، فهو باق على حالته الأوّليّة حتّى يمضي عليه زمان يمكنه النظر الموصل إلى الإيمان بتمامه » ، انتهى كلامه نقلا بالمعنى.

أقول : والظاهر أنّ موضوع المسألة المتنازع في حكمه ، من كمل بالبلوغ والعقل ، وكلّف بالمعرفة واشتغال بالنظر لتحصيلها ولم يستكملها بعد ، واحترزنا بالقيد الأوّل عن الأطفال لعدم وقوع اسم المؤمن ولا الكافر عليهم ، ولذا يحكم عليهم بالتبعيّة لآبائهم في الطهارة والنجاسة ، وبالثاني عن المجانين لما ذكرناه في الأطفال ، وبالثالث عن الّذين كانوا في قطر من الأرض لم يقرع بأسماعهم صيت الإسلام ولا الكفر ولم يفهموا أنّ في العالم دينا ومذهبا ، ضرورة عدم توجه الخطاب إليهم بتحصيل المعرفة ، لقبح تكليف الغافل وعدم جواز تكليف ما لا يطاق ، ولقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) أو ( إِلاَّ وُسْعَها )(١) وقوله أيضا : ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ )(٢) وهؤلاء لم يقم عليهم البيّنة ، وللأخبار الواردة بأنّ الله عزّ وجلّ يحتجّ على العباد بما آتاهم وعرّفهم ، ولم يتمّ عليهم الحجّة.

وقضيّة ذلك أن لا يقع عليهم اسم المؤمن ولا الكافر ، أمّا الأوّل : فلأنّ المؤمن من الإيمان بمعنى التصديق بالله سبحانه وبصفاته وعدله وبرسوله وبما جاء به الرسول وبالأئمّة عليهم‌السلام وباليوم الآخر وهؤلاء لا تصديق لهم.

وأمّا الثاني : فلأنّ الكافر يطلق لمعنيين :

أحدهما : الساتر للحقّ بعد ظهوره ، وهؤلاء ليسوا بذلك.

وثانيهما : من الكفر بالمعنى الّذي عرّفه أكثر المتكلّمين على ما حكي ، وهو عدم الإيمان ممّن شأنه الإيمان ، وهؤلاء لغفلتهم الصرفة ليس من شأنهم الإيمان ، بناء على أنّ مناط شأنيّة الإيمان ما يكفي في صحّة توجّه الخطاب بتحصيله ، وإن شئت فسّرها بالقوّة القريبة من الفعل ، احترازا عن الإمكان الذاتي.

وبالرابع (٣) عمّن اختار عدم الإيمان مع تفطّنه بوجوب النظر فيه عن تقصير ، لعدم الاسترابة في وقوع اسم الكافر بالمعنى الثاني عليه ، وجريان أحكام الكفر عليه في الدنيا والآخرة.

وبالخامس عمّن استكمل القدر الواجب عليه من المعارف ، لعدم الاسترابة في وقوع

__________________

(١) سورة الطلاق : ٧ ـ البقرة : ٢٨٦.

(٢) سورة الأنفال : ٤٢.

(٣) أي واحترزنا بالقيد الرابع الخ.

٤٠٥

اسم المؤمن عليه وجريان أحكام الإيمان عليه في الدنيا والآخرة.

وحينئذ نقول : إن كان النزاع راجعا إلى جريان أحكام المؤمن ، أو أحكام الكافر في الدنيا على الموضوع المفروض ، فالظاهر أنّ الحالة السابقة على البلوغ من الطهارة التبعيّة وغيرها في أولاد المؤمنين ، والنجاسة التبعيّة وغيرها في أولاد الكفّار ، مستصحبة إلى أن يستكمل القدر الواجب من المعرفة ، لطروّ الشكّ في قدح العارض وهو التشاغل بالنظر في تحصيل المعرفة ، وإن كان راجعا إلى وقوع اسم « المؤمن » أو اسم « الكافر » عليه ، فالظاهر عدم وقوع اسم « المؤمن » عليه لعدم التصديق مطلقا ، ولا وقوع اسم « الكافر » بمعناه الأوّل لأنّه لم يستر حقّا بعد ظهوره ، ولا بمعناه الثاني إلاّ إذا اريد من عدم الإيمان ممّن شأنه الإيمان عدمه بقول مطلق ، أي سواء اختار العدم بترك التشاغل بالنظر لتقصير ، أو لا باختيار التشاغل ، وهذا غير واضح وإن ساعد عليه إطلاق التعريف ، مضافا إلى عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة في المعنى المذكور على إطلاقه ، وبدونه لا ينفع الإطلاق على الوجه المفروض ، فعدم وقوع شيء من الاسمين عليه أولى بالإذعان ، كما عرفت عن الشهيد الثاني.

وإن كان راجعا إلى حكمه في الآخرة لو اتّفق موته في هذه الحالة ، فهل يجري عليه حكم الكفر أو الإيمان؟ فالّذي ينبغي أن يقطع به هو عدم العذاب والدخول في النار بقول مطلق ، للزوم الظلم ومنافاته قواعد العدل وأمّا أنّه يدخل الجنّة مطلقا ، أو أنّه من أهل الأعراف كذلك ، أو أنّه تعالى يعامل معه بمقتضى علمه ، فإن علم أنّه لو بقي حيّا صار مؤمنا فيدخله الجنّة ، أو آل أمره إلى خلاف الإيمان في بعض الجهات فيعذّبه بالنار ، أو أنّه إن كان من أولاد المؤمنين فحاله كحال أطفال المؤمنين في التبعيّة للآباء في الدخول في الجنّة ، وإن كان من أولاد الكفّار فحاله كحال أطفالهم المختلف فيها قولا ورواية وجوه ، لم نقف على دليل لتعيين بعضها ، فالتوقّف عن التعيين سبيل النجاة ، ثمّ إنّ باقي ما يتعلّق بمسألة الظنّ في اصول الدين وغيره قد أوردناه في الباب المتقدّم ذكره.

الأمر الخامس

إذا قلنا بعدم حجّيّة ظنّ أو بعدم حجّية الظنّ المطلق ، فهل نفي الحجّيّة يستلزم سلب جميع الآثار من الطريقيّة والجابريّة والموهنيّة والمرجحيّة أو أنّه مقصور على الطريقيّة؟

٤٠٦

فيترتّب عليه سائر الآثار ، مثل كونه جابرا ضعف سند أو قصوره ، أو قصور دلالة من جهة الإجمال أو ضعفها ، كالدلالة على المفهوم في التعليق على الوصف المشعر بالعلّيّة ، أو موهنا لسند معتبر في نفسه ، أو دلالة معتبرة ، أو مرجّحا لأحد المتعارضين على الآخر ، فها هنا مباحث :

المبحث الأوّل

في انجبار الظنّ الغير المعتبر

فنقول : إنّ عدم اعتبار الظنّ المبحوث كونه جابرا إمّا أن يكون من جهة ورود النهي عنه بالخصوص كالقياس ، أو من جهة دخوله في أصالة التحريم بالعموم.

أمّا القسم الأوّل : فينبغي القطع بعدم كونه صالحا للجبر في جميع وجوهه ، لعموم النهي الوارد في الأخبار الناهية المفيد لكون استعمال القياس في الدين مبغوضا للشارع ، سواء كان استعماله على وجه اتّخاذه دليلا على الحكم الشرعي بالاستقلال ، أو على وجه جعله جابرا لضعف أو قصور سند أو دلالة ، من غير فرق بين كون الجهة الباعثة على نهي الشارع اشتماله على مفسدة ذاتيّة ، أو غلبة مخالفته الواقع.

وأمّا القسم الثاني : فظاهر أدلّة أصالة التحريم من عمومات الآيات والروايات يساعد على عدم صلاحيّته للجبر أيضا ، فإنّ اتّخاذه جابرا للسند اتّباع لما عدا العلم ، فيعمّه قوله تعالى : ( لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ )(١) واتّباع للظنّ فيعمّه المنع المستفاد من قوله : ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ )(٢) ويتأكّد ذلك بالتعليل بأنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئا ، لدخول جبر السند في عموم النكرة المنفيّة.

نعم يمكن أن يستظهر جواز الجبر به من الأدلّة المتقدّمة في حجّيّة خبر الواحد الدالّة على إناطة الحجّيّة بالظنّ والوثوق بصدوره ، لرجوع الظنّ الموافق للخبر الضعيف إلى الظنّ بصدوره ، فيكون حجّة بموجب أدلّة الحجّيّة ، وهذا هو معنى الجبر ، إلاّ أن يدفع الاستظهار : بأنّ مفاد أدلّة حجّيّة المجبور كونه مفيدا للظنّ بصدوره ولو لقرينة داخليّة ، لا مجرّد كونه مظنون الصدور وإن حصل الظنّ من أمارة خارجيّة غير معتبرة.

ومحلّ البحث هو هذا فلا يندرج في أدلّة الحجّيّة ، وهذا هو الّذي يساعد عليه التدبّر

__________________

(١) سورة الإسراء : ٣٦.

(٢) سورة الأنعام : ١١٦.

٤٠٧

في مساق أدلّة الحجّيّة ، فإنّ العمدة منها في الدلالة على المناط المذكور هي الطائفة الثانية من الأخبار المتقدّمة في باب حجّيّة خبر الواحد ، الدالّة على كون مناط الحجّيّة وثاقة الراوي ، أو عدالته أو أمانته ، بعبارة : أنّ فلانا ثقة ، أو أنّ فلانا وفلانا ثقتان ، أو أنّ فلانا مأمون في دينه ، وما يؤدّي مؤدّى هذه العبارات.

ولا ريب أنّه لا ينساق منها أزيد من كون مناط الحجّيّة إفادة الخبر باعتبار وثاقة الراوي ومأمونيّته الظنّ والوثوق بصدوره ، وهذا ليس من جبر ضعف السند ، أو قصوره بالظنّ الغير المعتبر في شيء.

لا يقال : إنّ ما في جملة من الأخبار العلاجيّة ، كمقبولة ابن حنظلة ومرفوعة زرارة ، وغيرهما من الدلالة على الترجيح تارة بأعدليّة الراوي ، أو أصدقيّته ، أو أفقهيّته ، واخرى بموافقة الكتاب أو مخالفة العامّة ، دليل على أنّ مناط الحجّيّة أعمّ من كونه بنفسه مفيدا للظنّ بصدوره ، كما في الترجيح بالأعدليّة واختيها ، لأنّها من القرائن الداخليّة ، أو كونه مظنون الصدور لأمارة خارجيّة ، كما في الترجيح بموافقة الكتاب أو مخالفة العامّة ، لأنّهما من القرائن الخارجيّة.

لأنّا نقول : إنّ إناطة ترجيح إحدى الحجّتين على الاخرى بما يوجب ظنّ الصدور ، غير إناطة إثبات الحجّيّة بما يفيد ظنّ الصدور ، وكلامنا في الثاني فلا يندرج في أخبار الترجيح.

ويظهر الثمرة : في الخبر الضعيف الخالي عن المعارض المظنون صدوره من جهة أمارة خارجيّة غير معتبرة ، فهل يصير بمجرّد ذلك حجّة أو لا؟ الوجه العدم لعدم جواز التعويل على الظنّ المذكور ، لعموم أصالة التحريم وعدم الدليل المخرج له عنها.

وممّا ذكرنا اتّضح أنّ ما اشتهر بينهم ، من انجبار ضعف سند الخبر بالشهرة في الفتوى كما نسب إلى المشهور ممّا لا أصل له ، وفاقا لثاني الشهيدين (١) المنكر لقاعدة الانجبار ، إذ غاية ما يمكن أن يقال في بيان مدركه أنّ الشهرة توجب الظنّ بصدوره ، والخبر المظنون صدوره حجّة.

وفيه : منع كلّ من الصغرى والكبرى.

أمّا الأوّل : فلمنع إفادة الشهرة في الفتوى الظنّ بصدور ذلك الخبر ، بل أقصى ما يفيده الظنّ بمطابقة مضمونه لنفس الأمر.

__________________

(١) المسالك ٦ : ١٥٦.

٤٠٨

وأمّا الثاني : فلأنّه على فرض تسليم استلزامه الظنّ بصدور ذلك الخبر ، قد عرفت أنّه لا دليل على حجّيّة الخبر المظنون الصدور على إطلاقه.

وقد يعلّل منع الكبرى بأنّ جلّهم لا يقولون بحجّيّة الخبر المظنون الصدور مطلقا ، فإنّ المحكي عن المشهور اعتبار الإيمان في الراوي ، مع أنّه لا يرتاب أحد في إفادة الموثّق الظنّ بصدوره ، فإن قيل : إنّ ذلك لخروج خبر غير الإمامي بالدليل الخاصّ ، مثل منطوق آية النبأ ، ومثل قوله عليه‌السلام : « لا تأخذنّ معالم دينك من غير شيعتنا » (١).

قلنا : إن كان ما خرج بحكم الآية والرواية خاصّا بما لا يفيد الظنّ فلا يشمل الموثّق ، وإن كان عامّا له ولما يفيده ، كان خبر غير الإمامي المنجبر بالشهرة والموثّق متساويين في الدخول تحت الدليل المخرج ، ومثل الموثّق خبر الفاسق المتحرّز عن الكذب ، والخبر المعتضد بالأولويّة والاستقراء وسائر الأمارات الظنّيّة ، مع أنّ المشهور لا يقولون بذلك.

وبالجملة : فالفرق بين الضعيف المنجبر بالشهرة ، والمنجبر بغيرها من الأمارات ، وبين الخبر الموثّق المفيد لمثل الظنّ الحاصل من الضعيف المنجبر ، في غاية الإشكال ، خصوصا مع عدم العلم باستناد المشهور إلى ذلك الخبر الضعيف.

وقد يدّعى كون الجبر بالشهرة مستفادا من مقبولة عمر بن حنظلة ، ومرفوعة زرارة الآمرين بالأخذ بما اشتهر بين الأصحاب من المتعارضين.

وفيه : نظر ما تقدّم من أنّ ترجيح إحدى الحجّتين في مقام التعارض بالشهرة ، لا يلازم حجّيّة غير الحجّة في نفسه في غير مقام التعارض بالشهرة ، مع أنّ كلامنا في الشهرة في الفتوى ، وهذه شهرة في الرواية ، ولذا فرض الراوي فيما بعد ذلك كون الخبرين معا مشهورين ، وتوهّم التعدّي إلى الشهرة في الفتوى بقوله : « فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه » ، نظرا إلى أنّه من العلّة المنصوصة المفيدة للعموم ، يدفعه ، أنّه عامّ في مورده ، فإنّ المجمع عليه معناه المجمع على روايته ، للقرينة المذكورة من أنّ المتعارضين قد يكونان معا مشهورين.

نعم لو كان الشهرة حاصلة على العمل بالخبر الضعيف ، وقد يقال لها : الشهرة الاستناديّة ، ومعناها كون مستند المشهور في الفتوى هو العمل بذلك الخبر الضعيف ، فقد يقال بكونها جابرة دون ما لم يعلم استنادها إليه.

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٥٠ / ٤٢ ، ب ١١ من أبواب صفات القاضي.

٤٠٩

وقد يوجّه ذلك : بأنّ عمل المعظم أو الأكثر به ، يكشف عن قرينة صدق لو عثرنا عليها لعملنا به من جهتها أيضا ، وهذا أيضا مشكل ، لأنّ غاية ما هنالك الكشف الظنّي عن وجود القرينة ، وأقصاه صيرورة الخبر بالنسبة إلينا مظنون الصدق والصدور من جهة أمارة ظنّيّة غير معتبرة ، وأيّ دليل على كفاية ذلك الظنّ لنا في العمل بالخبر الضعيف مع عموم أصالة تحريم العمل بالظنّ؟ وربّما حكي كون الخبر الضعيف المنجبر من الظنون الخاصّة حيث ادّعي الإجماع على حجّيّته وهو غير ثابت.

وقد يدّعى (١) : كون جبر السند بالشهرة [ مستفادا ] من مفاد منطوق آية النبأ الدالّ على جواز قبول خبر الفاسق بعد التبيّن ، بناء على أنّه أعمّ من التبيّن الظنّي ، والنظر في الشهرة فتوى أو عملا أو رواية من حيث استلزامه الظنّ بصدق الخبر الضعيف تبيّن ظنّي.

ويزيّفه : بعد منع الاستلزام في بعض أقسام الشهرة ، أنّ البناء على تعميم التبيّن يأباه أوّلا : مادّة التبيّن ، لكونه من البيان بمعنى الوضوح ، فيكون ظاهرا في التبيّن العلمي ، فلا يصرف عنه إلاّ لقرينة مفقودة في الآية.

وثانيا : لفظ « الجهالة » لظهوره فيما يقابل العلم ، والظنّ الغير المعتبر كما هو مفروض المقام غير خارج منه.

نعم لو كان الظنّ المأخوذ في التبيّن الظنّي من الظنون المعتبرة خصوصا أو عموما قام بمقتضى دليل اعتباره مقام العلم ، ومفروض المسألة ليس منه.

وثالثا : تعليل الأمر بالتبيّن بما يوجب الندم ، وظاهر أنّ التعويل على الظنّ الغير المعتبر في العمل بالخبر الضعيف اكتفاء بالتبيّن الظنّي المفروض من موجبات الندم ، فيشمله المنع من العمل المستفاد من المنطوق.

وهذه الوجوه هو التحقيق في الجواب ، لا ما عساه يجاب من : « أنّه إن اريد من التبيّن الظنّي ما يبلغ حدّ الاطمئنان ، الّذي معياره سكون النفس ، رجع ذلك إلى اعتبار الظنّ الاطمئناني بالواقع ، فهو الحجّة في الحقيقة من دون مدخليّة لخصوص الخبر ، والمقصود من الاستدلال بالآية ، جعل الخبر حجّة من جهة استحصال الظنّ بصدقه من الشهرة لا غير ، وإن اريد به ما يوجب رجحان الصدق وإن لم يبلغ حدّ الاطمئنان ، فحمل الآية عليه بمكان من الفساد ، لرجوعه في الحقيقة إلى إلغاء الآية وإخراج كلام الحكيم لغوا ، لأنّ لزوم

__________________

(١) إدّعاه الوحيد البهبهاني في الفوائد الحائريّة : ٤٨٧ ، وكذا كاشف الغطاء في كشف الغطاء : ٣٨.

٤١٠

طلب رجحان الصدق في العمل بالخبر من ضروريّات العقول ، ولا يوجد عاقل يعمل به مع الحيرة والتردّد في صدقه وكذبه ، فحمل كلام الحكيم عليه إرجاع له إلى توضيح الواضح » ، فإنّه في محلّ البحث غير جيّد ، لبناء الكلام على عدم اعتبار الظنّ المدّعى كونه جابرا ، فلا ينفع بلوغه حدّ الاطمئنان في كونه حجّة.

فنقول في منع جابريّته : إنّه في نفسه غير حجّة ، ولا أنّه قابل لجبر ضعف الخبر ولا قصوره إلاّ على تقدير ثبوت التعميم في التبيّن ، وقد عرفت منعه بما ذكرناه من الوجوه.

وبما ذكر علم الوجه في عدم جواز جبر الدلالة قصورا من جهة الإجمال كقوله عليه‌السلام : « اعتدي ثلاثة قروء » (١) أو ضعفا كدلالة الكلام باعتبار التعليق على الوصف على المفهوم الوصفي ، فلو وجدنا الشهرة العمليّة بين العلماء في إيجاب الاعتداد بثلاثة أطهار ، أو في نفي وجوب الزكاة في معلوفة الغنم ، فلا ينجبر بها قصور دلالة الأوّل ولا ضعف دلالة « في الغنم السائمة زكاة ».

أمّا أوّلا : فلأنّ غاية ما فيها الكشف الظنّي عن الحكم الواقعي ، لا عن كون ذلك مرادا من الخطاب.

وأمّا ثانيا : فلأنّ هذا الكشف الظنّي على تقدير رجوعه إلى المراد لا يجوز التعويل عليه ، لمكان عدم اعتبار ذلك الظنّ ، ويؤيّده : أنّ الظنّ الغير المعتبر كالحاصل من النوم أو الرمل أو الجفر أو خبر الصبيّ والقياس ، كما لا يصلح مزاحما للظهور اللفظي فيما كان ظاهر الدلالة على المعنى المراد ـ بناء على ما حقّقناه في غير موضع ، وسنذكره أيضا كون الظهور اللفظي معتبرا من باب الظنّ النوعي ، وهو كون اللفظ بحيث لو خلّي وطبعه مفيدا للظنّ بالمعنى المراد ، وإن اتّفق في مورد عدم حصول ظنّ منه فعلا ، لفقد شرط أو وجود مانع كالظنّ الغير المعتبر بالخلاف ، ومرجعه إلى عدم كون الظنّ الفعلي بالمراد شرطا في اعتبار الظهور ، ولا كون الظنّ الغير المعتبر بخلافه مانعا منه فكذلك لا يصلح محرزا للظهور ، الّذي لا يتأتّى إلاّ بكون الكلام بنفسه أو بواسطة القرائن المعتبرة ظاهرا في معنى على أنّه المراد منه ، وهو المقصود من جبر الدلالة.

وبما بيّناه ظهر أنّ ما قيل : من « أنّ ما اشتهر من أنّ ضعف الدلالة منجبر بعمل الأصحاب غير معلوم المستند » في محلّه ، إن اريد بعمل الأصحاب الشهرة الفتوائيّة ، وأمّا

__________________

(١) الوسائل ٢٢ : ٢٥٤ / ١ ، ب ٣٨ كتاب الطلاق.

٤١١

دعوى انجبار قصور الدلالة بفهم الأصحاب كما اشتهرت أيضا ، فمن مشايخنا (١) من يظهر منه تصحيحها ، مبيّنا للفرق بينه وبين سابقه « بأنّ فهم الأصحاب وتمسّكهم به كاشف ظنّي عن قرينة على المراد ، بخلاف عمل الأصحاب ، فإنّ غايته الكشف عن الحكم الواقعي الّذي لا يستلزم كونه مرادا من ذلك اللفظ » ويشكل الاكتفاء في الأوّل بالكشف الظنّي عن قرينة المراد ، فإنّ المعتبر في القرينة المعيّنة للمراد القطع بوجودها.

نعم لا يعتبر كون دلالتها قطعيّة حيث كانت لفظيّة ، بل يكفي ظهورها اللفظي ، كما في « يرمي » في « رأيت أسدا يرمي » ، فلا بدّ في جبر قصور الدلالة بفهم الأصحاب من كشفه القطعي عن وجود قرينة مع الخطاب لو عثرنا عليها لعملنا بها في استكشاف المراد من اللفظ المفروض كونه بنفسه قاصر الدلالة على المعنى المبحوث عنه.

المبحث الثاني :

في توهين الظنّ الغير المعتبر للدليل المعتبر ، على معنى تأثيره في وهنه وضعفه ، بحيث خرج عن الاعتبار وسقط عن الحجّية.

فنقول : إنّ عدم اعتبار الظنّ المذكور إمّا للدّليل على عدم اعتباره بالخصوص كالظنّ القياسي ، أو لعدم الدليل على اعتباره بالخصوص ، فيدخل في عموم أصالة التحريم.

أمّا الأوّل : فالدليل المعتبر الّذي يبحث في وهنه بالظنّ المذكور ، إمّا أن يكون معتبرا من باب الظنّ النوعي ، على معنى كون نوعه لو خلّي وطبعه مفيدا للظنّ بالواقع ، وإن لم يفده في بعض الأحيان لمانع ، أو يكون معتبرا من باب التعبّد المطلق ، بأن تكون الحجّيّة قائمة بذات السبب من غير نظر إلى ظنّ شخصي ولا نوعي ، أو يكون معتبرا من باب التعبّد مقيّدا بعدم الظنّ على الخلاف الّذي يقال له : السببيّة المقيّدة ، أو يكون معتبرا من باب الوصف ، أي بشرط إفادته الظنّ الفعلي بالواقع.

وعلى الأوّل فدليل اعتباره على الوجه المذكور إمّا الشرع ، كالخبر الصحيح بناء على كونه من الظنون الخاصّة الملحوظة عند الشارع على هذا الوجه ، أو بناء العرف الّذي أمضاه الشارع وقرّره في خطاباته ومكالماته ، كأصالة الحقيقة وغيرها من الظواهر اللفظيّة ، فالأنواع خمس.

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٥٨٥.

٤١٢

فإن كان المقابل للظنّ القياسي ممّا اعتبر شرعا أو عرفا من باب الظنّ النوعي ، فالذي ينبغي أن يقطع به هو عدم توهينه له ، وعدم تأثيره في وهنه ، فلو حصل الظنّ من القياس في مورد على خلاف مدلول الخبر الصحيح الموجود فيه ، أو على خلاف مؤدّى الظهور اللفظي الموجود فيه ، كان الخبر والظهور على اعتبارهما من دون خلل فيه باعتبار مخالفة القياس لهما ، لأنّ نهي الشارع عنه المعلّل بغلبة مخالفته الواقع ، وأنّ ما يفسده أكثر ممّا يصلحه يقتضي نفي جميع الآثار المترتّبة عليه ، فكما أنّه باعتبار هذا النهي لا يؤثّر قوّة للضعيف ، فكذلك لا يؤثّر باعتباره ضعفا للقويّ ، لأنّ كلاّ من القوّة والضعف من الآثار المنفيّة بحكم النهي المذكور المعلّل بالعلّة المذكورة.

ويؤيّده بل يدلّ عليه أيضا استقرار السيرة المستمرّة بين العلماء فيما دلّ على اعتباره الشرع ، وبين أهل العرف فيما دلّ على اعتباره بناء العرف ، على عدم التوقّف عن العمل حتّى يفحصوا عن وجود القياس على الخلاف ، مع أنّ العلماء يوجبون الفحص عن المعارض في العمل بالدليل ، والفحص عن الموهن على تقدير ثبوت الموهنيّة كالفحص عن المعارض ، وكما أنّ الثاني واجب فكذلك الأوّل ، والسيرة المستمرّة تنفيه في الأوّل ، وإمضاء الشارع لبناء العرف في الظهورات اللفظيّة حصل على هذا الوجه.

ولا ريب [ أنّ ] السيرة النافية لوجوب الفحص عن الموهن في النوعين كاشفة عن عدم الموهنيّة ، وأيضا فلو كان القياس ممّا ثبت له في نظر الشارع صفة الموهنيّة ، لكان على أصحابنا الإماميّة أن يدوّنوه ، ويتعرّضوا لضبط أقسامه ، ويذكروا شرائطه في كتبهم الاصوليّة أو الفقهيّة على حسبما صنعه العامّة العاملين بالقياس ، لينتفعوا به ويرجعوا إليه في مقام توهين الدليل ، والتالي باطل لإعراضهم الكلّي عن القياس المعلوم بضرورة من مذهبهم.

وأقوى ما يشهد بما ذكرنا ، أنّ العاملين بالقياس في الأحكام ذكروا لحجّيّته شروطا ، منها : خلوّ الواقعة عن النصّ من كتاب أو سنّة ، بل خلوّها عن خبر الواحد ، وهذا صريح في نفي صلاحيّة القياس لتوهين الدليل من آية أو رواية معتبرة حتّى عند العاملين به ، وكذا الكلام فيما كان المقابل له ما اعتبر على وجه التعبّد مطلقا بل الأمر فيه أوضح.

وأمّا لو كان المقابل له ما اعتبر على وجه التعبّد المقيّد ، أو من باب الوصف فهل يوجب وهنا فيهما أو لا؟ وجهان ، من أنّه يوجب انتفاء القيد العدمي في أوّلهما ، وانتفاء الشرط في ثانيهما ، فخرجا عن الاعتبار ضرورة أنّه إذا انتفى القيد انتفى المقيّد ، وأنّه إذا

٤١٣

عدم الشرط عدم المشروط ، ومن النهي المقتضي لنفي الآثار فلا ينبغي أن يؤثّر في الوهن.

ولكن يزيّفه : أنّه إنّما ينفي الآثار الشرعيّة المجعولة ، كالحجّيّة والجابريّة والمرجّحيّة ونحوها.

ولا ريب أنّ انتفاء القيد العدمي ، أو الشرط الوجودي بسبب الظنّ القياسي على الخلاف ، أثر عقلي يترتّب عليه قهرا.

والوهن الّذي معناه الخروج عن الاعتبار مستند إلى ذلك الأثر ، بل إسناد التوهين إلى القياس وظنّه مسامحة ، لأنّ الخروج عن الاعتبار يستند حقيقة إلى انتفاء القيد وفقد الشرط ، ولمّا كان العلّة في الانتفاء والفقد هو الظنّ القياسي على الخلاف ، فيسند إليه التوهين إسنادا للشيء إلى العلّة الاولى ، فالأوجه كونه موجبا للوهن فيهما.

نعم يمكن أن يقال ـ في منع التوهين فيهما أيضا ـ بأنّ مقتضى نهي الشارع عن القياس سقوط الظنّ القياسي في نظر الشارع ، بحيث لم يلتفت إليه في شيء من الموارد ، ولم يلحظه في شيء من المقامات الّتي منها مقام جعل الطرق ولو على أحد الوجهين المذكورين ، ومرجعه إلى أنّ وجوده وعدمه سيّان ، وأنّ وجوده بمثابة عدمه في نظره.

وقضيّة ذلك أن يكون مزاحمته للخبر المجعول على وجه التعبّد المقيّد ، أو بشرط إفادته الظنّ بالواقع فعلا في نظره ، بمثابة عدم مزاحمته له بالنظر إلى إصابة الواقع ، على معنى أنّ حالة كونه مزاحما بالظنّ القياسي مع حالة عدم كونه مزاحما به سيّان في نظر الشارع ، من حيث إصابته الواقع وإيصاله إليه ، ضرورة أنّه على تقدير كونه مشغولا بمزاحمة الظنّ القياسي يفيد من إصابة الواقع في نظر الشارع نحو الاصابة الّتي يفيدها على تقدير عدم كونه مشغولا بالمزاحمة ، قضيّة لكون وجود ذلك الظنّ في نظر الشارع بمثابة عدمه ، وهذا هو معنى عدم تأثيره في الوهن ، وإن أوجب انتفاء القيد العدمي أو الشرط الوجودي ، فإنّه لا يقدح في الاعتبار والحجّيّة في نظر الشارع ، اكتفاء منه بإصابة الواقع نحو الإصابة الحاصلة حال عدم انتفائهما ، بل لك أن تمنع انتفاء القيد العدمي فيما قيّد به ، مع وجود الظنّ القياسي على الخلاف ، بتقريب : أنّ الشارع الناهي عن القياس من جهة كون وجود ظنّه في نظره بمثابة عدمه عند تقييده الخبر المزاحم به ، إنّما قيّده بعدم الظنّ الغير القياسي على الخلاف.

ولا ريب أنّ هذا القيد غير منتف في صور وجود الظنّ القياسي على خلاف مؤدّاه.

٤١٤

نعم هذا البيان لا يجري فيما كان اعتباره مشروطا بإفادته الظنّ الفعلي ، لاستحالة اجتماع ظنّين في طرفي نقيض النسبة.

ولكن نقول : إنّ انتفاء الشرط إنّما يقدح في الاعتبار إذا كان شرطا تعبّديّا ، ولعلّه موضع منع ، بل هو شرط توصّلي قصد به التوصّل إلى إحراز إصابة الواقع.

ولا ريب أنّ إصابة الواقع تتّبع شأنيّة إفادة الظنّ لا فعليّة إفادته ، والظنّ الفعلي إنّما اعتبر حصوله لكونه كاشفا عن شأنيّة إفادته ، والظنّ القياسي يمنع من فعليّة إفادته لا شأنيّته ، وعليها مدار إصابة الواقع لا على الفعليّة.

فإن قلت : هذا على تقدير تسليمه إنّما يتمّ لو كان اعتبار الدليل بشرط إفادته الظنّ الفعلي ثابتا بحكم الشارع ، ولا يتمشّى فيما ثبت بحكم العقلي من جهة الالتجاء والاضطرار إلى العمل به ، لتعذّر العلم وانسداد بابه ، لأنّ العقل إنّما يحكم به لكون أقرب إلى العلم المفروض تعذّره ، فإذا اتّفق الظنّ القياسي على خلافه صار مؤدّاه موهوما.

ولا ريب أنّ الوهم أبعد من العلم ، فلا يشمله الحكم العقلي بالاعتبار لمجرّد ما فيه من شأنيّة إفادة الظنّ.

قلت : مناط حكم العقل وإن كان أقربيّة الظنّ إلى العلم ، ولكن مناط هذا المناط إنّما هو الأقربيّة إلى الواقع ، لأنّ العلم هو الاعتقاد الجازم المطابق للواقع.

ولا ريب أنّ مدار الأقربيّة إلى الواقع على شأنيّة إفادة الظنّ لا على فعليّته ، فإذا اطّلع العقل على نهي الشارع عن القياس المقتضي لكون وجود الظنّ الحاصل منه على خلاف ما حكم العقل باعتباره بشرط إفادته الظنّ في نظر الشارع بمثابة عدمه ، كان حالة مزاحمة الظنّ القياسي له وحالة عدم مزاحمته له سيّان في نظره أيضا من حيث إيصاله إلى الواقع ، فالظنّ القياسي على الخلاف كما لا يقدح في الاعتبار في نظر الشارع ، كذلك لا يقدح فيه في نظر العقل.

قال شيخنا قدس‌سره في جملة كلام له في هذا المقام : « إنّ العقلاء إذا وجدوا في شهرة خاصّة أو إجماع منقول مقدارا من القوّة والقرب إلى الواقع ، والتجأوا إلى العمل على طبقها مع فقد العلم ، وعلموا ببيان الشارع أنّ حال القياس أنّه لا عبرة بما يفيده من الظنّ ، ولا يرضى الشارع بدخله في دين الله ، لم يفرّقوا بين كون الشهرة والإجماع المذكورين مزاحمين بالقياس أو لا ، لأنّه لا ينقصهما ممّا هما عليه من القوّة والمزيّة المسمّاة بالظنّ الشأني

٤١٥

والنوعي والطبعي.

ومن هنا صحّ للقائلين ـ لأجل الانسداد ـ بمطلق الظنّ إلاّ ما خرج ، أن يقولوا بحجّيّة الظنّ الشأني ، بمعنى أنّ الظنّ الشخصي إذا ارتفع عن الأمارات المشمولة لدليل الانسداد بسبب أمارة خارجة عنها ، لم يقدح ذلك في حجّيّتها ، بل يجب القول بذلك على رأي من يجري دليل الانسداد في كلّ مسألة كما يظهر من صاحب القوانين (١) ـ لأنّه إذا فرض في مسألة وجود أمارة مزاحمة بالقياس ، فلا وجه للأخذ بخلاف تلك الأمارة ، فافهم.

هذا كلّه مع استمرار السيرة على عدم ملاحظة القياس في شيء من الموارد الفقهيّة ، وعدم الاعتناء به في الكتب الاصوليّة ، فلو كان يترتّب عليه أثر ولو في الوهن ، لوجب التعرّض له في الاصول ، والبحث والتفتيش عن وجوده في مسائل الفروع ، لأنّ الفحص عن الموهن كالفحص عن المعارض واجب » (٢).

أقول : ويؤيّد جميع ما ذكرناه في منع موهنيّة القياس مطلقا ، الرواية الواردة في قصّة أبان (٣) ، الدالّة على ردع الإمام عليه‌السلام إيّاه ، في ردّه الخبر الوارد في تنصيف دية أصابع المرأة بعد بلوغها ثلث الدية لمجرّد مخالفته القياس ، فإنّها صريحة ـ من جهة كونها في سياق الذمّ على ترك الخبر بسبب القياس ـ في وجوب قبوله مع مزاحمة القياس له ، فتدبّر.

هذا كلّه ولكنّ الانصاف أنّ القياس في مقابلة الدليل المعتبر المفروض وجوده في المسألة لا يفيد الظنّ على خلاف مؤدّى ذلك الدليل ، حتّى يتكلّم في إيراثه الوهن في الدليل وعدمه ، ويبنى عدمه بالنسبة إلى ما اعتبر من باب السببيّة المقيّد ، أو من باب الوصف على التوجيه المتقدّم المبنيّ على التكلّف ، لا لما ذكره غير واحد من الأصحاب من أنّه لا يفيد الظنّ بملاحظة منع الشرع ، وأنّ مبنى الشرع على الجمع بين المختلفات والتفريق بين المتّفقات ، بل لأنّا لو سلّمنا الظنّ مع هذه الملاحظات ، فإنّما يفيده مع خلوّ المسألة عن الدليل المعتبر ، وأمّا مع وجوده من أيّ [ نوع من ] أنواعه المتقدّمة كان ، كما هو مفروض المقام فلا.

والسرّ فيه : أنّ القياس حكم عقلي ظنّي ، ولذا يعدّ عند أهله من الأدلّة العقليّة ، ضرورة أنّ الحاكم في مورده بلحوق الفرع بالأصل ، وجريان حكم الأصل في الفرع هو العقل ،

__________________

(١) قوانين الاصول ١ : ٤٤٠.

(٢) فرائد الاصول : ١ : ٢٩٤ ـ ٢٩٥.

(٣) بحار الأنوار ١٠١ : ٤٠٧ / ٦ ، فقه الرضا : ٤٤.

٤١٦

يحكم به بملاحظة الترديد والدوران ، أو السبر والتقسيم ، أو المناسبات الذوقيّة ، أو غير ذلك ممّا هو مقرّر عند عامليه ، ومن دأبه أنّه يحكم به مع خلوّ المورد عن الدليل.

وأمّا مع وجوده واطّلاعه عليه فلا ، وعلى هذا فما يفرض في مقابل القياس من الدليل ـ على أحد وجوهه المذكورة ـ يزاحم القياس ، لا أنّ القياس يزاحمه موضوعا أو حكما.

وأمّا الثاني : أعني ما كان الظنّ الغير المعتبر المقابل للدليل المعتبر ممّا لم يدلّ دليل على اعتباره بالخصوص ، كالشهرة أو الاجماع المنقول ، أو الأولويّة الظنّيّة ، أو الغلبة والاستقراء ، أو غيرها ممّا يندرج في الظنون المطلقة ، قبالا للخبر الصحيح مثلا على القول بحجّيّته بالخصوص بأحد الوجوه المتقدّمة ، فلا ينبغي التأمّل في عدم وهن ما اعتبر على وجه الظنّ النوعي ، أو من باب السببيّة المطلقة بسببه ووجهه واضح.

كما أنّه لا ينبغي التأمّل في وهن ما اعتبر من باب السببية المقيّدة ، أو من باب الوصف ، لاستلزام انتفاء القيد أو الشرط انتفاء المقيّد والمشروط.

المبحث الثالث :

في الترجيح بالظنّ الغير المعتبر ، الّذي سمعت مرارا أنّه قد يكون ممّا نهى عنه الشارع بالخصوص كالقياس ، وقد يكون ممّا يندرج في أصالة الحرمة لعدم دليل على اعتباره بالخصوص.

فأمّا القسم الأوّل : فالأقوى بل الحقّ الّذي لا محيص عنه عدم الترجيح به ، بل ظاهر أصحابنا إطباقهم عليه ، حيث نراهم أنّهم في موارد تعارض الخبرين بعد البناء على تعادلهما لفقد المرجّحات الداخليّة والخارجيّة ، لا يلتفتون إلى القياس ولا يطلبونه ، بل كلّ يأخذ على مقتضى مذهبه في التعادل ، من البناء على التساقط ثمّ الرجوع إلى الأصل ، أو على التوقّف ثمّ الرجوع إلى الأصل أو على التخيير.

نعم يظهر من العبارة المحكيّة عن المعارج (١) وجود القول به في أصحابنا ، لأنّه في باب القياس ذكر أنّه : « ذهب ذاهب إلى أنّ الخبرين إذا تعارضا وكان القياس موافقا لما تضمّنه أحدهما ، كان ذلك وجها يقتضي ترجيح ذلك الخبر.

ويمكن أن يحتجّ لذلك : بأنّ الحقّ في أحد الخبرين ، فلا يمكن العمل بهما ولا

__________________

(١) معارج الاصول : ١٨٦ ـ ١٨٧.

٤١٧

طرحهما ، فتعيّن العمل بأحدهما ، وإذا كان التقدير تقدير التعارض فلابدّ للعمل بأحدهما من مرجّح ، والقياس يصلح أن يكون مرجّحا لحصول الظنّ به ، فتعيّن العمل بما طابقه.

لا يقال : أجمعنا على أنّ القياس مطروح في الشريعة.

لأنّا نقول : إنّه بمعنى أنّه ليس بدليل على الحكم ، لا بمعنى أن لا يكون مرجّحا لأحد الخبرين ، وفائدة كونه مرجّحا كونه رافعا للعمل بالخبر المرجوح ، فيعود الراجح كالخبر السليم عن المعارض ، فيكون العمل به لا بذلك القياس ، وفيه نظر » انتهى (١).

أقول : أوّل ما يرد عليه : أنّ مقتضى النواهي عن العمل بالقياس ، وأنّه محق به الدين ، وأنّ دين الله لا يصاب بالعقول ، وأنّ ما يفسده أكثر ممّا يصلحه ، وأنّ أوّل من قاس شيطان ، وغير ذلك كون استعمال القياس بجميع وجوهه وجهاته مبغوضا للشارع ، فيكون استعماله في الترجيح مبغوضا له أيضا.

وثاني ما يرد عليه : أنّ قوله : « فتعيّن العمل بما طابقه » تعليلا بحصول الظنّ به ، مع قوله : « فائدة كونه مرجّحا كونه رافعا للعمل بالخبر المرجوح » ، كرّ على ما فرّ منه ، من جعل معنى مطروحيّة القياس في الشريعة عدم كونه دليلا على الحكم.

أمّا أوّلا : فلأنّ الحكم الّذي لا يكون القياس دليلا عليه أعمّ من الحكم الفرعي والحكم الاصولي ، ومعنى كون القياس رافعا للعمل بالخبر المرجوح أنّه يحرم العمل به ، وهو حكم اصولي صار القياس دليلا عليه مقتضيا له ، لأنّه لولاه لكان العمل به جائزا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الدليل الّذي ليس القياس فيه بدليل على الحكم ـ على تقدير كون المراد به الحكم الفرعي خاصّة ـ أعمّ من تمام المقتضي للحكم وجزء المقتضي له بوحدة المناط ، وأخذ الظنّ الحاصل من القياس مرجّحا للخبر المطابق له يؤول إلى جعله جزءا للمقتضي ، لأنّ مرجع ترجيح الخبر به إلى أنّ المقتضي للحكم هو الخبر المظنون صدق مضمونه ، والمفروض أنّ هذا الظنّ هو الظنّ الحاصل من القياس لا غير.

وأمّا ثالثا : فلأنّ هذا الظنّ على طريقة القائلين بمطلق الظنّ في الأحكام ـ بناء على كون الحجّة عندهم هو الظنّ الفعلي ـ تمام المقتضي ، والمفروض استناده إلى القياس بلا مدخل للخبر في حصوله ، وإلاّ لم يعقل كونه مرجّحا له.

ولأجل ذا كلّه صار القياس مهجورا في نظر الأصحاب ، واستقرت سيرتهم في

__________________

(١) فرائد الاصول : ١ : ٥٩٥ ـ ٥٩٨.

٤١٨

الاستنباط على هجره وترك الاعتناء به ، وعدم الالتفات إلى الظنّ القياسي في مقام الترجيح ، ولم يتوقّفوا في البناء على التساقط ، أو التوقّف أو التخيير ، عند عدم مرجّح آخر حتّى يبحثوا عن القياس ، كما يكشف عنه مع وضوحه أنّه لو كان كذلك لاحتاجوا إلى تدوين القياس ، والبحث عن شرائطه لينتفعوا به في الترجيح الّذي هو من أعظم الفوائد ، ولا ينحصر التدوين والبحث في جهة الحجّيّة ، مع إمكان القول بأنّ تتميم الحجّة به ـ ولو لإحراز فقد المانع الّذي هو المعارض به ـ نوع من الحجّيّة ، لأنّ عدم المانع جزء من العلّة ، وإلى بعض ما ذكرناه لعلّه ينظر قول المحقّق « وفيه نظر » بعد نقله الحجّة المذكورة.

وأمّا القسم الثاني : فالترجيح المطلوب منه إمّا أن يقصد به ترجيح دلالة أحد المتعارضين على دلالة الآخر ، فيما كان تعارضهما باعتبار الدلالة ، كما في العاميّن من وجه بالنسبة إلى مورد الاجتماع وأشباههما ، ومنه قوله عليه‌السلام : « اغسل ثوبك من أبوال ما لا يؤكل لحمه » (١) ، مع قوله عليه‌السلام : « كلّ شيء يطير لا بأس بخرئه وبوله » (٢) إذا فرض عدم قوّة ظهور أحدهما على ظهور الآخر ، فيتعارضان في بول الطير الغير المأكول وخرئه ، والظاهر عدم [ اختصاص ] ذلك بما لو كانا ظنّي السند ، بل يجري الكلام في الكتاب والسنّة المتواترة أيضا.

أو يقصد به ترجيح وجه الصدور في أحدهما ، وهو كونه لبيان الحكم الواقعي لا للتقيّة ، أو غيرها من الحكم المقتضية لبيان خلاف الواقع وتمييزه عمّا صدر لا لبيان الحكم ، فيما كان تعارضهما باعتبار وجه الصدور ، سواء كانا مقطوعي الصدور أو مظنونيه مع بقاء الظنّ بصدوريهما.

أو يقصد به ترجيح صدور أحدهما ـ بأن صار بالترجيح مظنون الصدور ـ على صدور الآخر فيما كان تعارضهما باعتبار الصدور ، فالكلام في مقامات ثلاث :

المقام الأوّل : فالظهور الّذي يقصد ترجيحه في أحد المتعارضين على ظهور الآخر ، بجعله أقوى منه بالظنّ الغير المعتبر الحاصل من شهرة ، أو غلبة أو نحوهما إذا حصل على طبقه ، إمّا أن يكون معتبرا من باب الظنّ النوعي ، أو بشرط عدم الظنّ على الخلاف ، أو بشرط حصول الظنّ منه أو من غيره على طبقه ، أو بشرط حصول الظنّ منه بالخصوص ، أو باعتبار أصالة عدم القرينة على خلافه التي لا يعتبر فيها إفادتها الظنّ الفعلي ، احتمالات بل

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٠٥ / ٢ ، ب ٨ من أبواب النجاسات.

(٢) الوسائل ٣ : ٤١٣ / ١ ، ب ١٠ من أبواب النجاسات.

٤١٩

أقوال ، وإن كان أقواها الأوّل على ما قدّمنا تحقيقه في بحث حجّيّة الظواهر ، وخروجها عن أصالة الحرمة ، وفي الجزء الأوّل من الكتاب (١) من مباحث أصالة الحقيقة ، إلاّ أنّا نتكلّم على كل احتمال على فرض صحّة القول به.

فنقول : إنّ صور البحث في المقام الأوّل خمس ، والحقّ في الجميع عدم اعتبار الظنّ المذكور في الترجيح وعدم وقوعه مرجّحا ، ولو اطلق عليه المرجّح في بعض الصور كان مسامحة مبنيّة على نوع من المجاز ، لخروجه عن ضابط الترجيح ، وهو تقوية الظهور على معارضه.

أمّا في الصورة الاولى : فلأنّ الظنّ المطلق الغير المعتبر لا يوجب كون الظاهر الموافق أظهر من معارضه في متفاهم العرف بالأظهريّة ، الّتي هي مناط الترجيح في باب تعارض الظاهرين ، بل غايته موافقته لمضمون أحدهما ، وهو بمجرّده لا يفيد فيه قوّة ، ولا في معارضه ضعفا ، ولا يخرجه عن الحجّيّة ، كما هو قضيّة كونه معتبرا من باب الظنّ النوعي.

وأمّا الصورة الثانية : فلأنّه أوجب خروج ما يخالفه عن الحجّيّة رأسا لفقد شرطه ، فانحصر الحجّة فيما وافقه ، فيتعيّن الأخذ به لبقائه سليما عن المعارض ، ومرجعه إلى ارتفاع التعارض ، ضرورة أنّ غير الحجّة لا يعارض الحجّة ، كما يفصح عنه أنّه لو لم يكن في مقابل هذا المعارض إلاّ ذلك الظنّ لأسقطه عن الحجّيّة ، كما أنّه لو لم يكن في مقابل الظاهر الموافق له هذا المعارض لا يفيد فيه ذلك الظنّ شيئا ، بل كانت الحجّة منحصرة فيه ، وإذا كان التقدير تقدير عدم المعارض وانحصار الحجّة لم يكن للترجيح معنى ، ولو اطلق عليه المرجّح مع ذلك لمجرّد أنّه السبب في سقوط المعارض عن الحجّيّة كان مسامحة.

وأمّا الصورة الثالثة : فلسقوط المخالف أيضا عن الحجّيّة ، وانحصار الحجّة في الموافق ، فلا ترجيح كما لو لم يكن إلاّ هذا الظنّ ، فإطلاق المرجّح عليه مع عدم وجود مبدأ اشتقاقه مسامحة واضحة.

وأمّا الصورة الرابعة : فلسقوطهما معا عن الحجّيّة بالنسبة إلى مورد التعارض لفقد الشرط ، فتعيّن الرجوع إلى قاعدة أو أصل لولا المتعارضان كان مرجعا ، كقاعدة الطهارة واستصحاب طهارة الملاقي ـ في مثال الطير الغير المأكول ـ وكذا الحال في الصورة الاولى بعد إجمال المتعارضين بالنسبة إلى مادّة اجتماعهما.

__________________

(١) تعليقة على معالم الاصول ٢ : ١٤١.

٤٢٠