تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٥٥٥

المحتمل مورد حتّى في المضارّ الدنيويّة ، لأنّ أصل البراءة على ما ذكرت وارد عليها ورافع لموضوعها وهو ظنّ الضرر بل احتماله أيضا ، وهو كما يجري في الشبهات الحكميّة كذلك يجري في الشبهات الموضوعيّة أيضا الّتي موردها الموضوعات الخارجيّة.

قلت : الموضوعات الخارجيّة باعتبار الضرر المظنون أو المحتمل فيها مع كون الضرر دنيويّا قسمان :

أحدهما : ما كان الضرر المحتمل فيه نظير الضرر المحتمل في الشبهات الحكميّة ، وهو المفسدة الّتي يتبعها الحكم الشرعي من وجوب أو حرمة ، كالمايع المشتبه المظنون كونه خمرا ، واللحم المشتبه المظنون كونه ميتة ، والثوب المشتبه المظنون كونه حريرا أو غصبا ، وما أشبه ذلك ، وهذه هي الشبهات الموضوعيّة الملحقة بالشبهات الحكميّة في جريان أصل البراءة فيها ، الوارد على قاعدة وجوب دفع الضرر المظنون أو المحتمل لارتفاع موضوعها.

وثانيهما : ما كان الضرر المحتمل فيه ضررا ماليّا أو نفسيّا أو غيرهما ، ممّا يتّفق أحيانا باعتبار الخارج من تلف أو تعيّب أو هلاكة أو جناية أو غير ذلك ، كظنّ خسران التجارة أو وجود اللصّ ونحوه في الطريق ، وظنّ الغرق في البحر أو الحرق في البرّ ، وظنّ وقوع الجدار أو السقف ، وظنّ التضرّر من شرب ذاك الدواء أو من الصوم أو غير ذلك ممّا لا يعدّ ولا يحصى ، وهذه هي الموضوعات الخارجيّة التي يجري فيها قاعدة وجوب دفع الضرر المظنون بل المحتمل ، ولا يجري فيها أصل البراءة ، لحكومة القاعدة الّتي مدركها العقل المستقلّ على أدلّته الّتي منها العقل المستقلّ أيضا الحاكم ببراءة الذمّة عن التكليف والعقاب المشكوك فيهما ، بل لعدم اندراج المورد وهو الموضوعات المظنون فيها المضارّ المذكورة في موضوع الأصل ، إذ لا يشكّ فيها في تكليف يترتّب على مخالفته مفسدة دنيويّة وعذاب اخروي لا لشبهة حكميّة ولا لشبهة موضوعيّة ، بل يظنّ فيها أو يحتمل ضرر يترتّب عليه التكليف ، وهو وجوب الاحتراز وحرمة الارتكاب.

وضابط الفرق بين القسمين ـ الّذي يعرف به مورد قاعدة وجوب دفع الضرر عن مجرى أصل البراءة ـ هو أنّ كلّ موضوع خارجي كان الضرر المظنون أو المحتمل فيه عنوانا لحكم شرعي ، من وجوب اجتناب أو حرمة ارتكاب ، ومنه وجوب الإفطار وحرمة الإمساك فيما يظنّ كون الصوم مضرّا ، ونحوه غيره ممّا يجوّزه ظنّ الضرر من ترك واجب أو فعل حرام ، بحيث لو لا ظنّه ولا احتماله لم يكن الموضوع محكوما عليه بذلك الحكم ،

٢٨١

فهو مورد لقاعدة وجوب دفع الضرر وهو القسم الثاني.

وكلّ موضوع خارجي لم يكن الضرر المظنون أو المحتمل عنوانا لحكمه ، بل عنوان الحكم فيه كلّي يشكّ في اندراج ذلك الموضوع فيه ، كالشكّ في كون هذا المائع خمرا وهذا اللحم ميتة وهذا الثوب حريرا وهذا المال مغصوبا وما أشبه ذلك ، فهو مجرى من مجرى أصل البراءة الّذي يقال له : الشبهات الموضوعيّة ، وهو القسم الأوّل ، فلا يلزم من العمل بأصل البراءة في الشبهات الحكميّة والشبهات الخارجيّة أن لا يبقى للقاعدة مورد لاختلاف الموضوع.

وممّا يرد على الدليل أيضا : أنّه لا يجري في مطلق الظنّ الّذي هو موضوع البحث ، كالظنّ بعدم الوجوب والظنّ بعدم الحرمة. ـ وبعبارة اخرى : الظنّ المخالف للاحتياط ـ بل مختصّ بالظنّ الموافق للاحتياط.

وتوهّم تتميمه بعدم القول بالفصل ، يندفع : بأنّه في الظنّ الموافق لا يفيد وجوب الإتيان بالفعل أو وجوب تركه باعتبار أنّه عمل بالظنّ ، بل إنّما قضي بهما من حيث إنّ الإتيان وتركه احتياط عن الضرر المظنون ، واحتراز عن المفسدة المظنونة ، وهذا المعنى في الظنّ المخالف للاحتياط منتف.

ومن هنا يعلم عدم إمكان وحدة المناط ، بدعوى : أنّ مناط العمل في الظنّ الموافق هو صفة الظنّ من حيث إنّها هذه الصفة ، وهو موجود في الظنّ المخالف أيضا ، لما عرفت من أنّ المناط هو الاحتياط المنتفي في الظنّ المخالف ، ضرورة أنّ ترك ما ظنّ وجوبه (١) وفعل ما ظنّ حرمته ليس احتياطا.

وبجميع ما ذكر يتبيّن : أنّ مفاد الدليل لا ينافي أصالة حرمة العمل بالظنّ ، ولا الدليل المذكور يعارض عمومات ذلك الأصل ، لا بطريق التباين الكلّي ولا الجزئي ، فلا يلزم من جهته تخصيص فيها ، ضرورة أنّ مفادها حرمة العمل بالظنّ على معنى ترتيب آثار الواقع عليه والأخذ بالمظنون على أنّه الواقع ، أو أنّها إنّما تدلّ على حرمته من حيث إنّه لا يغني عن الواقع ، وهذا لا ينافي تطبيق العمل عليه رجاء لإحراز الواقع ، واحتياطا عن مخالفته وحذرا عن العقاب الاخروي ، والمفسدة اللازمة من الترك أو الفعل في الدنيا.

__________________

(١) وفى الأصل : « ترك ما ظنّ عدم وجوبه » والظاهر أنّ كلمة « عدم » سهو من قلمه الشريف ، والصواب ما أثبتناه فى المتن ، فلاحظ ، تأمّل.

٢٨٢

وعلى هذا فما في كلام بعض الأعلام (١) ـ في غير موضع من كتابه ـ من دعوى انقلاب الأصل الأوّلي بأصالة جواز العمل بالظنّ مطلقا إلاّ ما خرج بالدليل ، مع استدلاله على الحجّيّة بالأدلّة العقليّة الّتي منها ذلك الدليل ليس بسديد ، لو كان مستنده ذلك الدليل ، خصوصا إذا أراد به الانقلاب الكلّي فليتدبّر.

ولا بأس بالإشارة إلى بعض الفروع والأحكام المترتّبة على قاعدة وجوب دفع الضرر.

فنقول : إنّ الضرر الدنيوي في الموضوعات إن كان معلوما أو مظنونا فلا إشكال في وجوب دفعه ، لإطباق العقلاء وإجماع العلماء عليه ، فالظنّ باعتبار إضافته إلى الضرر في الموضوعات من الظنون الخاصّة الثابتة الحجّيّة بالأدلّة القطعيّة الّتي منها ما ذكر ، ومنها مجموع الأخبار المتفرّقة في أبواب العبادات ، وإن حصل من السبب المعلوم عدم حجّيّة نوعه ، أو السبب المشكوك في حجّيّة نوعه فضلا عن السبب المعلوم حجّيّة نوعه ، بل ظنّ الضرر حاله كحال ظنّ السلامة في الامور المعاشيّة الّذي هو أيضا حجّة من باب الظنّ الخاصّ ، لإطباق العقلاء وإجماع العلماء عليه ، مضافا إلى أنّه لو لا كونه حجّة لاختلّ نظم المعاش وانهدم أساس العالم.

ومن هنا يتبيّن : أنّ الضرر إذا كان موهوما لم يجب دفعه في العاديّات والشرعيّات معا ، لإطباق العقلاء وإجماع العلماء على طريقيّة الظنّ بالسلامة ، مع أنّ الضرر الموهوم لم يؤخذ عنوانا في الأدلّة الشرعيّة ، ولم يعلّق عليه حكم في الشريعة.

وأمّا الضرر المشكوك فهو أيضا ما لم يتولّد من الشكّ خوف الضرر ـ وهو اضطراب النفس ـ بناء على عدم كونه لازما مساويا لظنّ الضرر بل هو لازم أعمّ ، ممّا لا دليل على وجوب دفعه ، ولم يؤخذ في الشريعة عنوانا لحكم شرعي ، ولأنّ الشكّ في موارده ليس طريقا إلى الواقع.

ويظهر الثمرة : في وجوب ما توقّف وجوبه على عدم الحرمة الناشئة من جهة الضرر عند الخوف فيه ، لئلاّ يلزم اجتماع الأمر والنهي كالصوم والطهارة المائيّة ونحوه ، عند الشكّ في كونه مضرّا من دون أن يتولّد منه خوف ، ولمّا لم يكن الحرمة مع الشكّ في الضرر ثابتة فلا مانع من ثبوت الوجوب ، فإنّ المانع إنّما هو حرمة الفعل المظنون أو المخوف فيه الضرر ، لا احتمال الضرر المجرّد عن الخوف ، وهو ليس بمحرز بل المحرز خلافه.

لكن قد يقال ـ كما عن صاحب الكفاية في منع الوجوب عند الشكّ في الضرر ـ : « إنّ

__________________

(١) قوانين الاصول ١ : ٤٤٨.

٢٨٣

وجوب الأفعال معلّق على الأمن من الضرر ، وهو مع الشكّ فيه ليس بمأمون فلا وجوب » (١).

وفيه : أنّ الوجوب معلّق على خوف الضرر ، ومجرّد الشكّ فيه لا يستلزمه.

نعم إذا تولّد منه الخوف فلا إشكال ، فالمقتضي للنهي الّذي لا يجامعه الأمر من جهة امتناع الأمر والنهي إمّا ظنّ الضرر أو خوفه ، لا الشكّ فيه مطلقا.

ثمّ إنّ مقتضى قوله عليه‌السلام : « لا ضرر ولا ضرار » (٢) النافي لمجعوليّة الأحكام الضرريّة ، أنّ الأحكام الشرعيّة لا تجامع الضرر ، وهل المنافي لها العلم أو الظنّ المعتبر بالضرر ، أو الضرر الواقعي سواء علم به أو ظنّ أو لا؟

والحقّ فيه أنّ المانع من الحكم الشرعي هو الضرر الواقعي بشرط العلم أو الظنّ به ، لا لأنّهما مأخوذان معه على وجه الموضوعيّة ، بل لأنّهما طريقان إليه. ويتفرّع عليه فرعان :

أحدهما : ما لو قطع أو ظنّ بالضرر في عبادة الطهارة المائيّة ، أو صيام رمضان فأتى بها ، ثمّ انكشف انتفاء الضرر في الواقع.

وثانيهما : عكس ذلك ، وهو ما لو قطع أو ظنّ بانتفاء الضرر فيها فأتى بها ، ثمّ انكشف وجوده في الواقع ، فهل يحكم فيهما بفساد العبادة المستلزم لوجوب الإعادة والقضاء عند ارتفاع الضرر أو لا؟

فنقول : أمّا الصورة الاولى فلا محيص فيها من فساد العبادة ، لا لمانعيّة الضرر من الصحّة حتّى يقال : بأنّ المفروض انتفاؤه في الواقع ، بل لأنّه لو لا الفساد هنا لزم اجتماع الأمر والنهي وهو غير جائز ، نظرا إلى أنّ القطع والظنّ المفروضين يوجبان النهي الفعلي عن الفعل ، لكونه معلّقا على اعتقاد الضرر ، وهو لا يجامع الأمر ، فيلزم الفساد لانتفاء الأمر.

وأمّا الصورة الثانية : فقد يتوهّم فيها أيضا فساد العبادة ، نظرا إلى أنّ قوله عليه‌السلام : « لا ضرر ولا ضرار » ينفي الضرر الواقعي ، ويدلّ على أنّه كالحدث مانع من الصحّة ودافع لمصلحة العبادة وإن لم يعلم به ، ومعه يستحيل الأمر بها أيضا.

نعم لو قلنا بأنّ المانع من الصحّة ورافع المصلحة هو العلم أو الظنّ المعتبر بالضرر ، لاتّجه القول بالصحّة في الصورة المفروضة ، لكنّ الظاهر من الخبر خلافه.

ويزيّفه : منع شمول الخبر للصورة المفروضة ، وإن قلنا بأنّ الضرر المنفي فيه هو الضرر الواقعي لا العلم ، فيبقى عمومات الأمر بالعبادة سليمة عمّا يخرجها عنها ، فإنّ مفاده ـ على

__________________

(١) لم نعثر عليه.

(٢) بحار الأنوار ٢ : ٢٧٦ / ٢٨.

٢٨٤

التحقيق ـ نفي مجعوليّة الأحكام الّتي يتضرّر بسببها الإنسان ، بأن يكون العلّة الباعثة على تضرّره الحكم المجعول ، فحاصل معنى الخبر : أنّه تعالى لم يجعل في شرع الإسلام حكما يتضرّر بسببه الإنسان ، أو أنّ كلّ حكم يتضرّر بسببه الإنسان فهو غير مجعول ، وهو بهذا المعنى لا يشمل الصورة المفروضة ، ولا ينفي الأمر بالعبادة فيها ، لأنّ السبب الباعث على تضرّر الإنسان والحامل له على الوقوع في الضرر اعتقاده بانتفاء الضرر لا مجعوليّة الوجوب ، ولذا يتضرّر على تقدير عدم المجعوليّة أيضا ، فالضرر مترتّب على اعتقاد المكلّف ـ ولو ظنّا معتبرا ثابت الطريقيّة ـ لا على جعل الحكم الواقعي ، فلا قاضي من جهة الخبر بعدم جعله في هذه الصورة وما هو بحكمها ، مثل ما لو كان شاكّا في الضرر في مورده ، وكان فيه عنده أصل كلّي منضبط يرى نفسه بمقتضى ذلك الأصل مكلّفا بالعمل كالاستصحاب مثلا ، فانكشف وجود الضرر بعد العمل.

وبالتأمّل فيما قرّرناه يتبيّن : أنّ قاعدة وجوب دفع الضرر المقطوع أو المظنون ليست متّحدة مع قاعدة نفي الضرر المستفادة من الخبر ، ولا أنّهما متلازمتان ، بل قاعدتان متغايرتان بينهما بحسب المورد عموم من وجه ، فيجتمعان في مورد ، وهو ما لو قطع أو ظنّ بالضرر في عبادة كالطهارة والصوم مثلا مع مطابقتهما الواقع ، فيصحّ فيه التمسّك بكلّ منهما لنفي الوجوب ، ويفترقان في آخرين.

فمن افتراق الاولى ما لو قطع أو ظنّ بالضرر مع انكشاف عدم مطابقتهما الواقع ، ومن افتراق الثانية ما لو نفى مجعوليّة حكم ضرري من غير أن يجب أو يحرم شيء على المكلّف ، كلزوم العقد المنفي عند ظهور غبن أو عيب أو نحو ذلك ممّا يوجب الخيار من جهة القاعدة.

ففي ذلك ونظائره لا يجري قاعدة وجوب دفع الضرر المقطوع أو المظنون ، لأنّ وجوب الدفع من عوارض فعل المكلّف وينحلّ إلى وجوب الإتيان بما يتضرّر المكلّف بتركه ووجوب ترك الإتيان بما يتضرّر الانسان بفعله ، كإفطار نهار رمضان في الأوّل وإمساكه في الثاني.

ومن تغائر القاعدتين أنّ الموجب لانتفاء الوجوب الواقعي في مورد القاعدة الاولى إنّما هو لزوم اجتماع الأمر والنهي لولاه ، كما أشرنا إليه ، وفي مورد القاعدة الثانية عدم مجعوليّته في الواقع رأسا.

ومن تغائرهما أيضا أنّ القطع أو الظنّ بالضرر يترتّب عليهما انتفاء الحكم الواقعي وإن لم يطابقا الواقع في القاعدة الاولى ، ويشترط مطابقتهما الواقع في القاعدة الثانية.

٢٨٥

ومن تغائرهما أيضا مدرك القاعدة الاولى هو العقل من جهة بناء العقلاء وإطباقهم على الاحتراز ، ومدرك القاعدة الثانية هو الشرع من جهة الخبر.

ثانيها

« أنّه لو لم يؤخذ بالظنّ لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح » (١).

وتوضيحه بحيث يتبيّن به الملازمة : أنّ الرجحان والمرجوحيّة قد يلاحظان بالقياس إلى وجود الشيء وعدمه في الخارج ، فالراجح ما له مزيّة على الآخر والمرجوح ما كان خاليا عن المزيّة ، وترجيحه عبارة عن اختياره على ذي المزيّة ، وإنّما يكون قبيحا إذا كان لداع غير عقلائي ، ويقال له : « المرجّح الفاعلي » ولو كان شهوة نفسانيّة ، قبالا للمرجّح العقلائي وهو المراد من المزيّة ، وإلاّ فلو كان خاليا عن المرجّح مطلقا حتّى المرجّح الغير العقلائي فترجيحه كالترجيح بلا مرجّح محال لا أنّه قبيح ، فإنّ اختيار أحد المتساويين على آخر لا لداع وغرض ولو فاعليّا إذا كان محالا فاختيار المرجوح منهما على الآخر الّذي هو الراجح لا لداع وغرض حتّى الفاعلي أيضا محال بل أشدّ استحالة.

وقد يلاحظان بالقياس إلى وجود الشيء وعدمه في الذهن ، فالرجحان حينئذ أن يكون أحد طرفي النسبة مظنونا فالراجح هو المظنون ، والموهوم مرجوح ، وترجيحه عبارة عن الأخذ به والعمل عليه ، على معنى تطبيق الحركات والسكنات الخارجيّة عليه وهذا قبيح لا أنّه محال ، وإذا كان ذلك قبيحا فخلافه وهو الأخذ بالراجح وهو المظنون واجب.

واجيب (٢) تارة : بمنع الملازمة ، إذ لم يثبت وجوب الترجيح ، فلا يرجّح المرجوح ولا الراجح ، ولا يؤخذ بالموهوم ولا بالمظنون ، بل يتوقّف.

ويزيّفه : عدم إمكان الواسطة ، إذ لا محيص من العمل الدائر بين وقوعه على طبق المظنون ، أو على طبق الموهوم ، والتوقّف عن العمل غير معقول.

واخرى : بمنع قبح ترجيح المرجوح على إطلاقه ، فإنّ المرجوح وهو الموهوم قد يوافق الاحتياط ، كما لو كان المظنون عدم وجوب شيء أو عدم حرمته ، فالأخذ به حينئذ حسن لا أنّه قبيح.

وردّ : بأنّ الأخذ بالمرجوح بعنوان أنّه عمل بالاحتياط ليس ترجيحا للمرجوح ، بل

__________________

(١) هذا الاستدلال أشار إليه العلاّمة في نهاية الوصول ( مخطوط ) : ٢٩٧ والمحقّق القمّي في قوانين الاصول ١ : ٢٤٣ وصاحب الفصول في الفصول : ٢٨٦.

(٢) هداية المسترشدين : ٤١١.

٢٨٦

هو جمع في العمل بين الراجح والمرجوح ، فإنّ البناء في المظنون عدم حرمته على الترك لا ينافي الإباحة المظنونة ، لأنّها عبارة عن التخيير بين الفعل والترك ، كما أنّ البناء في المظنون عدم وجوبه على الفعل لا ينافي الإباحة المظنونة.

ولو قدّر الإتيان بالفعل حينئذ على وجه الوجوب وبقصده ليمتاز عن المباح كان مخالفا للاحتياط ، فلا يكون عملا بالاحتياط ، لأنّ الاحتياط عبارة عن الإتيان بما لعلّه واجب لا الإتيان بما لأنّه واجب.

ولكن يشكل ذلك : بأنّ ما لا ينافي الإباحة المظنونة ـ لتضمّنها التخيير بين الفعل والترك ـ إنّما هو اختيار الفعل في بعض الأحيان واختيار الترك كذلك ، لا دوام الفعل أو دوام الترك ، والعمل بالاحتياط لا يتأتّى إلاّ بالدوام وهو ينافي التخيير بينهما ، إلاّ أن يذبّ : بأنّ المنافي له إنّما هو دوام الفعل لأنّه واجب ودوام تركه لأنّه حرام ، لا دوام الفعل لرجاء كونه واجبا أو دوام تركه لرجاء كونه حراما.

فالجواب التحقيقي وجهان :

أحدهما : النقض بالظنون المحرّمة العمل الثابت حرمتها بالخصوص بالإجماع أو الضرورة أو غيرهما.

وثانيهما : الحلّ بأنّ قبح ترجيح المرجوح على الراجح وإن كان مسلّما ، إلاّ أنّ الأمر فيما نحن فيه دائر بين صور ، في جملة منها لا ترجيح حتّى يكون بالقياس إلى الموهوم قبيحا ، وفي بعضها يرجّح المظنون عملا بدليل الانسداد لا لقبح ترجيح المرجوح ، فيرجع الدليل إلى دليل الانسداد ، لا أنّه دليل آخر.

وتوضيح ذلك : أنّ الواقع في المسألة المظنونة إمّا أن يكون ملحوظا ومنظورا للشارع ، على معنى كون مطلوبه إدراك الواقع والوصول إليه أو لا؟

وعلى الأوّل فإمّا أن يكون مطلوبه إدراك الواقع بطريق علمي على نحو الإجمال ، أو بطريق علمي على نحو التفصيل ، أو بطريق ظنّي على وجه التفصيل على معنى تحصيل الظنّ التفصيلي به.

فإن كان الأوّل : فهو ممّا لا معنى له إلاّ إناطة الأمر بالعمل بأصل البراءة ، فيدور الأمر مدار ما يجري معه الأصل ، وهو عدم الوجوب أو عدم الحرمة سواء كان هو المظنون أو الموهوم.

وإن كان الثاني : فهو ممّا لا معنى له إلاّ إيجاب العمل بالاحتياط ، سواء وافق المظنون

٢٨٧

أو الموهوم.

وإن كان الثالث : فهو ممّا لا معنى له إلاّ إيجاب تحصيل العلم (١) التفصيلي بالواقع.

وإن كان الرابع : فهو لا يتمّ إلاّ ـ بعد إبطال الاحتمالات الثلاث المذكورة ـ بمقدّمات دليل الانسداد ، المنتجة لتعيّن العمل بالظنّ والأخذ بالمظنون ، لأنّه أقرب إلى الواقع ، فلا يجوز الأخذ بالموهوم لأنّه أبعد عن الواقع ، لا لأنّه ترجيح للمرجوح على الراجح ، فالدليل حينئذ راجع إلى دليل الانسداد لا أنّه ورائه.

ثالثها

ما حكي (٢) عن السيّد الطباطبائي قدس‌سره : « من أنّه لا ريب في وجود واجبات ومحرّمات كثيرة بين المشتبهات ، ومقتضى ذلك وجوب الاحتياط بالإتيان بكلّ ما يحتمل الوجوب ولو موهوما ، وترك كلّ ما يحتمل الحرمة كذلك ، ولكن مقتضى قاعدة نفي العسر والحرج عدم وجوب ذلك ، لأنّه عسر أكيد وحرج شديد ، فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط وانتفاء الحرج العمل بالاحتياط في المظنونات دون المشكوكات والموهومات ، لأنّ الجمع على غير هذا الوجه بإخراج بعض المظنونات وإدخال بعض المشكوكات والموهومات باطل إجماعا ».

واجيب عنه : بأنّه راجع إلى دليل الانسداد ، لوضوح أنّ كلّ مقدّمة يؤخذ لإتمام دليل الانسداد لابدّ من أخذها لإتمام هذا الدليل ، فلابدّ فيه من توسيط مقدّمة القطع ببقاء التكليف ، ومن توسيط مقدّمة الانسداد [ الأغلبى لباب العلم ] ، ومن توسيط مقدّمة لزوم التكليف بما لا يطاق لو كلّفنا بالعلم ، ومن توسيط مقدّمة بطلان الرجوع إلى أصل البراءة في الجميع للزوم الخروج عن الدين ، ومن توسيط مقدّمة بطلان العمل بالاحتياط في الجميع إمّا للعسر أو للإجماع ، ومن توسيط مقدّمة بطلان التبعيض بالأخذ ببعض المظنونات مع بعض المشكوكات والموهومات.

ونتيجة كلّ ذلك حينئذ تعيّن الأخذ بالمظنونات.

مع أنّ العمل بالاحتياط في المشكوكات كالمظنونات أيضا لا يلزم منه حرج قطعا ، لقلّة موارد الشكّ المتساوي الطرفين كما لا يخفى ، فيقتصر في ترك الاحتياط على

__________________

(١) كذا فى الأصل ، ولعلّه سهو منه والصواب « الظن » بدل « العلم » كما يعطيه التدبّر فى السياق.

(٢) حكاه شريف العلماء عن استاذه صاحب الرياض في مجلس المذاكرة على ما في بحر الفوائد ١ : ١٨٩.

٢٨٨

الموهومات فقط ، ودعوى : أنّ كلّ من قال بعدم الاحتياط في الموهومات قال بعدمه في المشكوكات أيضا ، في غاية الضعف والسقوط.

رابعها : الدليل المعروف بدليل الانسداد

وهو دليل عقلي مركّب من مقدّمات عديدة ، مذكورة في كلام القوم بأجمعها صراحة أو ضمنا ، حتّى أنّ منهم من طوى ذكر بعضها ولم يصرّح به تعويلا على وضوحه ، وإذا تمّ ذلك الدليل بثبوت جميع مقدّماته لا يبقى إشكال وتشكيك في حجّيّة الظنّ المطلق وتعيّن العمل به ، بل لا اختصاص له بالأحكام الفرعيّة بل يجري في جميع الموارد ـ لو تمّ بجميع مقدّماته ـ حتّى المسائل الاصوليّة والموضوعات الخارجيّة وغيرها ، كالعدالة للرواة وأئمّة الجماعة والشهود إذا لم يوجد فيها شيء من الطرق العلميّة والظنون الخاصّة ، بل الاصوليّة الاعتقاديّة أيضا على تقدير جريان الدليل فيها.

وما يرى من أنّه لا يعمل فيها بالظنّ بل الإجماع على منعه ، فإنّما هو لعدم جريانه فيها باعتبار ثبوت التكليف فيها بالعلم وانفتاح بابه بوجود الطرق العلميّة ، حتّى أنّه لو اتّفق مسألة منها لم يوجد فيها طريق علمي مع وجود أمارة ظنّيّة أمكن منع البناء عليها والتديّن بالمظنون فيها ، لعدم ثبوت التكليف الفعلي لنا بالنسبة إلى ما لا نتمكّن من العلم فيه ، فلو ظننّا بدليل ظنّي بكون الحسن عليه‌السلام من أئمّتنا أفضل من الحسين عليه‌السلام ، أو بكون علومهم حضوريّة مثلا أو نحو ذلك ، وكان العلم متعذّرا فيه أمكن منع اعتبار هذا الظنّ ووجوب التعبّد به والتديّن بالمظنون ، لمنع ثبوت التكليف الفعلي علينا في خصوص تلك المسألة ، وإن كان ثابتا للعالمين أو المتمكّنين من العلم فيها.

وكيف كان فالمقدّمة الاولى : القطع بثبوت أحكام واقعيّة فعلا ، وتكاليف التزاميّة من وجوبات وتحريمات للعالمين بها بالتفصيل ، كالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه الموجودين في زمنه الّذين تربّوا في حجره ، وضابطه : أنّ الأحكام الّتي نزل بها جبرئيل كانت ثابتة عليهم فعلا ، مع القطع بعدم كوننا في وقائع تلك الأحكام كالبهائم والصبيان والمجانين ، بأن أهملنا الشارع ولم يجعل في حقّنا حكما بالفعل مطلقا حتّى الإباحة ـ بناء على أنّها كغيرها تحتاج إلى خطاب وانشاء ـ بل لنا في تلك الوقائع أيضا أحكام فعليّة أنشأها الشارع وخاطبنا بها فعلا وهذا هو معنى بقاء التكليف.

٢٨٩

المقدّمة الثانية : انسداد باب العلم والظنّ الخاصّ في معظم المسائل الفقهيّة.

المقدّمة الثالثة : القطع بعدم كون أحكامنا الفعليّة بأجمعها في جميع الوقائع المشتبهة ، هي الأحكام المجعولة للجاهل المستفادة من الطرق المقرّرة له ، كأصل البراءة وأصل الاشتغال والاستصحاب ، وحاصله : القطع بعدم كون حكمنا اليوم في جميع الوقائع هو الرجوع إلى الاصول من أصالة النفي وأصل البراءة ، ولا الأخذ بطريقة الاحتياط الموجب للعلم الإجمالي بالامتثال.

المقدّمة الرابعة : أنّ العقل المستقلّ بقبح التكليف بما لا يطاق ـ على تقدير تعيّن التعبّد بالعلم ـ يحكم بتعيّن الرجوع إلى الظنّ والأخذ به تحصيلا للامتثال الظنّي والموافقة الظنّيّة ، وعدم جواز العدول عنه إلى الموافقة الوهميّة بأن يؤخذ بالطرف المرجوح ، ولا الموافقة الشكّيّة بأن يعتمد على أحد طرفي المسألة من دون تحصيل الظنّ فيها ، أو يعتمد على ما يحتمل كونه طريقا شرعيّا للامتثال من دون إفادته الظنّ أصلا.

أمّا المقدّمة الاولى : فهي بالنسبة إلى كلّ من جزئيها ـ من ثبوت الأحكام الواقعية في حقّ العالمين بها وبقائها في حقّنا أيضا ، وعدم كون حالنا في وقائع تلك الأحكام كحال البهائم والصبيان والمجانين ـ بديهي الثبوت ولا حاجة لها إلى إثبات وإقامة برهان.

وأمّا المقدّمة الثانية : فهو أيضا بالنسبة إلى انسداد باب العلم غير محتاجة إلى البيان ولا الإثبات ، ضرورة قلّة ما يوجد في مسألة من طريق علمي يفي بانفراده في إثبات المسألة بجميع جهاتها على وجه لا يحتاج إلى إعمال أمارة غير علميّة حتّى الضروريّات والإجماعيّات.

ألا ترى أنّ أظهر ضروريّات الدين هو وجوب الفرائض اليوميّة ، ولا يثبت فيها بسبب الضرورة إلاّ أصل الوجوب ، أو هو مع كونها خمس صلوات ، أو هما مع كون الظهر منها أربع ركعات وكذلك العصر والعشاء ، والمغرب ثلاثة ، والصبح ركعتين.

وأمّا تفاصيل أحكام من أجزائها وشرائطها وموانعها وقواطعها ، والخلل الواقعة فيها من الشكوك والسهو والزيادة والنقيصة وغيرها ممّا لا يحصى كثرة ، فلا يوجد فيها من العلم أثر ، بل لم يعهد إلى الآن قول بانفتاح باب العلم في الأحكام حتّى أنّ الأخباريّة أيضا لا يقولون ، وما اشتهر منهم من علميّة الأخبار الموجودة بأيدينا فإنّما أرادوا بذلك علميّة صدورها ، وهذا لا يلازم علميّة نفس الأحكام المستفادة منها.

وأمّا بالنسبة إلى انسداد باب الظنّ الخاصّ ، فلأنّ ما ثبت عندنا من الظنون الخاصّة إنّما

٢٩٠

هو ظواهر الكتاب وهي لا توجد إلاّ في أقلّ قليل من الأحكام ، ومع ذلك قلّما يوجد مسألة وجد فيها ظاهر الكتاب يفي ذلك الظاهر بإثبات المسألة من دون حاجة له إلى إعمال أمارة غير علميّة.

وأمّا الإجماع المنقول المدّعى كون من الظنون الخاصّة ، فقد ظهر عدم تماميّة دليله ، فالإجماعات المنقولة بهذا الاعتبار مندرجة في الظنون المطلقة وكذلك خبر الواحد ، فإنّ الّذي ثبت منه كونه حجّة من حيث الخبريّة ليكون ظنّا خاصّا إنّما هو نوع خاصّ منه ، وهو الخبر الموثوق بصدقه أو صدق راويه ويقال له : « الصحيح القدمائي » ، وهذا ليس مقدار يفي بضميمة ما يوجد من الأدلّة العلميّة مع قلّتها وباقي الظنّون الخاصّة مع ندرتها بإثبات معظم الأحكام الشرعيّة ، بحيث لا يبقى مانع من الرجوع إلى الأصل حسبما يناسب الواقعة من الاستصحاب والبراءة والاشتغال والتخيير ، حتّى يتفرّع عليه عدم الحاجة إلى التشبّث بالظنّ المطلق ، وهذه المقدّمة هي العمدة من مقدّمات دليل الانسداد بل الظاهر من جماعة المصرّح به في كلام بعضهم كون ثبوت هذه المقدمّة كافيا في حجّيّة الظنّ المطلق ، للإجماع عليه على تقدير انسداد باب العلم والظنّ الخاصّ.

وأمّا المقدّمة الثالثة : فلبطلان مرجعيّة أصالة النفي والبراءة الأصليّة أو العمل بالاحتياط في جميع الوقائع المشتبهة حتّى المظنونة منها.

أمّا بطلان الرجوع إلى الأصل فإمّا للدليل على عدم جواز الرجوع إليها في الجميع ، أو لعدم الدليل على الجواز.

أمّا الأوّل ، فأوّلا : للإجماع القطعي على عدم الإهمال في الوقائع المشتبهة وترك التعرّض لامتثال الأحكام المعلومة رأسا ، ويعلم ذلك بالتتبّع ومراجعة كلماتهم ، بل لا نظنّ أحدا من أهل المعرفة أنّه يظنّ بالعلماء العاملين بالأخبار أنّهم على تقدير عدم نهوض أدلّة حجّيّتها بالخصوص يطرحونها رأسا ويستريحون بالأصل المقرّر للجاهل في مواردها كما هو واضح ، مع أنّهم كثيرا مّا يذكرون أنّ الظنّ في الشرعيّات يقوم مقام العلم عند تعذّره ، وقد وجدنا في بعض كلمات السيّد (١) الاعتراف بالعمل بالظنّ عند تعذّر العلم ، وادّعى العلاّمة في المختلف الإجماع عليه بقوله : « فإنّ غلبة الظنّ تكفي في العمل بالتكاليف الشرعيّة إجماعا » (٢).

وثانيا : للزوم الخروج عن الدّين ، لا على معنى أنّه كفر وارتداد كما قد يتوهّم من هذه

__________________

(١) انظر رسائل الشريف المرتضى ٣ : ٣٩ وحكاه عنه فى المعالم : ١٩٧.

(٢) المختلف ٣ : ٢٦.

٢٩١

العبارة عن قصور الفهم ، فأورد عليه : بأنّ العدول عن الظنون الاجتهاديّة إلى الأخذ بالبراءة الأصليّة فيها ليس من موجبات الكفر إجماعا ، بل عدم التديّن بما علم كونه نزل به جبرئيل من الأحكام والشرائع والسنن.

وإن شئت قلت : لزوم المخالفة القطعيّة ، للعلم بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة فيما بين المظنونات ، وهي قبيحة عقلا محرّمة شرعا.

لا يقال : هذا مشترك الورود فيما إذا أدّى الظنّ في جميع الوقائع المظنونة إلى موافقة الأصل ، فإنّ المناط هو مخالفة العلم الإجمالي سواء لزمت من العمل بالظنّ الموافق للأصل أو من العمل بالأصل نفسه.

لأنّا ندفعه : بأنّ هذا غير ممكن للزوم التناقض ، فكما أنّ الإيجاب الجزئي يناقض السلب الكلّي ، فكذلك العلم بالإيجاب الجزئي أيضا ـ كما هو معنى العلم الإجمالي بوجود واجبات ومحرّمات كثيرة ـ يناقض الظنّ بالسلب الكلّي.

ولو سلّم إمكانه فهو غير واقع ، لأنّ أكثر الأدلّة الغير العلميّة الموجودة بأيدينا مخالفة للأصل.

ولو سلّم وقوعه نمنع جواز الأخذ حينئذ في جميع تلك الوقائع ، بل يعمل بالاحتياط في الظنّ الضعيف وبمؤدّى الأصل في الظنّ القوي ، ولو تساوت الظنون في القوّة والضعف فيعمل بالظنّ الموافق للأصل إلى أن يبقى مقدار لو عمل فيه بالظنّ أيضا حصل العلم بالمخالفة فيؤخذ فيه بالاحتياط ، أو أنّه يعمل بالاحتياط إلى أن ينفي من المظنونات ما خرج عن طرف العلم الإجمالي حذرا في الجميع عن المخالفة القطعيّة.

وأمّا الثاني : فلمنع جريان أصل البراءة فيما نحن فيه ، لاختصاص أدلّته بالشكّ في التكليف إيجابا أو تحريما ، لا الشكّ في تعيين مورده بعد العلم بثبوت أصله ، فلو شككنا في وجوب غسل الجمعة يوم الجمعة يجرى فيه الأصل ، بخلاف ما لو شككنا في أنّ الواجب يوم الجمعة هل هو غسل أو صلاة الجمعة بعد العلم بوجوب شيء فيه فلا مجرى للأصل فيه ، وما نحن فيه من هذا الباب لأنّا نعلم إجمالا أنّ في المظنونات واجبات كثيرة ومحرّمات كثيرة ، ولكنّها اشتبهت بين المظنونات بحيث يحتمل في كون كلّ ما ظنّ وجوبه أو حرمته أو عدم وجوبه منها.

وربّما ردّ الرجوع إلى أصالة البراءة ، بأنّ اعتبارها من باب الظنّ ، والظنّ منتف في

٢٩٢

مقابل الخبر ونحوه من الأمارات الظنّيّة المفروض وجودها في المسألة ، كما عن صاحبي المعالم (١) والزبدة (٢) وغيرهما.

وهذا الردّ في غاية السقط ، إن اريد به اعتبار كون أصالة البراءة مفيدة للظنّ بنفي الحكم الإلزامي في الواقع ، إذ لا نظر فيها إلى الواقع بل هي أصل موضوعه الجهل بالحكم الواقعي ، وظاهر أنّ الأصل الّذي موضوعه الجهل بالواقع باعتبار كونه مقرّرا للجاهل لا يطلب منه الوصول إلى الواقع حتّى يعتبر فيه ، ويمنع من حصوله مع وجود الخبر أو أمارة اخرى ، ومفاده البراءة وخلوّ ذمّة المكلّف عن الحكم الإلزامي المشكوك فيه إيجابا أو تحريما ، وهو في مفاده الّذي هو الحكم الظاهري قطعيّ لقطعيّة دليله من العقل والنقل.

وإن اريد بكون اعتباره من باب الظنّ أنّه في مفاده من الحكم المجعول للجاهل ظنّي ، فهو ممّا لا محصّل له ، إلاّ دعوى كون الأدلّة المقامة بذلك الأصل يعتبر في دلالتها عليه إفادة الظنّ بذلك الحكم المجعول ، وهي مع وجود الخبر لا تفيده ، ومرجعه إلى منع شمولها لهذا المورد من جهة وجود الخبر ونحوه ، فهو أوضح سقوطا من سابقه.

أمّا أوّلا : فلأنّ الأدلّة المقامة به من العقل والنقل المطابق له قطعيّة مفيدة للقطع بذلك الحكم المجعول في موضوعه ، وإلاّ لم يكن دليل على اعتباره إلاّ من باب الظنّ المطلق ، فكيف يسوغ المناقشة في دليله بإبداء احتمال مرجعيّة الأصل حتّى يقابل بالردّ المذكور.

وأمّا ثانيا : فلأنّ وجود الخبر الظنّي وغيره لا يمنع من حصول الظنّ من أدلّة الأصل بمفاده ، وإن حصل الظنّ من الخبر أيضا لعدم المنافاة بتغاير موضوعيهما ، فإنّ الخبر يفيد الظنّ بحكم الواقعة من حيث هي ، وأدلّة الأصل تفيد الظنّ بحكم الواقعة من حيث جهالة حكمها الواقعي ، والظنّ الأوّل لعدم ثبوت حجّيّته غير خارج عن الجهل ، وبذلك يندفع ما يمكن أن يقال : من أنّ موضوع الأصل مع وجود الخبر ونحوه غير محرز ، لعدم (٣) شمول أدلّته ظنّا بهذا الاعتبار ، مع أنّ أدلّة الأصل مقيّدة بعدم وجود دليل قطعي ولا دليل قطعي الاعتبار على الواقع ، والخبر المفروض وجوده غير قطعي ولا أنّه قطعي اعتباره ، فوجوده بمثابة عدمه.

على أنّه لو كان مبنى الردّ على فرض كونه قطعي الاعتبار ، فالاعتراف به منع لعدم (٤)

__________________

(١) معالم الدين : ١٩٢ ـ ١٩٣.

(٢) الزبدة : ٥٨.

(٣) وفى الأصل : « فعدم » والصواب ما أثبتناه في المتن بملاحظة السياق ، فتدبّر.

(٤) وقد سها قلمه الشريف في هذا المقام ، والصواب : « فالاعتراف به منع لتماميّة دليل الانسداد. الخ ». فلاحظ وتأمّل.

٢٩٣

تماميّة دليل الانسداد ، بواسطة عدم ثبوت ما هو العمدة من مقدّماته ، وهو انسداد باب العلم والظنّ الخاصّ ، فلا يعقل الاستناد لإتمامه إلى منع مرجعيّة الأصل لوجود الخبر.

وأمّا ما أورد أيضا ـ على القول بالرجوع إلى الأصل مع وجود الأمارة الظنّيّة كالخبر : ـ من أنّ دليل الأصل وهو الإجماع ليس بموجود فيما قابله الخبر وغيره ، فهو أضعف من سابقه ، لأنّ الإجماع على تقدير انحصار دليل الأصل فيه قائم بالأصل الكلّي ، ووجود الخبر المختلف فيه لا يخرج المورد عن موضوعه في نظر من لا يراه معتبرا من باب الظنّ الخاصّ.

ومن الأعلام من أورد على الرجوع إلى الأصل على تقدير كون مدركه العقل المستقلّ : « بأنّ حكم العقل إمّا أن يراد به الحكم القطعي أو الظنّي ، فإن كان الأوّل فدعوى كون مقتضى أصل البراءة قطعيّا أوّل الكلام ، كما لا يخفى على من لاحظ أدلّة المثبتين والنافين من العقل والنقل ، سلّمنا كونه قطعيّا في الجملة ، ولكنّ المسلّم إنّما هو قبل ورود الشرع ، وأمّا بعد ورود الشرع فالعلم بأنّ فيه أحكاما إجمالا يثبّطنا عن الحكم بالعدم قطعا. كما لا يخفى ، سلّمنا ذلك ولكن لا نسلّم حصول القطع بعد ورود الخبر الواحد الصحيح على خلافه ، وإن أراد الحكم الظنّي سواء كان بسبب كونه بذاته مفيدا للظنّ أو من جهة استصحاب الحالة السابقة ، فهو أيضا ظنّ مستفاد من ظاهر الكتاب والأخبار الّتي لم يثبت حجّيّتها بالخصوص ، مع أنّه ممنوع بعد ورود الشرع ، ثمّ بعد ورود الخبر الصحيح إذا حصل من خبر الواحد ظنّ أقوى منه » (١) انتهى.

وفيه : أنّه لا ريب في كون حكم العقل بالبراءة قطعيّا ولا ينبغي الاسترابة فيه ، لأنّ مناطه عدم البيان من جهة استقلاله بقبح التكليف بلا بيان ، والبيان بمجرّد وجود الخبر المشكوك الاعتبار غير حاصل ، وكذلك غيره من الأمارات الغير المعتبرة ، وحيث حصل البيان بنصب دليل علمي أو قطعي الاعتبار فلا حكم له ، لا بعنوان القطع ولا الظنّ.

وأمّا الخبر الصحيح المفروض وجوده في المسألة ، فإن قام دليل قطعي على اعتباره كان بيانا ، ومعه لا مجرى لأصل البراءة ، وإلاّ فوجوده كعدمه في عدم منعه من حكم العقل ، سواء فرضناه قطعيّا أو ظنّيّا.

وأمّا المنع من حكمه من جهة العلم الإجمالي الحاصل بعد ورود الشرع ، فهو حقّ لا سترة عليه ، فالوجه في إبطال الرجوع إلى أصل البراءة هو ما بيّناه من الوجوه الثلاث.

__________________

(١) قوانين الاصول ١ : ٤٤٢.

٢٩٤

وبها يندفع ما أورده المحقّق الخوانساري جمال الدين رحمه‌الله في حاشيته حيث قال : « يرد على الدليل المذكور أنّ انسداد باب العلم بالأحكام الشرعيّة غالبا لا يوجب جواز العمل بالظنّ حتّى يتّجه ما ذكروه ، لجواز أن لا يجوز العمل بالظنّ ، فكلّ حكم حصل العلم به من ضرورة أو إجماع نحكم به ، وما لم يحصل العلم به نحكم فيه بأصالة البراءة ، لا لكونها مفيدة للظنّ ولا للإجماع على وجوب التمسّك بها ، بل لأنّ العقل يحكم بأنّه لا يثبت تكليف علينا إلاّ بالعلم أو بظنّ يقوم على اعتباره دليل يفيد العلم ، ففيما انتفى الأمران فيه يحكم العقل ببراءة الذمّة عنه وعدم جواز العقاب على تركه ، لا لأنّ الأصل المذكور يفيد ظنّا بمقتضاها حتّى يعارض بالظنّ الحاصل من أخبار الآحاد بخلافه ، بل لما ذكرناه من حكم العقل بعدم لزوم شيء علينا ما لم يحصل العلم لنا ولا يكفي الظنّ به ، ويؤكّده ما ورد من النهي عن اتّباع الظنّ ، وعلى هذا ففيما لم يحصل العلم به على أحد الوجهين وكان لنا مندوحة عنه كغسل الجمعة فالخطب سهل ، إذ نحكم بجواز تركه بمقتضى الأصل المذكور.

وأمّا فيما لم [ يكن ] مندوحة عنه كالجهر بالتسمية والإخفات بها في الصلاة الإخفائيّة الّتي قال بوجوب كلّ منهما قوم ، ولم يمكن لنا ترك التسمية ، فلا محيص لنا عن الإتيان بأحدهما ، فنحكم بالتخيير فيها ، لثبوت وجوب أصل التسمية وعدم ثبوت الجهر والإخفات ، فلا حرج لنا في شيء منهما. وعلى هذا فلا يتمّ الدليل المذكور [ لأنّا ] لا نعمل بالظنّ أصلا » انتهى (١).

ويردّه : الوجوه الثلاث المتقدمّة ، وقد يردّ أيضا : « بأنّ أصل البراءة لا يجري في جميع الفقه ، كما لو تردّد المال بين شخصين فيما إذا شكّ في صحّة بيع المعاطاة فتبايع بها إثنان ، فإنّه لا يجري هنا البراءة لحرمة تصرّف كلّ منهما على تقدير كون المبيع ملك صاحبه وكذا في الثمن ، ولا معنى للتخيير أيضا لأنّ كلاّ منهما يختار مصلحته ، وتخيير الحاكم هنا لا دليل عليه مع أنّ الكلام في حكم الواقعة لا في علاج الخصومة.

اللهمّ : إلاّ أن يتمسّك في أمثال المقام بأصالة عدم ترتّب الأثر ، بناء على كون أصالة العدم من الأدلّة الشرعيّة ، وحينئذ فإبدال أصالة البراءة في الإيراد بأصالة العدم أولى لكونه أشمل » (٢).

وأمّا بطلان الرجوع إلى الاحتياط بفعل كلّ ما يحتمل الوجوب أو الجزئيّة أو

__________________

(١) حاشية جمال الدين الخوانساري على شرح المختصر ( مخطوط ) : ١١٩.

(٢) فرائد الاصول ١ : ٤٠١ ـ ٤٠٢.

٢٩٥

الشرطيّة ، وترك كلّ ما يحتمل الحرمة أو المانعيّة أو القاطعيّة ، أو الجمع بين المحتملات بفعل الجميع أو ترك الجميع في المكلّف به الدائر بين امور متعدّدة فلوجهين :

أحدهما : الإجماع القطعي على عدم وجوب الاحتياط في المقام ، لا بمعنى إجماعهم على عدم الالتزام بالاحتياط في كلّ المسائل الفقهيّة أو جلّها حتّى يرد عليه بأنّ عدم الأكثر منهم ، لعلّه لوجود المدارك المعتبرة عندهم في الأحكام ، فلا يقاس عليهم غيرهم ممّن لا يجد مدركا ، ولا بمعنى إجماعهم حتّى الأخباريّين على عدم وجوب الاحتياط في الشبهات الوجوبيّة ، حتّى يرد عليه أنّ كلامهم ثمّة إنّما هو في الشبهات البدويّة فلا يقاس عليها غيرها من صورة وجود العلم الإجمالي كما في المقام ، بل بمعنى إجماع العلماء على عدم كون المرجع في الشريعة على تقدير انسداد باب العلم وفقد الظنون الخاصّة رأسا ، أو عدم كفاية الموجود منها إلاّ في أقلّ قليل من الأحكام ، هو طريقة الاحتياط والالتزام بفعل كلّ ما يحتمل الوجوب ظنّا أو شكّا أو وهما ، وترك كلّ ما يحتمل الحركة كذلك ، كما يعلم ذلك أيضا بالتتبع في كلمات الأصحاب وطريقة عملهم في غير المعلومات.

ثانيهما : لزوم العسر الأكيد والحرج الشديد من الالتزام بالاحتياط في جميع الوقائع المشتبهة الموجبين لاختلال نظم العالم ، لكثرة المشتبهات ولا سيّما الموهومات بحيث خرجت في الكثرة عن حدّ الإحصاء ، كما يرشد إليه ضرورة قلّة المعلومات ، بل لو قطعنا النظر عن الاحتياطات اللازمة في أبواب المعاملات وسائر أبواب العبادات ، كفى ما يلزم من محذور العسر و [ الحرج ] في خصوص الطهارة والصلاة الّتي تتكرّر في الليل والنهار خمس مرّات في خمس أوقات ، لكثرة المسائل الخلافيّة المتعلّقة بهما من حيث الأجزاء والشرائط والموانع والقواطع والشكوك ومسائل السهو والنسيان.

فالالتزام بالاحتياط في الجميع ولا سيّما الخلافات الموجبة لدوران المكلّف به بين المتبائنين ، كالجهر أو الإخفات بالتسمية في الصلوات الإخفاتيّة الّتي لا يتمّ الاحتياط فيها إلاّ بالجمع والتكرار ، حتّى أنّه قد لا يتمّ إلاّ بتكرار صلاة واحدة مرارا عديدة ، يوجب أن يستغرق فعل الطهارة والصلاة جميع آنات الليل والنهار ، فيختلّ به سائر امور المعاش وهذا هو معنى اختلال نظام العامّ ، وهذا العسر الّذي يلزم من أصل العمل بالاحتياط ما يشترك فيه المجتهد ومقلّدوه.

وها هنا عسر آخر موجب للاختلال أيضا يختصّ به المقلّد ، نظرا إلى أنّ الاحتياط لا

٢٩٦

يتمّ إلاّ بعد معرفة موارد الاحتياط ، ثمّ معرفة كيفيّته الّتي تختلف على حسب اختلاف الموارد ، ثمّ معرفة تعارض الاحتياطات بعضها بعضا وموارد تعارضها ، وعلاج التعارض بترجيح الاحتياط الناشئ من الاحتمال القوي على الاحتياط الناشئ من الاحتمال الضعيف.

وهذه الوجوه من المعرفة كلّها أمر صعب لا يستقلّ به المقلّد بل يحتاج إلى التعلّم من معلّم ، وفيه أيضا ما لا يخفى من العسر الشديد الموجب لاختلال امور المعاش.

ولنذكر مثالا واحدا لذلك ، وهو أنّ الاحتياط في مسألة التطهّر بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر في ترك التطهّر به ، غير أنّه قد يعارضه في الموارد الشخصيّة احتياطات اخر بعضها أقوى منه وبعضها أضعف وبعضها مساو له ، فإنّ المكلّف الّذي حصل له الابتلاء بذلك الماء قد يوجد عنده ماء آخر أيضا للطهارة ، وقد لا يوجد معه إلاّ التراب ، وقد لا يوجد من مطلق الطهور إلاّ هذا الماء.

والاحتياط في الأوّل : هو التطهّر بالماء الآخر ، إن لم يزاحمه الاحتياط من جهة اخرى ، كما إذا أصاب الماء الآخر ما (١) لم ينعقد الإجماع على طهارته كعرق الجنب من الحرام مثلا.

وفي الثاني : هو الجمع بين المائيّة والترابيّة ، إن لم يزاحمه ضيق الوقت المقتضي للاحتياط بترك الجمع لحفظ الوقت.

وفي الثالث : الطهارة بذلك المستعمل والصلاة معها إن لم يزاحمه أمر آخر واجب أو محتمل الوجوب ظنّا أو وهما.

وبالجملة تعلّم موارد الاحتياط الشخصيّة وكيفيّته ، وعلاج التعارض للمقلّد يكاد يلحق بالمتعذّر ، فكيف بالعمل به في جميع الوقائع المشتبهة؟

لا يقال : لا يجب على المقلّد تقليد هذا المجتهد الّذي أدّى نظره إلى انسداد باب العلم والظنّ الخاصّ في معظم الفقه ، بل يقلّد غيره ممّن لا يرى باب العلم أو الظنّ الخاصّ مسدودا.

لأنّا نقول أوّلا : نفرض الكلام في صورة انحصار المجتهد في ذلك القائل ، أو انحصار القول في المجتهدين في هذا القول.

وثانيا : يتمّ الكلام في المجتهد نفسه ، لما عرفت من أنّ العسر اللازم في العمل بالاحتياط مشترك بين المجتهد والمقلّد.

وثالثا : بأنّ الكلام في حكم المسألة على تقدير انسداد باب العلم والظنّ الخاصّ على

__________________

(١) وكلمة « ما » هنا موصولة ، أي : « شىء لم ينعقد الإجماع على طهارته » الخ.

٢٩٧

وجه يكفي في معظم الفقه على حسبما يراه ذلك المجتهد ، مع اعتقاده بكون القول بخلاف ذلك ، ناشئا عن الركون إلى ما لا ينبغي الركون إليه.

فنقول : إنّ حكم الله سبحانه حينئذ إمّا وجوب العمل بالظنّ أو وجوب الاحتياط ، فإن قلت بالثاني لزمك العسر والحرج ، وإن قلت بالأوّل ثبت المطلوب.

ولابدّ أن يفتي لغيره من المكلّفين بشيء ، فإن أفتى بالرجوع إلى طريقة الاحتياط فهو إفتاء بما يوجب العسر والحرج الموجبين للاختلال ، وإن أفتى بمؤدّى اجتهاده وظنّه ثبت المطلوب أيضا ، مع أنّ الاحتياط فيما دار الأمر بين المتبائنين ، وفيما لو دار المال بين صغيرين يحتاج كلّ منهما إلى صرفه إليه غير ممكن ، فلا مناص عن العمل بالظنّ.

ثمّ إنّه أورد على ما ذكرناه في إبطال مرجعيّة الاحتياط بوجوه :

منها : النقض بما لو أدّى اجتهاد المجتهد إلى الظنّ بما يوجب الحرج ، كوجوب الترتيب بين الحاضرة والفائتة لمن عليه فوائت كثيرة ، ووجوب الغسل على مريض أجنب متعمّدا وإن أصابه من المرض ما أصابه ، ووجوب امور كثيرة يلزم العسر بمراعاتها جميعا ، فلو كان العسر اللازم من العمل بقاعدة موجبا للإعراض ورفع اليد عنها أوجبه في القواعد والأحكام المبتنية على الظنون المطلقة.

وفيه : من السهو والغفلة عن حقيقة مفاد الأدلّة النافية للعسر والحرج ، ومعاملة تلك الأدلّة للأدلّة المثبتة لسائر التكاليف ما لا يخفى ، فإنّ الأدلّة المثبتة للتكاليف إمّا مخصّصة بالأدلّة النافية للعسر والحرج أو مخصّصة لها فهي قسمان :

أحدهما : العمومات المثبتة للتكاليف من نحو قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ )(١) و ( أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ )(٢) وما أشبه ذلك ، قبالا لقوله تعالى : ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )(٣)( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )(٤) فإنّ الأوّل وإن كان يعمّ مورد الحرج وغيره ، والثاني يعمّ الصلاة وغيرها ، غير أنّ الثاني مقدّم على الأوّل لا لما توهّم من أنّ النسبة بينهما عموم من وجه ، وأصالة البراءة ترجّح الأدلّة النافية للعسر ، أو لأنّ المرجّحات الخارجيّة كعمل العلماء ونحوه يرجّحها ، بل لأنّها بطبعها ولذاتها مقدّمة عليها ، كما يشير إليه رواية عبد الأعلى مولى آل سام في رجل عثر وانقطع ظفره فجعل عليه مرارة فكيف يصنع

__________________

(١) سورة المزمّل : ٢٠.

(٢) سورة البقرة : ١٨٧.

(٣) سورة الحج : ٧٨.

(٤) سورة البقرة : ١٨٥.

٢٩٨

بالوضوء؟ « فقال عليه‌السلام : يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله ( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )(١) امسح عليه » (٢) بتقريب : أنّ ظاهر الجواب أنّ هذا وأشباهه يعرف حكمه من عموم نفي الحرج ، وهذا ـ مع أنّ الأدلّة الواردة في وجوب المسح على البشرة أيضا عمومات ـ ممّا ليس له معنى محصّل سوى تقدّم الأدلّة [ النافية ] للحرج لذاتها على عمومات سائر التكاليف.

والسرّ في ذلك : أنّها بمضمونها ومدلولها اللفظي متعرّضة لحال عمومات أدلّة التكاليف ببيان مقدار موضوعها ، وهو ما لم يكن فيه عسر ولا حرج ، ومرجعه إلى نفي مجعوليّة الحكم الحرجي ، وبعبارة نفي جعل الوجوب لمورد الحرج ، فتكون كالمفسّرة لها وقد يسمّى ذلك بالحكومة ، وهو ليس من باب التخصيص بل شبه تخصيص ، لأنّ التخصيص هو إخراج شيء عن حكم العامّ لولا الإخراج لزم الكذب والتناقض ، كما في قوله : « أكرم العلماء » و « لا تكرم زيدا » ، بخلاف الحكومة فإنّها تفسير وبيان لمقدار الموضوع ونفي لمجعوليّة الحكم لمورد العسر.

ومن آية ذلك أنّه لولا الدليل المحكوم عليه لزم اللغو في الدليل الحاكم ، بخلاف التخصيص فإنّه لولا العامّ المخصّص لم يكن المخصّص لغوا ، كما يعلم ذلك بملاحظة المثال المتقدّم.

وثانيهما : خصوص الأدلّة المثبتة للتكليف لموضوع عسر حرجي بطبعه ، كأدلّة وجوب الجهاد والحجّ وما أشبههما ، وضابطه : كونها لخصوص موضوعها أخصّ من الأدلّة النافية للعسر والحرج ، فتخصّصها بضابطة تقدّم الخاصّ على العامّ ، فالأدلّة الظنّيّة المؤدّية إلى الظنّ بما فيه العسر والحرج إن كانت من قبيل القسم الأوّل فتخصّص بالأدلّة النافية للعسر والحرج بغير مورديهما ، وإن كانت من قبيل القسم الثاني فتخصّص بها أدلّة نفي العسر والحرج لأنّها أيضا عمومات ظنّيّة قابلة للتخصيص ، فلا إشكال في شيء من التقديرين فبطل النقض.

وممّا يخصّصه أدلّة نفي الحرج من باب الحكومة بغير محلّ العسر والحرج أدلّة حسن الاحتياط ووجوبه على تقدير وجودها ، وهذا هو المقصود في إبطال مرجعيّة الاحتياط استنادا إلى استلزامها العسر والحرج.

بل قد يقال : إنّ أدلّة العسر بالنسبة إلى قاعدة الاحتياط من قبيل الدليل بالنسبة إلى الأصل ، فتقديمها عليها أوضح من تقديمها على العمومات الاجتهاديّة.

__________________

(١) سورة الحج : ٧٨.

(٢) الوسائل ١ : ٤٦٤ / ٥ ، ب ٣٩ من أبواب الوضوء.

٢٩٩

وأمّا ما ذكره من فرض تأدية ظنّ المجتهد إلى وجوب امور يلزم من مراعاتها العسر والحرج.

ففيه بعد الإغماض عن منع إمكانه ، نظرا إلى أنّا علمنا من أدلّة نفي الحرج وغيرها بأنّ واجبات الشرع وإن كانت كثيرة إلاّ أنّها ليست بحيث يوجب فعلها العسر على المكلّف ، وهذا العلم الإجمالي يمنع من حصول الظنّ التفصيلي بوجوب امور يلزم من فعلها العسر ، والإغماض عن منع وقوعه بعد تسليم إمكانه ، نظرا إلى كثرة ما يخالف الاحتياط فيما بين الأمارات من أخبار الآحاد والإجماعات المنقولة والشهرات والأولويّات الظنّيّة وغيرها ، بحيث فيها التأدية إلى الظنّ باستحباب امور كثيرة ، والظنّ بحرمة امور اخر والظنّ بكراهة امور اخر ، والظنّ بإباحة امور اخر.

بل لو تأمّلت في الأمارات الاجتهاديّة الّتي يستعملها المجتهد لوجدت أكثرها أدلّة مؤدّية إلى غير التكاليف المقتضية للوقوع في العسر والحرج ـ أنّه لا محذور في ذلك ، لما أشرنا إليه من أنّ أدلّة نفي العسر والحرج قابلة للتخصيص بأدلّة تكاليف كانت أخصّ منها إذا لم يوجب العسر اللازم منها اختلال النظم ، مع أنّ العسر اللازم من مراعاة الامور المظنون وجوبها مشترك اللزوم بين القول بالعمل بالظنّ والقول بالرجوع إلى الاحتياط ، لأنّ العسر إنّما يلزم من وجوب الإتيان بها سواء كان ذلك الإتيان لأجل أنّها الواجب ، أو لرجاء أنّها الواجب.

وبقي على الثاني زيادة لزوم الحرج باعتبار أنّ القائل به يوجب الاحتياط في المشكوكات والموهومات أيضا ، ونحن لا نوجب الإتيان بها كما هو واضح ، ولو فرض في بعض الأحيان تأدية الظنّ إلى اختلال النظم ، فنحن لا نبالي من طرحه وترك العمل به ، والاقتصار منه على العمل بما لا يلزم منه محذور الاختلال.

ومنها : أنّ الأدلّة النافية للعسر والحرج يعارضها الأدلّة الدالّة على حرمة العمل بالظنّ ، والثانية أكثر فإن لم نقل بترجيحها لذلك فلا أقلّ من التكافؤ ، وأقلّ مراتبه التساقط ، فيبقى أصالة الاحتياط مع العلم الإجمالي بالتكاليف الكثرة سليمة عن المزاحم.

ويزيّفه : أيضا منع التعارض أمّا أوّلا : فلما عرفت عند تأسيس أصالة حرمة العمل بالظنّ أنّ حرمة العمل به ليست بذاتيّة بل عارضيّة ، من حيث إنّه لا يغني من الحقّ باعتبار عدم دوام مصادفته الواقع ، فلا يأمن من تأدية العمل به إلى مخالفة الواقع من وجوب أو تحريم ، وأدلّة نفي الحرج لا تنفي هذه الحرمة بل إنّما تنفي الوجوب والحرمة الذاتيّتين إذا

٣٠٠