تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-73-8
الصفحات: ٧٤٨

كما روي في «الكافي» عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «خلق الله المشيئة بنفسها ، ثم خلق الأشياء بالمشيئة» (١).

وهذه هي المشية التدوينية التي تطابق المشية التكوينية ، بل هي هي بعينها ، نزلت من جبروت الحقيقة إلى ناسوت الحروف ، فهي مادة المواد ، وحقيقة الحقائق ، والواحد البسيط في الممكنات والموجودات واسطقش الأسطقسات ومنها ظهرت الموجودات كما في الخبر النبوي المتقدم.

وهي القطب الذي تدور رحى الكائنات ، وإليه الإشارة في الخطبة الشقشقية بقوله : «وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى».

أي من الخلافة المطلقة الكلية التكوينية والتشريعية ، ولذا عقبه بقوله :

«ينحدر عني السيل ولا يرقى إلى الطير» (٢).

فهي القطب الأعظم والعماد الأقوم ، وإليها الإشارة بقوله تعالى :

(وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (٣).

ولله در من قال :

قد طاشت النقطة في الدائرة

ولم تزل في ذاتها حائرة

محجوبة الإدراك عنها بها

منها لها جارحة ناظرة

سمت على الأسماء حتى لقد

قومّت الدنيا على الآخرة

ومما مر ظهر سر ما في الخبر من ظهور الموجودات بها ومنها ، فإن المشية الكلية هي الوجود المطلق المفاض من الوجود الحق ، فإن الوجود ثلاثة :

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤ / ١٤٥ ، ح ٢٠ عن «التوحيد» للصدوق.

(٢) نهج البلاغة : الخطبة الثالثة.

(٣) البقرة : ١٤٣.

١٢١

الوجود الحق.

والوجود المطلق.

والوجود المقيد.

والأول : هو المجهول المطلق الذي لا سبيل إلى معرفته بوجه من الوجوه ، من اسم أو رسم ، أو نعت ، أو وصف ، أو إضافة ، أو جهة ، أو غير ذلك من السبحات والإضافات ، فإن إلى ربك المنتهى ، وفي النبوي : «إذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا» (١).

وعن الباقر عليه‌السلام : «كل ما ميزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مخلوق مثلكم مردود إليكم ...» الخبر (٢).

والوجود المطلق هو المحبة الكلية ، والمشيئة الإلهية ، والإبداع الأول والنور الذي أشرق من صبح الأزل.

إلى غير ذلك من ألقابه الشريفة ، وهو المعبّر عنه في المقام بالنقطة ، وباء بسم الله ، والحجاب الأعظم.

ولذا قال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : «بالباء عرفه العارفون ، وما من شيء إلا والباء مكتوبة عليه ، وهي الحجاب» (٣).

أما إنّ العارفين عرفوه بها فلأن المشيئة الكلية لها جهتان :

جهة بسيطة واحدة متوجهة نحو المبدأ الفيّاض ، وله المقام الإقبالي

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٣ / ٢٤٦ ، ح ٢٢ ، عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام.

(٢) شرح مسألة العلم لنصير الدين الطوسي : مسألة ١٥ / ، ص ٤٣ ، وجامع الأسرار للسيد حيدر الآملي : ص ١٤٢ ، نقلا عنه ، والقبسات للمحقق الداماد ك ص ٣٤٣ نقلا عن الطوسي أيضا.

(٣) مشارق أنوار اليقين : ص ٣٨.

١٢٢

الاستفاضي. وجهة متعددة بتعدّد الموجودات ، وله المقام الإدباري الإفاضي ، فإن لكل موجود من الموجودات وجها من المشية يعبّر عنه بالمشية الجزئية ، وهي ذاته وحقيقته وكنهه الذي يبقى بعد كشف جميع الصفات والسبحات والاعتبارات وهي كنه الذات ، وسر الارتباط كما لوحّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليه الإشارة بقوله في العقل :

«إنه ملك وله رؤوس بعدد الخلائق أجمعين من خلق ومن يخلق إلى يوم القيامة ، ولكل رأس وجه ، ولكل آدمي رأس من رؤوس العقل ...» الخبر (١).

فالعارف إذا قرع باب المعرفة ، وأراد الصعود إلى سرادق القدس ، وحريم حرم الأنس فليس له سبيل وطريق إلى الصعود إلّا من الطريق الذي نزل منه وذلك بكشف سبحات الجلال ، والتجرد والانخلاع عن غواشي جهات الأوصاف والأحوال ، بشرط اضمحلال الإنانيّة ، وهو المراد بسلب الإشارة في قوله :

«كشف سبحات الجلال من غير إشارة».

وإليه أشار القائل بقوله :

بيني وبينك (إنّي) ينازعني

فارفع بلطفك (إنّي) من البين

فإذا ارتفعت الإنيّة واضمحلت الهويّة ، ولم تبق سوى المشية الجزئية المتصلة بالكلية ، بل المنتهية إليها ، بل المتبدلّة بها لا بحقيقة التبدّل ، بل بمعنى أنه لم يبق سواها ، لأن الجزئي إذا ألقى جلبات المشخصات وتجرّد عن التقيد بالخصوصيات فهو الكلي بعينه لا من حيث إنّه كلي ، بل من حيث هو هو ، فتجلّى الحق سبحانه له به فيه ، كما قال مولانا على بن موسى الرضا عليهما آلاف التحيّة والثناء.

«بها تجلى صانعها للعقول» (٢).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١ / ٩٩ ، ح ١٤.

(٢) البحار ج ٤ ص ٢٣٠ من التوحيد ، والعيون.

١٢٣

وقال الشاعر :

إذا رام عاشقها نظرة

ولم يستطعها فمن لطفها

أعارته طرفا رآها به

فكان البصير بها طرفها

وأمّا كتابة الباء على كل شيء فلأن شمس المشيئة الكلية أشرقت على كل شيء فظهر بها كل شيء ، ولولاها لم يظهر شيء.

فكل جميل حسنه من جمالها

معار له بل حسن كل مليحة

وهذه الكتابة كتابة تكوينية إمكانية أو كونية بها ظهر كل ما دخل في صقع الإمكان أو الأكوان ، وهذه الكتابة أدلّ على المعنى المراد من مجرد النقش الذي هو من نهايات مراتب الوجود ، بل هي عين المكتوب والمكتوب فيه بلا مغايرة أصلا.

ثم اعلم أن من القواعد المصونة المكنونة في علم الحروف أنّ لكل كلمة من الكلمات وجها وقلبا ، فوجه الكلمة هو الحرف الأول وقلبها هو الحرف الوسط وعلى هذا المطلب دلالات وإشارات من الكتاب والسنة ، ولذا ورد في تفسير (بِسْمِ اللهِ) : الباء بهاء الله ، والسين سناء الله ، والميم مجد الله (١).

وعن الكاظم عليه‌السلام : «أما حم فهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في كتاب هود الذي أنزل عليه ، وهو كتاب منقوص الحروف» (٢).

وعن الحجة عجل الله فرجه الشريف في تفسير (كهيعص) : أن الكاف اسم كربلاء ، والهاء هلاك العترة ، والياء يزيد لعنه الله ، والعين عطش الحسين عليه‌السلام وعترته ، والصاد صبره» (٣).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الواردة في تفسير فواتح السور وغيرها ، بل

__________________

(١) الكافي : ج ١ / ١١٤ ، ح ١.

(٢) بحار الأنوار : ج ١٤ / ٨٧ ، ح ٢.

(٣) بحار الأنوار : ج ٩٢ / ٣٧٧ ، ح ٨ عن «إكمال الدين».

١٢٤

وقع ذلك كثيرا في رموز الحكماء وإشارات العلماء.

قال الشيخ الرئيس ابن سيناء (١) في قصيدته الروحية التي مطلعها :

إلى أن قال :

هبطت إليك من المحلّ الأرفع

ورقاء ذات تعزّز وتمنع

حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها

عن ميم مركزها بذات الأجرع

علقت بهاء ثاء الثقيل فأصبحت

بين المعالم والطلوع الخضع

الأبيات ...

ولذا يعبّرون عن علم الكيما بعلم الكاف.

وسمعت عن بعض الأعلام : أن مجنون ليلى ، وزيد المجنون ، أو بهلول العاقل لمّا اشتد عليهما أمر التقية كتبا إلى بعض الأئمة ، ولعله أبو محمد العسكري عليه‌السلام يسألانه بيان كيفية التخلص من كيد المخالفين ، فكتب عليه‌السلام على ظهر كتاب مجنون ليلى حرف العين هكذا : (ع) يشير به إلى العشق ، وعلى ظهر كتاب زيد المجنون حرف الجيم هكذا : (ج) إشارة إلى الأمر بالجنون ، فأظهر الأول الأول والثاني الثاني ، فاشتهرا بالأمرين ، حتى صارا أعجوبة للأعيان وأضحوكة للصبيان.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لابن عباس :

«كيف إذا ظلمت العيون العين؟

فقال له : يا مولاي كلمتني بهذا مرارا ولم أعلم معناه.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جوابه ما حاصله :

إنّ العين هو علي بن أبي طالب وعترته : والعيون هم الذين يعادونه ، وصرّح

__________________

(١) هو الحسين بن عبد الله بن الحسن الفيلسوف الطبيب المتوفى (٤٢٧) ه.

١٢٥

بأسماء بعضهم» (١).

إذا عرفت هذا فاعلم أنّ الباء إشارة إلى باب مدينة العلم والحكمة ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا مدينة العلم وعلي بابها» (٢).

وفي بعض الأخبار : «أنا مدينة الحكمة وعلي بابها ، فمن أراد الحكمة فليأتها من بابها» (٣).

وإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) (٤).

وقوله تعالى : (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ) (٥).

في حب أمير المؤمنين عليه الصلاة والسّلام حيث أظهروا الولاية ، وأضمروا العداوة ، لذا وصفهم برذيلة النفاق للذين آمنوا بألسنتهم وقلوبهم وعقائدهم وجوارحهم ، (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) (٦) فنسعى معكم بنور الولاية ويشملنا مواهب العناية والهداية (قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ) (٧) أي إلى الدنيا فإنها هي دار الزراعة والتجارة ، وموطن تحصيل المحبة والولاية ، ولذا أمروا سخرية واستهزاء

__________________

(١) في معاني الأخبار : ص ٣٨٧ ، ح ٢١ مسندا عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا ظلمت العيون العين كان قتل العين على يد الرابع من العيون فإذا كان ذلك استحق الخاذل له لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، فقيل له : يا رسول الله! ما العين وما العيون؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أما العين فأخي علي بن أبي طالب ، وأما العيون فأعداؤه ، رابعهم قاتله ظلما وعدوانا.

(٢) بحار الأنوار : ج ٤٠ / ٣٠٦.

(٣) البحار : ج ٦٩ / ٨١.

(٤) سورة البقرة : ١٨٩.

(٥) سورة الحديد : ١٣.

(٦) الحديد : ١٣.

(٧) الحديد : ١٣.

١٢٦

بالرجوع إلى الدنيا لالتماس نور الولاية (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) (١) مدينة العلم والحكمة ، وهو حقيقة النبوة التي ما رعوها حق رعايتها ، وما أجابوها حق إجابتها ، ولهذا السور باب وهو باب مدينة العلم ، وهو باب الأبواب وفصل الخطاب ، وصاحب المبدأ والمآب ، ومن عنده علم الكتاب وهو الذي إليه الإياب ، وعليه الحساب ، الملقب بأبي تراب ، باطنه لمحبيه الرحمة ، وظاهره لمبغضيه من قبله العذاب ، ولذا قال النبي صلى الله وآله في تفسير الآية : «أنا السور وعليّ الباب» (٢).

ثم إن مقتضي البابية هو التصرف والوساطة والولاية المطلقة في جميع الأمور التكوينية والتشريعية ، وفي جميع الفيوض والظاهرية بحيث لا يصل إلى ذرة من ذرأت وجود الشيء من الفيوض الإيجادية والإبقائية ، ومدد من الإمدادات الذاتية والصفاتية إلا بولايته ووساطته وإحاطته ، وهذا هو الذي أشير إليه في الحديث القدسي على ما قيل أنه من تتمة الخبر : «لولاك لما خلقت الأفلاك ، ولو لا علي لما خلقتك» (٣) أي لو لا علي لم يكن لمدينة علمك وحكمتك التي ينتفع بها جميع العالم حتى آدم ومن دونه باب ينتفع به منها.

ولذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا صاحب اللواء وفي تحتها آدم ومن دونه من الأنبياء ، وعليّ حاملها» (٤).

وإلى هذه الإحاطة والوساطة أشار الحجة عجل الله فرجه الشريف في الدعاء الرجبية بقوله : «أعضاء ، وأشهاد ، ومناة ، وأزواد ، وحفظة ، ورواد» (٥).

__________________

(١) الحديد : ١٣.

(٢) بحار الأنوار : ج ٧ / ٢٢٧ ، ح ١٤٨.

(٣) في بحار الأنوار : ج ١٥ / ٢٨ «لولاك لما خلقت الأفلاك» وفي ينابيع المودة : ج ١ / ٢٤ «لولاك لما خلقت الأفلاك» ، والجملة الثانية غير مذكورة فيهما.

(٤) ينابيع المودة : ج ٢ / ٢٦٣ ، ح ٧٣٧ و «علي حاملها» غير موجود فيه.

(٥) مصباح الكفعمي : ص ٥٢٤.

١٢٧

وفي «الكافي» عن محمد بن سنان قال : كنت عند أبي جعفر الثاني عليه‌السلام فأجريت اختلاف الشيعة ، فقال عليه‌السلام : «يا محمد إن الله تبارك وتعالى لم يزل متفردا بوحدانيته ، ثم خلق محمدا وعليا وفاطمة ، فمكثوا ألف دهر ، ثم خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها وأجرى طاعتهم عليا ، وفوض أمورها إليهم ، فهم يحلّون ما يشاءون ، ويحرّمون ما يشاءون ، ولن يشاءوا إلا أن يشاء الله تبارك وتعالى.

ثم قال : يا محمد! هذه الديانة التي من تقدمها مرق ومن تخلف عنها محق ، ومن لزمها لحق خذها إليك يا محمد» (١).

فالباء إشارة إلى باب مدينة العلم وبيت الحكمة وهو أول بيت وضع للناس ، ومن دخله كان آمنا.

ولذا قال الرضا عليه آلاف التحية والثناء : «إن الله سبحانه وتعالى يقول : لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني وجبت له الجنة ، ثم قال عليه‌السلام : بشرطها وشروطها وأنا من شروطها» (٢).

وإنما لم يكتف عليه‌السلام بذكر الشروط من الشرط مع وضوح شمول الجمع للمفرد ، للإشارة إلى ترتب المراتب ، وصيانة للأدب مع جده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإن الشرط إشارة إلى التصديق بنبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والشرائط إشارة إلى الإيمان بأوصيائه وكافة شريعته ولذا عدّ نفسه الشريفة من جملة الشروط لا الشرط.

وحيث إنّ الباء في «بسم الله ـ الباب الذي هو أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فالسين هو سيد المرسلين صلوات الله عليه وآله أجمعين ، كما قال [يس] على أن الياء للنداء».

وقال : سبحانه : (سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) (٣).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٥ / ١٩ ، ح ٢٩ عن أصول الكافي : ج ١ / ٤٤١.

(٢) شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني : ج ١ / ٢٣٨ في شرح خطبة (٢).

(٣) الصافات : ١٣٠.

١٢٨

وذلك لما نبّهت عليه في موضع آخر من أنّ السين من الحروف النورانية وهي نظير الألف في الترتيب الأبجدي ، والألف إشارة إلى الصادر الأوّل الذي هو مقام الفعل أي المشيئة الكلية ، أو المفعول المطلق ، أي العقل الكلي ، وهو على الوجهين نور محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا من جهة البساطة والوجه الإقبالي والاستفاضي الجبروتي فيتجلى في عالم الناسوت ، وفي الوجه الإدباري الإفاضي بصورة السين التي زبرها مطابق لبيّنتها تنبيها على أنه لا يشغله شأن الاستفاضة عن شأن الإفاضة ، وأنه في غاية الكمال والإستواء فيهما وأنه مظهر العدل الذي به قامت السماوات والأرض وهو أمر الله الفعلي الذي أشير إليه بقوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) (١) والمراد به نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما ورد في تفسير قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) (٢).

إن العدل هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والإحسان أمير المؤمنين عليه‌السلام ، والثلاثة الثلاثة أبو الدواهي وأبو الشرور والملاهي.

ومن ذاق من لذائذ ثمار أسرار الحروف يعلم أن بيّنة (عدل) موافق لبيّنة (محمد) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ كل منهما اثنان وثلاثون ومائة.

هكذا : بيّنة (عدل) ي ـ ن ـ أ ـ ل ـ أ ـ م

١٠ ٥٠ ١ ٣٠ ١ ٤٠

وبينة (محمد) ي ـ م ـ أ ـ ي ـ م ـ أ ـ ل

١٠ ٤٠ ١ ١٠ ٤٠ ١ ٣٠

__________________

(١) الروم : ٢٥.

(٢) النحل : ٩٠.

١٢٩

وأن زبر (إحسان) موافق لزبر (عليّ) بتشديد الياء ، إذ كل منهما مطابق لعدد ١٢٠.

وفي التعبير عن الأول بالبيّنة ، وعن الثاني بالزبر مع الإشارة إلى التقديم والترتيب في قوله تعالى : (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) (١) سرّ لطيف :

فإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدينة العلم وعلي بابها ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقام الإجمال والبطون ، والوصي عليه‌السلام في مقام التفصيل والظهور ، وإليه الإشارة بما تقدم من قوله تعالى :

(فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) (٢). أي من تقابله وعداوته.

ومن هنا يظهر سر ما رواه في «الكافي» عن الصادق عليه‌السلام قال : «أكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، من أجود كتابتك ، ولا تمد الباء حتى ترفع السين» (٣).

أي لا تمد ولا تبسط ظل حقيقة الولاية ولا رحمة الفتوة على سرادق الأكوان في العالمين إلا بعد رفع السين الذي هو مقام النبوة المطلقة وباطن الولاية الكلية ، فإن الولي يشمل من النبي الذي هو رفيع الدرجات ، والولي متمم القابليات.

وإليه الإشارة بقوله عليه‌السلام : «الباء بها الله ، والسين سناء الله» (٤).

والبهاء هو النور ، والسناء الضياء ، والضياء أرفع من النور ، لأن النور يستمد منه ، (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً).

فاعلم أنه روى الشيخ أبو جعفر ابن بابويه في كتاب «التوحيد» بإسناده عن الصادق عليه‌السلام أنه سئل عن تفسير (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، فقال : «الباء بهاء الله ،

__________________

(١) آل عمران : ١٨٤ ، والنحل : ٤٤ ، وفاطر : ٢٥.

(٢) سورة الحديد : ١٣.

(٣) الكافي ج ٢ / ٢٧٦ ، ح ٢.

(٤) الكافي ج ١ / ١١٤ ، ح ١.

١٣٠

والسين سناء الله ، والميم ملك الله.

قال السائل : الله ، فقال : الألف : آلاء الله على خلقه والمنعم بولايتنا ، واللام إلزام خلقه ولايتنا.

قال : قلت : فالهاء؟ قال : هوان لمن خالف محمدا وآل محمد ، قال : قلت : الرحمن؟ قال : بجميع العالم ، قال : قلت : الرحيم؟ قال : بالمؤمنين ، وهم شيعة آل محمد خاصة» (١).

أقول : والمراد ببهاء الله ، جلاله الذي هو مقام القهر والغلبة والاستيلاء والتمنع ، والمراد بسناء الله جماله الذي هو مقام المحبة والمشاهدة والأنس وكل من إليها ، والسناء وإن كان كثيرا ما يطلق في الأخبار على ما يعم الآخر كالجمال والجلال ، لكنهما إذا اجتمعا افترقا ، ولما كان قلب الجمال محتويا على قلب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دل على الأنس والايتلاف بالميم التي هي كمال الأربعة الحاكية عن الشكل المربع المقرون بالاتحاد والائتلاف.

كما أن قلب الجلال لاحتوائه على قلب علي عليه‌السلام يدل على القهر والغلبة باللام التي هي كمال الثلاثة الحاكية عن الشكل المثلث ، وهو الشكل التفريق والتضاد والعناد.

ولله درّ ابن (٢) أبي الحديد المعتزلي حيث قال خطابا لمولاي ومولى العالمين أمير المؤمنين روحي له الفداء وعليه آلاف التحية والثناء :

صدمت قريشا والرماح شواجر

فقطعت من أرحامها ما تشجرا

فلو لا أناة في ابن عمك جعجعت

بعضبك أجرى من دم القوم أبحرا

__________________

(١) التوحيد ص ٢٣٠ وعنه كنز الدقائق ج ١ ص ٣٨.

(٢) هو عبد الحميد بن محمد بن محمد بن الحسين بن أبي الحديد المدائني توفي ببغداد سنة (٦٥٥) ه وهو معتزلي ومن تصانيفه شرحه على نهج البلاغة.

١٣١

ولكن سرّ الله شطران فيكما

فكنت لتسطو ثم كان ليغفرا

ولحفظ أدب البابية قدم السطوة على المغفرة ، كما قدم الباء على السين في البسملة ، هذا في القوس الصعودي وبالنسبة إلينا ، وأما في القوس النزولي فالنبوة مقدمة على الولاية بثمانين ألف سنة ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مظهر جلال القدرة ، وكان يطوف حول جلال العظمة ، والولي مظهر العظمة وكان يطوف حول جلال القدرة.

كما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما رواه في «البحار» عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه سأله عن أول ما خلق الله؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أول ما خلق الله نور بينك يا جابر كان يطوف حول جلال القدرة ثمانين ألف سنة فلمّا وصل إلى جلال العظمة خلق فيه نور علي عليه‌السلام ، فكان نوري يطوف حول جلال العظمة ونور علي يطوف حول جلال القدرة ...» الخبر (١).

وذلك لأن القدرة مقدمة على العظمة ، فإنّ أول ما يظهر من القادر هو قدرته التي يصدر بها جميع أفاعيله وآثاره وشؤونه ولذا كانت لها الاستطالة على كل شيء كما أشير إليه بقوله في دعاء السحر وغيره : «اللهم إني أسئلك من قدرتك بالقدرة التي استطلت بها على كل شيء وكل قدرتك مستطيلة».

وهذه هي الولاية المطلقة التي هي باطن النبوة لا الولاية التي تقابلها ، وهي الكلمة التي انزجر بها العمق الأكبر يعني الإمكان فضلا عن الأكوان ، وهي اليد التي في قبضتها السموات والأرض وملكوت كل شيء الآخذة بناصية كل دابة بل كل شيء.

وأما العظمة فهي مقام الكثرة والظهور ، وهي تحت القدرة إذ القدرة مقام الإجمال ، والعظمة مقام التفصيل ، والقدرة الأصل القديم والعظمة الفرع الكريم ،

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥٧ / ١١٧ وج ٢٥ / ٢٢ ، ح ٣٨.

١٣٢

والعظمة مظهر الإرادة ولذا يعبر عن الأولى بالكاف وعن الثانية بالنون ، واستدارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حول جلال القدرة استدارة ذاتية افتقارية استمدادية استفاضية على التوالي ، وهذه هو القدم الذي أشير إليه في الخطبة العلوية بقوله :

«وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، استخلصه في القدم على سائر الأمم على علم منه ، انفرد عن التشاكل والتماثل من أبناء الجنس ، وانتجبه آمرا وناهيا عنه ... إلخ» (١).

ولم يزل متحركا بالحركة المتوالية السريعة إلى أن قطع المنازل الثمانية التي هي الاستعداد والتمكن من الأسفار الأربعة في الغيب والشهادة ، وهي السفر من الخلق إلى الحق ، والسفر في الحق بالحق ، والسفر من الحق إلى الخلق ، والسفر في الخلق بالحق ، والمراد بالخلق نفسه لا غيره ، وإلّا فهو بعد لم ينزل إلى مقام غيره ، فهذه الأسفار الأربعة في مرتبتي الغيب والشهادة ثمانية تنتهي بكمال العدد وترقيه إلى ثمانين ، ولمّا كان مقامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينئذ مقام الربوبية إذ لا مربوب عينا لا ذكرا ، رجعت المراتب إلى الأيام الربوبية ، إذ (يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) (٢) ، فلذلك كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطوف حول جلال القدرة ثمانين ألف سنة ، فلمّا خصه سبحانه بمزيد الألطاف ، وتم ميقات هذا الطواف انتهى إلى أدنى درجات حجاب القدرة وهو أعلى مقامات حجاب العظمة ، فخلق منه نور علي عليه‌السلام ، كما قال عليه‌السلام : «أنا من محمد كالضوء من الضوء» (٣) ، وقال عليه‌السلام : «أنا عبد من عبيد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (٤).

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩٧ / ١١٣ ، ح ٨.

(٢) الحج : ٤٧.

(٣) جملة من كتابه عليه‌السلام إلى عثمان بن حنيف وفيه : أنا من رسول الله كالصنو عن الصنو ـ رقم ٤٥ من الكتب في نهج البلاغة.

(٤) لم أظفر على مصدر له.

١٣٣

فطواف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حركة إدبارية على خلاف التوالي للإفاضة والتربية ، وطواف أمير المؤمنين حول جلال القدرة حركة إقبالية على التوالي للاستفاضة ، فظهرت القدرة بالعظمة وظهرت العظمة بالملك المشار إليه بالميم في (بِسْمِ اللهِ) ، ولذا كانت أئمتنا صلوات الله عليهم أجمعين شهداء على الناس ، وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شهيدا عليهم ، كما قال تعالى فيهم : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (١).

وفي قراءة الأئمة عليهم‌السلام : أئمة وسطا (٢).

والناس يشمل جميع الأنام ، بل في تفسير الباطن يشمل كافة الموجودات ، وعامة الكائنات ، وجميع الذرات من الجمادات والنباتات ، والحيوانات ، والأمم السالفة مع أنبيائهم ، بل الملائكة المقربين والكروبيين ، والملائكة العالين.

وهذه الجملة مع تظافر الأخبار عليها مستفادة أيضا من بعض الآيات كقوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) (٣).

وقوله : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) (٤).

وقوله تعالى : (إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً).

وهذه الشهادة هي الشهادة المستفادة إثباتا لا نفيا من قوله :

(ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ

__________________

(١) البقرة : ١٤٣.

(٢) لم أظفر على هذه القراءة ، نعم في المقام روآيات عشر فسرت الأمة فيها بالأئمة عليهم‌السلام ، راجع تفسير البرهان : ج ١ / ١٥٩ وص ١٦٠ ، وتفسير نور الثقلين : ج ١ / ١٣٤ و ١٣٥.

(٣) الأنعام : ٣٨.

(٤) فاطر : ٢٤.

١٣٤

الْمُضِلِّينَ عَضُداً) (١).

ولذا وصفهم الحجة عجل الله فرجه في الدعاء الرجبية بقوله : «أشهاد وأعضاد».

فرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الحجة الشاهد المفيض عليهم ، وهم المستفيضون منه المستضيئون بنوره المفيضون على الخلائق أجمعين حتى الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين.

إيراد مقال لدفع إشكال

ولعلك تقول : قد تكاثرت الأخبار وتواتر الآثار على أن النبي والأئمة عليهم الصلاة والسّلام كانوا في أول الخلق نورا واحدا وأنه لا تفاضل بينهم في أصل الخلقة على وجه الحقيقة ، ولذا قالوا : «أولنا محمد ، وأوسطنا محمد ، وآخرنا محمد».

وفي «تأويل الآيات» بالإسناد عن الثمالي عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام ، قال : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّ الله تبارك وتعالى أحد واحد ، وتفرّد في وحدانيته ثم تكلّم بكلمة فصارت نورا ، ثم خلق من ذلك النور محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخلقني وذريتي ، ثم تكلّم بكلمة فصارت روحا فأسكنه الله في ذلك النور ، وأسكنه في أبداننا ، فنحن روح الله وكلماته ، وبنا احتجب عن خلقه» (٢).

وفيه عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : «إن الله تبارك وتعالى لما أراد أن

__________________

(١) الكهف : ٥١.

(٢) بحار الأنوار ج ١٥ / ٩ ، ح ١٠ «كنز» من كتاب الواحدة ، عن أبي محمد الحسن بن عبد الله؟؟؟؟؟

١٣٥

يخلقني خلقني نطفة بيضاء ، فأودعها صلب آدم ، فلم يزل ينقلها من صلب طاهر إلى رحم طاهر إلى نوح وإبراهيم ، ثم كذلك إلى عبد المطلب ، ثم افترقت تلك النطفة شطرين : إلى عبد الله وإلى أبي طالب فولدني أبي عبد الله ، فختم الله بي النبوة ، وولد عمي أبو طالب عليا ، فتمت به الوصية ، ثم اجتمعت النطفتان مني ومن علي وفاطمة فولدنا الجهر والجهيرة ، فختم الله بهما أسباط النبوة ...» الخبر (١).

وفيه : عن الشيخ أبي جعفر الطوسي بالإسناد عن الكاظم عليه‌السلام قال : إن الله تعالى خلق نور محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من نور اختراعه من نور عظمته وجلاله ، وكان ذلك النور محمدا فلما أراد أن يخلق محمدا منه قسم ذلك النور شطرين فخلق من الشطر الأول محمدا ومن الشطر الآخر علي بن أبي طالب صلوات الله عليهما ، ولم يخلق من ذلك النور غيرهما ، خلقهما الله بيده ، ونفخ فيهما بنفسه من نفسه لنفسه وصورهما على صورتهما ، وجعلهما أمناء له وشهداء على خلقه ، وخلفا على خليقته وعينا له عليهم ، ولسانا له إليهم ، وجعل أحدهما نفسه والآخر روحه ، لا يقوم واحد بغير صاحبه ، ظاهرهما بشريه وباطنهما لاهوتية ظهرا للخلق على هياكل الناسوتية حتى يطيقوا رؤيتهما ، وهو قوله :

(وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (٢).

فهما مقام رب العالمين ، وحجاب خالق الخلائق أجمعين ...» الخبر بطوله (٣).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالة عليه ، وفي الزيارة الجامعة : «وأشهد أنّ أرواحكم ونوركم وطينتكم واحدة ، طابت وطهرت ، بعضها من بعض ، خلقكم

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٢ / ١١١ ، ح ٧٦.

(٢) الأنعام : ٩.

(٣) بحار الأنوار : ج ٣٥ / ٢٨ ، ح ٢٤.

١٣٦

الله تعالى نورا فجعلكم بعرشه محدقين ، حتى منّ علينا بكم ، فجعلكم في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه».

وحاصل البحث أن يقال :

أولا : مقتضى الأخبار الكثيرة اتحاد نور نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أنوار الأئمة عليهم‌السلام اتحاد حقيقيا واقعيا بحيث لا مجال معه للقول بالفصل أو الفضل.

وثانيا : أنه قد يترائى من صريح بعض أهل العلم ، بل من فحاوي بعض الأخبار أيضا فضل الولاية المطلقة الكلية على النبوة ، ولا ريب أن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صاحب النبوة المطلقة وأن وصيه صاحب الولاية المطلقة ، وقضية ما سمعت تعكيس الأمر فكيف التوفيق؟

والجواب من الأول : أن لهم عليهم‌السلام مقامين :

أحدهما : مقام نسبهم إلى ما سواهم من المخلوقين ، وكلهم في هذه النسبة وهي معرفة الخلق لهم والإيمان بهم متحدون متساوون لا نفرق بين أحد منهم ، ونحن لهم مسلمون ، وعليه يحمل الأخبار الدالة على تساويهم في الخلقة والدرجة والمرتبة ، وإن أمرنا واحد ، وعلمنا واحد ، وحكمنا واحد ، ونورنا واحد.

روى الشيخ المفيد (١) بإسناده عن زيد الشحام قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أيهما أفضل الحسن أم الحسين؟

فقال عليه‌السلام :

«إنّ فضل أولنا يلحق بفضل آخرنا ، وفضل آخرنا يلحق بفضل أولنا ، وكل له فضل.

قال : قلت له : جعلت فداك وسّع عليّ في الجواب ، فإنّي والله ما سألتك إلا

__________________

(١) هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الملقب بالمفيد ، توفي ببغداد سنة (٤١٣) ه.

١٣٧

مرتادا (١) فقال :

نحن من شجرة طيبة ، برأنا الله من طينة واحدة ، فضلنا من الله ، وعلمنا من عند الله ، ونحن أمناؤه على خلقه ، والدعاة إلى دينه ، والحجاب فيما بينه وبين خلقه. أزيدك يا زيد؟

قلت : نعم ، فقال : خلقنا واحد ، وعلمنا واحد ، وفضلنا واحد ، وكلنا واحد عند الله عزوجل في مبتدأ خلقنا ، أوّلنا محمد ، وأوسطنا محمّد ، وآخرنا محمد (٢) صلى الله عليهم أجمعين.

وثانيهما : مقام نسبتهم إلى ربهم في كيفية الإجابة وتقدّمها وتأخّرها ، وهم مختلفون في ذلك ، فمن تقدّم في الإجابة والتلبية كان هو الأفضل المقدّم ، ولذا دلّت الأخبار على تقديم بعضهم على بعض ، وأفضلية بعضهم من بعض.

ولعل إجماع المسلمين واقع على أفضلية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أمير المؤمنين عليه‌السلام وعلى سائر الأئمة عليهم‌السلام ، وإليه يرمي قوله :

«أنا عبد من عبيد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) ، وعلّمني ألف باب من العلم ينفتح لي من كل باب ألف باب (٤) ، وقوله : أنا من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كالضوء من الضوء» (٥) ولا ريب أنّ السراجين من طينة واحدة إلّا أنّ الأول مقدّم والثاني اشتعل منه.

وفي «بصائر الدرجات» عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام قالا :

«إنّ الله خلق محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طينة من جوهرة تحت العرش وأنه كان لطينته

__________________

(١) مرتادا : طالبا ، أي طالبا لمعرفتكم والاطلاع على فضائلكم.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٥ / ٣٦٣ ، ح ٢٣ عن كتاب المتحضر : ص ١٦٠.

(٣) لم أظفر على مصدره.

(٤) رواه غير واحد من الفريقين منهم التفتازاني في شرح المقاصد ج ٢ ص ٢٢٠ ، والقندوزى في الينابيع ص ٧٧.

(٥) نهج البلاغة كتابه عليه‌السلام الى عثمان بن حنيف رقم ٤٥. وفيه كالصنو من الصنو.

١٣٨

نضج فجبل طينة أمير المؤمنين عليه‌السلام من نضج طينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان لطينة أمير المؤمنين عليه‌السلام نضج فجبل طينتنا من فضل طينة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وكانت لطينتنا نضج فجبل طينة شيعتنا من نضج طينتنا ، فقلوبهم تحنّ إلينا ، وقلوبنا تعطف عليهم تعطّف الوالد على الولد» (١).

وفي «البحار» نقلا من كتاب «المقتضب» عن سلمان الفارسي ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا سلمان! خلقني الله من صفاء نوره فدعاني فأطعته ، وخلق من نوري عليا فدعاه إلى طاعته فأطاعه ، وخلق من نوري ونور علي فاطمة فدعاها فأطاعته ، وخلق مني ومن علي ومن فاطمة الحسن والحسين فدعاهما فأطاعاه فسمانا الله عزوجل بخمسة أسماء من أسمائه ، فالله المحمود وأنا محمد ، والله العلي وهذا علي ، والله فاطر وهذه فاطمة ، والله قديم الإحسان وهذا الحسن ، والله المحسن وهذا الحسين.

ثم خلق من نور الحسين تسعة أئمة ، فدعاهم فأطاعوه ، قبل أن يخلق الله سماء مبنيّة ، أو أرضا مدحية ، أو هواء أو ماء ، أو ملكا أو بشرا وكنّا بعلمه أنوارا نسبحه ، ونسمع له ونطيع ...» (٢) الخبر.

وفيه عن «رياض الجنان» عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أول ما خلق الله نوري ، ابتدعه من نوره ، واشتقّه من جلال عظمته ، فأقبل يطوف بالقدرة حتى وصل إلى جلال العظمة في ثمانين ألف سنة ، ثم سجد لله تعظيما ، ففتق منه نور علي عليه‌السلام».

وفيه بإسناد آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما سأله جابر : أول شيء خلق الله تعالى ما هو؟

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٥ / ٨ ، ح ١١ عن بصائر الدرجات ص ٥.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٥ / ٦ ، ح ٩.

١٣٩

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «نور نبيك يا جابر ، خلقه الله ثم خلق منه كل خير ...» (١).

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الدالّة على ما سمعت تصريحا أو تلويحا كما لا يخفى على من أحاط خبرا بما ورد من الآثار ، وجاس خلال تلك الديار.

وأيضا ورد في تسميته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأبي القاسم أنه أبو أمته ومن جملة أمته في زمانه أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهو قسيم الجنة والنار ، فهو القاسم ، نقلته بالمعنى والخبر مذكور في «علل الشرائع» (٢).

وأيضا أسماؤهم الشريفة مكتوبة على العرش وغيره بالترتيب وقضية الإمكان الأشرف والتطبيق تقديم الأشرف.

وأيضا لا ريب في أفضلية أمير المؤمنين عليه‌السلام على الحسنين وعلى سائر الأئمة عليهم‌السلام ، كما في النبوي : «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ، أبوهما خير منهما» (٣).

فيما ذكرناه ونقلناه كفاية لمن كان من أهل الدراية ، وإلا فالإحاطة بمقامهم وحقائقهم مخصوصة بهم دون غيرهم ليس لأحد ممن سواهم أن يحوم حول حرم كبرياء ذواتهم وأنوارهم إذ يخطف دون النظر إلى سبحات أنوار جلال جبلّاتهم البصائر والأبصار ، ويضمحل بملاحظة أشعّة شموس وجودهم سائر الأنوار ، بل لا

__________________

(١) المصدر نفسه : ج ٢٥ / ٢١ ، ح ٣٧.

(٢) علل الشرائع : ص ٥٣ و ٥٤ ، ومعاني الأخبار : ص ٢٠ ، وعيون الأخبار : ص ٣٨ وعنها البحار : ج ١٦ / ٩٥ في العيون عن علي بن الحسن بن فضال ، عن أبيه قال : سألت الرضا عليه‌السلام فقلت له : لم كني النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأبي القاسم؟ قال عليه‌السلام : «أما علمت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أب لجميع أمته ، وعلي عليه‌السلام منهم؟ قلت : بلى ، قال : أما علمت أن عليا قاسم الجنة والنار؟ ...» الخبر.

(٣) هذا الحديث من الأحاديث المتواترة المشهورة عند الفريقين وأخرجه غير واحد منهم الذهبي في سير أعلام النبلاء : ج ٣ / ١٨٩.

١٤٠