تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

السيّد علي الموسوي القزويني

تعليقة على معالم الاصول - ج ٥

المؤلف:

السيّد علي الموسوي القزويني


المحقق: السيد عبد الرحيم الجزمئي القزويني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-313-8
الصفحات: ٥٥٥

وأمّا الثالث : فمع عدم اطّراد تولّد الظنّ بالحكم الفرعي من الظنّ في المسألة الاصوليّة ، أنّ وجوب العمل به من حيث استلزامه الظنّ بالحكم الفرعي ليس من حجّية الظنّ في المسائل الاصوليّة من حيث أنّه ظنّ في المسائل الاصوليّة ، بل هو من حجّيّة الظنّ في الأحكام الشرعيّة الفرعيّة من أيّ سبب حصل ، ومن أسبابه الأمارة القائمة بالمسألة الاصوليّة.

والضابط الكلّي فيما يدخل في دليل الانسداد ، وما لا يدخل فيه ، هو انسداد باب العلم في كلّ ما يكون بيانه من وظيفة الشارع ، فيحكم العقل بقيام الظنّ فيه مقام العلم ، لكون العمل به امتثالا ظنّيّا على معنى الموافقة الظنّيّة ، فيدخل فيه الأحكام الكلّيّة الإلهيّة تكليفيّة ووضعيّة ، حتّى أجزاء العبادات وشرائطها وموانعها ، وكذلك المعاملات ، وخرج عنه المسائل الاصوليّة ، لكون المرجع في مباحث ألفاظها العرف ، وفي مسائلها العقليّة هو العقل ، وكلّ منهما طريق علمي في الغالب.

وأمّا مباحث الحجّيّة فدخولها في الضابط مبنيّ على أن يقرّر بكلّ ما انسدّ فيه باب العلم ممّا كان بيانه من الأحكام الكلّيّة الإلهيّة ، ونصب طرق غير علميّة عليها من وظيفة الشارع ، على معنى كون كلّ منهما واجبا عليه ، فإذا انسدّ باب العلم بهما معا قام الظنّ في كلّ منهما مقام العلم.

ولكنّه غير سديد ، لمنع كون نصب الطرق من وظيفة الشارع ، على معنى وجوبه عليه بحيث لزم عليه من تركه القبح ، حيث لا دليل عليه من عقل ولا نقل ، كما تقدّم.

ويخرج عنه الموضوعات المستنبطة ، لكون المرجع فيها العرف واللغة ، وكلّ منهما في غالب مواردهما طريقا علميّا ، وكذلك الموضوعات الخارجيّة الصرفة ككون هذا المائع ماء أو خلاّ أو خمرا ، وهذا الشيء ترابا أو صعيدا ، وهذا الجلد ممّا يؤكل لحمه ، وهذا الثوب حريرا أو غير حرير ، وهذا الحيوان غنما أو كلبا ، وما أشبه ذلك ، لعدم كون بيان هذه الامور أيضا من وظيفة الشارع مع انفتاح باب العلم في معظمها ، لكون المرجع فيها العرف وأهل الخبرة ، وهما أيضا طريقان علميّان في غالب مواردهما ، وما شذّ من الموارد ممّا لا يحصل بهما العلم فهو بحيث لو بني فيه على العمل بالبراءة أو الاحتياط كلّ في موضعه المناسب لم يلزم محذور من مخالفة قطعيّة ولا اختلال نظم ، فلا يجري فيها أيضا دليل الانسداد ، ولا قاضي بحجّيّة الظنّ ووجوب العمل به فيها عموما ، ولا ينافيه ثبوت الحجّيّة له في جملة من الموارد ، كظنّ دخول الوقت في أوقات الفرائض عند تعذّر العلم ، وظنّ جهة القبلة عند

٣٨١

عدم إمكان العلم بها ، وظنّ الضرر في العدول من الطهارة المائيّة إلى الترابيّة ، وفي المرض المبيح لإفطار رمضان ، وفي سقوط وجوب الواجبات وإباحة المحرّمات وغير ذلك ، وكذلك البيّنة وقول ذي اليد ، ويد المسلم وسوقه ، وما أشبه ذلك لعدم كون الحجّيّة في هذه الظنون أو أسبابها من مقتضى دليل الانسداد ، بل حجّية كلّ إنّما هو لدليل خاصّ به فهي من الظنون الخاصّة.

والفرق بين الظنّ الثابت حجّيّته عموما لدليل الانسداد أو خصوصا لدليل خاصّ ، وبين غيره ممّا لم يثبت حجّيّته عموما ولا خصوصا ، أنّ العامل بالأوّل مع مخالفته الواقع معذور ، على معنى رفع العقاب الاخروي عنه ، وهو في عمله به مثاب ومأجور ، بخلاف الثاني فإنّ العامل به على تقدير المخالفة ليس بمعذور في دار الآخرة ، ولا أنّه مثاب ولا مأجور.

ومن هنا علم أنّ الموافقة الظنّيّة في الثاني إنّما تجزي مع الموافقة لا عند المخالفة ، بخلاف الأوّل فإنّ الامتثال الظنّي فيه يفيد الإجزاء مع الموافقة والمخالفة معا ، حيث لم ينكشف الخلاف في دار الدنيا ، بل لا يمكن إرجاع الظنّ في الامور الخارجيّة إلى الظنّ في الأحكام من باب الاستلزام ، لأنّ ذلك ظنّ بانطباق الجزئي الخارجي على الكلّي المعلوم أو المظنون بالظنّ المعتبر حكمه الشرعي ، فقياس الظنّ بالامور الخارجيّة على الظنّ في المسائل الاصوليّة واللغويّة في استلزامه الظنّ بالامتثال قياس مع الفارق ، لأنّ هذا ظنّ بالامتثال من جهة كونه ظنّا بنفس الحكم الشرعي فيندرج بذلك في دليل الانسداد ، وذلك ظنّ بالانطباق على الكلّي المعلوم أو المظنون حكمه فلا يندرج في دليل الانسداد ، لأنّه دليل يتوصّل به إلى تعيين الحكم ظنّا لا إلى تعيين موضوعه ، فحجّيّة الظنّ في تعيين الحكم المستلزم للمعذوريّة على تقدير المخالفة ، لا يستلزم حجّيّته المستلزمة للمعذوريّة على تقدير المخالفة بعدم الانطباق.

الأمر الرابع

في أنّ الظنّ في اصول الدين هل هو حجّة كما في الفروع أم لا؟

وليعلم أوّلا أنّ الفرق بين الاصول والفروع هو أنّ المطلوب بالذات في الفروع هو العمل ، والعلم وغيره ممّا يقوم مقامه يطلب على وجه الطريقيّة ومن باب المقدّمة ، فلا محيص فيها من العمل على طبق علم أو ظنّ أو أصل من الاصول ، فلا معنى للوقف فيها على حال ، بخلاف الاصول الّتي لا يطلب فيها بالذات إلاّ الاعتقاد والتديّن بالمعتقد من غير

٣٨٢

مدخليّة للعمل فيها ، وإن اجتمع فيها مع الجهة النفسيّة جهة الغيريّة ، باعتبار كون الاعتقاد مع التديّن بالمعتقد شرطا في صحّة العمل في الفروع ، ثمّ الاعتقاد بمعنى الإذعان للواقع والتديّن به ـ على معنى قبوله دينا في اصول الدين ـ كلّ منهما مطلوب على وجه الموضوعيّة على معنى محبوبيّة كلّ من الأمرين لذاته لمصلحة في نفسه.

وقد اختلفوا في أنّ هذا الموضوع المطلوب لذاته ، أعني الإذعان هل هو خصوص العلم بمعنى الاعتقاد الجازم المطابق المستحصل من النظر والاستدلال ، أو هو العلم بمعنى الاعتقاد الجازم المطابق وإن حصل من التقليد ، أو هو الاعتقاد الظنّي المستحصل من النظر ، أو هو الاعتقاد الظنّي مطلقا وإن حصل من التقليد ، أو الاعتقاد الظنّي المستحصل من الأخبار ، أو هو الجزم أو الظنّ ولو من التقليد ، فذهب إلى كلّ فريق ، فحصل لهم في المسألة أقوال ستّ ، ذكرناها في باب الاجتهاد والتقليد في مسألة التقليد في اصول الدين ، غير أنّه ينبغي أن يعلم أنّ القول بكفاية الظنّ فيها مطلقا ليس مستنده دليل الانسداد ، لعدم جريانه فيها لانفتاح باب العلم فيها ، أو لعدم ثبوت التكليف بالإيمان حيث يتعذّر العلم لئلاّ يلزم التكليف بما لا يطاق ، بل لابدّ لكلّ من يكتفي فيها بالظنّ من دليل خاصّ به.

والأقوى بل الحقّ الّذي لا محيص عنه هو وجوب تحصيل العلم فيها ، وعدم كفاية الظنّ مطلقا ، وإن حصل من الأخبار ، للأدلّة الأربعة من العقل والإجماع والكتاب والسنّة الّتي ذكرناها مشروحة في المسألة المشار إليها من الباب المذكور ، ولا حاجة إلى التعرّض لذكرها هنا.

وأمّا القول بكفاية الظنّ فيها فلم نقف على دليل سوى ما ذكره في الضوابط ممّا ملخصه : « أنّه إن جاز الاكتفاء به فهو المطلوب ، وإلاّ لزم تكليف ما لا يطاق مع انسداد باب العلم ، واختلال النظام مع انفتاحه إذا اشتغل الجميع بتحصيل العلم في الاصول » (١) ولا خفاء في وهنه بل هو أوهن من بيت العنكبوت ، لمنع الملازمة في كلّ من التقديرين.

أمّا الأوّل : فلعدم التكليف بالإيمان مع الانسداد ، لتعذّر المكلّف به وامتناعه ، ولا ريب أنّ القدرة عليه من شروط التكليف ، وبدليّة الظنّ عن العلم حينئذ تحتاج إلى دليل مفقود في المقام.

وأمّا الثاني : فلأنّ العادة لا تجمعهم على الاشتغال دفعة واحدة ، لأنّ من الناس من

__________________

(١) ضوابط الاصول ١ : ٣١٦.

٣٨٣

يشتغل حال استكمال الآخرين ، ومنهم من يدرك البلوغ حال اشتغال الآخرين ، ومنهم يتولّد حال بلوغ الآخرين ، وهكذا فمع اختلاف حالات الناس على الوجه المذكور ، فكيف تحويهم العادة على الاشتغال بتحصيل العقائد حتّى يلزم اختلال النظام على تقدير اعتبار العلم.

ثمّ إنّ اصول العقائد على قسمين :

أحدهما : ما يجب فيه الاعتقاد والتديّن بالمعتقد مطلقا ، فيجب النظر في تحصيل الاعتقاد حينئذ مقدّمة ، ومن حكم هذا القسم لزوم الكفر تارة بانتفاء الاعتقاد ، واخرى بعدم التديّن بعد الاعتقاد ، ويقال له : كفر الجحود ، ولأجل ذا يحكم بكفر إبليس وفرعون وهامان ، وكثير من الكفّار والمشركين.

وفي الحديث بعد ما جعل الكفر على خمسة أوجه منها : كفر الجحود ، « وأمّا كفر الجحود فهو الجحود بالربوبيّة ، والجحود على معرفة وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنّه حقّ قد استقرّ عنده ، وقد قال الله تعالى : ( وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ )(١)(٢).

وثانيهما : ما يجب فيه التديّن مشروطا بحصول الاعتقاد ، فما لم يكن الاعتقاد حاصلا لم يجب النظر في تحصيله ، ومن حكمه لزوم الكفر بعدم التديّن بالمعتقد بعد حصول الاعتقاد ، لا بانتفاء الاعتقاد سيّما في الغافل الغير الملتفت إلى أصل المسألة المندرجة في هذا القسم.

وأمّا تشخيص مصاديق القسمين فلا يخلو عن إشكال وغموض ، إلاّ أنّ الذي ينبغي أن يذعن به هو أنّ معرفة الله تعالى ، وصفاته الثبوتيّة الراجعة إلى إثبات العلم والقدرة ، وصفاته السلبيّة الراجعة إلى سلب الحدوث والحاجة ، ويندرج فيهما عدله في مقابل الظلم والجبر ، وحكمته في مقابل صدور القبيح منه فعلا وتركا ، ونبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإمامة الاثنى عشر عليهم‌السلام ، والمعاد الجسماني ، وسؤال القبر وعذابه ، ووجود الجنّة والنار ، والحساب والكتاب والميزان والصراط ، من قبيل القسم الأوّل ، وأنّ كون كلامه تعالى حادثا أو لفظيّا ، وعينيّة صفاته ، ونبوّة سائر الأنبياء وعصمة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكونه أفضل امّته أو أفضل من الأنبياء أو من الملائكة أيضا ، وعصمة الأئمّة عليهم‌السلام وكونهم أفضل من الأنبياء أو من الملائكة أيضا ، وعلمهم بما كان وما يكون وكون علمهم حضوريّا أو اراديّا وتفاصيل أحوال المعاد ومعانيها على وجه التفصيل ، من قبيل القسم الثاني ».

__________________

(١) سورة النمل : ١٤.

(٢) الوسائل ١ : ٣٢ / ٩ ، ب ٢ من أبواب مقدّمة العبادات.

٣٨٤

وينبغي نقل ما عثرنا عليه من كلمات العلماء الأخيار ، ثمّ التعرّض لنقل جملة من الأخبار المتعلّقة بهذا المضمار ، فعن نصير الملّة والدين ، محمّد بن الحسن الطوسي رحمه‌الله : « أقلّ ما يجب اعتقاده على المكلّف ، هو ما ترجمه قول لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله » (١).

وقال المحدّث الكاشاني في حقائقه بعد نقله لتلك العبارة : « ثمّ إذا صدّق الرسول فينبغي أن يصدّقه في صفات الله واليوم الآخر وتعيين الإمام المعصوم ، كلّ ذلك بما يشتمل عليه القرآن من غير مزيد وبرهان.

أمّا في صفات الله فبأنّه حيّ ، قادر ، عالم ، مريد ، متكلّم ، ليس كمثله شيء ، وهو السميع البصير.

وأمّا في الآخرة فبالإيمان بالجنّة والنار والصراط والميزان والحساب والشفاعة وغيرها ، ولا يجب عليه أن يبحث عن حقيقة الصفات ، وأنّ الكلام والعلم وغيرهما حادث أو قديم ، بل لو لم يخطر هذه بباله ومات مات مؤمنا ، فإن غلب على قلبه شكّ أو إشكال فإن أمكن إزالته بكلام قريب من الأفهام وإن لم يكن قويّا عند المتكلّمين ولا مرضيّا فذلك كاف ، ولا حاجة إلى تحقيق الدليل » انتهى (٢).

وعن المسالك في باب الشهادات في فروع اشتراط الإيمان في الشاهد ، وردّ شهادة كلّ مخالف في شيء من اصول العقائد ، أنّه قال : « المراد بالاصول الّتي تردّ شهادة المخالف فيها ، مسائل التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة والمعاد.

وأمّا فروعها من المعاني والأحوال من فروع الكلام فلا يقدح الخلاف فيها ، لأنّها مباحث ظنّيّة ، والاختلاف فيها بين علماء الفرقة الواحدة كثير شهير ، وقد عدّ بعض العلماء ما وقع الخلاف بين المرتضى وشيخه المفيد فبلغ نحوا من مائة مسألة ، فضلا عن غيرهما » انتهى (٣).

وقال المحقّق الأردبيلي ، في شرح الإرشاد في الباب المذكور : « والمراد به يعني الإيمان اعتقاد الإماميّة الاثني عشريّة من أصناف الشيعة لا غير ، والظاهر أنّه يحصل بمعرفة الله ونبوّة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتصديقه في جميع ما جاء به من الأحكام وغيرها ، مثل الموت وعذاب القبر والحشر والنشر والنار والثواب والعقاب والصراط والميزان ، وغير ذلك من نبوّة جميع الأنبياء ، والكتب السالفة ، وأنّه لا نبيّ بعده ، وبإمامة الأئمّة الإثني عشر كلّ

__________________

(١) حكاه عند الفيض الكاشاني رحمه‌الله في الاصول الأصليّة : ١٨٠.

(٢) الحقائق في محاسن الأخلاق : ٤٠.

(٣) مسالك الأحكام ٢ : ٤٠٢.

٣٨٥

واحد واحد ، وأنّ آخرهم قائمهم حيّ من وقت موت أبيه وإمامته حتّى يظهره الله تعالى ، وأنّه إمام الزمان حتّى تفنى الدنيا وينتهي التكليف ، كلّ ذلك يكفي إجمالا بطريق العلم اليقيني الّذي لا يحتمل نقيضه ، وإن لم يكن برهانيّا » انتهى (١).

ونسب إلى ظاهر جماعة كالشهيدين في الألفيّة (٢) وشرحها (٣) ، والمحقّق الثاني في الجعفريّة (٤) وشارحها (٥) وغيرهم (٦) « أنّه يكفي في معرفة الربّ التصديق بكونه موجودا واجب الوجود لذاته ، والتصديق بصفاته الثبوتيّة الراجعة إلى صفتي العلم والقدرة ، ونفي الصفات الراجعة إلى الحاجة والحدوث ، وأنّه لا يصدر منه القبيح فعلا أو تركا ، ويكفي في معرفة النبيّ معرفة شخصه بالنسب المعروف المختصّ به ، والتصديق بنبوّته وصدقه ، ويكفي في معرفة الأئمّة عليهم‌السلام معرفتهم بنسبهم المعروفة والتصديق بأنّهم أئمّة يهدون بالحقّ ، ويجب الانقياد إليهم والأخذ منهم ، ويكفي في التصديق بما جاء به النبيّ ، التصديق بما علم مجيئه به متواترا ، من أحوال المبدأ والمعاد ، كالتكليف بالعبادات والسؤال في القبر وعذابه ، والمعاد الجسماني والحساب والصراط والميزان والجنّة والنار إجمالا » (٧).

وقال في القوانين : « المراد باصول الدين هو أجزاء الإيمان وهو عندنا خمسة ، وهي معرفة الباري الواجب بالذات المستجمع لجميع الكمالات ، المنزّه عن النقائص ، ويرجع تفصيل هذا الإجمال إلى الواجب الوجود العالم القادر المنزّه عن الشريك والاحتياج وعن فعل القبيح واللغو ، فيندرج في ذلك العدل والحكمة ، ولا حاجة إلى إفراد العدل إلاّ لمزيد الاهتمام به ، إلى أن قال :

ثمّ التصديق بنبوّة نبيّنا وما جاء به تفصيلا فيما علم به ، وإجمالا فيما لم يعلم ، والظاهر أنّه لا يجب تحصيل العلم بالتفصيل في تحقيق الإيمان ، والمراد بالإذعان الإجمالي أن يوطن نفسه على أنّ كلّ ما لم يطّلع عليه ممّا جاء به يذعن به إذا اطّلع عليه ، وممّا علم به إجمالا ولم يعلم كيفيّته ، مثل الحساب والصراط والميزان وأمثال ذلك ، فيكفيه الإذعان في الجملة ، إلى أن قال :

ثمّ المعاد الّذي جعلوه إحدى الاصول الخمسة يمكن اندراجه فيما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) شرح الإرشاد : ١٢ / ٢٩٨.

(٢) الألفيّة والنفليّة : ٣٨.

(٣) المقاصد العليّة : ٣٨.

(٤) الرسالة الجعفريّة ١ : ٨٠.

(٥) الفوائد العليّة في شرح الجعفريّة للفاضل الجواد ( مخطوط ) : ١٣ ـ ١٥.

(٦) كأبي المجد الحلبي في إشارة السبق : ١٤.

(٧) فرائد الاصول ١ : ٥٦٥ ـ ٥٦٧.

٣٨٦

خصوصا الجسماني منه ، وإن قلنا بحكم العقل بثبوته في الجملة كما هو الواضح ، وقد أشار إليه الكلام الإلهي ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً )(١) فيمكن جعله أحدا من الخمسة بالاستقلال أيضا ، ولكن لا بخصوص الجسماني.

والحقّ أنّ العقل قاطع به في الجملة ، والشرع صادع لجسمانيّة بالبديهة ، ثمّ الإذعان بإمامة الأئمّة الاثني عشر ، إلى أن قال :

وأمّا النظر في جزئيّات أحوال النبيّ والوصيّ مثل كونهم معصومين ، وكون نبيّنا خاتم الأنبياء ومبعوثا على الثقلين ، وكذلك عصمة الأئمّة ، وكونهم منصوبين بالنصّ لا باختيار الناس ، وأنّ علمهم لم يكن من اجتهاد ، وأنّ انقراضهم بانقراض الدنيا ، فيكفي فيه الإذعان الإجمالي بالمعنى المتقدّم ، والظاهر أنّ الاكتفاء في الإسلام بالشهادتين إنّما هو لاندراج غيرهما فيهما ، كما لا يخفى على المتأمّل ، سيّما في أوّل الإسلام » انتهى ما أردنا نقله (٢).

وأمّا الأخبار : ففي رواية محمّد بن سالم عن أبي جعفر عليه‌السلام المرويّة في الكافي ، كما حكي « أنّ الله عزّ وجلّ بعث محمّدا وهو بمكّة عشر سنين ، فلم يمت بمكّة في تلك العشر سنين أحد يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدا رسول الله إلاّ أدخله الله الجنّة بإقراره ، وهو إيمان التصديق » (٣).

وفي رواية سليم بن قيس عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أنّ أدنى ما يكون به العبد مؤمنا أن يعرّفه الله تبارك وتعالى إيّاه فيقرّ له بالطاعة ، ويعرّفه نبيّه فيقرّ له بالطاعة ، ويعرّفه إمامه وحجّته في أرضه وشاهده على خلقه ، فيقرّ له بالطاعة فقلت : يا أمير المؤمنين وإن جهل جميع الأشياء إلاّ ما وصفت؟ قال : نعم » (٤).

ورواية أبي بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : جعلت فداك أخبرني عن الدين الذي افترضه الله تعالى على العباد ما لا يسعهم جهله ولا يقبل منهم غيره ما هو؟ فقال : أعد عليّ فأعاد عليه فقال : شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحجّ البيت من استطاع إليه سبيلا ، وصوم شهر رمضان ، ثمّ سكت قليلا. ثمّ قال والولاية والولاية مرّتين ، ثمّ قال : هذا فرض الله عزّ وجلّ على العباد ». الحديث (٥).

__________________

(١) سورة المؤمنون : ١١٥.

(٢) قوانين الاصول ٢ : ٢٠٦ و ٢٠٧.

(٣) الكافي ٢ : ٢٩ / ١.

(٤) كتاب سليم بن قيس : ٥٩ وبحار الانوار ٦٩ : ١٦ / ٣.

(٥) الكافي ٢ : ٢٢ / ١.

٣٨٧

ورواية عيسى بن السري قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : حدّثني ما بنيت عليه دعائم الإسلام الّتي إذا أخذت بها زكى عملي ، ولم يضرّني جهل ما جهلت بعده ، « فقال : شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّدا رسول الله ، والإقرار بما جاء من عند الله ، وحقّ في الأموال الزكاة ، والولاية الّتي أمر الله بها ولاية آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية ، وقال الله تعالى : ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )(١) فكان عليّ عليه‌السلام ثمّ صار من بعده الحسن ثمّ من بعده الحسين ثمّ من بعده عليّ بن الحسين ثمّ من بعده محمّد بن علي ثمّ هكذا يكون الأمر ، إنّ الأرض لا يصلح إلاّ بإمام ... » إلى آخره (٢).

ورواية أبي اليسع ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أخبرني دعائم الإسلام الّتي لا يسع أحدا التقصير عن معرفة شيء منها الّتي من قصر عن معرفة شيء منها فسد عليه دينه ، ولم يقبل منه عمله ، ومن عرفها وعمل بها صلح دينه ، وقبل عمله ولم يضيق به ممّا هو فيه لجهل شيء من الامور جهله ، ثمّ « قال : شهادة أن لا إله إلاّ الله ، والإيمان بأنّ محمّدا رسول الله ، والإقرار بما جاء به من عند الله ، وحقّ في الأموال الزكاة ، والولاية الّتي أمر الله عزّ وجلّ بها ولاية آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

ورواية إسماعيل ، قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الدين الّذي لا يسع العباد جهله ، « فقال : الدين واسع ، وأنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم بجهلهم ، فقلت : جعلت فداك أما احدّثك بديني الّذي أنا عليه؟ فقال : بلى ، قلت : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، والإقرار بما جاء من عند الله ، وأتولاّكم وأبرأ من عدوّكم ومن ترك رقابكم وتأمّر عليكم وظلمكم حقّكم ، فقال : ما جهلت شيئا. فقال : هو والله الّذي نحن عليه ، فقلت : يسلم أحد لا يعرف هذا الأمر؟ قال : لا إلاّ المستضعفين ، قلت : من هم؟ قال : نسائكم وأولادكم (٤).

ورواية عمرو بن حريث ، أنّه قال لأبي عبد الله عليه‌السلام : ألا أقصّ عليك ديني؟ « فقال : بلى ، قلت : أدين الله بشهادة أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمّدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم شهر رمضان ، وحجّ البيت ، والولاية وذكر الأئمّة عليهم‌السلام ، فقال : يا عمرو هذا دين الله ودين آبائي الّذي أدين الله به في السرّ والعلانية ... ». إلى آخره (٥).

__________________

(١) سورة النساء : ٥٩.

(٢) الكافي ٢ : ٢١ / ٩.

(٣) الكافي ٢ : ١٩ / ٦.

(٤) الكافي ٢ : ٤٠٥ / ٦.

(٥) بحار الأنوار ٦٦ : ٦ / ٧.

٣٨٨

ورواية : عجلان بن أبي صالح ، قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أوقفني على حدود الإيمان ، « فقال : شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّدا رسول الله ، والإقرار بما جاء من عند الله ، وصلوات الخمس ، وأداء الزكاة ، وصوم شهر رمضان ، وحجّ البيت ، وولاية وليّنا ، وعداوة عدوّنا ، والدخول مع الصادقين » (١).

ورواية سفيان بن السمط عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث ، « قال : الإسلام هو الظاهر الّذي عليه الناس ، شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّدا رسول الله ، وأقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحجّ البيت ، وصيام شهر رمضان ، فهذا الاسلام » (٢) إلى غير ذلك ممّا يبلغ من نحو هذه المضامين حدّ التواتر ، وذكر الصلاة وغيرها من الفروع لكونها من ضروريّات ما جاء به النبيّ ، أو اعتبار لما يكشف عن التديّن المعتبر في الإسلام والإيمان ، فتأمّل.

ثمّ إنّ ضابط الفرق بين القسمين المائز بين مصاديقهما ، لا ينبغي أن يناط بأنّ كلّما وقع الاختلاف فيه من المعارف بين أهل الاسلام وسائر فرق الكفر الأصلي ، كوجود الصانع تعالى وتوحيده ، ونبوّة نبيّنا واليوم الآخر ، فهو من قبيل القسم الأوّل.

وكلّما كان الاختلاف فيه واقعا بين أهل الاسلام كحدوث كلامه تعالى ، وعينيّة صفاته ، ورؤيته وتجسّمه ، وصفات النبيّ وصفات الأئمّة ، وجملة من تفاصيل اليوم الآخر ، فهو من قبيل القسم الثاني ، لانتقاض عكسه في الأوّل ، وطرده في الثاني بإمامة أئمّتنا عليهم‌السلام بل بعدله وحكمته أيضا ، لوقوع الاختلاف فيهما بين المسلمين مع كونهما من الواجب المطلق.

ولا أن يناط بأنّ كلّما لا يوجد فيه القاصر ، بل كلّ ما من خالف فيه الواقع فهو مقصّر فهو من قبيل القسم الأوّل ، كوجود الصانع تعالى ، ووحدانيّته وصفاته الكماليّة ثبوتيّة أو سلبيّة وعدله وحكمته ، ونبوّة نبيّنا وإمامة الأئمّة ، والمعاد الجسماني وكلّما يوجد فيه القاصر فهو من قبيل القسم الثاني ، لوجود القاصر في القسم الأوّل كما حقّقناه في مسألة التخطئة والتصويب في اصول العقائد.

ولا يبعد أن يناط بأنّ كلّما يوجد من المسائل المتعلّقة بالمعارف فيها الأدلّة القطعيّة المنضبطة ، فهو من القسم الأوّل كما في وجود الصانع ، ومراتب توحيده ، وصفاته الكماليّة ثبوتيّة وسلبيّة وعدله وحكمته ، للعقل المستقلّ في جميع ذلك ، وفي نبوّة نبيّنا لمعجزاته ، وخوارق عاداته ومكارم أخلاقه ، ومحاسن أفعاله ، وفي إمامة أئمّتنا أيضا لتواتر النصوص

__________________

(١) بحار الانوار ٦٥ : ٣٣٠ / ٤.

(٢) بحار الانوار ٦٥ : ٢٤٧ / ٦.

٣٨٩

بإمامتهم ، ومعجزاتهم ، وخوارق عاداتهم ، ومكارم أخلاقهم ، والمعاد الجسماني ، وسؤال القبر وعذابه والحساب والميزان والصراط والجنّة والنار كلّ في الجملة لتواتر الأخبار بالجميع عن النبيّ والأئمّة عليهم‌السلام ، وتكاثر الآيات فيها ، وتظافر الامّة عليها ، والضرورة من الدين في الجميع ، بل قد يدّعى العقل المستقلّ في أصل المعاد ، لأنّه لولاه لضاع عمل العاملين وضاعت حقوق المظلومين ، ولساوى أشقى الأشقياء وأفضل الأنبياء ، لعدم حصول ما يصلح للجزاء في الدنيا ، مع ما نرى من إقبال الدنيا إلى الفجّار على قدر إدبارها عن الأخيار ، بل قد يدّعى حكومة العقل بالنسبة إلى جسميّة المعاد أيضا ، فإنّ الطاعة والمعصية إنّما وقعتا في هذا البدن ، فكيف يسوّغ المجازاة بالمثوبة أو العقوبة لغيره.

بخلاف ما لم يوجد فيه دليل قطعي منضبط فإنّه من القسم الثاني ، وإن كان قد يتّفق حصول القطع بتعاضد العقل الظنّي بالنقل ، أو تراكم الظنون ، أو الاعتماد على قول العالم الثقة وما أشبه ذلك ، كصفات النبيّ ، وصفات الأئمّة ، وتفاصيل يوم الجزاء ، والأحوال العارضة من حين الممات إلى انقضاء مدّة الحشر والنشر ، ومعاني الصراط والميزان وتطائر الكتب وغير ذلك ، فإنّه من القسم الثاني ، كما أشار إليه وإلى ضابطه الشهيد الثاني في عبارته المتقدّمة ، بقوله : « لأنّها مباحث ظنّيّة ، ووجه ظنّيّتها كون آياتها غير متكاثرة ورواياتها غير متواترة ، مع اختلافها وتعارض بعضها بعضا في كثير (١).

وعلى هذا الضابط يكون عينيّة صفاته تعالى من القسم الأوّل لاستقلال العقل فيه ، وكذلك عصمة الأنبياء والأئمّة لارتفاع الوثوق بقولهم في الإخبار عن الله أو عن النبيّ لولاها.

وعلى الضابط المذكور ظهر دليل إطلاق الوجوب في القسم الأوّل واشتراطه في القسم الثاني ، فإنّ إيجاب تحصيل العلم بالواقع فيما لا يوجد فيه دليل قطعي ، منضبط تكليف بما لا يطاق ، بخلاف ما وجد فيه ذلك ، فليتدبّر.

وها هنا مسائل :

المسألة الاولى :

إنّ المكلّف فيما كان وجوب التديّن بالواقع مشروطا بحصول الاعتقاد العلمي به ، إن

__________________

(١) المقاصد العليّة : ٢٥.

٣٩٠

كان غافلا عن المسألة رأسا غير ملتفت إليها أصلا ، فلا إشكال في أنّه لا شيء عليه في الدنيا ولا في الآخرة ، وإن لم يكن غافلا بل كان ملتفتا إلى المسألة شاكّا في طرفيها ، فهل يجب عليه إزالة الشبهة بطلب ما يفيده العلم ولو بنحو مسألة العلماء الموثوق بهم؟ الوجه العدم ، لأصالة البراءة من جهة عدم الدليل عليه من عقل ولا نقل ، بل هذا هو ثمرة اشتراط وجوبه كما بيّناه.

وهل يجوز له أن يعقد قلبه من طرفي المسألة على ما لو كان خطأ في الواقع لم يضرّه ويتديّن به؟ كما لو عقد على وجود المعاد ويتديّن به لو كان في شبهة ، أو على وجود الجنّة والنار بالفعل ، نظير ما لو عقد من كان في وجود الصانع تعالى في شبهة على وجوده فإنّ خطاءه لا يضرّ ، بخلاف ما لو عقد على الطرف الآخر فأخطأ فإنّه يضرّه جزما ، الظاهر نعم ، لعدم المانع بل العقل مستقلّ بحسنه ، على معنى حكمه بأن لا حرج في فعله ، بل يمكن دعوى رجحانه العقلي بالنظر إلى حسن الاحتياط.

وفي روايات أهل العصمة أيضا ربّما وقع الإشارة إلى هذا المسلك ، كما في صحيح محمّد بن عبد الله الخراساني خادم الرضا عليه‌السلام ، قال : دخل رجل من الزنادقة على أبي الحسن عليه‌السلام ، وعنده جماعة « فقال أبو الحسن عليه‌السلام : أيّها الرجل أرأيت إن كان القول قولكم وليس هو كما تقولون ألسنا وإيّاكم شرّعا سواء؟ لا يضرّنا ما صلّينا وصمنا وزكّينا وأقررنا ، فسكت الرجل ، ثمّ قال أبو الحسن عليه‌السلام : وإن كان القول قولنا وهو قولنا ألستم قد هلكتم ونجونا ... ». إلى آخره (١).

وفي معناه المنسوب إلى مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام من قوله عليه‌السلام :

قال الطبيب والمنجّم كلاهما

لن تحشر الأموات فقلت أبكما

إن صحّ قولكما فلست بخاسر

وإن صحّ قولي فالخسار عليكما (٢)

ولو ظنّ الطرف المذكور فأولى بحسن العقد عليه والتديّن به.

نعم لو ظنّ الطرف الآخر وجب الوقف دفعا للضرر المحتمل ، بل لو عقد حينئذ أيضا على الطرف الموهوم وتديّن به ، لا حجر فيه ولا حرج عليه أيضا.

هذا كلّه فيما لو دارت المسألة بين الإثبات والنفي ، وأمّا إذا دارت بين المتبائنين

__________________

(١) بحار الأنوار ٣ : ٣٦ / ١٢.

(٢) بحار الأنوار ٧٥ : ٨٧ ، والديوان المنسوب بالإمام عليه‌السلام : ٣٩٦.

٣٩١

كالصفات الدائرة بين العينيّة والزيادة على الذات ، والنبوّة الدائرة بين شخصين ، والخلافة الدائرة بين رجلين ، والمعاد الدائر بين الجسماني والروحاني وما أشبه ذلك ، فلا يتمشّى فيه القاعدة المذكورة ، ولا يجوز العقد على أحد الطرفين ما لم ينته إلى العلم ، لقيام احتمال الضرر على تقدير الخطأ في كلّ منهما.

المسألة الثانية :

لا فرق فيما تقدّم من عدم كفاية الظنّ في المعارف بين الظنّ المطلق والظنّ الخاصّ ، لإطلاق أدلّة اعتبار العلم فيها ، كإطلاق معاقد الإجماعات وعموم الأدلّة المانعة من العمل بالظنّ ، وفي الظنّ الخاصّ أيضا لا فرق بين ما قام دليل حجّيّته على اعتبار سنده ، وعدم الاعتناء باحتمال الكذب فيه ، كخبر العدل على القول بتماميّة أدلّة حجّيّته من حيث الخبريّة ، وما قام على اعتباره من حيث الدلالة ، كظواهر الكتاب والأخبار المتواترة ، فلا يجوز عقد القلب على مضمون آية ، أو رواية متواترة ظاهر الدلالة المتعلّقة باصول العقائد ، إلاّ إذا بلغ حدّ العلم لإطلاق الأدلّة وعمومها ، ولا ينافيه كون معنى الظنّ الخاصّ عدم الفرق في حجّيّته بين انسداد باب العلم وانفتاحه ، إذ ليس معنى ذلك حجّيّة ذلك الظنّ فيما يعتبر فيه العلم على وجه الموضوعيّة ، بل حجّيّته في الفروع ولو مع انفتاح باب العلم فيها ، وكذلك لا ينافيه ما تقدّم منّا لبيان الفرق بين القسمين من المعارف من التمسّك بظواهر الآيات أو الأخبار ، لأنّه ليس على وجه الاستدلال على المسألة الاصوليّة ، بل على وجه الاستشهاد للمطلب المعلوم بما يشهد له من النقل كتابا أو سنّة ، حتّى أنّها لو كانت من الآحاد لا ضير في الاستشهاد بها.

المسألة الثالثة :

فيما يتعلّق بضروريّ الدين

فنقول : إنّ ضروريّات الدين على الإطلاق الشائع ، عبارة عن جملة من الأحكام الفرعيّة الّتي وضح كونها من دين الإسلام لجميع آحاد المسلمين ، بحيث لا يخفى ذلك على أحد منهم إلاّ من كان قريب العهد بالإسلام ، أو كان ساكنا في بلاد الكفّار ، ونحو ذلك ممّن لم يطّلع على الوضوح الموجب للعلم بكونها من الدين ولو في البعض.

٣٩٢

وقد يطلق على ما يعمّه وجملة من الأحكام الاصوليّة الّتي وضح كونها من دين الإسلام ، ومنه ما في كلام العلاّمة في التحرير الجاعل ضابط الكافر المحكوم بنجاسته في النصّ والإجماع جاحد الضروري ، حيث قال : الكافر « كلّ من جحد ما يعلم من الدين ضرورة ، سواء كانوا حربيّين ، أو أهل الكتاب ، أو مرتدّين ، وكذا النواصب والغلاة والخوارج » (١).

ومحلّ الكلام في هذا المقام هو المعنى الأخصّ الّذي هو الشائع من إطلاقه في كلامهم ، والظاهر عدم الخلاف في كفر منكر الضروري بهذا المعنى ، بل الظاهر كونه إجماعيّا كما يظهر دعواه من شارح المفاتيح قائلا ـ على ما حكى ـ « أنّ كلّ من أنكر ضروري الدين يكون خارجا عنه عند الفقهاء إذا لم يحتمل فيه الشبهة » ، إلى آخر كلامه (٢).

وظاهر العبارة رجوع التقييد بعدم احتمال الشبهة في حقّ المنكر إلى الحكم بخروجه عن الدين.

وأصرح منه في اعتبار التقييد ما في كلام جمال الملّة والدين في حاشية الروضة من قوله : « ثمّ بعض ما علم ثبوته من الدين ضرورة إنّما يكون إنكاره كفر ، إذا لم يكن ذلك لشبهة ، كأن يكون مثلا قريب العهد بالدين ولم ينشأ بين أهله ، فلو كانت لشبهة لا يحكم بكفره » (٣).

ويؤدّي مؤدّاهما ما عن كاشف اللثام من تقييد إنكار الضروري بمن يعلم الضروريّة (٤).

ونحوه عبارة مجمع البرهان الآتية ، والمقصود من القيد إخراج صورة الشبهة ، وهل المعتبر انتفاء نفس الشبهة ، كما هو مقتضى عبارة حاشية الروضة ، أو انتفاء احتمالها ، كما هو مقتضى عبارة شرح المفاتيح؟

الظاهر أنّ كلاهما معتبران ، إلاّ أنّ الأوّل معتبر في أصل الكفر ، والثاني معتبر في التكفير ، فالشبهة حيثما تحقّقت مانعة عن حصول الكفر بالإنكار ، واحتمالها حيثما كان قائما مانع عن تكفير المنكر ، ولو كان بحسب الواقع كافرا ، ومرجعه إلى أنّ علم المنكر بالضروريّة شرط في كفره ، والعلم بعلمه شرط في تكفيره.

والفرق أنّ عدم التكفير لا ينافي وقوع الكفر في الواقع ، بخلاف عدم الكفر فإنّه لا

__________________

(١) تحرير الأحكام الشرعيّة ١ : ١٥٨.

(٢) مصابيح الظلام : ( مخطوط ) ٤٥٢.

(٣) حاشية الروضة ( آقا جمال الخوانساري ) : ٢٤.

(٤) كشف اللثام : ١ / ٤١٠.

٣٩٣

يجامع وقوعه.

ثمّ إنّ في كون إنكار الضروري لرجوعه إلى تكذيب النبيّ وإنكار صدقه يوجب الكفر ، أو أنّه سبب مستقلّ فيه من دون اعتبار رجوعه إلى ما ذكر ، قولان :

أوّلهما : ما صار إليه جماعة من متأخّري المتأخّرين ، منهم المحقّق الأردبيلي (١) ومحشي (٢) الروضة ، والمحقّق (٣) القمّي في قوانينه ، وعن ظاهر الذخيرة (٤) ، وشارح الروضة (٥).

وثانيهما : ما نسبه في مفتاح الكرامة (٦) إلى ظاهر الأصحاب ، حاكيا للنسبة عن استاده.

ويظهر منه أنّ فائدة الاختلاف تظهر في تكفير المنكر مع قيام احتمال الشبهة على الثاني وعدمه على الأوّل ، ولا خفاء في ضعفه ، فإنّ الظاهر بملاحظة ما عرفته من المعتبرين من تقييد الإنكار الموجب للكفر والتكفير بعدم الشبهة واحتمالها ـ وفي معناه العلم بالضروريّة ، وفي معناهما ما في عبارة مجمع البرهان ، من قوله : « الضروري الّذي يكفّر منكره الّذي ثبت عنده يقينا كونه من الدين ، ولو بالبرهان ولو لم يكن مجمعا عليه » (٧) انتهى ، كون مورد الفتاوى ومعاقد الإجماع مقيّدا بما ذكر.

فمحلّ النزاع الّذي هو موضوع كفر المنكر للضروري هو الإنكار لا لشبهة ، المتّفق عند الفريقين على كونه موجبا للكفر والتكفير ، إمّا لرجوعه إلى تكذيب النبيّ ، أو لكونه في نفسه سببا للكفر ، لا لتضمّنه إنكار حكمته تعالى ، بل لكونه إنكارا لقبول ما علم بواسطة الضرورة كونه ما أتى به النبيّ من عند الله ، و [ الامتناع من ](٨) الانقياد به والتديّن به ، وأخذه دينا لنفسه ، فإنّ إنكار الضروري يتصوّر على أقسام :

الأوّل : إنكار إتيان النبيّ به ، وهذا هو الشبهة المعتبر انتفائها في كفر المنكر ، وانتفاء احتمالها في تكفيره ، ولا كلام لأحد في أنّه لا يوجب الكفر.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ٣ : ١٩٩.

(٢) حاشية الروضة ( آقا جمال الدين الخوانساري ) : ٢٥.

(٣) قوانين الاصول ٢ : ٢٠٨.

(٤) ذخيرة العباد في شرح الإرشاد : ١٥٠.

(٥) مناهج السويّة للفاضل الهندي ( مخطوط ) ٨٨٨.

(٦) مفتاح الكرامة ٢ : ٣٨.

(٧) مجمع الفائدة والبرهان : ٣ / ١٩٩.

(٨) سقط ما بين المعقوفين عن قلمه الشريف ولقد صحّحناه بما فى المتن طبقا لما فى حاشيته على القوانين ( حاشية القوانين : ١٦٨ ).

٣٩٤

الثاني : إنكار كونه من عند الله ، وهذا هو تكذيب النبيّ ، ولا كلام لأحد في أنّه يوجب للكفر.

الثالث : إنكار كونه على طبق الحكمة بعد العلم بأنّه أتى به النبيّ ، والعلم بأنّه من عند الله ، وهذا أيضا يوجب الكفر لتضمّنه إنكار حكمته تعالى.

الرابع : إنكار قبوله والانقياد به وأخذه دينا ، ولا إشكال في كونه كفرا أيضا ، ومنه كفر إبليس ، لامتناعه عن قبول وجوب السجود لآدم والانقياد به استكبارا حيث قال : ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ )(١) وإن احتمل كونه لأجل إنكار كونه على طبق الحكمة ، ومنه أيضا كفر الخوارج والنواصب خصوصا أوائلهم.

أمّا الأوّل : فلأنّ ممّا جاء به النبيّ من عند الله هو وجوب دخول الناس في إطاعة أمير المؤمنين عليه‌السلام والانقياد له ، ولم يقبله الخوارج بخروجهم عليه ومحاربتهم له ، وممّا أتى به أيضا من عند الله هو وجوب موالاة أهل البيت عليهم‌السلام ، ولم يقبله النواصب بمعاداتهم وإظهار العداوة لهم.

وتقييد الفتاوى ومعاقد الإجماع بعدم الشبهة واحتمالها احتراز عن القسم الأوّل.

ومرجع القول الأوّل إلى زعم كون إنكار الضروري من قبيل القسم الثاني.

ومرجع القول الثاني إلى زعم كونه من قبيل القسم الرابع ، لا بمعنى أنّه إذا تضمّن تكذيب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يوجب الكفر ، فإنّه ممّا لا سبيل إليه ، بل على معنى أنّه لا يلزم الالتزام بكونه لهذه الجهة ، بل يكون سببا للكفر مع انتفاء هذه الجهة ، وهو الأقوى.

وبالتأمّل فيما قرّرناه : يندفع ما اعترضه بعض مشايخنا على القول الثاني ، بعد ما نقل نسبته إلى ظاهر الأصحاب ، من « أنّه لا وجه حينئذ لما اشتهر من إخراج صورة الشكّ ، فإنّ إنكار اصول الدين كالإلهيّة والرسالة لا فرق في تكفير منكرها بين ما كان الجحد مع العلم أو لشبهة ، وأيضا فإنّ الأخبار الدالّة على بيان الإسلام وتحديده خالية عن اعتبار التصديق بخصوص الضروريّات من حيث إنّها صارت ضروريّة » انتهى (٢).

فإنّ الضروري بالمعنى المبحوث عنه لا يقاس على الإلهيّة والرسالة وغيرهما من اصول العقائد ، الّتي لا فرق في كفر منكرها بين الشبهة وعدمها ، لوضوح الفرق بين

__________________

(١) سورة ص : ٧٦.

(٢) كتاب الطهارة ٢ : ٣٥٥.

٣٩٥

العمليّات والعلميّات.

والفارق كما بيّناه سابقا : أنّ المقصود بالذات في العمليّات بعد الإقرار والقبول إنّما هو العمل ، والعلم لا يطلب فيها إلاّ مقدّمة للعمل ، لكون اعتباره لمجرّد الطريقيّة ، بخلاف العلميّات الّتي يطلب فيها الإذعان بمعنى العلم ، والقبول بمعنى التديّن بالمعلوم ، لما عرفت سابقا من أنّ المعتبر في الإسلام شيئان : الإذعان للواقع ، وقبوله وأخذه دينا ، فالكفر يلزم تارة باعتبار انتفاء الإذعان ، واخرى لأجل انتفاء القبول ، ومرجعه إلى كون منكره كافرا ، سواء كان عن شبهة أو مع العلم ، بخلاف الضروري الّذي لم يكن من قبيل العلميّات ، إذ لا يعتبر منه في الإسلام إلاّ الإقرار والقبول ، فإنكاره إنّما يؤثّر في الكفر بعد العلم بمقدّمتين ، أعني العلم بأنّه ما جاء به النبيّ وكلّما جاء به النبيّ فهو من الدين ، وإن لم يكن هذا العلم مقصودا للشارع بالذات.

وقضيّة ذلك أن لا يكون انتفاء العلم مؤثّرا في الكفر والتكفير أصلا ، وهذا هو معنى خروج صورة الشبهة.

وأمّا دعوى : خلوّ الأخبار المحدّدة للإسلام عن اعتبار التصديق بخصوص الضروريّات ، ففيها : أنّ الأخبار وإن لم تشتمل على التصديق بالضروريّات ، إلاّ أنّها مشتملة على اعتبار الإقرار بكلّ ما جاء به النبيّ من عند الله ، فإنّ الإقرار لا يراد به هنا الإقرار اللساني بل الإقرار القلبي ، وهو قبول كلّما جاء به النبيّ من عند الله ، وأخبر به عن الله والتديّن به ، من « قرّ وأقرّ بمعنى ثبت وأثبت » ، ولا يكون إلاّ بقبوله وتسليمه وأخذه دينا ، وضروريّات الدين يقال لطائفة ممّا جاء به النبيّ طرئها الضرورة ، فيجب الإقرار بها باعتبار أنّها ممّا جاء به النبيّ ، على ما دلّ عليه الأخبار المستفيضة القريبة من التواتر بل المتواترة ، مضافا إلى الإجماع وغيره.

فإنكار الضروري على معنى عدم قبوله والتديّن به ، إنّما يوجب الكفر لكونه إنكارا لما جاء به النبيّ ، لا لكونه ضروريّا بوصف الضروريّة ، فإنّ هذا الوصف لا مدخليّة له في موضوع هذا الحكم ، بل المناط فيما يعتبر في الإسلام وما يكون كفرا هو الإقرار بما جاء به النبيّ وإنكاره ، حتّى أنّه يلزم الكفر المصحّح للتكفير بإنكار ما علم كونه ما جاء به النبيّ من جهة النظر والبرهان ، كما تقدّم التصريح بذلك في عبارة مجمع البرهان (١).

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ٣ : ١٩٩.

٣٩٦

ولا ينافيه إفراد الضروريّات بالعنوان في كلام الفقهاء ، لأنّه ليس لإحراز موضوع الكفر على أنّ لخصوص الضروريّة مدخليّة فيه وفي الحكم به ، بل لأنّه الطريق المعرّف لتحقّق الكفر بمجرّد الإنكار ، بناء على أنّه من المسلم الّذي عاش مدّة عمره بين المسلمين ، فلا يحتمل في حقّه الشبهة وعدم العلم بكون ما أنكره ممّا جاء به النبيّ ، حتّى أنّه لو ادّعاه لم يسمع منه ، بخلاف ما يتوصّل إليه بطريق النظر ، فإنّ النظريّات يغلب فيها الخطأ والاشتباه ، فإن ادّعى منكره الشبهة مع قيام احتمالها قبل منه ، لأصالة الإسلام وعموم درأ الحدود بالشبهات ، فيدرأ عنه التكفير.

وبالجملة : فالموجب للكفر هو إنكار ما جاء به النبيّ من عند الله مع العلم بأنّه كذلك ، سواء طرئه الضروريّة أو كان نظريّا توصل إليه بالبرهان.

وممّا يدلّ عليه مضافا إلى الأخبار المتقدّم إليها الإشارة الصريحة في كون الإقرار بكلّ ما جاء به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عند الله معتبرا في دين الإسلام ، أخبار معتبرة اخر مستفيضة ، ففي صحيحة عبد الرحيم القصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام في حديث « قال : الإسلام قبل الإيمان وهو يشارك الإيمان ، فإذا أتى العبد بكبيرة من كبائر المعاصي ، أو صغيرة من صغائر المعاصي ، الّتي نهى الله عنها كان خارجا من الإيمان ، وثابتا عليه اسم الإسلام ، فإن تاب واستغفر عاد إلى الإيمان ، ولم يخرجه إلى الكفر والجحود والاستحلال ، فإذا قال للحلال هذا حرام ، وللحرام : هذا حلال ، ودان بذلك فعندها يكون خارجا عن الإيمان والإسلام إلى الكفر » (١).

وفي مكاتبة له أيضا : « ولا يخرجه إلى الكفر إلاّ الجحود والاستحلال ، بأن يقول للحلال هذا حرام ، وللحرام : هذا حلال ، ودان بذلك فعندها يكون خارجا عن الإسلام والإيمان ، داخلا في الكفر ، وكان بمنزلة من دخل الحرم ، ثمّ دخل الكعبة وأحدث في الكعبة حدثا ، فأخرج عن الكعبة وعن الحرم ، فضرب عنقه » (٢) ودلالتهما على أنّ المناط في كفر [ المنكر ](٣) للضروري بل مطلق المقطوع به ، هو عدم الديانة به المتحقّق في ضمن الديانة بخلافه واضحة ، بل الأخير يدلّ على أنّ فعل ما ينافي تعظيم ما ثبت وجوب تعظيمه بضرورة من الدين يوجب الكفر ، ولا يكون إلاّ إذا صدر الفعل على وجه الإنكار المنافي للإقرار به بقرينة : « ودان بذلك ».

__________________

(١) بحار الأنوار ٥ : ٣٢ / ٣٩.

(٢) بحار الأنوار ٦٥ : ٢٥٦ / ١٥.

(٣) وفي الأصل : « الإنكار » بدل « المنكر » والصواب ما أثبتناه فى المتن بقرينة السياق.

٣٩٧

وفي معناهما صحيحة أبي الصباح الكناني ، عن أبي جعفر عليه‌السلام « قال : قيل لأمير المؤمنين عليه‌السلام إذا شهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمّدا رسول الله ، يكون مؤمنا؟ قال عليه‌السلام : فأين فرائض الله؟ ـ إلى أن قال ـ فما بال من جحد الفرائض كان كافرا » (١).

فإنّ ذيله يدلّ على أنّ المراد بالإيمان في السؤال ما يرادف الإسلام ، وقد اعتبر فيه بقوله فأين فرائض الله؟ الإقرار بها ، لأنّ مراده عليه‌السلام بذلك بقرينة جحدها الموجب للكفر ، أين الإقرار بفرائض الله.

وفي معنى الجميع ولو باعتبار أنّ أخبار الأئمّة عليهم‌السلام بعضها يفسّر بعضا ، صحيحة عبد الله بن سنان ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الرجل يرتكب الكبيرة ، فيموت هل يخرجه ذلك من الإسلام ، وإن عذب كان عذابه كعذاب المشركين ، أم له مدّة وانقطاع؟ « فقال عليه‌السلام : من ارتكب كبيرة من الكبائر ، فزعم أنّها حلال أخرجه ذلك من الإسلام وعذّب أشدّ العذاب ، وإن كان معترفا أنّه ذنب ومات عليها أخرجه من الإيمان ، ولم يخرجه من الإسلام ، وكان عذابه أهون من عذاب الأوّل » (٢).

وصحيحة مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال ـ في حديث ـ فقيل له أرأيت المرتكب للكبيرة يموت عليها أتخرجه من الإيمان ، وإن عذّب بها فيكون عذابها كعذاب المشركين أو له انقطاع؟ « قال : يخرج من الإسلام إذا زعم أنّها حلال ، ولذلك يعذّب بأشدّ العذاب ، وإن كان معترفا بأنّها كبيرة ، وأنّها عليه حرام ، وأنّه يعذّب عليها ، وأنّها غير حلال ، فإنّه معذّب عليها وهو أهون عذابا من الأوّل ، ويخرجه من الإيمان ولا يخرجه من الإسلام » (٣).

فإنّ المراد بالزعم فيها عقد القلب الّذي هو عبارة اخرى عن التديّن ، بخلاف المعصية المتضمّن لعدم التديّن بحرمة الحرام ولا وجوب الواجب.

ورواية [ أبي ] عمرو الزبيري عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، « قال : الكفر في كتاب الله عزّ وجلّ على خمسة أوجه ، فمنها كفر الجحود على وجهين ، والكفر بترك ما أمر الله عزّ وجلّ به ، وكفر البراءة ، وكفر النعم ، فأمّا كفر الجحود فهو الجحود بالربوبيّة والجحود على معرفة ، وهو أن يجحد الجاحد وهو يعلم أنّه حقّ قد استقرّ عنده ، وقد قال الله تعالى : ( وَجَحَدُوا بِها )

__________________

(١) بحار الأنوار ٦٦ : ١٩ / ٢.

(٢) الكافي ٢ : ٢٨٥ / ٢٣.

(٣) الكافي ٢ : ٢٨٠ / ١٠.

٣٩٨

و ( اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ )(١) ـ إلى أن قال ـ الوجه الرابع من الكفر ، ترك ما أمر الله عزّ وجلّ به ، وهو قول الله عزّ وجلّ ( أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ )(٢) فكفّرهم بترك ما أمر الله عزّ وجل به ونسبهم إلى الإيمان ولم يقبله منهم ولم ينفعهم عنده ، فقال : ( فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ )(٣).

وصحيحة بريد العجلي عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال سألته عن أدنى ما يكون به العبد مشركا؟ « قال : من قال للنواة حصاة وللحصاة أنّها نواة ثمّ دان به » (٤) ، إلى آخر ما يقف به المتتبّع.

والمراد بالأخير كناية عن القول للحقّ أنّه باطل وللباطل أنّه حقّ ، أو للحلال أنّه حرام وللحرام أنّه حلال.

ثمّ إنّه لا فرق في وجوب الإقرار بالضروريّات ، وكفر منكرها بين ضروريّات الدين وضروريّات المذهب ، لأنّ الإقرار بها إنّما يجب لكونه إقرارا بما جاء به النبيّ من عند الله ، وهو معتبر بالنصّ والإجماع فيكون إنكاره كفرا ، وكما أنّ ما جاء به النبيّ قد يكون ضروريّا بين المسلمين بحيث لا يخفى كونه من الدين الّذي أتى به النبيّ من عند الله على أحد من المسلمين ، إلاّ من كان قريب العهد بالإسلام ، أو ساكنا في بلاد الكفر ، كذلك قد يكون ضروريّا بين الشيعة بحيث لا يخفى كونه من الدين الّذي أتى به النبيّ من عند الله على أحد من الشيعة ، إلاّ من كان قريب العهد بالتشيّع ، أو كان ساكنا في بلاد المخالفين ، فيكون الإقرار بكلّ منهما بعد العلم بأنّه ممّا أتى به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عند الله على معنى قبوله والانقياد به وأخذه دينا معتبرا في الإسلام ، فيكون إنكاره على معنى عدم قبوله وعدم أخذه دينا كفرا ، سواء تضمّن إنكار الأوّل تكذيب النبيّ في إخباره به عن الله تعالى أو لا ، وإنكار الثاني تكذيب الأئمّة في إخبارهم به عن النبيّ أو لا.

وقضيّة كلام من جعل الكفر اللازم من إنكار الضروري باعتبار رجوعه إلى تكذيب النبيّ الّذي مرجعه إلى إنكار الرسالة ، أن لا يقول بكفر منكر ضروري المذهب ، بدعوى أنّه لا يكذّب النبيّ ، بل يكذّب الأئمّة في إخبارهم عن النبيّ ، فيكون إنكارا لإمامتهم.

وغاية ما يلزم من ذلك ، إنّما هو الخروج عن مذهب الشيعة الاثني عشريّة ، لا عن

__________________

(١) سورة النمل : ١٤.

(٢) سورة البقرة : ٨٥.

(٣) سورة البقرة : ٨٥.

(٤) الكافي ٢ : ٣٩٧ / ١.

٣٩٩

الإسلام ، بل هو المصرّح به في كلام غير واحد من أصحاب القول المذكور.

كما صرّح به العلاّمة المجلسي في رسالته الفارسيّة في العقائد المسمّى بحقّ اليقين (١) ، وتبعه بعض الأعلام في قوانينه ، قائلا : « اعلم أنّ ضروري الدين كما يستلزم إنكاره الخروج عن الدين ، فضروري المذهب أيضا يستلزم إنكاره الخروج عن المذهب » انتهى (٢).

وفيه : ما عرفت ومحصّله : أنّ الضروري ليس عنوانا آخر سوى عنوان ما جاء به النبيّ الّذي يكون الإقرار به من الإسلام ، ولازمه أن يكون إنكاره كفرا ، وهذا أمر مشترك بين ضروري الدين وضروري المذهب ، فعلى هذا فإنكار ضروريّ المذهب قد يكون إنكارا لإخبار الأئمّة به عن النبيّ ، وقد يكون إنكارا لإتيان النبيّ به عن الله ، وقد يكون إنكارا لكونه من عند الله ، وإن أذعن بإخبار الأئمّة عن النبيّ وإخبار النبيّ عن الله.

وقد يكون إنكارا لكونه على وفق الحكمة ، وقد يكون إنكارا لقبوله وامتناعا للتديّن به ، والأوّلان لا يوجبان الكفر وإن كان الثاني يوجب الخروج عن المذهب ، والبواقي كلّها كفر وخروج عن الإسلام ، والمعنى المقصود في عنوان إنكار الضروريّ المعدود سببا مستقلاّ للكفر هو الأخير ، والكفر من جهته مشترك اللزوم بين ضروريّ الدين وضروريّ المذهب ، لكون كلّ ممّا جاء به النبيّ الّذي يجب الإقرار به لكونه من الإسلام.

ومن العجب ما في كلام شيخنا قدس‌سره من قوله : « وأمّا التديّن بالضروريّات ففي اشتراطه ، أو كفاية عدم إنكارها مع العلم بكونها من الدين ، وعدم اشتراط ذلك أيضا فلا يضرّ إنكارها مع العلم بكونها من الدين ، وجوه أقواها الأخير ، ثمّ الأوسط » (٣) انتهى.

فأوّل ما يرد عليه : [ عدم ](٤) التغاير بين الوجه الأوّل والثاني ، فإنّ الإنكار عبارة عن عدم التديّن ، فعدمه بضابطة النفي في النفي عبارة عن التديّن ، إلاّ أنّ يقال بملاحظة ثبوت الواسطة وهو التوقّف بمنع الملازمة ، لأنّ عدم التديّن بمعنى الإنكار أعمّ من التديّن والتوقّف ، وعدم استلزامه الأعمّ للأخصّ ضروريّ.

وثاني ما يرد عليه : أنّ ترجيح الوجه الأخير ، في معنى القول بأنّ إنكار ما جاء به النبيّ المقابل للإقرار به ، غير مضرّ في الدين والإسلام ، وهو خلاف النصّ والإجماع.

ثمّ إنّ في عنوان الإنكار الموجب للكفر وعدمه صورا ، ينبغي التعرّض لها لتشخيص

__________________

(١) حق اليقين : ٥٤٥.

(٢) قوانين الاصول ٢ : ٢١٢.

(٣) فرائد الاصول ٢٤ : ٥٦٨.

(٤) زيادة يقتضيها السياق.

٤٠٠