تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٥٥٥

أعجز من الجاهل المركّب؟ وقد فرضنا أنّ غير العالم إذا كان شاكّا في الحكم الواقعي لا مناص له من التعبّد بخبر ، وأنّ هذا خارج عن مساق دليل المستدلّ ، فلأن يكون الجاهل الّذي لا يجري عنده احتمال مخالفة الواقع أصلا متعبّدا من الشارع بالعمل بقطعه طريق الأولويّة كما هو واضح.

وإن كان نظره إلى صورة الانفتاح والتمكّن من العلم ـ كما هو ظاهر دليله بعد التأمّل فيما قرّرناه ـ ، فنقول : إنّ التعبّد بالخبر حينئذ يتصوّر على وجهين :

أحدهما : أن يجب العمل به من الشارع لمجرّد كونه طريقا إلى الواقع كاشفا عنه كشفا ظنّيّا ، حيث لم يلاحظ فيه مصلحة سوى كشفه الظنّي عن الواقع.

ثانيهما : أن يجب العمل به لأجل أنّه يحدث في الواقعة بسبب قيام هذه الأمارة الظنّيّة بها مصلحة راجحة على المصلحة الواقعيّة الّتي تفوت على المكلّف على تقدير مخالفته الواقع ، كصلاة الجمعة إذا فرضناها في أزمنة الغيبة محرّمة لوجود مفسدة ، ولكن أخبر عادل بوجوبها فحدث بسببه مصلحة في فعلها راجحة على المفسدة المقتضية للتحريم ، وحدث بسبب حدوث المصلحة الراجحة وجوب في فعلها.

فإن أراد من التعبّد بالخبر إيجاب العمل به على الوجه الأوّل ، فكلامه في منع جواز التعبّد ودعوى استحالته حقّ لا سترة عليه.

وما ذكره في دليله من لزوم تحليل الحرام وتحريم الحلال متين لا شبهة فيه ، بل عليه بناء العقلاء في سلوك العبد طريقين يعلم بكون أحدهما موصلا إلى المطلوب ، ويظنّه في الآخر بحيث يحتمل فيه عدم الإيصال فاختاره دون الأوّل فاتّفق عدم إيصاله إليه ، فالعقلاء حينئذ يقبّحونه ويذمّونه على ترك سلوك الأوّل واختيار سلوك الثاني ، ولكن كلام من يجوّزه ليس على هذا الوجه كما ستعرفه.

وإن أراد منه إيجاب العمل به على الوجه الثاني فكلامه في منع جوازه غير موجّه ، إذ لا قبح في التعبّد به على هذا الوجه ولا يستتبع ما يوجب الاستحالة العقليّة من تحليل حرام أو تحريم حلال ، لأنّ تأثير المفسدة الواقعيّة في حدوث الحرمة بمقتضى الفرض كان مشروطا بعدم قيام الأمارة الظنّيّة بوجوب الفعل ، فإذا قامت ـ كما هو المفروض ـ انتفى بسبب قيامها شرط تأثير المفسدة الواقعيّة ، لأنّها بالقياس إلى الحكم الناشي منها من باب المقتضي لا العلّة التامّة ، ولذا ذكر العلاّمة في النهاية ـ تبعا للشيخ في العدّة (١) في ردّ ابن

__________________

(١) العدّة ١ : ١٠٣.

٨١

قبه ـ « أنّ الفعل الشرعي إنّما يجب لكونه مصلحة ، ولا يمتنع أن يكون مصلحة إذا فعلناه ونحن على صفة مخصوصة ، وكوننا ظانّين بصدق الراوي صفة من صفاتنا ، فدخلت في جملة أحوالنا الّتي يجوز كون الفعل عندها مصلحة (١) » إنتهى.

لا يقال : إنّ على ما ذكرته وإن كان لا يلزم تحليل الحرام وتحريم الحلال المؤدّيان إلى الجمع بين الضدّين ونقض الغرض ، ولكنّه يلزم التصويب المجمع على بطلانه ، فإنّ قضيّة الفرض أن يكون حكم الله الواقعي تابعا في حدوثه لرأي المجتهد وظنّه الاجتهادي الناشي من الخبر الظنّي.

وقد اعترف العلاّمة في النهاية (٢) ـ في مسألة التخطئة والتصويب ـ بكونه من التصويب الباطل.

وعدّه منه أيضا صاحب المعالم حيث أجاب ـ في تعريف [ الفقه ] عن كلام من قال : بأنّ الظنّ في طريق الحكم لا في نفسه ، وظنّيّة الطريق لا ينافي قطعيّة الحكم ـ : « بأنّه يستلزم التصويب (٣) » فإنّ قطعيّة الحكم مع ظنّيّة الدليل لا معنى له على ما فهمه قدس‌سره إلاّ باعتبار القطع بحدوث مصلحة من قيام الأمارة الظنّيّة بالواقعة مؤثّرة في حدوث الحكم لها على خلاف مقتضى المصلحة أو المفسدة الواقعيّتين.

لأنّا نقول : إنّ الوجه المذكور من التعبّد بالخبر بل مطلق الأمارة الظنّيّة ممّا يجوّزه العقل ولا يستحيله ، وكونه من التصويب المجمع على بطلانه إن سلّمناه لا يستلزم الاستحالة العقليّة ، لأنّ الإجماع على بطلان التصويب إنّما يدلّ على عدم وقوع نحو التعبّد المذكور لا على عدم إمكانه ، وكلامنا في هذا المقام إنّما هو في الإمكان وعدمه لا في الوقوع وعدمه ، ولمّا انجرّ الكلام إلى هذا المقام فلا بأس بالتعرّض للوجوه المتصوّرة في جعل الأمارات الظنّيّة ، وبيان ما هو الصحيح منها وتميّزه عن غيره.

فنقول : إنّ جعل الأمارة قد يكون جعلا طريقيّا ، وهو أن تكون التعبّد بها لمجرّد كشفها عن الواقع ، بحيث لم يلاحظ في سلوكها وفي الفعل القائم به تلك الأمارة مصلحة ولا صفة محسّنة أو مقبّحة سوى مصلحة الواقع القائمة بالفعل في نفسه مع قطع النظر من الأمارة.

وقد يكون جعلا موضوعيّا ، وهو أن يكون التعبّد بها لأجل أنّ في نفسها مصلحة

__________________

(١) نهاية الوصول ( مخطوط ) : ٢٩٠.

(٢) نهاية الوصول ( مخطوط ) : ٤٣٩.

(٣) معالم الاصول : ٢٧.

٨٢

مؤثّرة في حدوث الحكم الشرعي الّذي يكون حكما واقعيّا للفعل القائم به هذه الأمارة.

وقد لا يكون جعلها على وجه الطريقيّة الصرفة ، ولا على وجه الموضوعيّة المحضة ، بل يكون برزخا وواسطة بين الجعل الطريقي والجعل الموضوعي ، واللازم من كونه واسطة أن يكون له نحو شباهة بالجعل الطريقي ونحو شباهة بالجعل الموضوعي ، وهذه أقسام ثلاث :

أمّا القسم الأوّل : فيتصوّر على وجوه :

الأوّل : أن يكون الأمارة المجعولة طريقا إلى الواقع بحيث علم الشارع بدوام مصادفتها الواقع ، وإن لم يعلمه المكلّف ، سواء فرض في مقابلها وجود طرق علميّة أو لا.

الثاني : كونها بحيث يعلم الشارع بغلبة مصادفتها الواقع وإن لم يعلمه المكلّف ، سواء فرض في مقابلها طرق علميّة أيضا أو لا.

الثالث : كونها بحيث يعلم الشارع بأنّها أغلب مصادفة للواقع من الطرق العلميّة الموجودة في مقابلها ، باعتبار كثرة وجود ما يكون منها جهلا مركّبا لأجل مخالفته الواقع.

الرابع : كونها بحيث يعلم الشارع بكثرة مصادفتها الواقع مع كون الطرق العلميّة المقابلة لها غالب المطابقة للواقع ، لندرة وجود ما يكون منها جهلا مركّبا.

وأمّا القسم الثاني : فهو على وجهين :

الأوّل : أن يكون مصلحة الأمارة القائمة بالفعل المؤثّرة في حدوث الحكم الواقعي على طبقها مناطا للحكم الواقعي وجودا وعدما ، ومرجعه إلى أنّه ليس في الفعل مع قطع النظر عن الحادث فيه ـ بسبب قيامها به باعتبار خلوّها عن الصفة المحسّنة والصفة المقبّحة ـ حكم مشترك بين العالم بالأمارة والجاهل به ، وهذا أشنع فروض التصويب المجمع على بطلانه.

الثاني : أن يكون مصلحة الأمارة القائمة بالفعل راجحة على الصفة الكامنة في الفعل مزاحمة لها في التأثير ، مؤثّرة في حدوث حكم فعلي على طبقها ، مانعة عن فعليّة الحكم الّذي كان يقتضيه صفة الفعل لولا قيام هذه الأمارة به ، وكان ذلك الحكم حكما مشتركا بين العالم بقيام الأمارة به والجاهل به ، غير أنّه إن أخذ مقيسا إلى العالم كان حكما شأنيّا ، وإن أخذ مقيسا إلى الجاهل كان حكما فعليّا ، ومرجعه إلى كون تأثير صفة الفعل في حدوث الحكم الفعلي مشروطا بعدم قيام الأمارة الظنّية على خلافها ، وهذا أيضا يستلزم التصويب وإن كان دون الأوّل.

٨٣

وأمّا القسم الثالث : فهو أن لا يكون في نفس الأمارة مصلحة ، ولم يحدث بسبب قيامها حكم للفعل ـ في مقابلة حكمه الواقعي الناشئ عن الصفة الكامنة فيه ـ من مصلحة أو مفسدة ، وكان المقصود من التعبّد بالأمارة سلوكها والأخذ بمؤدّاها على أنّه الواقع ـ على معنى ترتيب الآثار الشرعيّة عليه على أنّه الحكم الواقعي ـ مع اشتمال سلوكها على مصلحة يتدارك بها ما فات من المكلّف من مصلحة الواقع في الفعل أو الترك على تقدير مخالفة الأمارة للواقع.

وحاصل الفرق بين الوجه الأوّل من الجعل الموضوعي والوجه الثاني منه ، والوجه المتوسّط بينه وبين الجعل الطريقي ونفس الجعل الطريقي ، أنّه على الوجه الأوّل : ليس في الفعل نفسه ـ مع قطع النظر عن الأمارة القائمة بوجوبه ـ مصلحة ولا مفسدة ، فيكون في نفسه خاليا عن كلّ فعل ، وكان في الأمارة مصلحة مؤثّرة في حدوث مؤدّاها حكما فعليّا واقعيّا ، ولازمه أن لا يكون للجاهل بقيامها حكم فيه أصلا لا فعليّا ولا شأنيّا.

وعلى الوجه الثاني : في الفعل نفسه صفة من المصلحة والمفسدة ، ولكن تأثيرها في حدوث مقتضاها ـ من وجوب أو تحريم أو غيرهما ـ مراعى بعدم قيام أمارة الوجوب به ، فإذا قامت كان فيها مصلحة موجبة لحدوث مؤدّاها ، وهو الوجوب مثلا حكما فعليّا واقعيّا لكون تلك المصلحة راجحة على صفة الفعل مانعة عن فعليّة الحكم الّذي كان يقتضيه صفة الفعل لولا قيام الأمارة بخلافها.

ولذا قد يقال : بأنّ هذا الوجه أيضا كالأوّل في عدم ثبوت الحكم الواقعي للظانّ بخلافه من جهة الأمارة ، لأنّ الصفة المزاحمة بصفة اخرى لا تصير منشأ للحكم ، فلا يقال للكذب النافع أنّه قبيح في الواقع.

والفرق بينه وبين الوجه الأوّل ـ بعد اشتراكهما في عدم ثبوت الحكم الواقعي للظانّ بخلافه ـ أنّ [ حكم ] العامل بالأمارة المطابقة حكم العالم بالحكم الواقعي ولم يحدث في حقّه بسبب ظنّه حكم.

نعم كان ظنّه مانعا عن المانع وهو الظنّ بالخلاف.

وعلى الوجه الثالث : في الفعل نفسه مصلحة أو مفسدة لم يكن تأثيرها مراعى بعدم قيام الأمارة على خلافها ، ولم يكن في الأمارة بوجوبه مصلحة ، وكان الغرض من التعبّد بها الوصول إلى مصلحة الواقع ، فأمرنا الشارع بسلوكها والأخذ بمؤدّاها على أنّه الواقع ، مع اشتمال ذلك السلوك على مصلحة يتدارك بها ما فات من مصلحة الواقع على تقدير عدم موافقة الأمارة.

٨٤

وعلى الوجه الرابع : في الفعل نفسه مصلحة أو مفسدة ينشأ منهما الحكم الواقعي ، ولم يكن تأثيرهما أيضا مراعى بعدم قيام الأمارة بخلافهما ، وقد أمرنا الشارع بسلوكها لمجرّد الوصول إلى الواقع من غير اشتماله على مصلحة متدارك بها.

أمّا الوجه الأوّل : فلا إشكال في بطلانه عند أهل القول بالتخطئة لكونه تصويبا ، وقد تواترت الأخبار بوجود حكم مشترك بين العالم والجاهل.

وكذلك الوجه الثاني : فإنّه أيضا نوع من التصويب لكون مصلحة الأمارة المزاحمة لصفة الفعل مغيّرة للحكم الواقعي مخصّصة له بالعالم به ، فيدلّ على بطلانه كلّما دلّ على بطلان التصويب ، ومنه الأخبار (١) الدالّة على كون الأحكام الواقعيّة مشتركة بين العالم والجاهل.

وأمّا الوجه الثالث : فهو الصواب عند المخطّئة القائلين بأنّ المصيب له أجران والمخطئ له أجر واحد ، وهذا الأجر كالأجر الثاني في الأوّل ما يترتّب على سلوك الأمارة المشتمل على مصلحة متدارك بها المصلحة الفائتة ، كما يظهر الالتزام به من الشهيد الثاني في روض الجنان (٢) كما تعرفه فيما بعد.

وأمّا الوجه الرابع : فلا إشكال في جوازه في الأوّل والثالث من وجوهه المتقدّمة ، ولو مع التمكّن من الطرق المفيدة للقطع ، لمصلحة دوام إدراك الواقع أو أغلبيّته ، ولا يلزم قبح على الشارع ، ولا تفويت مصلحة الواقع على المكلّف بلا تدارك حتّى في الوجه الثالث ، لأنّ ما يلزم من فوات المصلحة على هذا التقدير يستند إلى الامور الخارجيّة لا إلى الشارع ، ولذا كان فواتها في الطرق المفيدة للقطع أكثر ، والجواز في هذا الوجه تعييني نظرا إلى أغلبيّة المصادفة.

وفي الوجه الأوّل يمكن كونه على وجه التخيير ، وكونه على وجه التعيين ، ويختلف بأن لا يكون في الطرق المفيدة للقطع ما يكون جهلا مركّبا ، فيتخيّر حينئذ بين سلوك الأمارات والرجوع إلى الطرق العلميّة ، وأن يكون فيها ما يكون جهلا مركّبا فيتعيّن سلوك الأمارات.

وأمّا هو في وجهه الثاني والرابع فمع تعذّر العلم وفقد الطرق المفيدة للقطع لا إشكال في جواز كلّ منهما ، وما يلزمهما من فوات مصلحة الواقع أو الوقوع في مفسدته ـ ولو نادرا ـ لا يستند إلى الشارع ، بل إلى الامور الخارجيّة الموجبة لفقد الطرق العلميّة ، ومع عدم تعذّره

__________________

(١) الكافي ١ : ٤٠ و ٥٨ / ١٩ و ٥٩ / ٢ و ١٩٩ / ١.

(٢) والصواب : « في المقاصد العليّة » كما يأتي عن صاحب الحدائق ١ : ١٣٦ لاحظ المقاصد العليّة.

٨٥

يراعى في جوازه عدم الجهل المركّب بالمرّة أو كونه أقلّ في الطرق ، فإن كان أكثر فلا إشكال في عدم الجواز لقبح تفويت مصلحة الواقع بلا تدارك ولو نادرا.

وكلام ابن قبة في منع التعبّد عقلا إنّما يتمّ في هذين الوجهين على التقدير المذكور لا مطلقا ، هذا كلّه في الكبرى.

وأمّا تشخيص الصغرى وهو أنّ الأمارات الغير العلميّة على تقدير مجعوليّتها على وجه الطريقيّة من أيّ الأقسام الأربع؟ فممّا لا سبيل إليه ولم يحم حوله أحد ، والّذي يمكن الإذعان به هو جواز جعل الأمارات على وجه الطريقيّة مع انسداد باب العلم ، وإن لم يشتمل سلوكها على مصلحة متدارك بها ، سواء كانت بحسب الواقع دائم المصادفة للواقع ، أو غالبها ، أو أغلبيّتها ، أو كثرتها ، ومع انفتاح باب العلم اعتبر اشتمال سلوكها على مصلحة يتدارك بها ما فات على المكلّف من مصلحة الواقع ، أو ما يقع فيه المفسدة.

ويظهر من العلماء على القول بالتخطئة التزامه ، ومن ذلك ما نقل حكايته عن ثاني الشهيدين في روض الجنان (١) عن صاحب الحدائق (٢) في مسألة عدم كون الطهارة والنجاسة من الشرائط الواقعيّة النفس الأمريّة ، بل العلم داخل فيها ، من أنّه استعجب عن القول بكونهما واقعيّتين فقال : « لو كان كذلك للزم أن لا نستحقّ في أكثر أعمالنا وعباداتنا إلاّ أجر ذاكر مطيع ، لعدم اشتمالها غالبا على الطهارة الواقعيّة » (٣).

وغرضه بذلك أنّا نصلّي غالبا مع انتفاء الطهارة الواقعيّة ، فيلزم أن لا نعطى أجر الصلاة وثوابها ، بل غاية ما نستحقّه إنّما هو أجر من كان ذاكرا لله سبحانه مطيعا إيّاه منقادا له.

ولا ريب أنّ المصلحة الّتي تلتزم بها في ترتيب الآثار على الأخذ بمؤدّى الأمارة من هذا القبيل ، فإنّ مرجعها إلى المنافع المترتّبة على العمل بالأمارة من حيث كونه ذكرا لله تعالى وإطاعة وانقيادا له ، لا المنافع المترتّبة على الفعل من حيث كونه المأمور به الواقعي.

فحاصل الاعتبار المذكور [ با ] لجعل على الوجه الأخير ـ الّذي هو أصحّ الوجوه ـ أنّ المراد من التعبّد بالأمارة الغير العلميّة بجعل من الشارع ، أنّه أمرنا وأوجب علينا العمل بالأمارة ـ على معنى الأخذ بمؤدّاها وترتيب الآثار والأحكام بأجمعها عليه ـ على أنّه

__________________

(١) والصواب « شرح الالفيّة » بدل « روض الجنان » كما في الحدائق : ١ : ١٣٦.

(٢) الحدائق : ١ : ١٣٦.

(٣) المقاصد العليّة في شرح الرسالة الألفيّة : ٢٩٢.

٨٦

الواقع لا بمعنى أنّه بعينه الحكم الواقعي ، فإنّه لا يتمّ إلاّ على الجعل الموضوعي المستلزم للتصويب وقد عرفت بطلانه ، ولا بمعنى أنّ الآثار آثار لمؤدّى الأمارة من حيث إنّه مؤدّاها ، بل بمعنى أنّ مؤدّاها حكم ظاهري يجب ترتيب آثار الواقع عليه ما لم ينكشف مخالفته له ، ولا ريب أنّ الآثار الّتي يجب ترتيبها عليه على أنّه الواقع على أنحاء :

منها : ما يترتّب عليه قبل أداء الفعل ، كجواز الدخول فيه بنيّة التقرّب بل قصد الوجوب أيضا ، وفضيلة أوّل الوقت ، وفضيلة المسارعة والتعجيل إليه.

ومنها : ما يترتّب عليه في أثناء الفعل ، كحرمة الإبطال ، ووجوب الإتيان بالمشكوك فيه في صور الشكّ قبل تجاوز المحلّ ، ووجوب البناء في الشكّ في عدد الركعات ثمّ العمل بما يقتضيه بعد الفراغ من سجود سهو وركعات احتياط ، وغير ما ذكر من أحكام سائر الخلل الواقعة في الأثناء من سهو أو شكّ أو نحوهما.

ومنها : ما يترتّب عليه بعد أدائه ، كفضيلة النافلة المبتدئة على القول بحرمة التطوّع ممّن عليه فريضة ، وفضيلة التعقيبات الخاصّة المأتيّ بها بقصد الخصوصيّة ، وسقوط الإعادة والقضاء ونحو ذلك.

ثمّ إن كانت الأمارة مصادفة للواقع ، كما لو دلّت على وجوب الظهر يوم الجمعة وكان الواجب في الواقع أيضا هو الظهر ، كان ترتيب الآثار على مؤدّاها واقعا في محلّه ، وإلاّ كما لو دلّت على وجوب الجمعة مع كون الواجب الواقعي هو الظهر كان ترتيبها عليه واقعا في غير محلّه ، وحينئذ فلا بدّ من التزام سلوكها والأخذ بمؤدّاها من حيث [ كونه ] إطاعة وانقيادا [ يشتمل ] على مصلحة يتدارك بها ما فات على المكلّف ، من منافع أوّل الوقت والمسارعة والتعجيل ونفس الوقت ، والنافلة بعد الأداء والتعقيبات وغيرها حتّى منفعة نفس الفعل المأمور به المفروض فواتها ، من غير فرق بين ما لو [ لم ] ينكشف الخلاف أصلا إلى آخر مدّة العمر ، وما لو انكشف الخلاف إلاّ في سقوط الإعادة والقضاء ، فإنّ الحكم بهما مقصور على ما لو لم ينكشف خلاف مؤدّى الأمارة أصلا ، ووجب حينئذ كون مصلحة سلوك الأمارة بحيث يتدارك بها منفعة نفس الفعل المأمور به المفروض فواتها على المكلّف ، وأمّا في صورة انكشاف الخلاف فلا سقوط للاعادة لو انكشف في الوقت ، ولا القضاء لو كان في خارج ، لعدم كون مصلحة الأمارة حينئذ بحيث يتدارك بها مصلحة أصل الفعل لإمكان تداركها بالإعادة أو القضاء.

٨٧

نعم لو كان الفعل الفائت في الوقت بحيث لم يشرع له قضاء كصلاة العيدين ، وجب التزام بكون مصلحة الأمارة بحيث يتدارك بها مصلحة نفس الفعل أيضا. وكونها بحيث يتدارك بها مصلحة النافلة الفائتة بعد الفراغ حينئذ ، على القول بحرمة التطوّع ممّن عليه فريضة ـ إنّما هو على تقدير كون المراد من الفريضة المانعة من النافلة الفريضة الواقعيّة وإن لم يعلم المكلّف اشتغال ذمّته بها لجهله بالواقع ، بخلاف ما لو كان المراد بها الفريضة الواقعيّة المعلوم للمكلّف اشتغال ذمّته بها ، فمصلحة النافلة على تقدير الإتيان بعد أداء الفعل على خلاف الواقع المستلزم لبقاء المأمور به الواقعي في الذمّة غير فائتة ، لانتفاء المانع بسبب انتفاء جزء موضوعه.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من الاعتبار على الوجه الأخير ـ وهو كون جعل الأمارات متوسّطا بين الجعل الطريقي والجعل الموضوعي ـ لا يتفاوت فيه الحال بين الأمارات المعمولة في الأحكام والأمارات المعمولة في الموضوعات.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا : أنّ المراد بالأحكام الواقعيّة هي مدلولات الخطابات الواقعيّة الغير المقيّدة بعلوم المكلّفين ، ولا بعدم قيام الأمارات على خلافها ، ولها آثار عقليّة وشرعيّة تترتّب عليها عند العلم بها ، أو قيام أمارة حكم الشارع بوجوب البناء على كون مؤدّاها هو الواقع.

وإنّ ما صار إليه ابن قبة وأتباعه من عدم جواز التعبّد بخبر الواحد ، أو مطلق الأمارة الغير العلميّة عقلا على إطلاقه ممنوع ، بل إنّما يصحّ ذلك على بعض الوجوه المتصوّرة في الجعل حسبما فصّلنا.

وقد يعزى إلى بعضهم (١) ـ ولعلّه من العامّة ـ القول بوجوب التعبّد بخبر الواحد ، أو بمطلق الأمارة على الله سبحانه ، على معنى قبح تركه ، فإنّ الوجوب التكليفي غير معقول في حقّه تعالى ، وهذا مع قول ابن قبة ـ بقبح فعله ـ في طرفي الإفراط والتفريط.

وكيف كان فهو في غاية الضعف والسقوط ولمنع القبح في ترك جعل الخبر أو الأمارة طريقا عليه تعالى ، سواء أراد به قبحه حال انفتاح باب العلم ، أو قبحه حال انسداد بابه.

أمّا الأوّل : فلعدم وجوب جعل الطريق الغير العلمي عليه تعالى عقلا ، مع وجود الطرق العلميّة ، بل ربّما يكون قبيحا كما هو كذلك على بعض الوجوه المتقدّمة.

__________________

(١) حكي هذا المذهب عن ابن سريج وغيره ، انظر العدّة ١ : ٩٨ والمعتمد للبصري ٢ : ١٠٦ والإحكام للآمدي ٢ : ٦٥.

٨٨

وأمّا الثاني : فلأنّ جعل الطريق حال انسداد باب العلم بالخصوص بإقامة الدليل عليه كذلك ، إنّما يجب على الله تعالى ويقبح عليه تركه إذا لم يكن هناك طريق عقلي ، والمفروض وجوده وهو الظنّ ، لما ستعرفه من حجّيّته بحكم العقل من جهة دليل الانسداد ، ومعه لا يجب عليه تعالى جعل بالخصوص بإقامة دليل خاصّ على حجّيّة الخبر أو الأمارة ، إلاّ أن يراد به إمضائه تعالى حكم العقل ، ومرجعه إلى عدم المنع من العمل بالظنّ الّذي [ هو ] حكم العقل ، فقد تقرّر أنّه لا قبح في التعبّد ولا في تركه بل كلّ منهما جائز عقلا.

المقام الثاني

في وقوع التعبّد بالظنّ شرعا في الجملة ، أو مطلقا وعدمه ، ومعنى وقوع التعبّد به أنّه يجب علينا من قبله تعالى التديّن بالمظنون ، أو مؤدّى الأمارة ، أو الأخذ به وترتيب الآثار عليه على أنّه الواقع ، سواء كان وجوب شيء أو تحريمه ، أو ندبه أو كراهته أو اباحته ، أو نجاسته أو طهارته ، أو غيرها من الوضعيّات.

وقبل الخوض في أصل المطلب ينبغي تمهيد مقدّمة تحتوي على تأسيس أصل يعوّل عليه ، ويرجع إليه عند عدم الدليل على وقوع التعبّد مطلقا أو في الموارد المشتبهة.

والمراد بالأصل هنا القاعدة المستفادة من الأدلّة ، فهل الأصل بهذا المعنى جواز العمل بالظنّ الّذي لم يدلّ دليل على وقوع التعبّد به ، أو تحريم العمل به؟

فنقول : إنّ العمل به حرام فهو الأصل بالأدلّة الأربعة ، أعني الكتاب والسنّة والإجماع والعقل.

ومن الكتاب آيات كثيرة حتّى عن بعض الأخباريّين أنّه وجد من الكتاب مائة آية تدلّ على حرمة العمل بالظنّ.

ومن السنّة أيضا روايات كثيرة ، بل قيل ما يقرب من خمسمائة رواية ، ونحن نكتفي من كلّ منهما على ما هو العمدة منه.

أمّا من الكتاب فآيات :

منها : قوله عزّ من قائل في سورة يونس ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ

٨٩

الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ ... )(١) تمسّك به الشهيد الثاني في بعض تحقيقاته على ما حكي ، وبعده المحقّق البهبهاني (٢) في بعض رسائله ، وبعدهما شيخنا قدس‌سره (٣).

ووجه الاستدلال : أنّه دلّ على أنّ ما ليس بإذن من الله من إسناد الحكم إليه فهو افتراء عليه ، وذلك لأنّه ذمّهم فيما حرّموه على أنفسهم من بعض الرزق ، وحصر الأمر فيه في كونه من جهة إذنه تعالى فيه ، أو من جهة الافتراء عليه ، فدلّت الآية على أنّ الواقعة فيما يرجع إليه ويسند إليه من الأحكام لا تخلو عن أحد الأمرين فإذا انتفى الإذن. ـ أمّا في مورد الآية فبحكم الاستفهام الإنكاري الّذي هو هنا للمبالغة في الإنكار والتنبيه على شدّة الذمّ والتشنيع.

وأمّا في محلّ الاستدلال ، فبحكم الفرض من عدم الدليل على وقوع التعبّد بالظنّ ـ تعيّن الافتراء ، وهو قبيح عقلا ومحرّم شرعا.

ولا يرد عليه : كونه في اصول الدين ، لاختصاص موردها بتحريم بعض الرزق الّذي هو من الفروع ، ولا أنّ العامل بالظنّ إنّما يعمل به بعد إقامة الدليل على جوازه فهو في عمله به يدّعي الإذن فيه من الله هذا.

ولكنّ الإنصاف عدم دلالة الآية على حكم العمل بالظنّ لوضوح عدم صدق الافتراء عليه.

فإنّ الافتراء على الله عبارة عن إسناد شيء إليه على خلاف الواقع مع العلم بأنّه خلاف الواقع ، ويرشد إليه ظاهر صدر الآية وذيلها أيضا ، والعمل بالظنّ إسناد للحكم المظنون إليه تعالى بظنّ المطابقة ، وبينه وبين الافتراء بالمعنى المذكور بون بعيد.

ومنها : الآيات الواردة في ذمّ متّبعي الظنّ ، مثل قوله سبحانه في سورة يونس ( قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ... )(٤).

وقوله أيضا في سورة النجم ( إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ

__________________

(١) سورة يونس : آية ٥٩ ـ ٦٠.

(٢) الرسائل الاصوليّة : ١١.

(٣) فرائد الاصول ١ : ١٢٥.

(٤) سورة يونس : آية ٣٤ ، ٣٥ ، ٣٦.

٩٠

الْأُنْثى ... إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً )(١).

ووجه الدلالة له طريقان :

أحدهما : سياق الآيتين لكونه في مقام ذمّ المشركين على اتّباعهم الظنّ ، فيكون اتّباع الظنّ مذموما والمذموم محرّم.

ثانيهما : قوله : ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) فإنّ قضيّة عدم إغناء الظنّ عن الحقّ كونه باطلا ، يقال : « التيمّم لا يغني عن الوضوء » معناه : أنّ التيمّم في محلّ الوضوء باطل والباطل يحرم اتّباعه.

والإيراد على الاستدلال بهما باختصاصهما باصول الدين ـ لكون الخطاب فيهما مع المشركين في اتّخاذهم شركاء لله اتّباعا للظنّ في ذلك ، وغيرهم في جعلهم الملائكة بنات الله اتّباعا للظنّ في ذلك ، ولا كلام في حرمة العمل بالظنّ في اصول الدين ـ ضعيف ، بمنع الاختصاص.

أمّا أوّلا : فلما حقّق من أنّ العبرة بعموم اللفظ لا خصوص المورد ، وأنّ المورد الخاصّ لا يخصّص العامّ ، فإنّ قوله ( وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا ) و ( إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ) بملاحظة الذمّ المستفاد من السياق يتضمّن في متفاهم [ العرف ] قياسا بطريق الشكل الأوّل المشتمل على كبرى كلّيّة ، وهو أنّ اتّخاذهم شركاء لله وتسميتهم الملائكة انثى اتّباع للظنّ ، وكلّ اتّباع للظنّ مذموم محرّم.

وأمّا ثانيا : فلمكان قوله : ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) فإنّ تعليل الذمّ على اتّباع الظنّ في اصول الدين بأنّ الظنّ لا يغني من الحقّ شيئا تنصيص بالعلّة ، والعلّة المنصوصة تفيد العموم ، لظهورها في إعطاء قاعدة كلّيّة وضابطة مطّردة ، وهي أنّه لا شيء من الظنّ بمغن من الحقّ شيئا.

وهذه القاعدة الكلّيّة منطبقة على جميع مواردها وجزئيّات موضوعها ، ومن مواردها اتّخاذهم شركاء لله عن ظنّ.

ومنها : تسمية الملائكة انثى عن ظنّ.

ومنها : إسناد الحكم إلى الله تعالى عن ظنّ.

__________________

(١) سورة النجم : آية ٢٧ ، ٢٨.

٩١

وأضعف من الإيراد المذكور ، ما أورد على الآية الاولى من أنّ « ظنّا » نكرة ، وهو ظنّ في اصول الدين جزما ، فيحمل عليه الظنّ في قوله ( إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي ) لضابطة أنّ سبق مدخول « اللام » ينهض قرينة على إرادة العهد من « اللام » ، كما في قوله : ( كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ... )(١).

فإنّ سبق الذكر لا يقاوم ظهور التعليل ، مع أنّه في نفسه لا ينهض قرينة على إرادة العهد ، بل يحتاج إلى قرينة اخرى حاكمة على أصالة الحقيقة ، حتّى أنّ الحمل على العهد في الآية المستشهد بها ليس لمجرّد السبق بل لشخصيّة القضيّة ، فإنّ المراد من فرعون إنّما هو الشخص الخارجي المعهود الّذي دعاه موسى عليه‌السلام إلى الحقّ فعصاه ، فلا يحتمل « الرسول » إلاّ إرادة موسى ، وهذا هو الموجب للحمل على العهد ، لا سبق الذكر كما توهّمه النحاة.

ولكن مع هذا كلّه نهوض الآيتين دليلا على أصالة حرمة العمل بالظنّ بالمعنى المبحوث عنه مشكل ، إذ الحقّ الّذي لا يغني عنه الظنّ إمّا أن يراد به ما هو في طول الظنّ أعني الواقع ، فيراد بعدم إغناء الظنّ عنه عدم كفايته في إحراز الواقع وترتيب آثاره على المظنون ، ومرجعه إلى نفي طريقيّة الظنّ إلى الواقع ، إمّا لكثرة ما يتّفق فيه من عدم المطابقة ، أو لما يتضمّنه من تجويز خلاف الواقع ، فإنّ ما أخذ في مفهومه خلاف الواقع كيف يحرز به الواقع من دون جعل شرعي؟

أو يراد به ما هو في عرض الظنّ أعني العلم ، فيكون معنى عدم إغناء الظنّ عنه عدم كفايته في سقوط التكليف ، ومرجعه إلى نفي بدليّته عن العلم وقيامه مقامه.

والاستدلال إنّما يتمّ على الأوّل ، وبه يثبت عموم المنع من العمل بالظنّ سواء كان في الاصول أو في الفروع في صورة انفتاح باب العلم أو صورة انسداد بابه ، ولكن لا دلالة في الآيتين على تعيّنه لا صراحة ولا ظهورا ، بل اختصاص المورد باصول الدين ربّما يوجب ظهور إرادة الثاني كما فهمه بعض المفسّرين.

وعليه فغاية ما يفيده الآيتان إنّما هو عدم إغناء الظنّ عن العلم في محلّ وقوع التكليف بالعلم ، فيختصّ باصول الدين فلا يعمّ الفروع ، لأنّ وقوع التكليف بالعلم إنّما يثبت في اصول الدين ، أو بصورة انفتاح باب العلم ، فلا يعمّ صورة الانسداد ، لأنّ وقوع التكليف بالعلم في الفروع إنّما يصحّ على تقدير الانفتاح لا مطلقا ، فأصالة حرمة العمل بالظنّ

__________________

(١) سورة المزّمّل : ١٥ و ١٦.

٩٢

بالمعنى المبحوث عنه الشاملة للفروع مع الانفتاح والانسداد غير ثابتة بهما.

ومنها : الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم الّتي أظهرها عموما وأصرحها دلالة ، قوله عزّ من قائل ـ في سورة بني اسرائيل ـ : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً )(١) نهى الله سبحانه عن اتّباع غير المعلوم ، فيشمل العمل بالظنّ لأنّ المظنون غير معلوم.

وقال الطبرسي (٢) في تفسيره : « وقد استدلّ جماعة من أصحابنا بهذا على أنّ العمل بالقياس وخبر الواحد غير جائز لأنّهما لا يوجبان العلم ، وقد نهى الله سبحانه عن اتّباع ما هو غير معلوم » ولا يرد عليه الاختصاص باصول الدين ، لظهور اللفظ وشهادة السوابق واللواحق.

وأمّا وجه التعليل ونكتة تخصيص السمع والبصر والفؤاد بالذكر فلم نقف على تعرّض لهما في كلامهم ، ولعلّه من جهة أنّ اتّباع ما هو غير معلوم عبارة عن الأخذ بغير المعلوم والالتزام به على أنّه حكم الله ، وهذا أمر قلبي يصدر من الفؤاد فيسئل عنه صاحبه ، أو أنّه عبارة عن ترتيب آثار المعلوم بغير المعلوم ، فيصدر من الجوارح والأعضاء وهذه الثلاث أشرفها وسيّدها.

والإيراد عليه ـ تارة : بأنّ الآية خطاب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا يعمّ حكمها لسائر الامّة.

واخرى : بأنّها من الخطابات الشفاهيّة ، ويحتمل اقترانها حين النزول بقرينة أفادت إرادة الخصوص لا العموم.

وثالثة : بأنّ الاستدلال إنّما يتمّ لو كانت كلمة « ما » نكرة موصوفة ، ليكون النفي الوارد عليها مفيدا للعموم ، وهو ليس بمتعيّن لاحتمال كونها موصولة وهي من ألفاظ العموم ، والنفي الوارد عليها حينئذ سلب العموم ونفي الكلّ الّذي يقال له رفع الإيجاب الكلّي ، ـ على ما نصّ عليه أهل العربيّة ، فارقين بين قولنا : « لم يقم كلّ إنسان » وبين قولنا : « كلّ انسان لم يقم » ـ فيكون معنى الآية : لا تتّبع كلّما ليس لك به علم ، وهذا لا ينافي جواز اتّباع بعض ما ليس به علم.

ورابعة : بأنّ الآية لو حملت على ظاهرها تخالف الإجماع ، للزوم حرمة العمل بالقطع أيضا

__________________

(١) سورة الإسراء : آية ٣٦.

(٢) مجمع البيان ٦ : ٤١٥.

٩٣

لأنّه من جملة ما وراء العلم ، فإنّه اعتقاد جازم لا يعتبر فيه مطابقة الواقع بخلاف العلم فيتغايران بحسب المفهوم ، فإذا حرم اتّباع غير المعلوم بعمومه لزم منه حرمة اتّباع المقطوع به (١) ، وهذا خلاف الإجماع المنعقد على حجّيّة القطع بل حكم العقل المستقلّ بحجّيته ، فلا بدّ من تصرّف وتأويل في الآية دفعا لهذه الحزازة ، وهو يتأتّى بحمل « العلم » على إرادة الاعتقاد الراجح ، فيعمّ القطع والظنّ أيضا ، فيحرم اتّباع ما وراء ذلك وهو الشكّ والوهم ـ واضح الدفع.

في الأوّل : بأنّ ظاهر الآية كون خطابها من باب « إيّاك أعني ويا جار [ ة ] اسمعي » ، فالحكم المستفاد منها للامّة لا للنبيّ ، ومع الغضّ عن ذلك فمجرّد اختصاص الخطاب به لا يوجب اختصاص الحكم به ، بل كونه من الخصائص يحتاج إلى دليل خاصّ ، بخلاف عمومه لسائر الامّة فإنّه يكفي فيه أصالة الاشتراك في التكليف ـ المقرّرة في محلّه ـ حتّى بينه وبين سائر الامّة.

وفي الثاني : بالأصل.

وفي الثالث : بعدم الفرق عندنا في إفادة عموم النفي بين صورتي ورود النفي على العامّ أو ورود العامّ على النفي ـ كما ذكرنا في غير موضع ـ والأصل فيه أنّ لفظة « كلّ » وما بمعناها وضع لغة لتسرية الحكم إلى جميع أفراد موضوعه ، ومرجعه إلى أنّها بحسب الوضع آلة لإدراك عموم الحكم للأفراد سواء كان الحكم إيجابيّا أو سلبيّا ، وسواء دخل العامّ على النفي أو انعكس الأمر.

وفي الرابع : بعدم إمكان توجّه النهي في الآية إلى المقطوع به في شيء من فرديه وهما العلم والجهل المركّب ، لاستحالة النهي عن اتّباع الواقع ، واستحالة تكليف الغافل والقاطع بخلاف الواقع [ الذي ] لا يلتفت إلى كون قطعه جهلا مركّبا ، فالآية عامّ في غير المقطوع به ، ولو سلّم عمومها له فالتأويل بالتخصيص بإخراج القطع أولى وأرجح من التأويل بالتجوّز بإرادة الاعتقاد الراجح من العلم ، ولو سلّم التجوّز فيكفي فيه تعرية العلم عن اعتقاد المطابقة ، ولا حاجة إلى تعريته عن اعتبار الجزم ، فيدخل الظنّ حينئذ في المنهي عن اتّباعه.

وممّا استدلّ به أيضا على حرمة العمل بما وراء العلم قوله تعالى ـ في سورة البقرة ـ : ( كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ )(٢) فإنّ النهي عن اتّباع خطوات الشيطان

__________________

(١) وفي الأصل : « غير المقطوع به » والظاهر أنّه سهو منه قدس‌سره والصواب ما أثبتناه في المتن.

(٢) سورة البقرة : آية ١٦٨ ، ١٦٩.

٩٤

الآمر بأن يقال على الله ما لا يعلم ، يدلّ على أنّ القول على الله بما لا يعلم مبغوض له سبحانه فيكون محرّما ، ويندرج فيه العمل بالظنّ لأنّ المظنون غير معلوم ، فالأخذ به على أنّه حكم الله تعالى قول عليه بما لا يعلم.

والإيراد عليه ـ تارة : بأنّ القول على الله عبارة عن الإفتاء فتكون الآية نهيا عن الإفتاء بغير علم ، والعمل بالظنّ ليس منه.

واخرى : بأنّ القول على الله ظاهر فيما هو راجع إلى نفسه من إثبات صفة له تعالى أو سلب صفة عنه بغير علم ، والعمل بالظنّ ليس منه ـ واضح الدفع : بأنّه بعد فرض كون المظنون غير معلوم فحرمة الإفتاء به يستلزم حرمة الالتزام به أيضا بواسطة عدم القول بالفصل ، لأنّ كلّ من حرّم الإفتاء بالمظنون حرّم العمل بالظنّ أيضا ، وكلّ من جوّز الثاني جوّز الأوّل أيضا ، وأنّ القول على [ الله ] بما لا يعلم أعمّ ممّا يرجع إلى الاصول وما يرجع إلى الفروع ، ولذا ذكر القاضي في تفسير الآية بيانا لقوله : « ما لا تعلمون » من اتّخاذ الأنداد وتحليل المحرّمات وتحريم الطيّبات ، فقال : « ففيه دليل على حرمة العمل بالظنّ رأسا ، وأمّا اتّباع المجتهد لما أدّى إليه ظنّ مستند إلى دليل قطعي فوجوبه قطعي ، لأنّه ظنّ في طريق الحكم لا في نفسه ، كما ذكرناه في كتبنا الاصوليّة ... إلى آخره. » (١)

فالقول على الله بما لا يعلم يعمّ كلاّ ممّا يرجع إليه تعالى نفسه من إثبات ما لا يجوز إثباته وسلب ما لا يجوز سلبه ، وما يرجع إلى الفرعيّات لمكان قوله : « وتحليل المحرّمات ... » إلى آخره ، مع أنّ العمل بالظنّ في الفروع والفتوى بمقتضاه أيضا قول على الله ، لأنّ معنى قول المجتهد : « هذا حلال ، وهذا حرام » أنّ هذا ما حلّله الله ، وهذا ما حرّمه الله.

والآيات الدالّة على الذمّ على اتّباع غير العلم كثيرة ، ومن ذلك أيضا قوله تعالى ـ في سورة الأنعام ـ ( قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ )(٢).

وقوله أيضا بعد ذلك : ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ )(٣).

وقوله أيضا ـ بعد ذلك بفاصلة آيات ـ : ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ

__________________

(١) أنوار التنزيل في أسرار التأويل ١ : ١٦٠.

(٢) سورة الأنعام : آية ١٤٣.

(٣) سورة الأنعام : آية ١٤٤.

٩٥

عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ )(١).

وقوله تعالى ـ في سورة الجاثية ـ : ( ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ )(٢).

وقوله ـ عقيب ذلك بفاصلة عدّة آيات ـ : ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ ) ـ إلى أن قال ـ ( وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ )(٣).

وملخّص مفاد هذه الآيات : إنّ الله تعالى لا يترك العلم بغيره ولا يجزي عنه بما عداه ، ويؤاخذ كلّ عاقل بالعلم ولا يكتفي عنهم بالظنّ.

ومن الآيات المستدلّ بها أيضا ما دلّ منها على ذمّ التقليد ومنعه مثل قوله تعالى ـ : في سورة الزخرف ـ ( وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ * وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ * أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ * بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ )(٤).

وجه الاستدلال : أنّ التقليد عمل بغير علم ، والذمّ عليه يتناول العمل بالظنّ أيضا لأنّه أيضا عمل بغير علم ، ويشكل : بأنّ الآية ذمّ على التقليد في الاصول لا الفروع لاختصاص المورد بها ، وليس فيها لفظ عامّ حتّى يكون الاعتبار به دون المورد الخاصّ ، فالتعدّي إلى العمل بالظنّ في الفروع قياس ، وقوله : ( ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ ) وإن كان يدلّ على أنّ المناط هو عدم العلم بما جعلوه وما فعلوه إلاّ أنّه لا يجدي في التعدّي ، نظرا إلى أنّ الذمّ على العمل بغير [ العلم ] في الاصول إنّما هو من جهة وقوع التكليف فيها على العلم وكونه المطلوب فيها ، فالتعدّي منها إلى الفروع يتوقّف على ثبوت كون المطلوب فيها أيضا هو العلم ، فلا بدّ أوّلا من إثبات ذلك ، ثمّ التصدّي لتأسيس أصالة تحريم العمل بالظنّ ، فتأمّل.

وأمّا من السنّة : فأخبار متكاثرة ذكر العلاّمة البهبهاني (٥) كثيرا منها في رسالته المعمولة

__________________

(١) سورة الأنعام : آية ١٤٨.

(٢) سورة الجاثية : آية ١٨.

(٣) سورة الجاثية : ٢٣ و ٢٤.

(٤) سورة الزخرف : آية ١٩ ـ ٢٣.

(٥) الرسائل الاصوليّة : ١٢.

٩٦

في الاجتهاد ، والأخبار وهي بجميع طوائفها بالغة فوق حدّ التواتر ، فطائفة منها روايات كثيرة مستفيضة ناهية عن القول على الله بما لا يعلم ، مثل قوله عليه‌السلام : « حقّ الله على الخلق أن يقولوا ما يعلمون ويكفّوا عمّا لا يعلمون ، فإذا فعلوا ذلك فقد أدّوا إلى الله حقّه » (١) إلى غير ذلك ممّا بمعناه ويقف عليه المتتبّع.

وطائفة منها روايات مستفيضة ناهية عن الإفتاء بغير علم مثل قوله عليه‌السلام : « من أفتى الناس بغير علم ولا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، ولحقه وزر من عمل بفتياه » (٢).

وقوله عليه‌السلام : « إيّاك وخصلتين ففيهما هلك من هلك ، إيّاك أن تفتي الناس برأيك وأن تدين بما لا يعلم » (٣) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه الخبير.

وطائفة منها ما ينهى عن القضاء بغير علم ، مثل قوله عليه‌السلام ـ المرويّ بطرق كثيرة ـ : « القضاة أربعة ثلاثة في النار وواحد في الجنّة ، رجل قضى بجور وهو يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار ، ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة » (٤).

وطائفة منها الروايات الناهية عن العمل بغير علم ، وعن العمل بالظنّ بالخصوص ، مثل ما عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر ممّا يصلح » (٥).

وما روى من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من شكّ أو ظنّ فأقام على أحدهما فقد حبط عمله ، إنّ حجّة الله هي الحجّة الواضحة » (٦).

وما عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : « ومن عمى نسي الذكر واتّبع الظنّ وبارز خالقه » (٧) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

وأمّا من الإجماع : فالظاهر بل المقطوع به أنّه إجماعي بل ضروري.

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ١٢ / ١٠ ، ب ٤ من أبواب صفات القاضي.

(٢) الوسائل ١٨ : ٩ / ١ ، ب ٤ من أبواب صفات القاضي.

(٣) الوسائل ١٨ : ١٠ / ٣ ، ب ٤ من أبواب صفات القاضي.

(٤) الوسائل : ١٨ / ١١ / ٦ ، ب ٤ من أبواب صفات القاضي.

(٥) الوسائل ٢٧ : ٢٥ / ١٣ ، ب ٤ من أبواب صفات القاضي.

(٦) بحار الانوار ٤٩ : ١٣٤ / ١ والوسائل : ٢٧ / ٤٠ / ٨ ، ب ٦ من أبواب صفات القاضي.

(٧) الوسائل : ٢٧ : ٤١ / ٩ ب ٦ من أبواب صفات القاضي.

٩٧

قال المحقّق البهبهاني قدس‌سره في التاسعة من فوائده : وأيضا إجماع المسلمين على أنّه في نفسه ليس بحجّة ، ولذا كلّ من يقول بحجّيّة ظنّ يقول بدليل ، فإنّ تمّ وإلاّ فينكر عليه ويقال بعدم الحجّيّة ، ـ إلى أن قال ـ : وأيضا ظنّ الرجل أمر وحكم الله أمر آخر وكونه هو بعينه أو عوضه محتاج إلى دليل حتّى يجعل هو إيّاه أو عوضه (١).

وعنه في بعض رسائله : من « كون عدم الجواز بديهيّا عند العوامّ فضلا عن العلماء (٢) » ونقل الضرورة ربّما يكون أقوى من نقل الإجماع كما نبّه عليه شيخنا الاستاذ عند تلمذّنا عنده.

وأمّا من العقل : فلتقبيح العقل المستقلّ من دان الله بما يجوّز فيه خلاف الواقع ، ويلتزم به على أنّه حكمه في الواقع من دون إذن منه فيه خصوصا ولا عموما ، وكذلك تقبيح العقلاء عبدا يلتزم في الامور الراجعة إلى مولاه من الأحكام والشرائع بما لا يعلم وروده منه بالخصوص ، ولا رخصة منه في الالتزام به على هذا الوجه.

وقد يقال : بأنّ منشأ هذا الحكم من العقل والعقلاء رجوع العمل بالآخرة إلى الترجيح من غير مرجّح ، لأنّه لو سئل العبد المذكور عن أنّه هل يحتمل عندك كون ما عليه مولاك على خلاف ما أخذته والتزمت به؟ لأجاب بنعم ، ثمّ لو سئل عن تساوي الاحتمالين ، فإن أجاب بنعم فيتوجّه إليه الذمّ من حيث ترجيحه أحد الطرفين المتساويين من غير مرجّح ، وإن أجاب بمرجوحيّة هذا الاحتمال ورجحان الاحتمال الآخر الّذي أخذ به بادّعاء كونه ظنّا ، سئل عن وجه العمل به مع احتمال كونه غير جائز عند مولاه ، فإن أجاب بالاحتمال المساوي توجّه إليه الذمّ المذكور ، لترجيحه أحد المتساويين من غير مرجّح ، وإن أجاب بالاحتمال الراجح نقل إليه الكلام إلى أن ينتهي إلى القطع بتجويز المولى وترخيصه في العمل به أو إلى الشكّ بمعنى تساوي الاحتمالين.

والأوّل خارج عن مفروض المقام وعن موضوع المسألة.

والثاني محقّق للمحذور المذكور من ترجيح أحد المتساويين ، وهذا هو مدرك ما اشتهر عندهم من أنّ الظنّ لا يثبت بالظنّ ، فإنّه يؤول بالآخرة إلى إثبات الظنّ بالشكّ ولا خفاء في استحالته.

فتقرّر : أنّ العمل بالظنّ في نفسه قبيح عقلا ومحرّم شرعا وهو المراد من أصالة التحريم في هذا الباب ، وقيد « في نفسه » احترازي يحترز به العمل به لدليل دلّ على إذن

__________________

(١) الفوائد الحائريّة ١ : ١٣٦.

(٢) الرسائل الاصوليّة : ١٢.

٩٨

الشارع ورخصته فيه ، فموضوع قضيّة حكم العقل بالقبح إنّما هو التديّن والالتزام بما يجوز فيه خلاف الواقع على أنّه حكم الله الواقعي من دون إذن منه فيه ، ولا ريب في قبحه عقلا ، بل أصل هذا العنوان ناطق بقبحه ولا حاجة معه إلى إقامة البرهان عليه.

وهل هو في القبح كالظلم على معنى كون العنوان علّة تامّة لقبحه فلا يقبل تخصيصا ، أو أنّه كالكذب على معنى كون العنوان من باب المقتضي للقبح ، فيجوز انقلاب قبحه حسنا بالوجوه والاعتبارات ، ومعناه قبول قبحه التخصيص بطروّ جهة محسّنة كجهة النفع في الكذب؟ احتمالان أظهرهما أوّلهما ، إذ لا يوجد في الجهات المحسّنة ما يوجب حسن العمل بالظنّ في نفسه بالمعنى المذكور ، ولا ينتقض ذلك بالعمل به من جهة إذن الشارع لأنّه خروج موضوعي ، لعدم كونه عملا بالظنّ في نفسه ، نظير قتل من وجب قتله شرعا المخرج من موضوع الظلم.

لا يقال : إنّ العمل بالظنّ قد يحسن بموافقة أصل من الاصول المعتبرة المعوّل عليها ، كما في الماء المتغيّر بالنجاسة عند زوال تغيّره بنفسه إذا ورد أمارة ظنّيّة بنجاسته ، فإنّه موافق لاستصحاب النجاسة ، وكما في القليل الملاقي للنجاسة إذا ورد فيه أمارة ظنّيّة بطهارته فإنّه يوافق استصحاب الطهارة ، فموافقة الأصل جهة محسّنة يحسن بها البناء على النجاسة في الأوّل وعلى الطهارة في الثاني.

لأنّ موافقة الأصل لا تصلح جهة محسّنة إلاّ حيث كان العمل بالظنّ بعينه هو العمل بالأصل ، وهو على المعنى المتقدّم للعمل بالظنّ محالّ ، فإنّ التديّن بمؤدّى الأمارة على أنّه مع تجويز خلاف الواقع فيه ـ الحكم الواقعي لا يجامع قطّ للتديّن بمؤدّى الأصل على أنّه حكم ظاهري مجعول للجاهل بالواقع.

لا يقال : إنّ البناء على مؤدّى الأمارة قد يحسن بموافقة الاحتياط ، كما لو دلّت على نجاسة شيء أو وجوبه أو تحريمه ، فموافقة الاحتياط جهة محسّنة ينقلب بها قبح العمل بالظنّ في نفسه حسنا.

لمنافاة التديّن والالتزام بما احتمل خلاف الواقع على أنّه الواقع ، للأخذ بالاحتياط الّذي هو عبارة عن الإتيان فعلا أو تركا بما احتمل الواقع برجاء إدراك الواقع ، فهما أيضا لا يجتمعان قطّ ، وحسن الاحتياط على كلّ حال لا يجدي نفعا في حسن العمل بالظنّ في نفسه بالمعنى المأخوذ في قضية القبح العقلي.

٩٩

لا يقال : إنّ العمل بالظنّ في نفسه عبارة عن التديّن بالطرف الراجح وهو حسن ، لأنّه لولاه لزم ترجيح المرجوح على الراجح ، وهو التديّن بالطرف المرجوح وهو قبيح ، لمنع الملازمة فإنّ ترك التديّن بالراجح ليس معناه التديّن بالمرجوح لوجود الواسطة ، وهو التوقّف عن التديّن بأحد الطرفين ، ثمّ الرجوع إلى الأصل حسبما يجري في المورد من براءة أو اشتغال أو تخيير أو استصحاب.

ثمّ إنّ العمل بالظنّ في نفسه وهو التديّن والالتزام بالمظنون المحتمل عدم كونه من الشارع على أنّه منه كما أنّه قبيح عقلا ومحرّم شرعا لجهته الذاتيّة ، كذلك قد يحرم لجهة عرضيّة ، وهذه حيث يلزم من العمل به طرح أصل معوّل عليه الّذي مرجعه إلى طرح أدلّة ذلك الأصل ، كالاستصحاب فيما قامت الأمارة الظنّيّة بخلاف مؤدّاه كما في المثالين المتقدّمتين إذا دلّت أمارة على الطهارة في الأوّل ، والنجاسة في الثاني ، فالبناء على طهارة الأوّل ونجاسة الثاني على وجه التديّن والالتزام كما أنّه يحرم لذاته كذلك يحرم لعارض ، من جهة تضمنه طرح الاستصحاب فيهما.

وهاتان الجهتان قد تجتمعان ـ كما عرفت ـ وقد تتفارقا [ ن ] في العمل على وجه التديّن والالتزام بما لا يلزم منه طرح أصل من الاصول المعتبرة المعوّل عليها ، وفي العمل لا على وجه التديّن والالتزام بما يلزم منه طرح أصل من الاصول ، فإنّ العمل على طبق الظنّ إذا لم يكن على وجه التديّن والالتزام لا دليل على حرمته ، بل ربّما يكون حسنا إذا كان على وجه الاحتياط وهو الإتيان بما يحتمل كونه مطلوبا للشارع برجاء المطلوبيّة له ، أو الاجتناب عمّا يحتمل كونه مبغوضا للشارع برجاء المبغوضيّة له ، إلاّ أنّه إذا لزم منه طرح أصل معتبر معوّل عليه كان محرّما.

فتقرّر : أنّ العمل بالظنّ إذا وقع على وجه التديّن والالتزام حرام ، سواء استلزم طرح أصل معوّل عليه أم لم يستلزم ، ويتأكّد حرمته إذا استلزم ، وإذا وقع لا على وجه التديّن والالتزام لا يحرم إلاّ إذا استلزم طرح الأصل ، بل مع عدم استلزامه طرح الأصل قد يستحقّ الثواب عليه ، وهذا كما لو عمل به على وجه الاحتياط وهو أن يعمل على طبق الأمارة الظنّيّة برجاء كون مؤدّاها هو الواقع.

وبالجملة فالعمل بالظنّ قد يجتمع فيه جهتان للحرمة ، وذلك كما لو كان العمل على وجه التديّن والالتزام وكان مؤدّاه مخالفا للاصول.

١٠٠