تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-73-8
الصفحات: ٧٤٨

بالفارسية :

از همه محروم تر خفّاش بود

كو عدوى آفتاب فاش بود

فإن كنت من أهل الحكمة الّتي هي معرفة الامام عليه‌السلام كما في بعض الكتب المعتبرة فقد أوتيت خيرا كثيرا ، والّا فأسلم تسلم فإنّ الإسلام مشتقّ من التسليم بل الإيمان مشروط به (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) ـ في ولي الأمر ـ (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً). (١) واعلم أنّ ما أشرنا اليه في هذا الباب وغيره من الأبواب من رتبة الإمام وأحواله وشئونه فكلّه مأخوذ من أخبارهم وآثارهم ، مقتبس من أنوارهم ، ومع ذلك فهو من مكنون أسرارهم فإن افتريته فعلىّ إجرامى وعلى من يفهم كلامي سلامي.

عود إلى الكلام لإتمام المرام :

قد سمعت أنّ الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين صراط الله سبحانه إلى عبيده في جميع نعمه وفيوضه التكوينيّة والتشريعيّة ، فاعلم أنّهم عليهم‌السلام الصراط المستقيم لكافّة الخلق كلّهم إلى الله سبحانه إلى مرضاته ومحبّته ورحمته ونعمته ومشيّته ، فإنّ الخلق سائرون متوجّهون بأقدام أعمالهم القلبيّة والقالبيّة بل طائرون مسرعون بأجنحتهم الروحانيّة الإيمانية من حضيض أبدان طبائعهم العنصريّة المكنّى عنها بأرض الموقف إلى فضاء عالم القدس وحريم حرم الانس ودار الاقامة ومنزل الكرامة وانّما يتمّ سيرهم في سفرهم هذا بالاستقامة في أمور :

أحدها القيام بأوامر الله ونواهيه ، وسائر وظائفه الشرعية من فعل ما امر به

__________________

(١) النساء : ٦٥.

٦٢١

ولو بالأمر الاستحبابي وترك ما نهى عنه ولو بالنهي التنزيهي ، والاستدامة على ذلك في جميع الحالات والأوقات ما لم يوجب شيء منها سقوط التكليف لتعذّر أو تعسّر أو تبدّل حال أو انقلاب موضوع ، أو غير ذلك ممّا يوجب اختلاف الحكم ، وبالجملة يكون بين يدي الله سبحانه كالعبد المطيع المنتظر لصدور الأمر من مولاه كى يبادر إلى قبوله وامتثاله ، حسب وسعه وطاقته في إيقاعه على أحسن وجوهه وأكملها من حيث اشتماله على جميع المتمّمات والمكمّلات ، واقترانه بالنيّة الصّحيحة الحاوية لملاحظة جميع الغايات الّتي ربما يرجّح العمل اليسير معها على أضعافه بدونها ، فإنّ لكلّ امرئ ما نوى وإنّما الأعمال بالنيّات.

ولذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لمولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام يا علىّ إذا تقرّب الناس إلى الله بأنواع العمل فتقرّب إليه بأنواع النيّة تسبقهم ولذا ترى الأولياء بل الأنبياء موافقين لغيرهم في الأعمال الظاهرة وإن كان ما بين أعمالهم من حيث إيجابها للتقرّب والعدم بون بعيد أبعد ممّا بين السماء والأرض.

بل تعلم أن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا يصلّون خلفه كلّهم صلوة واحدة متوافقة في الأقوال والأفعال الظاهرة الّتي هي جسم الصلوة وناسوتها وإن لم تكن صلوتهم متوافقة في كيفيّة القبول وكمية الأجر والثواب التابعين للحضور والإقبال والتوجّه والإخلاص والمعرفة الّتي هي روح العبادة ولبّها وحقيقتها وأصلها.

بل لا يكاد تتوافق صلوة إثنين منهم لضرورة اختلافهم في أحوالهم وأخلاقهم ونيّاتهم وعقائدهم وضمائر هم إلى غير ذلك.

بل لعلّ صلوة واحد من أصحابه صلى‌الله‌عليه‌وآله مثل مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام حقيقة الإيمان ومحضة وخالصة وكماله ، وصلوة بعض المنافقين الذين يصلّون خلفه وأحزابهم الشياطين حقيقة الكفر والشرك والنفاق ، فإنّ سجودهم كان لأصنامهم الحقيقة الّتي كانت بين يديهم أو الظاهرة الّتي كانت بين رجليهم كما في الصك الذي

٦٢٢

كتبه الثاني الى واليه وقد أراها ابنه لابنه عليهم جميعا لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين.

ثانيها : صدور هذا الامتثال لا على وجه الكلفة والمشقة والانزجار الّتي ربما توجب بغض عبادة الله والاستراحة في تركها ، والاستبدال عنها بغيرها ، وطلب الإذن والرخصة في القعود عنها ، والتّعلل في تركها بكلّ علّة ، والتوصل للفرار منها بكل حيلة.

بل على وجه المحبّة والاشتياق واللّذة والبهجة والسرور فإنّ العبادة قوّة قلوب العارفين ، وقرّة أعين الصالحين ، ولذة نفوس المشتاقين ، وغاية آمال المجتهدين الذين دأبهم الارتياح اليه والحنين ، وديدنهم الزفرة والأنين ، فإنّ عباده هم الذين بالبدار اليه يسارعون وبابه على الدوام يطرقون ، وايّاه في الليل والنهار يعبدون ، فصفى الله لهم المشارب ، وبلّغهم المآرب ، وأنجح لهم المطالب وملأ لهم ضمائرهم من حبّه ، فبه إلى لذيذ مناجاته وصلوا ، ومنه أقصى مقاصدهم حصّلوا.

ثالثها : ولاية أولياء الله الذين هم ولاة الأمر ، وسّاط الخلق إلى الخالق ، ولذا قرن الله طاعتهم بطاعته وولايتهم بولايته ، ومحبّتهم بمحبّته فقال : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) (١) و (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (٢).

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : من كنت مولاه فعليّ مولاه (٣).

فيجب معرفتهم ، والإقرار بجملتهم ، والموالاة لأوليائهم ، والمعادات لاعدائهم ، والاقتداء بهديهم ، والالتزام بطاعتهم الّتي هي بعينها طاعة الله.

ولذا قال عليه‌السلام في الجامعة الكبيرة : من أطاعكم فقد أطاع الله ، ومن عصاكم

__________________

(١) آل عمران : ٣١.

(٢) النساء : ٨٠.

(٣) بحار الأنوار : ج ٣٧ / ١٢٦.

٦٢٣

فقد عصى الله ، ومن أحبكم فقد أحب الله ، ومن أبغضكم فقد أبغض الله ، ومن اعتصم بكم فقد اعتصم بالله.

وفي الكافي والتوحيد عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) (١) : قال : إنّ الله تعالى لا يأسف كأسفنا لكنّه خلق أولياء لنفسه يأسفون ويرضون ، وهم مخلوقون مربوبون ، فقد جعل رضيهم رضى نفسه ، وسخطهم سخط نفسه (٢).

إذ بولايتهم تقبل الطاعة المفترضة ، ولهم المودّة الواجبة.

ولذا ورد عن مولينا أبى جعفر عليه‌السلام في خبر بناء الإسلام على الخمسة الّتي هي الصلوة والزكاة والحجّ والصوم والولاية إلى أن قال عليه‌السلام : ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأنبياء ، ورضى الرحمن الطاعة للإمام بعد معرفته ان الله عزوجل يقول : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (٣).

أما لو أنّ رجلا قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله ، وحجّ جميع دهره ، ولم يعرف ولاية ولى الله فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته اليه ما كان له على الله حقّ في ثوابه ، ولا كان من أهل الايمان (٤).

بل ورد مثله من طرق العامة فعن ابن مردويه في كتابه بالإسناد عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا على لو أنّ عبدا عبد الله مثل ما قام نوح في قومه ، وكان له مثل جبل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله ومدّ في عمره حتى حجّ ألف عام على قدميه ثمّ قتل

__________________

(١) الزخرف : ٥٥.

(٢) نور الثقلين : ج ٤ / ٦٠٨ عن التوحيد والكافي.

(٣) النساء : ٨٠.

(٤) بحار الأنوار : ج ٢٣ / ٢٩٤ عن تفسير العيّاشى ج ١ ص ٢٥٤.

٦٢٤

بين الصفا والمروة مظلوما ثمّ لم يوالك يا على لم يشمّ رائحة الجنّة ولم يدخلها (١).

وفي المناقب عن تاريخ النسائي وشرف المصطفى واللفظ له عنه : لو أنّ عبدا عبد الله تعالى بين الركن والمقام ألف عام ثمّ ألف عام ولم يكن يحبّنا أهل البيت لاكبّه الله على منخره في النار (٢).

وعن الفردوس والرسالة القوامية عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : حبّ على بن ابى طالب يأكل الذنوب كما يأكل النار الحطب (٣).

ثمّ إنّ هذا الأمر الثالث وإن عددناه واحدا من تلك الأمور إلّا أنّه جامع لجملتها محتو على حدودها ومقاماتها وذلك أنّ مقتضى القوام بولاية النبي والأئمّة عليهم‌السلام هو حفظ جميع الحدود والأحكام الشرعيّة من التكليفيّة والوضعيّة والإقامة عليها وامتثالها بالاشتغال بما يرضاه الله والاجتناب عمّا يسخطه بل عمّا لا يرضاه لينحصر فيه فعله في الوجوب والاستحباب لا الإباحة وذلك كلّه بحسب جميع نشأة وجوده وكونه من الأفعال والأقوال والأحوال والنيّات والخطرات والإعتقادات.

ولذا قال مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث معرفته بالنورانيّة : انّ إقامة الصلوة إقامة ولايتي فمن أقام ولايتي فقد أقام الصلوة ، وإقامة ولايتي صعب مستصعب لا يحتمله الّا ملك مقرّب أو نبىّ مرسل أو مؤمن امتحن الله قلبه للايمان فالملك إذا لم يكن مقرّبا لا يحتمله ، والنّبي إذا لم يكن مرسلا لم يحتمله ، والمؤمن

__________________

(١) ينابيع المودّة ج ٣ ص ٢٩٣ ح ٨٤٥ ورواه ابن شهر آشوب في المناقب ج ٣ ص ١٩٨ عن ابن مردويه.

(٢) المناقب ج ٣ ص ١٩٨ عن تاريخ النسائي وشرف المصطفى.

(٣) ينابيع المودة ج ٢ ص ٢٤٦ عن الفردوس ج ٢ ص ٢٢٦ ح ٢٥٤٤.

٦٢٥

إذا لم يكن ممتحنا لم يحتمله (١).

فصورة ولايتهم ومحبّتهم وطاعتهم هو الطريق المستقيم إلى الله ، وذلك هدى الله يهدى به من يشاء.

وهذا الصراط لا يقطعه في هذه الدنيا بسهولة إلّا محمّد وأهل بيته الطاهرون وشيعته المنتجبون ، ولو من الأنبياء والمرسلين ، والملئكة المقرّبين ، فإنّهم يقطعونها بفضل عصمتهم وولايتهم وعنايتهم برفق وسهولة.

قال عليه‌السلام في خبر النورانيّة بعد ما سمعت يا سلمان تصديق ذلك قوله تعالى في كتابه العزيز : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) (٢).

فالصبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والصلوة إقامة ولايتي فمنها قال الله تعالى : وإنّها لكبيرة ولم يقل : وإنّهما لكبيرة لأنّ الولاية كبير حملها إلّا على الخاشعين ، والخاشعون هم الشيعة المستبصرون (٣).

ثمّ إنّ من تأمّل في الأخبار الكثيرة الدالّة على العوالم الكثيرة الّتي منها الأربعون عالما ، والاثنى عشر ألف عالم ، أو الألف ألف عالم ، والألف ألف آدم ، وعلى كونهم حجّة على جميع تلك العوالم وانّ الله قد أخذ ميثاق ولايتهم على جميع الذرات والكائنات والموجودات إلى غير ذلك من الأخبار المختلفة الواردة في الموارد المتفرقة : أنّه لم يعص الله تعالى أحد من أوّل الدهر إلى آخره ، بل في جميع العوالم والنشآت إلّا بالانحراف عن ولايتهم ومحبّتهم ، ولم يطعه أحد من جميع ما سمعت إلّا بذلك ، هنالك الولاية لله الحق.

ولو أردنا استقصاء الأخبار بذلك في هذا المقام لطال بنا الكلام ، غير أنّي

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٦ / ٢ ح ١.

(٢) البقرة : ٤٥.

(٣) البحار : ج ٢٦ / ٢ ح ١.

٦٢٦

أذكر حديثا واحدا في هذا الباب مع حوالة الباقي إلى ساير المواضع من هذا الكتاب.

في «البحار» عن أبى حمزة الثمالي أنّه دخل عبد الله بن عمر على مولينا زين العابدين روحي له الفداء وعليه وعلى آبائه وأولاده آلاف التحيّة والثّناء وقال : يا علىّ بن الحسين أنت الذي تقول : إنّ يونس بن متّى إنّما لقي من الحوت ما لقي لأنّه عرضت عليه ولاية جدّي فتوقّف قال عليه‌السلام : بلى ثكلتك أمّك قال فأرني أنت ذلك إن كنت من الصادقين قال : فأمر بشدّ عينيه بعصابة وعينيّ بعصابة ثمّ أمر بعد ساعة بفتح أعيننا فإذا نحن على شاطئ البحر تضرب أمواجه ، فقال ابن عمر : يا سيّدى دمي في رقبتك الله الله في نفسي فقال عليه‌السلام : هيه وأراه إن كنت من الصادقين ثمّ قال عليه‌السلام أيّتها الحوت قال : فاطلع الحوت من البحر مثل الجبل العظيم ، وهي تقول : لبيك يا وليّ الله فقال عليه‌السلام : من أنت قالت : أنا حوت يونس يا سيّدي ، قال : ايتينا بالخبر ، قالت : يا سيدي إنّ الله لم يبعث نبيّا من آدم عليه‌السلام على نبيّنا وآله وعليه‌السلام إلى أن صار جدّك محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا وقد عرضت عليه ولايتكم أهل البيت فمن قبلها من الأنبياء سلم وتخلّص ، ومن توقّف عنها وتمنّع في حملها لقي ما لقي ، فمن ذلك ما لقي آدم من المعصية ، وما لقي نوح من الغرق ، وما لقي إبراهيم من النار ، وما لقي يوسف من الجبّ ، وما لقي أيوب من البلاء ، وما لقي داود من الخطيئة ، إلى أن بعث الله تعالى يونس فأوحى الله تعالى إليه : أن يا يونس تولّ أمير المؤمنين عليه‌السلام والأئمّة الراشدين من صلبه عليهم‌السلام في كلام ، قال : وكيف أتولّى من لم أره ولم أعرفه وذهب مغاضبا فأوحى الله تعالى إلىّ : أن القمي يونس ، ولا توهني له عظما ، فمكث في بطني أربعين صباحا يطوف معي في البحار في ظلمات ثلاث ينادي : لا اله الّا أنت سبحانك إنّى كنت من الظالمين ، قد قبلت ولاية علي بن أبي طالب والائمّة الراشدين من ولده صلوات الله عليهم أجمعين ، فلمّا آمن بولايتكم أمرنى ربّي فقذفته على

٦٢٧

ساحل البحر فقال زين العابدين عليه‌السلام : إرجع أيّها الحوت إلى وكرك (١) واستوى الماء (٢). الخبر.

إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة على عرض ولايتهم على جميع الأنبياء والأوصياء والأمم ، بل وجميع الملئكة من العالين والكروبيّين والمقرّبين وغيرهم ، بل على جميع السموات والأرض والنّجوم والعناصر والمياه والجبال وغيرها من الجواهر والاعراض ، فمن قبلها منها سعد ، وطاب ، وصفي ، ومن أنكرها أو تأمّل فيها أو لم يقم بوظائفها أو لم يحفظ حدودها أو قصر عن نيل مقام الإذعان والتصديق والإعتقاد بتفاصيلها شقي أو خبث أو ابتلى بالبلايا والرزايا على المراتب الّتي لا يحيط بها الكلام ، بل لعلّه لا يخطر تفاصيلها على الأفهام ، إلّا أنّ المقصود الإشارة إلى نوع المراد ليصل الطالب إلى سبيل الرشاد ، وذلك أنّ مقتضى ولايتهم الّتي هي من أشعّة أنوار كينوناتهم النورانيّة اللمعانيّة الّتي هي نفس مشيّة الله وإرادته ورحمته ومحبّته ورضاه وقربه وجواره أن يطاع الله ولا يعصى في ملكه أبدا بأن لا يقع في ملكه من كلّ مخلوق في جميع الأزمنة والأمكنة إلّا ما يوافق رضاه ومحبّته وإرادته ، لأنّ هذه صور أعمالهم وأفعالهم وأحوالهم وإرادتهم الفانية في إرادة الله سبحانه ، فلا يشاؤن إلّا ما يشاء الله ، لاندكاك جبل إنيّاتهم ، فهم كالميّت بين يدي الغسّال ، وقلبهم بين إصبعين من أصابع الرحمن ، بل لا فرق بينه وبينهم إلّا أنّهم عباده وخلقه ، فمن أشرق عليه من أنوار ولايتهم الكونيّة في صقع الرحمة الرّحمانية بأن تذوّتت إنّيته وحقيقته من فاضل أشعّة أنوار أجسادهم على حسب الاختلاف ، ومراتب القرب والبعد في ذلك ترشّحت عليه فضفاض من رشحات

__________________

(١) الوكر : عش الطائر.

(٢) بحار الأنوار : ج ٤٦ / ٣٩ ـ ٤٠ عن المناقب لابن شهرآشوب ج ٤ ص ١٣٨.

٦٢٨

تجلّيات أنوار أجساد عباداتهم التي هي أفعالهم الشرعيّة في ناحية الرّحمة الرحيميّة ، وهم (الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) (١) فاستجابوا لله وللرسول ولوليّ الأمر من بعده فلمّا أجابوا خلقوا بصورة الإجابة على هيكل التوحيد الذي هو صبغة الله ، فيكون مبدؤه من النور ، إلى النور ، ومنقلبه في النور ، فيشرح الله صدره للإسلام بالطاعة التامّة العامّة لوليّ الأمر عليه‌السلام.

وامّا الّذين أنكروا بقلوبهم أو في مقام التفصيل بعد ما أقرّوا بألسنتهم في مقام الإجمال فخلقهم الله من الظلمة الّتي هي حقيقة الإنكار وولاية الجبت والطاغوت فبانكارهم خلقوا من الظلمة ، ولو أقرّوا لخلقوا من النور حين اقرّوا ولكنهم أنكروا فخرجوا عن ولاية أولياء الله الّتي هي مطرح أشعّة أنوار الإيمان إلى ولاية أعدائه الّتي هي بحر الظلمة ، ودار النقمة المخلوقة من جهة المقابلة ، فإنّ الله تعالى خلق النور وخلق الظلمة فالمؤمن بحسن اختياره بأفعاله خلق من النور ، والمنافق بسوء إختياره وقبح أفعاله خلق من الظلمة المخلوقة من الظلم ، إنّ الله لا يظلم الناس شيئا ولكنّ الناس أنفسهم يظلمون.

نقد وتحصيل

لعلّك بعد التأمل فيما ذكرناه ينكشف لك النقاب عن وجوه الأخبار الواردة في الباب فإنّك قد عرفت أنّ معرفتهم ومحبّتهم وإطاعتهم هي الطريق المستقيم للخلق إلى الخالق بشرط أن يكون عدلا متوسطا بين الغلو والتقصير ، فإنّ ذلك هو مقتضى ولايتهم دون غيره كما أنّ مقتضاها الاعتدال والتوسط في جميع الأحوال والأخلاق الّتي قد سمعت أنّ فضائلها هي الأوساط المتوسطة بين طرفي الأضداد

__________________

(١) فصّلت : ٣٠.

٦٢٩

الّتي هي الرذائل الواقعة في طريق الإفراط والتفريط فبعد تحقّق ذلك كلّه يحصل حقيقة الإيمان بجميع حدوده وشرائطه ومراتبه ، ولذا فسّر الإيمان في قوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) (١) بالولاية في أخبار كثيرة بل من طرق العامة أيضا كما فسّر بها أيضا والثلاثة بالثلاثة في قوله : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ ، وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) (٢) فلا إيمان الّا بالولاية ومعها ، بل هي هو وهو هي ، ولا تنال الشفاعة فاقدا لها.

ولذا ورد في النبوي من طرق الخاصة والعامة : حبّ علىّ حسنة لا تضرّ معها سيّئة وبغض علىّ سيّئة لا ينفع معها حسنة (٣).

فالتصديق بالولاية كاشف عن التصديق بالنّبوة كما أنّ التصديق بالنبوّة كاشف عن التصديق بالتوحيد ، بمعنى أن كلّا منها مصحّح ومتمّم لسابقه وكاشف عن صحّته ووقوعه بل إذا وقع السابق على الوجه المرضي المأمور به لحقه المتأخر لا محالة وإلّا لم يكن السابق أصلا بمعنى أنّه لم يتحقّق.

ولذا لا يعدّ اليهود والنصارى من أهل التوحيد ولو عدّوا فلا ينفعهم توحيدهم ، كما لا ينفع أهل السنّة تصديقهم الظاهري بالشهادتين ، فإنّ هذا كلّه من شعب التصديق الظاهري الأوّلى في عالم الذّات قبل الابتلاء والتمحيص ، وليس منه في القلب أثر ، ولذا ينتفى بل ينقلب كفرا بالامتحان ليميز الله الخبيث من الطّيب ، وكذا الّذين قالوا آمنّا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، فإن الإيمان الظاهري البدني تتبعه الأحكام الظاهريّة البدنيّة ، والإيمان الحقيقي القلبي تتبعه الأحكام الواقعة المعنوية الحقيقية.

ولذا قال السيّد السّجاد في دعائه الذي رواه الثمالي : أللهم إنّ قوما امنوا

__________________

(١) المائدة : ٥.

(٢) الحجرات : ٧.

(٣) ينابيع المودة ج ١ ص ٢٧٠ عن المناقب للخوارزمي ص ٧٦ ح ٥٦.

٦٣٠

بلسانهم ليحقنوا به دمائهم فأدركوا ما أمّلوا وإنّا آمنّا بألسنتنا وقلوبنا لتعفو عنّا فأدركنا ما أمّلنا.

ثمّ انّ هذا الإيمان الجامع للحدود الظاهرية والحقائق الواقعيّة من الإعتقادات والنيات والأخلاق والأعمال وغيرها من الشرائع التكوينيّة والتكوينيّات الشّرعيّة هو الطريق الأقرب للسّالكين الى الله والوافدين عليه ، وهو بمنزلة الخطّ المستقيم الذي هو أقصر الخطوط الواصلة بين النهايتين وان كان سبحانه يجلّ عن اكتناه الحدود والأطراف والنهايات (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (١).

بل قد انتهى المخلوق إلى مثله وألجأه الطلب إلى شكله ، فهو طريق إلى قربه وجواره ، بل هو طريق إلى حقيقة العبد وهي العبوديّة الّتي كنهها الربوبيّة فإنّ الطريق إلى الله مسدود ، والطلب مردود ، ولا يتجاوز الممكن مقام نفسه (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (٢) وخلق الله الخلق حجاب بينه وبينهم ، ولا يرتفع الحجاب إلّا بفتح الباب ، وسدّ الأبواب (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٣) فلا ينصبغ العبد بصبغة الله ولا يتخلق بأخلاقه ما دام فيه تلوّن من عقله ونفسه الناطقة فضلا عن الأرواح الحيوانيّة والسبعية والبهيمية والشيطانيّة والجسمانيّة فاذا استسلم وتعلّم كلب الكهف باسطا ذراعيه فنائه كان لون الماء لون إنائه فيقلبهم الله ذات اليمين وذات الشمال ، ويصير العبد بحقيقة مرآة مجلوّة لإشراق أشعة أنوار الجلال والجمال ، وهذا هو الطريق الموصل إلى قرب الحقّ وجواره الذي هو صورة ولاية مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام في الدنيا بل متفرّع من هيئات أعماله وأفعاله وآثاره ، بل مقتبس من إشراق أشعّة أنواره ، وهو الذي يتجوهر في يوم القيمة الذي تبلى فيه السرائر ، وتنكشف الضمائر ، فيكون على صورة الصراط جسرا ممدودا على متن

__________________

(١) البقرة : ١١٥.

(٢) الحديد : ٤.

(٣) يوسف : ٣٩.

٦٣١

جهنّم الذي هو تجوهر البعد عن ساحة قربه سبحانه للاشتغال بالهواجس النفسانيّة والانغماس في الكدورات الظلمانية والاستغراق في الغواسق البدنية ولذا يكون في تجوهره أدقّ من الشعر وأحدّ من السيف والنّاس يمرّون عليه على طبقات فمنهم من يمرّ مثل البرق أو عدو الفرس ، أو المشي أو متعلقا بيديه قد تأخذ النار منه شيئا وتترك شيئا أو على الصدر إلى غير ذلك من الطبقات والمراتب الّتي يشاهد مثلها في هذا العالم في سلوك الدين المبين والاهتداء بشريعة سيّد المرسلين فمنهم الذين استسهلوا ما استوعره المترفون بل انخمدت نار طبيعتهم ، وفنوا عن إنيّتهم فتمتّعوا بلذيذ مناجاته ، وحملوا في سفن نجاته وأوردوا حياض حبّه وأذيقوا حلاوة ودّه وقربه ، ومنهم غير ذلك إلى أخر المراتب.

ولذا ورد فيما رويناه سابقا عن تفسير المقاتل أنّه يجعله الله على المؤمنين عريضا وعلى المذنبين دقيقا.

وفي النبوي على ما رواه بعض الأجلّة مرسلا أن الصراط يظهر يوم القيمة للأبصار على قدر نور المارّين عليه ، فيكون دقيقا في حقّ بعض ، وجليلا في حقّ آخرين.

قيل : ويصدّقه قوله تعالى : (نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) (١).

نعم ربما تقول في معنى كونه أدقّ من الشعر وأحد من السيف أنّ كمال الإنسان في سلوكه إلى الحق منوط باستكمال قوّتيه ، أمّا العلميّة فبحسب إصابة الحقّ في الأنظار الدقيقة الّتي هي أدقّ من الشعر في المعالم الالهية وامّا العمليّة فبحسب قوّة الشهوية والغضبيّة والفكرية في الأعمال لتحصيل ملكة العدالة وهي أحدّ من السيف فللصراط المستقيم وجهان : أحدهما أحدّ من السيف من وقف عليه شقّه فيشقّ قدم من مشى أو وقف عليه لحدّته ودقّته وصعوبة الثبات واجتماع

__________________

(١) التحريم : ٨.

٦٣٢

المشاعر عليه ، بل أكثر من يمرّ عليه تتفرق مشاعره وحواسّه الظاهرة والباطنة ، بل يفترق بالعبور عنه كلّ من الحقّ والباطل عن الآخر ليميز الله الخبيث من الطّيب.

وثانيهما أدقّ من الشعر لشدّة اضطرابه بالسائر عليه فلا يزال يمرّ ويضطرب ولا يثبت عليه إلّا من ثبّته الله بالقول الثابت في الحيوة الدنيا وفي الآخرة.

والوقوف على الأوّل يوجب القطع والفصل أي تفريق الإدراك والعمل ، حيث لا يقدر السائر على تخليص الحقّ عن شائبة الباطل ، ولا على إخلاص العمل عن شائبة الشرك والأغراض الباطلة ، فيكون النظر والعمل شقّين لأنّه أحد من السيف فيشق القدم العابر به عن بصيرة النظر ونية العمل ، ولكن الإنصاف أنّ هذا كلّه كغيره ممّا في «شواهد الربوبيّة» و «العرشية» وغيرهما تكلّف مستغن عنه ، بل وكذا ما في شرح الثاني (١) للعارف الصمداني نظرا إلى أنّ المقصود من التشبيه تصوير دقّته وشدّة صعوبة العبور عليه ، وليس كلّ من الوصفين نعتا لوجه دون الآخر ، بل ليس له وجهان متغايران من حيث الاقتضاء والحكم ، فإنّه أمر وحداني معنوي أو صوري حسب ما سمعت من أنّه صورة ولاية مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام.

نعم ربما يستشكل في المقام بأنّ نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وطريقته وولايته التي هي باطن النبوة بل نبوّته الّتي هي حقيقة الولاية أقوم وأتمّ وأكمل وأجمل من ولاية مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام فإنّه عبد من عبيده ، ولذا كنّي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأبي القاسم حيث إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان أبو أمّته الذين كان واحدا منهم وهو وصيّه وخليفته قسيم الجنّة والنار ، كما ورد التصريح به في بعض الأخبار ، وعلى هذا فما السبب في تفسير الصراط بولاية مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام وإضافته إليه دون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما في الأخبار المتقدّمة المرويّة من طريق الخاصّة والعامة.

والجواب ما أشرنا اليه سابقا من أنّ الولاية ولاية واحدة ، وهي قوله : (قُلْ

__________________

(١) مراده شرح العرشية في المبدأ والمعاد تصنيف المولى صدر الدين الشيرازي المتوفى (١٠٥٠) ه للشيخ احمد بن زين الدين الاحسائى المتوفى (١٢٤٣).

٦٣٣

إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) (١) ، فمرّة تضاف إلى الله ، ومرّة إلى رسوله ، وأخرى إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ولذا قال (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) (٢) ، وقال : (هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ) (٣).

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : من كنت مولاه فعلى مولاه (٤).

لكن لمّا كان الكاشف الحقّ عن ولايته سبحانه التصديق بنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن التصديق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولاية ولاة الأمر من بعده ، فولايتهم ولاية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وولاية النبي ولاية الله ، والآخذ بحجزتهم آخذ بحجزة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والآخذ بحجزة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله آخذ بحجزة الله سبحانه كما في الاخبار الكثيرة (٥).

بل فيما قدمناه عن «تفسير فرات» أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أتاه جبرئيل فقال : أبشرك يا محمّد بما تجوز على الصراط قال : قلت بلى قال تجوز بنور الله ويجوز عليّ بنورك ونورك من نور الله ، وتجوز أمّتك بنور علىّ ، ونور عليّ من نورك ، ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور (٦).

ولذا فسّر الصراط في كثير من الأخبار المتقدّمة بصراط محمّد وآله ، فنورهم واحد ، وصراطهم واحد ، وسبيلهم واحد ، وطريقتهم واحدة ، ألا إنّ الناس لم يختلفوا في الله ولا في رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّما اختلفوا في مولينا أمير المؤمنين ، فبولايته يسلك إلى الرضوان ، وعلى من جحد ولايته غضب الرحمن ، فهو والأئمّة الطاهرة من ذريته أبوابه وسبله جعلهم الله ائمّة وسطا ليكونوا

__________________

(١) سبأ : ٤٦.

(٢) المائدة : ٥٥.

(٣) الكهف : ٤٤.

(٤) الإصابة ج ١ ص ٥٧٧ وعنه ينابيع المودة ج ١ ص ١٠٨.

(٥) بحار الأنوار : ج ٦٨ ص ١٣٤.

(٦) تفسير فرات ص ٢٨٧ ح ٣٨٧ ـ والآية من سورة النور : ٤٠.

٦٣٤

شهداء على الناس ويكون الرسول شهيدا عليهم (١).

فالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يدعو الناس إلى ولايتهم ، وهم يدعون الناس إلى ولايته ، قال الله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢).

عن القمى قال عليه‌السلام يعنى إنك لتأمر بولاية علىّ وتدعو إليها ، وعلىّ هو الصراط المستقيم ، (صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (٣) قال : يعنى عليّا إنّه جعله خازنه على ما في السموات وما في الأرض من شيء ، وائتمنه عليه (٤).

وقال سبحانه : (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) القمي قال عليه‌السلام إلى ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام (٥).

(وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) (٦) : القمى قال عليه‌السلام : عن الإمام لحائدون (٧).

ويؤيّده ما في «الكافي» عن الصادق عليه‌السلام قال : قال أمير المؤمنين عليه الصلوة والسلام ان الله تبارك وتعالى لو شاء لعرّف العباد نفسه لكن جعلنا أبوابه ، وصراطه ، وسبيله ، والوجه الّذى يؤتى منه ، فمن عدل عن ولايتنا أو فضّل علينا غيرنا فإنّهم عن الصراط لناكبون (٨).

هذا لكن الشيخ الأكبر الأمجد عطر الله مرقده استشعر في «شرحه للعرشية»

__________________

(١) نقل بالمعنى من سورة البقرة آية : ١٤٣.

(٢) الشورى : ٥٢.

(٣) الشورى : ٥٣.

(٤) تفسير القمى ج ٢ / ٢٨٠.

(٥) تفسير القمى ج ٢ / ٩٢.

(٦) المؤمنون : ٧٤.

(٧) تفسير القمى ج ٢ / ٩٢.

(٨) بحار الأنوار ج ٢٤ ص ٢٥٣ عن بصائر الدرجات ص ١٤٦.

٦٣٥

لهذا الإشكال في شرح قول الملّا صدرا : وأتمّ الصراطات المستقيمة نفس أمير المؤمنين عليه‌السلام ثمّ نفوس أولاده المقدسين ، فقال : إنّه يحتمل وجوها حيث لم يذكر نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع أنها أتمّ من نفس أمير المؤمنين ، ونفوس ذريته المعصومين :

الاول أنّه ورد أنّ الصراط المستقيم أمير المؤمنين وأهل بيته الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين ، فاستطرد عند ذكره ووصفه بالصراط المستقيم تفسير الصراط المطلق المشتمل على المستقيم وغيره ، وبيّن أنّ نفسه ونفوس أولاده المعصومين عليهم‌السلام أتمّ الصراطات المذكورة لأنّ المذكور هنا هو وأولاده عليهم‌السلام ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يذكر في الموصوفين بالصراط المستقيم وإن كان فسّر مطلق الصراط لأنّ الموجب لذكر المطلق هو ذكره بالصراط المستقيم قال قدس‌سره : ولعل المصنّف يرد غير هذا الوجه.

الثاني أنه عليه‌السلام هو المشتهر بالولاية والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله اشتهر بالنبوة ، والولاية فسّرت بالصراط المستقيم دون النبوة.

الثالث : أنّ نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هي الغاية التي الصراطات كلّها تؤدي إليها لما دلّت عليه الأدلّة النقلية والعقلية فردّه ومصيره إلى الله تعالى ، وقد دلّت الأدلة عقلا ونقلا على أن الردّ إلى الله والرجوع والمصير إليه هو الردّ والرجوع والمصير إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الدنيا والاخرة ، لأنّ الحوادث لا تنتهي إلّا إلى مثلها كما قال مولينا أمير المؤمنين : انتهى المخلوق الى مثله وألجأه الطلب إلى شكله.

وقوله عليه‌السلام في شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبته يوم الجمعة والغدير قال : أقامه في سائر عالمه مقامه في الأداء إذ كان لا تدركه الأبصار ولا تحويه خواطر الأفكار (١).

ثمّ قال : وإذا قطعنا النظر من كلام المصنّف وعن مراده فلك أن تعتبر الوجه الثالث لأنّه الجاري على تفسير باطن الباطن وبيان السرّ المقنع بالسرّ ولك أن تفسّر

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩٧ / ١١٣.

٦٣٦

الصراطات المطلقة يعنى الشاملة لكلّ أحد فان قلت أكملها تعينت نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن قلت أتمّها فكما قال المصنف ، ولك أن تستعمل أتمّ بصيغة التفضيل المطلق ، فتقول أتمّها نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتلك الأتميّة الحقيقة ، وإن أردت الأتمّية الإضافية فكما قال المصنف ، انتهى كلامه زيد مقامه.

لكن لا يخفى أنّ كلامه في تعدّد الصراطات في المقام جار على منوال ما ذكره الملا صدرا من أنّ كلّ نفس صراط إلى الآخرة بوجه كما أنّها سالكة أيضا بوجه ، فالمتحرّك والمسافة شيء واحد بالذات ، متغايرة بالاعتبار ، فالنفوس صراطات إلى العاقبة بعضها مستقيمة ، وبعضها منحرفة ، وبعضها منكوسة ، والمستقيمة بعضها واقفة ، ومعطّلة ، والواصلة بعضها سريعة ، وبعضها بطيئة إلى غير ذلك ممّا ذكره في «عرشيته» و «شواهده» وأسفاره ، وتفسيره وغيرها من كتبه الّتي بنى الأمر فيها على الحركات الجوهريّة والانتقالات النفسانية في نشاة ذاتية حسب ما أشرنا سابقا إليها وإلى التأمل فيها.

بل ينبغي التأمل أيضا في بعض ما حكيناه في المقام فإنّ الوجه الأول والثاني لا يحسمان مادّة الإشكال ، بل لعلّهما سيّما الثاني أقرب إلى المصادرة ، وعلى كلّ حال فلعل الوجه ما ذكرناه اوّلا.

ثمّ انّه لما كانت الطّرق إلى الله كثيرة بعدد نفوس الخلائق ، بل بعدد أنفاسهم وإن اختلفت في الاستقامة وسرعة الوصول وشرف القبول ، وغيرها بين الصراط المطلوب المسئول ، بعد توصيفه بالاستقامة المطلقة الجامعة المجملة ، تأكيدا بل تكريرا للسؤال وتفصيلا بعد الإجمال فأبدل عنه قوله : صراط الذين أنعمت عليهم بدل الكلّ الّذى هو بمنزلة تكرير العامل فيه ، ولذا ذهب الأخفش ، والزمخشري ، وأكثر المتأخرين على ما قيل إلى أنّ العامل في البدل مقدّر من جنس المذكور ، نظرا إلى أنّه وإن عدّ من التوابع إلّا أنّه مستقلّ برأسه مقصود بالحكم ولذا لم يشترط مطابقته للمبدل منه تعريفا وتنكيرا ، ومقتضى ذلك أن يكون عامله أيضا مستقلا

٦٣٧

على حدة ، لا عاملا في شيء قبله ، غاية الأمر أنّه لدلالة سابقه عليه اطّرد حذفه عن الكلام فيقدّر كما يقدّر الفعل بدلالة اللّاحق في مثل قوله : (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) (١).

لكن قد يقال : إنّ هذا الدليل بعينه استدلّ به أصحاب القول الآخر الذي هو أنّ العامل فيه هو العامل في المبدل منه كغيره من التوابع الّتي عدّ واحدا منها بل قيل : إنه ألصق بمدّعيهم حيث إنّهم قالوا : استقلال البدل ، وكونه هو المقصود بالنسبة يؤذنان بأنّ العامل فيه هو الأوّل لا مقدّر آخر ، إذا المتبوع كالساقط ، فكأنّ العامل لم يعمل في الأوّل ولم يباشر أصلا.

وشيخنا الطبرسي قدس‌سره جعله صفة للصراط المستقيم قال : ويجوز أن يكون بدلا عنه ، والفصل بين الصفة والبدل أنّ في تقدير تكرير العامل بدلالة تكرير حرف الجرّ في قوله : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) (٢) وليس كذلك الصفة فكما أعيدت اللام الجارّة في الاسم ، فكذلك العامل الرافع أو الناصب في تقدير التكرير فكأنّه قال : اهدنا صراط الذين ، وليس يخرج البدل وإن كان كذلك عن أن يكون فيه تبيين للأوّل كما أنّ الصفة كذلك ولهذا لم يجز سيبويه بي المسكين كان الأمر ولا بك المسكين كما أجاز ذلك في الغايب نحو مررت به المسكين (٣).

قلت : أمّا جعله صفة فبعيد جدّا سيّما مع التكرير ، ولذا جعلوا ناصية في قوله : (بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ) (٤) بدلا لا نعتا بل هو قد صرّح به كغيره مع أنّ في عبارته تسامحا في جعل الموصوف الوصف مع الموصوف ، وأمّا ما ذكره في الفرق

__________________

(١) الانشقاق : ١.

(٢) الأعراف : ٧٥.

(٣) مجمع البيان ج ١ ص ٢٩.

(٤) العلق : ١٦.

٦٣٨

بين الصفة والبدل فهو مبنيّ على اعتبار تكرير العامل في البدل نظرا إلى ما سمعت ضعفه وإلى ما ذكره من تكرير الجارّة في الآية وفي قوله : (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ) (١).

وفيه أنّ الجارّ والمجرور بدل من الجار والمجرور ، والعامل وهو الفعل في الموضعين غير مكرّر كما صرّح به الشيخ الرضيّ رضي الله عنه.

بل أورد على نفسه أنّه لو لم يكن المجرور وحده بدلا من المجرور لم يسمّ هذا بدل الاشتمال ، لأنّ الجارّ والمجرور ليس بمشتمل على الجار والمجرور بل البيت مشتمل على الكافر ، كما أن من آمن بعض الذين استضعفوا.

وأجاب بأنّه لمّا لم يحصل من اللام فائدة إلّا التأكيد جاز لهم أن يجعلوه كالعدم ، ويسمّوه بدل الاشتمال نظرا إلى المجرور ، ولا يكرّر في اللفظ في البدل من العوامل إلّا حرف الجرّ لكونه كبعض حروف المجرور.

وبالجملة الأظهر في البدل بل في سائر التوابع وفاقا للاكثر أنّ العامل فيها هو العامل في المتبوع ، لأنّ المنسوب إلى المتبوع في قصد المتكلم منسوب إليه مع تابعه ولذا قالوا : إنّ الفعل لا يرفع أزيد من واحد بالأصالة إخراجا للتبعيّة.

هذا مضافا إلى ضعف القولين الآخرين فيها وهو تقدير العامل كما سمعت أو كونه معنويا كما في المبتدأ ، وهو المحكي عن الأخفش لكونهما على خلاف الأصل ، والظاهر سيّما مع شذوذ الثاني.

وامّا ما ذكره الإمام عليه‌السلام في المقام تفسيرا للآية من قوله : أي قولوا : صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك (٢) ... آه.

فلا دلالة على التقدير بل هو مبني على ما ذكروه من أنّ المبدل منه في درجة السقوط وإن كان الحقّ فيه أنّه ليس على وجه الكلّية أيضا لكونه المرجع

__________________

(١) الزخرف : ٣٣.

(٢) كنز الدقائق ج ١ ص ٧٥ عن معاني الأخبار ص ٣٢ ح ٩.

٦٣٩

لضمير البدل أحيانا.

وعلى كلّ حال ففائدة البدل مطلقا وإن كان تأكيدا لحكم بتكرير ذكر المنسوب اليه ، وتكرير النسبة تقديرا أو اعتبارا إلّا أنّه يفيد في المقام مضافا إليه الإشعار بأنّ استقامة الصراط إنّما هو بكونه محصورا بين المنعم والمنعم عليهم ، وإن كان المخلوق إنّما ينتهي إلى مثله ، لأنّ الطلب إنّما يلجئه إلى شكله ، وانّ الصراط المستقيم نعمة منه سبحانه لا من غيره ، وأنّ في سلوكه اشتياقا لنفوس المشتاقين وابتهاجا لأرواح السالكين بسبب مرافقة تلك الأرواح القدسيّة والأشباح الإنسيّة (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً) (١).

بل قد يقال : إنّه بدل البعض من الكل طلبا لا قرب السبل ، فإنّ المستقيم وإن أفاد تخصيص الصراط بإخراج الطرق المعوجة الّتي لا يزيد سالكها إلّا بعدا من الله إلّا أنّه يشمل بعد ذلك طريق المقرّبين وأصحاب اليمين ، بل يشمل الفرق الثالث الذين أورثهم الله كتابه (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ) (٢).

وطرق الجميع وإن كانت مشتركة في الانتهاء إلى الله لاشتراكها في المنتهى ، إلّا أنّها مختلفة في المبدأ قربا وبعدا ، بل في نفس المسلك وكيفيّة السلوك أيضا فإنّ بعضهم يتوجّهون إلى الله بأبدان الأعمال ، وآخرون بأرواحها الّتي هي نفس التوجّه والإقبال ، ولذا قيل : إنّ الآية متضمّنة لجملة من السؤال والجواب ، فكأنّ لسان الربوبية لمّا قال العبد : اهدنا الصراط ، سأله أيّ الصراط فإنّ الطرق كثيرة فيجيبه لسان العبوديّة باستدعاء الصراط المستقيم ثمّ خاطبه ثانيا بأنّ الطرق المستقيمة أيضا كثيرة مختلفة لا في نفسها فإنّ المستقيم الواصل بين النهايتين لا يزيد على

__________________

(١) النساء : ٦٩.

(٢) فاطر : ٣٢.

٦٤٠