تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٥٥٥

ففيه : أنّ عدم رفع اليد عن الحقيقة في القسم الأوّل بمجرّد الاحتمال الناشئ عن أمارة غير معتبرة حسن ، ورفع اليد عنها في القسم الثاني بمجرّد الاحتمال الناشئ من الإجمال في خطاب آخر غير جيّد ، بل قيل إنّ التوقّف في ظاهر خطاب لأجل احتمال خطاب آخر لكونه معارضا ممّا لم يعهد من أحد من العلماء ، بل لا يبعد حمل مجمل الخطاب الثاني على مبيّن الخطاب الأوّل ، ومقايسة المقام على المجاز المشهور خلط فيما يحتمل للصارفيّة بين المكتنف بالكلام والمنفصل عن الكلام ، إذ الأوّل يؤثّر في الإجمال بخلاف الثاني.

هذا تمام الكلام في حجّيّة الظنّون المعمولة ، لتشخيص المرادات من الألفاظ ، المعبّر عنها بالظواهر بعد إحراز كونها ظواهر.

وهذا هو البحث في القسم الأوّل الّذي هو البحث في كبرى القياس المنتظم ، بأنّ « هذا ظاهر ، وكلّ ظاهر حجّة ».

وأمّا القسم الثاني : فهو البحث في الصغرى أعني ما يثبت به ظهور الظواهر أوّليّة كانت أو ثانويّة ، فليعلم أنّ الظهور في الظواهر الأوّليّة ـ وهي ظهور الحقائق في معانيها الحقيقيّة ـ يستند دائما إلى وضع لغوي أو عرفي أو شرعي شخصي أو نوعي ، في هيئة مفردة أو مركّبة ، كظهور « صعيد » مثلا في وجه الأرض لوضعه له ، وظهور صيغة « إفعل » في الإيجاب لوضعها له ، وظهور الجملة الشرطيّة في الانتفاء عند الانتفاء لوضعها للسببيّة ، إلى غير ذلك من أوضاع موادّ الألفاظ وهيئاتها المفردة وهيئاتها المركّبة.

كما أنّ الظهور في الظواهر الثانويّة ـ وهي ظهور المجازات في معانيها المجازيّة ـ يستند إلى قرائنها حاليّة أو مقاليّة أو عقليّة يعتبرها العرف في الصرف عن الحقيقة إلى المجاز وتعيينه ، ومن المعلوم أنّ ذلك بعد ثبوت مجازيّة المجاز باعتبار انتفاء الوضع ، كما أنّ الحمل على الحقيقة بعد ثبوت الحقيقة باعتبار ثبوت الوضع ، فكلّ من الحقيقيّة والمجازيّة قد ثبتت بطريق علمي ولا كلام لنا فيه هنا.

وقد تثبت بطريق ظنّي كنصّ لغوي غير مفيد للعلم ، وتبادر ظنّي وغيرهما من الأمارات الظنّيّة للحقيقة أو المجاز ، وهذا هو محلّ الكلام هنا ، على معنى أنّ الكلام هنا في حجّية الظنون المعمولة في تشخيص الظواهر وإثبات الأوضاع وتمييز الحقائق عن المجازات ، وهي الّتي يعبّر عنها بحجّيّة الظنّ في اللغات ، والغرض الأصلي النظر في كون الظنّ في اللغات الّذي يحرز به ظهور الظواهر ، هل هو من الظنون الخاصّة الّتي ثبتت

١٦١

حجّيّتها بالخصوص بدليل علمي خاصّ مخرج لها من أصالة الحرمة أم لا؟

وهذه المسألة بهذا العنوان الكلّي ليست مذكورة في أكثر الكتب الاصوليّة ، بل المذكور في جملة منها بعض أفراد هذا العنوان الكلّي ، وهو الظنّ باللغة الحاصل من نصّ أهل اللغة ، ويعبّر عنه : « بأنّ قول أهل اللغة حجّة أم لا »؟ ونحن أيضا نقتصر على هذا العنوان الخاصّ ، ويعلم ما عداه بالمقايسة.

فنقول : إنّ لهم خلاف في حجّيّة قول أهل اللغة ، ولهم فيها أقوال متشتّة ، أوردناها مشروحة مع تحقيق منّا مستوفى في الجزء الأوّل من الكتاب (١) بحيث أغنانا عن التطويل والإطناب هنا ، ونزيد ها هنا أيضا تبعا لممشى شيخنا قدس‌سره.

ونقول : إنّ أهل القول بحجّيّة قول أهل اللغة ، إمّا أن يريدوا به جواز العمل به من باب الظنّ الخاصّ ، أو جواز العمل به لانسداد باب العلم في اللغات ، أو جواز العمل به للاضطرار إلى العمل به من جهة الاضطرار إلى العمل بمطلق الظنّ في الأحكام لدليل الانسداد فيها ، احتمالات منشؤها اضطراب كلماتهم واختلاف أدلّتهم المقامة على الحجّيّة.

فإن أرادوا الأوّل : فالحقّ هو عدم الحجّيّة على الوجه المذكور ، لعدم قيام دليل علمي عليه ، فإنّ قصارى ما استدلّوا على الحجّيّة على الوجه المذكور إنّما هو اتّفاق العلماء بل جميع العقلاء على الرجوع إلى اللغويين في استعلام اللغات ، والاستشهاد بأقوالهم في احتجاجاتهم ، من غير أن ينكر ذلك أحد على أحد.

وحكي عن السيّد (٢) في بعض كلماته دعوى الإجماع على ذلك ، قال شيخنا قدس‌سره : « بل ظاهر كلامه المحكي دعوى اتّفاق المسلمين عليه » (٣).

وحكي (٤) عن الفاضل السبزواري دعوى اتّفاق العقلاء عليه قائلا ـ فيما حكي ـ : « صحّة المراجعة إلى أصحاب الصناعات المبادرين في صنعتهم البارعين في فنّهم فيما اختصّ بصناعتهم ، ممّا اتّفق عليه العقلاء في كلّ عصر وزمان » (٥) انتهى.

__________________

(١) تعليقة على معالم الاصول ٢ : ٥١ ـ ١٦.

(٢) لم نعثر عليه في كلمات السيّد المرتضى ولا على الحاكي ، نعم حكاه السيّد المجاهد عن السيّد الاستاذ انظر مفاتيح الاصول : ٦١.

(٣) فرائد الاصول ١ : ١٧٤.

(٤) حكاه عنه السيد المجاهد في مفاتيح الاصول : ٦٢.

(٥) رسالة في الغناء ( مخطوط ) للفاضل السبزواري.

١٦٢

وفيه مغالطة واضحة فإنّ عمل العلماء بقول اللغويين في الجملة مسلّم لا يمكن إنكاره ، غير أنّ بلوغه الإجماع الكاشف عن قول المعصوم ، أو عن حقّيّة المورد فيما هو محلّ البحث وموضوع المسألة ـ وهو العمل بقول لغوي غير مفيد للعلم فيما هو متعلّق بالأحكام التكليفيّة الّتي يعاقب فيها على العمل بغير العلم ـ غير معلوم ، بل المعلوم عدم ثبوته فيه ، وما يرى من عملهم به أو اتّفاقهم على العمل به فإنّما هو شيء ليس المقام منه.

وتوضيحه : أنّ موارد عملهم مختلفة ، وهي على ما يرشد إليه الاستقراء على أنحاء :

منها : ما يعملون به في موضع [ تعاضد ] بعضه ببعض ، كما لو اتّفق أهل اللغة على معنى ، أو تعدّدوا تعدّدا يفيد العلم بصدقهم.

ومنها : ما يعملون به لاعتضاده بالقرائن الخارجيّة ، من مطابقة العرف وشهادة الأمارات المعمولة في تشخيص الموضوعات ، فيحصل لهم العلم بما قالوا وإن كان القائل واحد.

ومنها : ما يعملون به في محلّ يتسامح فيه ، ولا يطالب فيه بالعلم ، ولا يعاقب فيه على العمل بغير العلم ، كما في الخطب والأشعار والقصائد والأدعيّة والأحاديث الغير المتعلّقة بالأحكام ، والآيات الغير الواردة في التكاليف.

ومنها : ما يعملون به في موضع المجادلة المقصود فيها الغلبة على الخصم وإسكاته ، فيستشهدون بقول لغوي لأجل هذا الغرض لا غير ، بل العمل المقصود هو مجرّد الغلبة والإسكات ، فلم يبق إلاّ ما هو موضوع البحث ، ولم يثبت فيه منهم الإجماع على العمل به على وجه يندرج في الظنون الخاصّة.

وإن أرادوا الثاني : فالحقّ فيه المنع أيضا ، لعدم انسداد باب العلم في اللغات الّذي مناطه الانسداد الأغلبي.

وأمّا الاستدلال على جواز العمل على الوجه المذكور بأنّه ـ لولاه لزم سدّ باب الإفادة والاستفادة لانسداد باب العلم في اللغات ـ فمدخول فيه بضرورة الانفتاح الأغلبي ، لكون أكثر اللغات ما يعلم به بمراجعة العرف واستعمال علائم الحقيقة أو المجاز المفيدة للقطع بهما ، وما لا يعرف بالعرف والأمارات فإنّما يعلم به بواسطة أقوال اللغويّين في موضع تعاضد بعضها ببعض ، وما لا معاضد له فإنّما يؤخذ به بملاحظة العادة وشهادة القرائن ، كما أنّا نعمل بقول عربيّ واحد عاميّ صرف أخبرنا بأنّ اللفظ الفلاني عندنا هو للمعنى الفلاني ، ولا ريب أنّه ليس عملا بالظنّ ، بل بما يفيد العلم بحكم العادة وشهادة قرائن المقام بصدقه ،

١٦٣

بل هذا طريق مألوف في تعلّم جميع اللغات عربيّة وفارسيّة وتركيّة وغيرها ، بل نرى بحكم الضرورة والعيان أنّ مبنى المحاورة في جميع الألسنة واللغات إنّما هو على العلم بأوضاعها والقطع بموضوعاتها ، ولا يوجد أحد أنّه يزعم أنّه في بعض ألفاظ لسانه يعمل في المحاورة على العمل بالظنّ فيه ، فكيف يقال : إنّه لولا جواز العمل بقول اللغوي في الأوضاع لزم سدّ باب الإفادة والاستفادة لانسداد باب العلم في اللغات؟

وظنّي أنّ وضع هذه الحجّة خلط بين الظنون المعمولة في إحراز الدلالات لتشخيص المرادات ـ وهي الظواهر الّتي يغلب فيها الظنّ بالمرادات ، فلولا العمل بهذا الظنّ جائزا لزم سدّ باب الإفادة والاستفادة ـ والظنون المعمولة لإثبات الأوضاع ، والملازمة مسلّمة في الأوّل دون الثاني ، وهو محلّ الكلام دون الأوّل.

وإن أرادوا الثالث : فلانسداد باب العلم في الأحكام جهات كثيرة أقلّها عدم تيسّر العلم في أقلّ قليل من الألفاظ الواردة في الكتاب والسنّة المتعلّقة بالأحكام ، لعدم معلوميّة حال العرف ، ولا اتّفاق العلم من قول أهل اللغة فيها.

وظاهر أنّ عدم حجّية الظنّ في هذا القليل من الألفاظ لا يستتبع محذورا في الأحكام ، لإمكان الاحتياط فيما يتعلّق بها ، ولو سلّم الاضطرار إلى العمل به تبعا للاضطرار إلى العمل بمطلق الظنّ في الأحكام نقول به ، ولكنّه خارج عن موضوع المسألة ، لأنّه ليس عملا بالظنّ في اللغات ، لأنّه لا يثبت به وضع ولا حقيقة ولا مجاز ولا انفهام عرفي ، بل هو عمل بالظنّ في بعض الأحكام الّذي سبب حصوله الظنّ في اللغات ، فليتدبّر.

وثانيها

أي الثاني ممّا ادّعي خروجه من الأصل :

الإجماع المنقول بخبر الواحد

فإنّ كثيرا ممّن يرى خبر الواحد حجّة من باب الظنّ الخاصّ يقول به أيضا في الإجماع المنقول ، فليس الغرض بيان حجّيّته من باب الظنّ المطلق ، لأنّا لو قلنا بالظنّ المطلق باعتبار دليل الانسداد اندرج فيه الإجماع المنقول أيضا ، فلا حاجة إلى تكلّف البحث عن حجّيّته بالخصوص.

كما أنّه ليس الغرض من حجّيّته من باب الظنّ الخاصّ بيان أنّه قام الدليل الخاصّ

١٦٤

على عنوان « الإجماع المنقول » من حيث أنّه هذا العنوان ، لأنّه بهذا العنوان لم يؤخذ في شيء من الأدلّة ، ولم يرد فيه آية كتابيّة ولا رواية نبوّيّة ولا رواية إماميّة ولم ينعقد عليه إجماع ، بل بيان أنّه هل يكون حجّة من باب أنّه نبأ عدل فيكون من أفراد خبر الواحد ، ويدلّ على حجّيّته كلّما دلّ على حجّيّة خبر الواحد من الأدلّة الخاصّة.

ولذا قيل : إنّه بمنزلة خبر الواحد ، ويعدّ بهذا الاعتبار من الأدلّة اللفظيّة ، ويلاحظ فيه سندا ودلالة ومعارضة ، وباعتبار السند يدخل فيه كثير من أقسام الخبر من صحيح وضعيف وغيرهما ، وهو إذا نقله العدل من أصحابنا كخبر صحيح عالي السند ، وباعتبار الدلالة يلحقه جميع أحكام الدلالة اللفظيّة ، من قوّة وضعف ونصوصيّة وظهور وعموم وخصوص وإطلاق وتقييد وبيان وإجمال ، وباعتبار معارضة مثله له يلحقه أحكام التعارض ، من طرح أو علاج بالجمع والترجيح والرجوع إلى المرجّحات وغيره.

ومرجع البحث في حجّيّته على الوجه المذكور إلى بيان الملازمة بينه وبين خبر العدل في الحجّيّة وعدمها ، فقيل : نعم وهو لأكثر القائلين بحجّيّة خبر الواحد ، فقالوا : بأنّ ناقل الإجماع يحكي مدلوله ويرويه عن الإمام فيكون رواية مصطلحة ، وقيل لا وهو لجماعة وهو الحقّ.

لنا عليه وجهان : أحدهما : ما يرجع إلى الطعن في السند ، لا بمعنى القدح في الناقل فإنّه ممّا لا معنى له ، بل بمعنى أنّ إسناد العدل قولا إلى الإمام من باب الحدس ليس كإسناده القول إليه من باب الحسّ ليشمله أدلّته ، أو يكون نظيره في إيراث الوثوق والاطمئنان.

وثانيهما : ما يرجع إلى القدح في الدلالة ، على معنى أنّ الإجماع الّذي ينقله العدل ليس بحيث يدلّ على ما هو المقصود من الإجماع المصطلح ، ليكون ذلك نقلا لقول الإمام ، من حيث عدم بقائه في كلامهم على حاله وحقيقته هذا بيان دليل المختار على وجه الإجمال.

وأمّا بيانه على سبيل التفصيل فنقول : إنّ الأدلّة الخاصّة المقامة على حجّيّة خبر الواحد ، إمّا أن تكون من الأدلّة اللبّيّة كسيرة أصحاب الأئمّة والقدماء في العمل بأخبار الآحاد الّتي هي إجماع عملي ، أو من الأدّلة اللفظيّة من الأخبار والآيات.

أمّا الأوّل : فعدم شمول السيرة والإجماع العملي للإجماع المنقول واضح لا حاجة له إلى البيان ، إذ لا لفظ فيه ليكون بعمومه أو إطلاقه متناولا له ، والقدر المعلوم المتيقّن من معقدهما الروايات المصطلحة والأخبار المأثورة عن أئمّتهم عليهم‌السلام لا غير ، وإن نقلت الكلام

١٦٥

إلى الإجماع الّذي نقله الشيخ ـ فمع أنّه يوجب الدور ـ فهو أيضا غير مجد في الشمول للإجماع المنقول ، لأنّه منقول على عمل أصحاب الأئمّة بالأخبار المتداولة لديهم ، ولا تكون إلاّ الروايات المصطلحة.

وأمّا الثاني : فلأنّ الأخبار من أدلّتها اللفظيّة على اختلاف أنواعها ـ من الواردة في مدح جماعة من الرواة الذين منهم الفضلاء الأربع ، كبريد بن معاوية العجلي وأبي بصير ليث البختري المرادي ومحمّد بن مسلم وزرارة بن أعين الذين ، ورد في شأنهم « بشّر المخبتين بالجنّة ، نجباء امناء الله ، ولولاهم انقطعت آثار النبوّة واندرست » (١) ومن الآمرة بالرجوع في معالم الدين إلى أصحابهم ورواة حديثهم ، (٢) والآمرة بالأخذ من كتب بني الفضّال (٣) وغيرهم من أشخاص مخصوصين من أصحابهم كزرارة ومحمّد بن مسلم وأبي بصير الأسدي وأبان بن تغلب ويونس بن عبد الرحمن وزكريّا بن آدم والعمري وابنه ، والواردة في علاج الخبرين المتعارضين المعبّر عنها بالأخبار العلاجيّة ـ لا تتناول الإجماع المنقول أيضا ، بل مواردها على ما يجده المتتبّع ليست إلاّ الروايات المصطلحة ، من دون أن يكون فيها لفظ عامّ أو مطلق يشمل الإجماع المنقول.

ودعوى : أنّ المناط في وجوب العمل بالروايات هو كشفها عن الحكم الصادر عن المعصوم ، ولا يعتبر في ذلك حكاية ألفاظ الإمام ، ولذا يجوز نقل الحديث بالمعنى ، وإذا كان المناط كشف الروايات عن صدور معناها عن الإمام ولو بلفظ آخر ، وأنّ حكاية الإجماع أيضا حكاية حكم صادر عن المعصوم بهذه العبارة الّتي هي معقد الإجماع أو بعبارة اخرى ، فوجب العمل به أيضا لأجل هذا المناط.

يدفعها : أنّ المناط المذكور مع فرض كون الكشف ظنّيّا ، ليس بمنصوص عليه ولا مجمع عليه ، وإلاّ لجرى في الشهرة بل فتوى الفقيه الواحد في بعض الأحيان ، لمكان الكشف الظنّي فيهما أيضا عن الحكم الصادر عن الإمام ، والمفروض عدم الإجماع على العمل بهما ، ولا أنّه مقطوع به من جهة الأخبار المذكورة ، بل غايته كونه مناطا ظنّيّا ، فالتعويل عليه في التعدّي إلى الإجماع المنقول يرجع إلى نحو من القياس المستنبط العلّة ، وفيه ما فيه.

__________________

(١) الوسائل ٢٧ : ١٤٢ / ٤ ب ١١ من أبواب صفات القاضي.

(٢) الوسائل ٢٧ : ١٤٦ / ٢٧ و ٣٣ ب ١٤ من أبواب صفات القاضي.

(٣) الوسائل ٢٧ : ١٤٢ / ١٣ ب ١١ من أبواب صفات القاضي.

١٦٦

وأمّا الآيات : فعمدتها آية النبأ وبعدها آية النفر ، ولا يشمل شيء منهما الإجماع المنقول.

أمّا آية النبأ : فلأنّه تعالى فصّل فيها منطوقا ومفهوما بين نبأ الفاسق ونبأ العادل بإيجاب التبيّن في قبول الأوّل ، وإيجاب القبول من غير تبيّن في قبول الثاني.

وعلّل الأوّل بعدم الوقوع في الندم ، ودلّ ذلك على كون العدالة في الثاني قائمة مقام التبيّن في إفادة عدم الوقوع في الندم ، وهذا لا يتمّ إلاّ فيما انحصر العلّة الموجبة للوقوع في مخالفة الواقع الموجب للوقوع في الندم في تعمّد الكذب ، حتّى يقال : بأنّ احتماله يرتفع أو يضعف ضعفا لا يعتني به العقلاء بالتبيّن في الفاسق والعدالة في العادل.

والمفروض عدم انحصارها فيه ، لأنّ الاشتباه والخطأ الّذي هو طبيعة ثانويّة في الإنسان أيضا علّة موجبة للوقوع فيهما ، فلابدّ في قبول الخبر من إناطته بما يرتفع معه كلّ من احتمالي تعمّد الكذب والخطأ ، أو يضعف ضعفا لا يلتفت إليه العقلاء ولا يعتنون بشأنه ، أو تخصيص مورد الاكتفاء في القبول بمجرّد التبيّن والعدالة بما لا يجري فيه احتمال الخطأ ، وهو الإخبار عن حسّ لعدم وقوع الخطأ في الحسّيات ، أو كمال ندرته بحيث لا يعتنى باحتماله فيها العقلاء.

والأوّل في الآية منتف ، لأنّه إنّما انيط القبول فيها بعدالة المخبر الّتي لا تكفي في ارتفاع احتمال الخطأ ، لأنّ العادل لا يتعمّد الكذب ، وليس مأمونا من الخطأ ، لأنّه لا ينافي العدالة فتعيّن الثاني ، فوجب القول بأنّ مورد آية النبأ هو الإخبار عن حسّ الّذي هو عبارة عن حكاية قول المعصوم أو فعله أو تقريره المدركات بالحسّ ، فلا يندرج فيه الإجماع المنقول الّذي هو حكاية قول المعصوم المدرك بالحدس.

وبالجملة : مورد الآية ـ على ما ذكرناه أيضا ـ هو الروايات المصطلحة لا غير ، ويؤيّد ما ذكرناه من التقريب أنّ عدم الوقوع في الندم ـ المعلّل به القبول في الفاسق بعد التبيّن ، والعادل من غير تبيّن ـ لا يصحّ التعليل به إلاّ فيما [ لا ] يجري فيه احتمال الخطأ أو يضعف احتماله وليس إلاّ الحسّيّات ، وإلاّ وجب اعتبار أمر آخر يرفع احتماله ، والعدالة بمجرّدها غير رافعة لها.

وبالجملة : الوقوع في الندم علّة مشتركة بين تعمّد الكذب والخطأ ، فيقبح إناطة القبول بمجرّد العدالة ، لعدم وفائها بارتفاع العلّة المشتركة بكلّ من فرديها ، وهذا يكشف عن أنّ مورد الآية ما لا يجري فيه احتمال الخطأ ، فلا يدخل فيها الإجماع المنقول.

وخلاصة ما بيّناه في منع شمول الآية للإجماع المنقول ، هو : أنّ الفرق بين الفاسق

١٦٧

والعادل بإيجاب التبيّن وعدمه ، تعليلا بمخافة الندم في الأوّل دون الثاني لا يصحّ أن يكون من جهة احتمال الخطاء ، لأنّ ذلك علّة مشتركة بينهما من غير تفاوت بينهما فيه أصلا ، فيكون التعليل به قبيحا ، وإنّما يصحّ ذلك بحكم العرف والذوق بالنسبة إلى احتمال تعمّد الكذب وعدمه ، فإنّه في بناء العدل غير موجود أو أنّه على تقدير وجوده في غاية الضعف ، فلا يمنع من الوثوق والاطمئنان بالصدق ، بخلافه في جانب نبأ الفاسق ، وهذا هو الفارق بينهما بكون العمل بالأوّل من غير تبيّن مستتبعا للوقوع في الندم دون الثاني ، فيكون ذلك هو الداعي لله سبحانه إلى التفصيل.

فلا بدّ وأن يحمل ذلك ـ حيث إنّه تعالى أطلق فيه الحكم بالقبول على تقدير وعدمه على تقدير آخر من غير زيادة قيد آخر ـ على كلّ مورد انحصر فيه جهة المنع من قبول الخبر في احتمال تعمّد الكذب ، بأن يكون الاحتمالات الاخر المانعة من الوثوق والقبول ـ الموقعة على تقدير القبول في الندم التي منها احتمال الخطأ والاشتباه ـ مسدودة بملاحظة الخارج ، أو ضعيفة بحيث لا يعتني بها العقلاء أصلا ، كالامور الحسّيّة من قول أو فعل أو تقرير ، حيث إنّ الأوّل يدركه السمع والأخيران يدركهما البصر ، والإجماع المنقول ليست بهذه المثابة ولا بتلك المنزلة.

فإن قلت : لو صحّ ما ذكرت من البناء والاستظهار ، لوجب جواز العمل بخبر الفاسق إذا علم صدقه ، وعلم خطأه من خارج ، إذ لا ندم فيه حينئذ من جهة انتفاء احتمالي الكذب والخطأ ، وهذا يشبه بكونه خلاف الإجماع ، لبنائهم في خبر الفاسق على الردّ وعدم القبول ولو علم صدقه من الخارج ، كما يفصح عن ذلك مسألة الشهادة الّتي يعتبرون فيها العدالة مطلقا ، ولأجله لا يقبلون شهادة الفاسق كذلك.

قلت : خبر الفاسق المعلوم صدقه إن تحقّق في موارد الاستنباط كالأحكام الكلّيّة الإلهيّة فلا إشكال في جواز قبوله ووجوب العمل به ، فدعوى الإجماع على ردّه غير مسموعة.

كيف! وأنّ الشيخ نقل الإجماع على العمل بخبر المتحرّز عن الكذب وسمّاه صحيحا ، وإن تحقّق في موارد الشهادة فلا يقدح عدم قبوله ولو مع العلم بعدم تعمّده الكذب فيما ذكرناه ، لأنّ العدالة في خصوص الشهادة شرط تعبّدي أثبته الدليل من نصّ أو إجماع.

فإن قلت : هذا المعنى ينافيه ما يظهر من العلماء من استدلالهم لإثبات حجّيّة الشهادة أيضا بآية النبأ ، ومقتضاها كون مناط خبر العدل فيها أيضا الوثوق بالصدق والأمن من

١٦٨

الوقوع في الندم ، وهذا لا يلائم كون اعتبار العدالة تعبّدا حتّى في مورد يؤمن فيه من الوقوع في الندم بدونها.

قلت : ينقضه أنّهم ـ مع استنادهم في قبول خبر العدل إلى الآية وإثبات شرطيّة عدالة المخبر للعمل بخبره بها ـ يشترطون في المخبر ـ ولو عدلا ـ كونه ضابطا ، تعليلا بأنّه لا وثوق بخبر غير الضابط ولو عدلا ، فلو كان الاستناد إلى الآية في إثبات أصل اعتبار خبر العدل منافيا لاعتبار أمر زائد على العدالة بدليل آخر لما كان لاشتراط الضبط وجه ، إذ المفروض أنّها دلّت على قبول خبر العدل وهذا خبر عدل ، ولا معنى بعده لاشتراط الضبط ولا تعليله بعدم الوثوق لولاه.

فظهر أنّ إثبات أصل اعتبار خبر العدل بالآية لا ينافي اشتراط أمر زائد على العدالة بدليل من الخارج ، وعلى نحو ذلك نقول في مسألة الشهادة ، فإنّ أصل اعتبار شهادة العدل إنّما ثبتت بالآية ومقتضاها جواز القبول في موضع العلم بالصدق ولو مع انتفاء العدالة ، غير أنّ الدليل من الخارج دلّ على كون العدالة فيها معتبرة على وجه التعبّد ، كما أنّ الدليل الخارج أيضا أثبت فيها اعتبار التعدّد.

وأمّا آية النفر : فبعد الإغماض عن ظهورها في الفتوى والبناء على شمولها الرواية أيضا ، نقول : إنّ النافر إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو إلى الأئمّة ، وكذلك الآخذ من أحدهم إذا رجع إلى قومه لا يحكي له إلاّ ما أدركه بالسمع من القول ، وما رآه بالبصر من الفعل أو التقرير ، فيكون موردها الروايات المصطلحة ، ولا يندرج فيها الإجماع المنقول.

هذا كلّه في توضيح الطعن في السند حسبما أشرنا إليه سابقا على وجه الاختصار.

وأمّا توضيح القدح في الدلالة على معنى منع دلالة نقل الإجماع على كون قصد ناقله حكاية قول الإمام الّذي هو من السنّة ، وظهوره في حكاية السنّة ليندرج بذلك في الخبر المصطلح ـ الذي هو عبارة عن حكاية السنّة الدائرة بين قول المعصوم وفعله وتقريره ـ حتّى يشمله أدلّة حجّيّته ، فهو موقوف على بيان معنى الإجماع ووجه حجّيّته ، على معنى الملازمة بينه وبين قول الإمام أو موافقة قوله ، وأنّ هذه الملازمة هل هي ثابتة أم لا؟

فنقول : إنّ للعامّة والخاصّة في الإجماع تعاريف كثيرة بعبارات مختلفة مذكورة في كتبهم الاصوليّة ، وإطلاقاتهم « لفظ الإجماع » في الكتب الفقهيّة والاصوليّة أيضا في الكثرة خارجة عن حدّ الإحصاء ، إلاّ أنّ المستفاد من مجموع تعريفاتهم وإطلاقاتهم معان ثلاث

١٦٩

يطلق على كلّ واحد الإجماع :

أحدها : اتّفاق جميع علماء الامّة حتّى الإمام (١).

وثانيها : اتّفاق العلماء عدا الإمام (٢).

وثالثها : اتّفاق جماعة يكشف اتّفاقهم عن رأي المعصوم (٣) ، إلاّ أنّ اصطلاح العامّة والخاصّة ـ على ما يظهر من أكثر تعريفاتهم فيه ـ قائم بالمعنى الأوّل المأخوذ فيه اتّفاق كلّ الامّة ، أو جميع علمائهم الّذي منهم الإمام ، لأنّه من أجلّ الامّة وأفضل علمائهم ، حتّى أنّ معناه المصطلح عليه عند أصحابنا أيضا ذلك المعنى ، وإن قلنا بأنّ أصل حدوث الاصطلاح من العامّة وأصحابنا الخاصّة أخذوه منهم تبعا من غير أن يغيّروه ، كما يظهر ذلك من المرتضى قدس‌سره ـ فيما حكي عنه منقولا بالمعنى ـ من « أنّ الإجماع شيء أحدثه العامّة واخترعوه وأدرجوه في الأدلّة وجعلوه قسما منها ، ونحن أخذناه منهم لمّا رأيناه حقّا ووجدناه صالحا للحجّيّة ، لكن لا من الجهة الّتي زعموه بل من جهة اخرى وهي كشفه تضمّنا عن قول الحجّة باعتبار أنّ اتّفاق الامّة أو علمائهم يتضمّن قول إمامهم الّذي هو الحجّة فالإجماع حجّة لحجّيّة قول الإمام ، لا من حيث إنّه إجماع (٤) » وهذا كما ترى مخالفة من أصحابنا للعامّة في وجه الحجّيّة ، والمخالفة في وجه الحجّية لا يستلزم المخالفة في الاصطلاح والتسمية ، ولذا ترى أنّ تعاريف قدمائهم إلى متأخّريهم ـ الّذين آخرهم كما قيل صاحب المعالم وشيخنا البهائي ـ منطبقة على ما حدّه العامّة الّذي اعتبروا فيه اتّفاق الكلّ ، ومع اتّفاق الكلّ يعلم دخول الإمام أيضا.

ومن هنا ذكر جمع من المحقّقين منهم الفاضل القمّي (٥) : « أنّ كلّ إجماع عندهم إجماع عندنا ، وحجّة على مذهبنا من القول بوجود إمام معصوم في كلّ عصر ».

نعم ولقد شاع في كلام أصحابنا إطلاقه على كلّ من المعنيين الآخرين ، لا على أنّه تغيير للاصطلاح الأوّل ، ولا على أنّه إحداث لاصطلاح آخر خاصّ بهم ، بل مسامحة وتوسّعا في الاستعمال ، لكون كلّ في زعمهم كالإجماع المصطلح في الحجّيّة والاعتبار من

__________________

(١) شرح مختصر الاصول : ١ : ١٢٢ والإحكام للآمدى ١ : ٢٥٤.

(٢) تهذيب الوصول للعلاّمة الحلّي : ٦٥ وغاية البادئ في شرح المبادئ ( مخطوط ) ٧٣.

(٣) قوانين الاصول ١ : ٣٤٩.

(٤) نهاية الوصول ( مخطوط ) : ٢٤١.

(٥) قوانين الاصول ١ : ٣٥٨.

١٧٠

حيث الكشف عن موافقة قول الحجّة ورضاه ، كشفا التزاميّا بالالتزام العقلي أو العرفي ، وظاهر أنّ كون شيء كالإجماع المصطلح في الحجّيّة ووجهها عندهم لا يلازم كونه مثله في التسمية أيضا.

ولكنّا نتكلّم على كلّ من المعاني الثلاث ، غير أنّ الكلام في المعنى الأوّل إنّما يقع في الصغرى لا في الكبرى ، لأنّه إذا ثبت الصغرى ـ وهو اتّفاق كلّ الامّة أو كلّ العلماء حتّى الإمام ـ وعلم بذلك فلا يبقى مجال على مذهبنا للكلام في الكبرى وهو الحجّيّة ، ولا يبقى محلّ لقولنا الإجماع حجّة أم لا؟ لأنّه في المعنى يرجع إلى القول بأنّ ما يكشف عن قول الإمام كشفا تضمّنيّا حجّة أو ليس بحجّة؟ وهذا كما ترى تشكيك في حجّيّة ما يكشف عنه الإجماع أعني قول الحجّة ، وهو تشكيك في أمر ضروري على مذهبنا ، فلا يصدر عن جاهل فضلا عن العلماء.

ولذا ترى أنّ أصحابنا في عنوان هذا المعنى الّذي قد يعبّر عنه ب « طريقة القدماء » لم يتعرّضوا لبحث الحجّيّة أصلا ، لأنّ كونها مع الإجماع من قبيل القضايا الّتي قياساتها معها ، بل إنّما تعرّضوا لبيان امور كلّها ترجع إلى الصغرى من شروط الإجماع وأركانه وموانعه وفروعه.

وأمّا المعنى الثاني : فعمدة الكلام فيه يقع في الكبرى ، وهو ثبوت الملازمة بين اتّفاق من عدا الإمام من علماء الامّة وموافقة قوله وعدمه ، وإن كان يمكن فيه التكلّم عن الصغرى أيضا.

وأمّا المعنى الثالث : فإنّما الكلام فيه أيضا يقع في الكبرى ، وهو ثبوت الملازمة بين اتّفاق الجماعة ، وموافقة قول الإمام ورضاه الّتي عبّر عنها ب « الكشف » ، في عبارة قولهم : « اتّفاق جماعة يكشف اتّفاقهم عن رأي المعصوم ».

فأمّا المعنى الأوّل : فمعنى الكلام في صغراه هو أنّ اتّفاق جميع علماء الامّة حتّى الإمام على حكم شرعي ، بأيّ شيء يحرز وبأيّ طريق يعلم؟ وهل يمكن الاطّلاع عليه ، حتّى يستند إليه في اثبات حكم شرعي ، وينقل في مقام الاستنباط في كتب الاستدلال ، ليكون نقله حكاية للسنّة ، وهو قول الإمام المعلوم إجمالا في جملة أقوال المجمعين ، المفروض كونهم كلّ علماء الامّة حتّى إمامهم المعصوم على مذهبنا أو لا يمكن معه؟

فنقول : يتصوّر لإحرازه والعلم به طريقان :

أحدهما : أن يستقصى أقوال جميع العلماء بحيث يحصل اتّفاق لقاء الإمام في ضمنه ، وأخذ القول منه بعنوان رجل عالم ليدخل شخصه في أشخاصهم ، وقوله في أقوالهم ، سواء

١٧١

تحقّق ذلك في مجلس واحد أو بلد واحد أو ناحية واحدة ، أو صقع من الأصقاع ، أو إقليم من الأقاليم ، أو قطر من الأقطار ، أو جميع أطراف العالم.

وثانيهما : أن يكون هناك معيار وميزان منضبط ، بينه وبين الواقع ملازمة قطعيّة ، ويكون بحيث لا يمكن لأحد التخلّف عنه والخروج منه ، من ضروري دين أو حكم عقل مستقلّ كحرمة الظلم مثلا على تقدير بلوغه حدّ الضرورة ، أو قبحه الذي يستقلّ به العقل ، فبذلك يعلم أنّ جميع علماء الامّة قائلون بموجبه ومقتضاه.

والفرق بين الطريقين : أنّ أقوال العلماء الّذين منهم الإمام تدرك بطريق الحسّ على الأوّل والحدس على الثاني ، ويعلم بها بالتفصيل على الأوّل ، وبالإجمال على الثاني ، والوصول إلى الإجماع على الأوّل بطريق اللمّ (١) وعلى الثاني بطريق الإنّ ، إذ العلم بالمجمع عليه بما معه من المعيار أوجب العلم بالاجماع على الثاني ، ولا سبيل إلى شيء من الطريقين.

أمّا الأوّل : فلأنّه محال عادي ، إمّا لعدم إمكان استقصاء الجميع بطريق الحسّ عادة ، أو لعدم إمكان لقاء [ الإمام ] الغائب [ عليه‌السلام ] بحيث أخذ منه القول ولو بعنوان رجل عالم عادة ، كما يشهد به ضرورة عدم اتّفاق ذلك لأحد من محصّلي الإجماع ، من علماء أزمنة الغيبة متقدّميهم ومتأخّريهم ولم يدّعه أحد.

وتوهّم إمكانه بأن يدخل أحد مجلسا حضر فيه العلماء ويعلم أنّ الإمام فيهم من غير أن يعرفه بشخصه ، فيسألهم عن حكم واقعة فأجابوه كلمة واحدة ، فإنّه إجماع أحرز بطريق الحسّ مع كون قول الإمام معلوما بالإجمال لكونه من جملتهم.

يدفعه : أنّ هذا حيث يتحقّق لا إشكال في كبراه ، ولا يمكن الاسترابة في حجّيّته لحجّيّة قول الحجّة ، ولكنّا نقطع بعدم تحقّقه لأحد من علماء أزمنة الغيبة ، وما فرض من إمكانه إمكان فرضي لا يجدي في تحصيل الإجماع ونقله ليكون نقله حكاية للسنّة ، بل الّذي يجدي في ذلك هو الإمكان الوقوعي والمفروض عدم وقوعه قطّ ، فيكون في حدّ الامتناع العادي.

نعم لا يبعد تحقّقه في أزمنة الحضور وليس كلامنا فيه.

وأمّا الثاني (٢) : فلحصول العلم بالمجمع عليه بما فرض معه من المعيار من ضرورة دين

__________________

(١) اللمّ : هو الاستدلال بالعلّة على المعلول. والإنّ : هو الاستدلال بالمعلول على العلّة.

(٢) وهو أن يكون بين الحكم المجمع عليه والواقع تلازما قطعيّا.

١٧٢

أو حكم عقل مستقلّ ، فيغني ذلك عن النظر في الإجماع المستحصل به التابع له ، بل لا يكون فرض الإجماع معه إلاّ كالحجر الموضوع في جنب الإنسان ، باعتبار أنّه لا يؤثّر أثرا ولا يفيد فائدة أصلا.

ونتيجة استحالة الطريق الأوّل وإغناء الطريق الثاني القطع بعدم تحقّق الإجماع بالمعنى الأوّل ، وهو اتّفاق جميع العلماء حتّى الإمام في الإجماعات التي حصّلها أصحابنا ، أعني علماء أزمنة الغيبة كالشيخين وأتباعهما ومن تقدّم عليهما ، ثمّ السيّدين المرتضى ورضي الدين وابن زهرة وابن طاووس وأتباعهم ، والفاضلين في كتبهما والشهيدين في كتبهما ، والعليين الكركي والميسي ، والمقدّس الأردبيلي وتلميذيه صاحبي المدارك والمعالم ، وغيرهم ممّن سبقهم أو لحقهم من المتصدّين لتحصيل الإجماع ونقله في رسائلهم وكتبهم الاستدلاليّة ، لانحصار طريقه في أمرين نقطع بانتفائهما فيها معا.

أمّا الأوّل : فلاستحالته العاديّة.

وأمّا الثاني : فلعدم كون محلّ البحث الإجماعات المنقولة المصادفة لضروري الدين أو حكم العقل المستقلّ ، إذ مع وجود أحد الأمرين لا حاجة إلى النظر في الإجماع المنقول ولا إلى إثبات حجّيّته ، إذ لا فائدة في الأمارة الغير العلميّة مع وجود الطريق العلمي ، بل مع العلم الحاصل منه فعلا.

وقضيّة ذلك كلّه أن يكون كلّ إجماع نقل في كلامهم مطلقا ـ كقولهم : إجماعا أو للإجماع ونحوه ، أو مع إضافته إلى الامّة أو المسلمين أو أهل الإسلام أو العلماء ونحوه ـ مرادا به المعنى الثاني وهو اتّفاق من عدا الإمام.

ولا ينافيه عدالتهم بدعوى لزوم الإغراء أو التدليس من حيث إنّهم يصطلحون الإجماع في معنى ، ويريدون في إطلاقاتهم معنى آخر ، لما ذكرناه من وجود القرينة القطعيّة على إرادة خلاف المعنى المصطلح عليه.

ودون الألفاظ المذكورة في ألفاظ نقل الإجماع قولهم : « أجمع الأصحاب » أو « أجمع أصحابنا أو علمائنا » أو « إجماع الشيعة » أو ما يؤدّي مؤدّاه لظهورها في إرادة اتّفاق من عدا الإمام ، ودونها لفظ « عندنا » الّذي يقال : إنّه يؤذن بدعوى الإجماع ، ودون الجميع لفظ « لا خلاف » و « بلا خلاف » ونحوه ، لانتفاء لفظ « الإجماع » فضلا عن معناه المصطلح عليه.

فملخّص ما بيّناه في منع كون نقل الإجماع حكاية السنّة ، أنّ العلم بقول الإمام المدّعى

١٧٣

حصوله بالإجماع بالمعنى الأوّل الّذي هو طريقة القدماء في القول بالكشف التضمّني ، بمنزلة العلم بالنتيجة الحاصل بالقياس بطريق الشكل الأوّل ، بتقريب : أنّ الاستدلال به ينحلّ إلى أن يقال : « الإمام واحد من علماء الامّة ، وكلّ واحد من علماء قال بكذا ، فالإمام قال بكذا » ، وهذا هو العلم بقول الإمام الحاصل بالنظر في الإجماع بالمعنى الأوّل ، ولا إشكال في إمكان حصوله على تقدير صدق المقدّمتين ، كما لا إشكال في صدق الصغرى منهما ، بل لا يمكن الاسترابة فيه لكونها ضروري الثبوت.

وإنّما الكلام في كلّيّة الكبرى وهو في غاية الإشكال بل موضع منع ، لأنّ طريق ثبوتها إن كان استقصاء أقوال العلماء بأجمعهم حتّى الإمام المعلوم دخوله فيهم إجمالا ، فهو على ما عرفت غير ممكن عادة ، وإن كان النظر في المعيار والميزان المنضبط الّذي يلازم الواقع ملازمة قطعيّة من ضروري دين أو حكم عقل مستقلّ ، فهو لإفادته العلم بالحكم المجمع عليه السابق حصوله على العلم بالإجماع يغني عن النظر في الإجماع التابع له ويرفع الحاجة إلى النظر فيه.

هذا مضافا إلى أنّا نقطع بانتفائه في الإجماعات المنقولة في كلام أصحابنا التي نتكلّم في حجّيّتها ، إذ لا كلام في الإجماعات المصادفة لضروري الدين أو حكم العقل المستقلّ ، إذ لا حاجة إلى النظر في الإجماع المنقول الّذي هو أمارة ظنّيّة مع وجود الطريق العلمي الضروري أو النظري ولا إثبات حجّيّته ، بل الكلام في الإجماعات المنقولة في غير الضروريّات والمستقلاّت العقليّة وما يلحق بها من الأحكام العقليّة الملحوظ فيها خطاب الشرع ، وهذه الإجماعات لا يمكن حملها على إرادة المعنى الأوّل لوجود القرينة القطعيّة الصارفة عنه.

وأمّا المعنى الثاني : وهو اتّفاق كلّ العلماء عدا الإمام المدّعى كونه كاشفا عن موافقة قول الإمام كشفا التزاميّا.

فنقول : إنّ مرجع دعوى الكشف فيه إلى دعوى الملازمة بينه وبين موافقة قول الإمام للحكم المجمع عليه ، والملازمة المدّعاة هنا ملازمة بين شيئين لا ملازمة بينهما في الواقع ، كالملازمة المدّعاة بين موت زيد وطيران الغراب فيما لو أخبر أحد بموت زيد ، وعلّله بأنّه رأى غرابا طار من المكان الفلاني ، وذلك لأنّ القائلين بالإجماع بهذه الطريقة كالشيخ (١) وأتباعه إنّما استدلّوا على الملازمة بقاعدة وجوب اللطف.

__________________

(١) العدّة ٢ : ٦٤٢.

١٧٤

وتقريرها ملخّصة : أنّه لو كان قول الإمام مخالفا لما أجمعت الطائفة عليه مع عدم وجود مخالف لهم ، ولا دليل من كتاب أو سنّة قطعيّة على صحّته وسقمه ، ولا العلم بموافقة الإمام أو مخالفته لهم ، لوجب عليه ردعهم لأنّه لطف واللطف واجب ، ولمّا لم يكن ردعهم ، فنعلم بموافقة قوله لقولهم.

وهذه القاعدة في محلّها وموردها وإن كانت مسلّمة لا يمكن الاسترابة فيها ، إلاّ أنّ محلّ البحث ليس من موردها فلا حكم لها فيما نحن فيه أصلا ، وكيف كان فنجيب عنها تارة بالنقض ، واخرى بالحلّ.

أمّا النقض : فلأنّ المقصود من إعمال قاعدة اللطف هنا إمّا أن يكون إثبات حكم للاّحقين الناظرين في إجماع المجمعين ، وهو أن يكون إجماعهم مستندا للاحقين ، أو إثبات حكمه للمجمعين وهو أن لا يكون إجماعهم على الإفتاء بالحكم المجمع عليه خاليا عن المستند ، لكون قول الإمام الموافق له حينئذ مستندا له.

فإن كان الأوّل فيرد عليه : أنّ الإجماعيّات على تقدير عدم حجّيّة الإجماع فيها لا تزيد على غير المنصوصات ، فكما يجب فيما لا نصّ فيه الرجوع إلى الاصول العمليّة فكذلك في الإجماعيّات على التقدير المذكور ، فإنّها حينئذ تندرج فيما لا نصّ فيه الّذي حكمه الرجوع إلى الاصول ، وكما أنّ قاعدة وجوب اللطف لا حكم لها في غير المنصوصات فكذلك في الإجماعيّات.

وتوهّم الفرق : بأنّ غير المنصوصات قد صدر النصّ فيها عن الأئمّة عليهم‌السلام ببيانهم للأحكام الواقعيّة فيها ، غير أنّه فقد عنّا النصّ ولم يصل إلينا.

يدفعه : المعارضة بالمثل ، لجواز أن يصدر عنهم النصّ في الإجماعيّات بالحكم المجمع عليه أو بخلافه ، ولكنّه فقد عنّا ولم يصل إلينا.

وإن كان الثاني فيرد عليه : أنّ الإجماعيّات لا تنقص عن الاجتهاديّات التي يبنى فيها على الأمارات الظنّيّة من آية ، أو رواية ، أو أمارة اخرى.

فإنّ المجمعين في إفتائهم بالحكم المجمع عليه ، إمّا أن يكون لهم مستند من أصل أو آية أو رواية أو أمارة اخرى وقد خفي علينا ، أو فقد عنّا ذلك المستند ، ولا سبيل إلى الثاني لعدالتهم المانعة عن الإفتاء بغير مستند.

وعلى الأوّل فإمّا أن يكون ذلك المستند معتبرا وحجّة في حقّهم ولو من باب الحكم

١٧٥

الظاهري أو لا ، ولا سبيل إلى الثاني لعدالتهم المانعة عن الاستناد إلى ما ليس بحجّة في حقّهم ، فتعيّن الأوّل.

وقضيّة ذلك أن لا يكون لقاعدة وجوب اللطف حكم في الإجماعيّات بالنسبة إلى المجمعين ، كما أنّه لا حكم لها في الاجتهاديّات بالنسبة إلى المجتهدين.

وأمّا الحلّ : فوجوه تتّضح بعد بيان معنى اللطف ، ووجوبه ، ودليل وجوبه ، ومقدار وجوبه ، وكيفيّة وجوبه.

فنقول : المعروف بين المتكلّمين وجوبه بل لم يعرف لهم مخالف ، وتشكيك بعض القاصرين فيه من جهة قدحه في أدلّة المتكلّمين لا يعبأ به ، لابتنائه على الغفلة عن حقيقة معنى اللطف ، أو على الخلط بين حيثيّات الأدلّة ، فإنّ لهم على وجوبه وجوه أجودها وجهان :

أحدهما : لزوم نقض الغرض لو فعل ما ينافي اللطف ، أو ترك العمل بمقتضاه وهو قبيح يمتنع صدوره منه تعالى.

وثانيهما : لزوم البخل لولا إقدامه على فعل اللطف ، وهو صفة قبيحة يجب تنزيه الحكيم عنها ، واللطف ـ على ما هو المعروف المصرّح به في كلامهم ـ عبارة عن فعل ما يقرّب العبد إلى الطاعة ويبعّده عن المعصية ، والطاعة والمعصية المأخوذتان فيه عبارتان عن موافقة التكليف الإلزامي بإيجاب أو تحريم ومخالفته.

والمراد بهذا التكليف ما صار المعتزلة وأصحابنا الإماميّة في المسائل الكلاميّة إلى حسنه ، بقولهم : « إنّ التكليف حسن لاشتماله على مصلحة لا تحصل بدونه » ، فيكون الغرض من التكليف حصول تلك المصلحة ووصولها إلى المكلّف.

فالمراد بنقض الغرض في الدليل الأوّل هو فعل ما يفضي إلى عدم حصول ذلك الغرض ، بحيث يسند العدم في العرف والعادة إليه تعالى ، كما أنّ المراد بالبخل في الدليل الثاني ما يلزم بعدم إرشاده تعالى المكلّف إلى تلك المصلحة بسبب ترك اللطف أو فعل ما ينافيه ، فقضيّة قبح نقض الغرض عليه تعالى ، ووجوب تنزيهه عن الصفة القبيحة ، أن يجب عليه تعالى فعل ما يقرّب العبد إلى الطاعة ويبعّده عن المعصية ، وهذا لا يتمّ إلاّ بفعل كلّ ما له مدخليّة في التقريب إلى الطاعة والتبعيد عن المعصية ، لغرض حصول المصلحة ووصولها إلى المكلّف ، بحيث لولا فعله تعالى إيّاه صحّ إسناد تفويت المصلحة عليه إليه تعالى في العرف والعادة لا إلى غيره.

١٧٦

ومنه جعل التكليف إيجابا في الواجبات وتحريما في المحرّمات على طبق تلك المصلحة ، ومنه نصب أدلّة قطعيّة على التكاليف المجعولة ، ويندرج فيه إنزال الكتب وإرسال الرسل ونصب الأوصياء وإعطاء العقل المستقلّ ، بل الأصل فيما لا يستقلّ به العقل بعد الكتاب هو النبيّ والوصيّ بعده ، بل لا نعقل بعد الكتاب والعقل دليلا قطعيّا منصوبا من الله سبحانه إلاّ النبيّ والوصيّ ، والسنّة القطعيّة بالتواتر أو الاحتفاف بقرائن القطع من فروعهما ، كما أنّ الضرورة والإجماع حيث يوجدان وقلنا بكون ثانيهما دليلا قطعيّا أيضا من فروعهما ، ومنه أيضا إيجابه تعالى التبليغ ونصب الوصيّ على النبيّ ، وإيجابه حفظ ما بلّغه النبيّ من التكاليف المجعولة ، وتبليغ من لم يصل إليه من المكلّفين تبليغ النبيّ من تلك التكاليف ، ومنه أيضا إيجابه تعالى على الرعيّة إطاعة النبيّ والوصيّ ومعاونتهما فيما يحتاجان إلى المعاون لتبليغ التكاليف وإقامة الحدود وإحقاق الحقوق وجهاد الكفّار والمشركين وغير ذلك.

وهذا كلّه يسمّى لطفا وفسّر بما عرفت ، وقيّده المحقّقون ـ من المتكلّمين ـ بكونه على وجه لا يصل إلى حدّ الإلجاء ، إذ الواجب على الله تعالى وعلى رسوله والوصيّ بعده في جميع مراتب اللطف هو الإراءة والإرشاد إلى الحقّ ، لا الإيصال إلى المطلوب على وجه يؤول إلى الجبر والإلجاء السالبين للاختيار عن المكلّف ، أو عن غيره ممّن يمنع من الأعادي والمعاندين من توصّله إلى الحقّ المطلوب منه ، والمعتبر في الدليل القطعي المنصوب هو ذاك أيضا ، وضابطه كونه كافيا نافعا لمن يرجع إليه وينظر فيه ، ويحسن النظر ولم يقصّر فيه ، وقد احترزوا بالقيد المذكور ـ بالمعنى الّذي شرحناه ـ عن أمرين لا يندرجان في اللطف الواجب عليه تعالى ولا يجبان لوجوبه عليه.

أحدهما : أنّ المكلّف قد يكون لتقصيره وسوء اختياره وخبث باطنه لا يرجع إلى الدليل المنصوب له ولا ينظر فيه ، بل يعوّل على رأيه واستحسانه وقياسه ، وقد لا يتبع النبيّ أو الوصيّ بعده ولا يعاونهما ، بل يتّبع الجبت والطاغوت ويعاون أعاديهما ، وقد يتّبع هوى نفسه في ركوب المعاصي ولا يبالي في أمر دينه ويسامح في إطاعة النبيّ أو الوصيّ عصيانا ، فليس في حكم العقل ما يقضي بوجوب إجباره وإلجائه بحيث يتحقّق منه ما هو المطلوب منه قهرا عليه وبلا اختياره ، إذ في تركه لا يلزم إخلال باللطف الواجب عليه ، ولا قبح من نقض غرض أو بخل ، لأنّ ما يفوت من نحو هذا المكلّف من منافع التكاليف

١٧٧

المجعولة إنّما يستند فوته إلى نفسه لا إليه تعالى.

وثانيهما : أنّه قد يستند حصول خلاف اللطف إلى من يعاند الدين ، أو يبغض الوصيّ من أرباب الاستيلاء ، فيتعرّض لإخفاء الطرق المنصوبة وإعدامها ويحول بين الوصيّ وتبليغه الأحكام وإقامة الحدود ، ويمنعه من التصرّف في امور الرعيّة ويهتمّ في قتله وإهلاكه ، فمنه من يقتله ومنه من يلجاءه إلى الاعتزال أو الاختفاء والغيبة عن الأنظار ، وهذا أيضا ممّا ليس في حكم العقل ما يقضي بوجوب منعه ودفعه قهرا عليه وإجبارا له ، لأنّ ما يفوت على الرعيّة من منافع التكاليف المجعولة إنّما يستند فوته إلى هذا المعاند المانع لا إليه تعالى ، فلا يلزم بالنسبة إليه تعالى نقض غرض ولا قبح.

وقد عرفت أنّ من الألطاف الواجبة عليه تعالى أن يوجب على الوصيّ بعد النبيّ تبليغ ما معه من الأحكام والتكاليف المجعولة إلى الامّة وإظهارها لهم ، وإقامة الحدود بينهم والتصرّف في امورهم.

والفرق بين الألطاف الواجبة عليه تعالى واللطف الّذي يتأتّى من الوصيّ ، أنّ الأول واجب مطلق ، والثاني واجب مشروط معلّق وجوبه على اجتماع الشرائط وفقد الموانع ، ومن الشرائط رجوع المكلّفين وأتباعهم إيّاه ، ومعاونة الرعيّة في محلّ الحاجة إلى المعاون ، ومن الموانع منع الأعادي والخوف والتقيّة منهم.

ومن حكم الواجب المشروط سقوط وجوبه بفقد شرط أو وجود مانع ، فكلّ ما يرى من وقوع خلاف اللطف في الشريعة من الإمام فهو إمّا لفقد شرط أو لوجود مانع.

وأيّا مّا كان فهو مستند الى الرعيّة الّذين هم سبب استتاره وغيبته ، كما أشار المحقّق الطوسي في تجريده بقوله : « وجوده لطف وتصرّفه لطف آخر وعدمه منّا » (١) ويوافقه المحكي عن السيّد المرتضى في ردّ طريقة الشيخ ، من قوله : « ولا يجب عليه الظهور لأنّا إذا كنّا نحن السبب في استتاره فكلّ ما يفوتنا من الانتفاع به وبتصرّفه وبما معه من الأحكام يكون قد فاتنا من قبل أنفسنا فيه ، ولو أزلنا سبب الاستتار لظهر ، وانتفعنا به وأدّى إلينا الحقّ الّذي عنده » (٢).

وإذا تمهّد هذا كلّه فنقول : إنّ الجواب عن الاستدلال لإثبات الملازمة بين الإجماع وموافقة قول الإمام أو رضاه بالحكم المجمع عليه ، على أنّه الحكم الواقعي بقاعدة اللطف من وجوه :

الأوّل : أنّ اللطف لا يقتضي وجوب ردع الطائفة عمّا أجمعوا عليه بإظهار القول

__________________

(١) شرح تجريد الاعتقاد : ٢٨٥.

(٢) العدّة ٢ : ٦٣١.

١٧٨

بخلافه لو كان باطلا ، لجواز كون الردع وإظهار القول بالخلاف ـ الّذي يجب عليه من باب التبليغ عند اجتماع شرائط وجوبه وفقد موانعه ـ ممّا سقط وجوبه عنه لفقد شرط أو وجود مانع ، فعدمه مع قيام هذا الاحتمال لا يكشف عن الموافقة ، ولا رضاه بالحكم المجمع عليه على أنّه الحكم الواقعي.

الثاني : أنّ اللطف المقتضي لوجوب الردع عن الباطل أمر يتساوى نسبته إلى جميع الامّة وإلى بعضهم ، وحينئذ فالمراد من الردع الّذي يقتضيه اللطف إمّا أن يكون ردع كلّ واحد من آحاد المكلّفين في المسائل الإجماعيّة والمسائل الخلافيّة عمّا عليه من القول والاعتقاد لو كان باطلا وعدمه يكشف عن كونه حقّا ، أو ردع كلّ واحد من المجمعين في المسائل الإجماعيّة عن الحكم المجمع عليه لو كان باطلا وعدمه يكشف عن كونه حقّا ، أو ردع المجمعين عمّا أجمعوا عليه بمعنى هدم الهيئة الاجتماعيّة بردع بعضهم عن القول به وإبقاء بعض آخر عليه ، والكلّ باطل.

أمّا الأوّل : فلاستلزامه التصويب ـ وهو كون حكم الله الواقعي تابعا لاعتقاد المجتهد متعدّدا على حسب تعدّد المجتهدين ـ ولازمه كون الجهل بحكم مغيّرا لموضوعه ، بأن يكون ذلك الحكم مجعولا لمعتقده ويكون الحكم المجعول للجاهل به حكم آخر في عرضه ، وهو باطل للأدلّة المحرّرة في محلّه.

وإن قيل : إنّ هذا المذهب غير بعيد من كلمات جماعة من القدماء ، بل ربّما يظهر من كلام السيّد المرتضى ـ حيث إنّه في مسألة معذوريّة الجاهل في القصر والإتمام عند دفع شبهة أخيه السيّد رضي في استبعاده المعذوريّة استنادا إلى ما ادّعاه من الإجماع على بطلان عبادات الجاهل ، اعتذر للمعذوريّة ـ « بأنّه لا استحالة في كون الجهل مغيّرا للموضوع محدثا لحكم آخر للجاهل » ، فإنّ بطلان التصويب أوضح من أن يوضح (١).

وأمّا الثاني : فلما عرفت من تساوي نسبة اللطف المقتضي للّردع إلى الجميع وإلى البعض ، ويلزم منه التساوي في المسائل الإجماعيّة والخلافيّة وعدم حصوله في الخلافيّات بالقياس إلى مخالف الحقّ يكشف عن أنّ هناك حكمة مقتضية للعدم ، أو جهة مانعة من الوجود ويحتمل نحوهما في الإجماعيّات أيضا ، فلا يكشف عدم الردع عن حقيّة المورد ، مع أنّه لو كشف عنها فلا يكشف عن موافقة قول الإمام ، لأنّ حقيّة المجمع عليه أعمّ من

__________________

(١) السيد المرتضى ٢ : ٣٨٤ ، الرسيّة الثانيّة.

١٧٩

موافقته لقول الإمام إلاّ على بطلان التصويب ، فيكون الواسطة في الكشف الّذي هو الملازمة هو بطلان التصويب لا دليل اللطف.

وأمّا الثالث : فلما عرفت أيضا من تساوي النسبة ، فإمّا أن لا يجب الردع أو أنّه على تقدير الوجوب يجب بالنسبة إلى كلّ واحد ، مع أنّ مرجع ما ذكر إلى أنّ اللطف يقتضي إبقاء البعض على الباطل وهو كما ترى ، فهدم الهيئة الاجتماعيّة المتضمّن لإبقاء البعض على الباطل ليس خروجا (١) عن مقتضى اللطف ، وتوهّم أنّه يكفي في إلقاء الخلاف ، يدفعه أنّ إلقاء الخلاف بمجرّده غير مفيد.

وتوهّم : أنّ فائدته عدم صدق اجتماع الامّة على الخطأ ، يدفعه : أنّ رعاية هذه الفائدة حسن على طريقة العامّة في حجّيّة الإجماع على مذاق من تمسّك منهم بخبر « لا تجتمع امّتي على الخطأ » (٢) فإنّ النبيّ إذا أخبر بعدم اجتماع امّته على الخطأ فوجب على الإمام إلقاء الخلاف بينهم عند حصول اجتماعهم على الخطأ صونا لكلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الكذب ، ولكن هذه الطريقة عندنا مزيّفة وكلامنا على الحجّيّة على طريقة الكشف.

الثالث : أنّ ردع المجمعين عمّا أجمعوا عليه لا يجب من باب اللطف لخصوصيّة فيه ، بل إنّما يجب لكونه بعضا من التصرّف الّذي هو من مناصب الإمام ، وهو منصوب لأجله ، ويندرج [ فيه ] تبليغ الأحكام وتنفيذها وإقامة الحدود وإحقاق الحقوق وتولّي القضاء وما أشبه ذلك ، فهو إمّا كلّي والردع في القضيّة الشخصيّة جزئيّ من جزئيّاته ، أو كلّ والردع في القضيّة الشخصيّة جزء من أجزائه ، وظاهر أنّ البعض لا يزيد على الجملة ، والجزء والجزئي لا يزيدان على الكلّ والكلّي ، والمفروض أنّ مطلق التصرّف الّذي هو إمّا كلّ أو كلّي غير حاصل من الإمام بشيء من جهاته في أزمنة الغيبة إلى يومنا هذا ، ويكشف ذلك عن عدم وجوبه عليه أو سقوط وجوبه عنه ، فلابدّ وأن يكون هناك جهة مسوّغة لتركه ، وهذه الجهة تسري إلى ردعه في القضيّة الشخصيّة أيضا ، فكيف يستكشف بإجماعهم عن مطابقة ما أجمعوا عليه لما هو عنده بمجرّد عدم الردع.

الرابع : أنّه لا مانع من كون الطائفة مجمعين على ما يخالف الحكم الّذي عند الإمام ولم يردعهم عنه من غير أن يلزم بذلك محذور ولا خروج عن مقتضى اللطف الواجب

__________________

(١) والظاهر وقوع كلّه « ليس » سهوا من قلمه الشريف قدس‌سره ، كما يعطيه التدبّر فى السياق.

(٢) سنن ابن ماجه : كتاب فتن ح ٨ ، بحار الأنوار ٥ : ٦٨ / ١.

١٨٠