تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-73-8
الصفحات: ٧٤٨

وامّا المقام الثاني فلعلّ الخطب فيه سهل بعد التدبّر في الآيات المفسرة عن أهل البيت عليه‌السلام إن لم تكن على قلوب أقفالها وكذا بملاحظة الأخبار المتواترة المذكورة في مواضع شتّى بل يستفاد ذلك أيضا من بعض الخطب والأدعية والزيارات المأثورة عنهم عليهم‌السلام.

ففي الخطبة الأميرية الغديرية : وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ، استخلصه في القدم على ساير الأمم على علم منه به انفرد عن التشاكل والتماثل من أبناء الجنس انتجبه وآمرا وناهيا عنه ، أقامه في ساير عالمه في الأداء مقامه إلى قوله :

واختصّه من تكرمته بما لم يلحقه فيه أحد من بريّته ، فهو أهل ذلك لخاصته وخلّته ، إذ لا يختصّ من يشوبه التغيير ولا يخالل (١) من يلحقه التظنين ، وانّ الله اختصّ لنفسه من بعد نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله خاصّة علّاهم بتعليته ، وسما بهم إلى رتبته ، وجعلهم الدعاة بالحق إليه ، والأدلّاء بالإرشاد عليه ، لقرن قرن ، وزمن زمن ، أنشأهم في القدم قبل كلّ مذروء ومبروء ، أنوارا أنطقها بتحميده ، وألهمها بشكره وتمجيده ، وجعلها الحجج على كلّ معترف له بملكة الربوبيّة وسلطان العبودية ، واستنطق بها الخرسان بأنواع اللغات بخوعا (٢) له بأنّه فاطر الأرضين والسموات ، وأشهدهم خلق خلقه ، وولّاهم ما شاء من أمره ، وجعلهم تراجم مشيّة ، وألسن إرادته ، وعبيدا لا يسبقونه بالقول وهم بامره يعملون.

الخطبة رواها الشيخ أبو جعفر الطوسي بالإسناد في متهجّده وفيها وجوه من الدلالة لا تخفى على من تأمّلها وروى أيضا التوقيع الخارج من الناحية المقدسة المشتمل على قوله : ومقامك الّتي لا تفصيل لها في كلّ مكان يعرفك بها من عرفك ،

__________________

(١) يخالله : يصادقه ويتّخذه خليلا.

(٢) بخع له بخوعا : أقرّ له إقرار المذعن.

٦٠١

لا فرق بينك وبينها إلّا أنّهم عبادك وخلقك فتقها ورتقها بيدك بدؤها منك ووجودها إليك أعضاء وأشهاد ومناة وأزواد وحفظة وروّاد فبهم ملات سماءك وأرضك حتّى ظهران لا اله الّا أنت (١). الدعاء.

وستسمع تمام الكلام في تفسير هذه الكلمات الشريفة النورانية عند تفسير قوله تعالى : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) (٢).

وفي الكافي في باب نوادر التوحيد عن مولينا الصادق عليه‌السلام قال : إنّ الله خلقنا فأحسن خلقنا ، وصوّرنا فأحسن صورنا ، وجعلنا عينه في عباده ، ولسانه الناطق في خلقه ، ويده المبسوطة على عباده بالرأفة والرحمة ، ووجهه الذي يؤتى منه ، وبابه الّذي يدلّ عليه ، وخزانته في أرضه ، بنا أثمرت الأشجار ، وأينعت الثمار ، وجرت الأنهار ، وبنا ينزل غيث السماء ، ونبت عشب الأرض ، وبعبادتنا عبد الله ولو لا نحن ما عبد الله (٣).

وفيه في باب مولد النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بالإسناد عن محمد بن سنان قال : كنت عند ابى جعفر الثاني عليه‌السلام فأجريت اختلاف الشيعة فقال يا محمد إن الله تبارك وتعالى لم يزل متفرّدا بوحدانيته ثم خلق محمّدا وعليّا وفاطمة ، فمكثوا ألف دهر ، ثمّ خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها وأجرى طاعتهم عليها ، وفوّض أمورها إليهم ، فهم يحلّون ما يشاؤن ، ويحرّمون ما يشاؤن ، ولن يشاءوا إلّا أن يشاء الله تبارك وتعالى ثمّ قال يا محمد هذه الديانة الّتي من تقدّمها مرق ، ومن تخلّف عنها محق ، ومن لزمها لحق ،

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩٨ / ٣٩٢ ـ ٣٩٣.

(٢) الكهف : ٥١.

(٣) بحار الأنوار : ج ٢٤ / ١٩٧ ح ٢٤ ـ وج ٢٥ ص ٥ ح ٧.

٦٠٢

خذها إليك يا محمّد (١).

ومثله في الاختصاص عنه عليه‌السلام (٢).

وفي الخرائج عن مولينا الصادق عليه‌السلام انه قال لداود الرقّى يا داود لو لا اسمى وروحي لما أطردت الأنهار ولا أينعت الثمار ولا اخضرت الأشجار (٣).

وقد مرّ في مواضع من هذا التفسير بعض الأخبار الدالّة على هذا المرام ، وسيأتى جملة مقنعة منها أيضا فيما يأتى من الكلام ، فان تطويل الكلام بذكر الاخبار يخرجنا عمّا نحن بصدده من الإيجاز والاختصار.

والإنصاف أنّ من كان مأنوسا مطلعا على الآثار المأثورة في هذه الشريعة الحقّة النبويّة المصطفوية على صادعها ألف صلوة وسلام وتحيّة يحصل له العلم اليقيني البرهاني بل الشهودى العيانى أولا باستحقاق مولينا أمير المؤمنين وذرّيته الطّيبين صلوات الله عليهم أجمعين للخلافة الحقّة والوصاية المطلقة الاتصاليّة ، وثانيا بثبوت تلك الفضائل والمقامات والمراتب الّتي رتّبهم الله تعالى فيها حسب ما وقع التصريح بها في الأخبار المتواترة الّتي تصدّى لجمعها علماؤنا الأعلام رفع الله أقدارهم في دار السلام وكفاك في ذلك التدبر في الزيارة الجامعة الكبيرة فانّها بحر الأنوار ، ومخزن كنوز الأسرار ، وهو الكتاب الناطق بمفاخر الائمّة الأطهار.

والمناقشة بضعف السند أو الدلالة في هذه الأخبار ضعيفة جدّا بعد تتبّعها والاطلّاع بها وقوّة دلالتها وتكرّرها في الأصول وتلقّيها بالقبول عن كثير من الفحول ، وموافقتها لحكم الأفئدة والقبول.

ومن التعجب أنّ كثيرا ممّن أسئل الله العافية من الابتلاء بهم يتلقّى الزيارة

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ ص ٤٤٠ و ٤٤١ وعنه البحار ج ٢٥ ص ٣٤٠ ح ٢٤.

(٢) الاختصاص ص ٣٢٧ وعنه البحار ج ٢٥ ص ٣٣٩.

(٣) بحار الأنوار : ج ٤٧ / ١٠٠ ح ١٢٠.

٦٠٣

الجامعة وغيرها من الزيارات والأدعية والاخبار المشتملة على غرائب أحوالهم عليهم‌السلام على وجه التسليم والقبول ثمّ إذا سمعوا منك شيئا من فضائلهم سلقوك بألسنة حداد ، وقالوا : هذا غلوّ وإلحاد ، وأعجب منه أنّي رأيت غير مرّة بعض الشعراء قد انشد القصائد الغراء في مدح بعض العلماء الأجلّاء ، وذكر فيها ان القدر نافذ بإذنك والقضاءها وبأمرك وغيره ممّا يساوق هذا المعنى فقرأها عليهم في محضرهم فسكتوا عنه بل اطروا في الثناء عليه ، وأحضروا الجوائز بين يديه ، وإذا سمعوه في حقّ مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام زعموا العالي غاليا والقالي مواليا فبادروا في الإنكار عليك أو همّوا وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصمّوا ، وممّا يحضرني الآن من الأشعار الّتي أنشدوها في مدح هؤلاء الفضلاء هذا :

دست تو رازق است وضمير تو غيب دان

بى دعوى خدائى ولاف پيغمبرى

فان قلت : إنّ الوساطة والبابيّة في مثل الشؤون المتقدّمة وان كانت ثابتة لهم للأخبار وغيرها الّا أنّ ذلك لا يسمّى خلقا ورزقا ، ولا فاعله خالقا ورازقا ضرورة عدم استقلاله في شيء من ذلك ، ومن البيّن اعتبار الاستقلال والتأصّل في مفهوم اللفظين وغيرهما يأبى عن صدقه على غيره سبحانه.

قلت : مع الغضّ عن رجوع ذلك إلى الوضع اللفظي الذي لا ينبغي البحث فيه لا ريب في إطلاق الخلق والرزق في حقّ غيره سبحانه في الآيات وغيرها كخلق المسيح ، والسامرىّ ، والملكين الخلّاقين ، وحسبك في ذلك ملاحظة التفضيل المثبت للشركة في قوله : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١) سيّما بعد ما ورد في تفسيره عن مولينا الرضا عليه‌السلام أنّه سئل أو غير الخالق الجليل خالق؟ فقال : إنّ الله

__________________

(١) المؤمنون : ١٤.

٦٠٤

تعالى قال : أحسن الخالقين ، وقد أخبر أنّ في عباده خالقين وغير خالقين ، منهم عيسى بن مريم خلق لهم من الطّين كهيئة الطّير بإذن الله ، والسامرىّ خلق لهم عجلا جسدا له خوار (١).

بل روى النعماني عن مولينا الصادق عليه‌السلام أنّه سئل أمير المؤمنين عن متشابه الخلق فقال عليه‌السلام : هو على ثلاثة أوجه : فمنه خلق الاختراع كقوله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) (٢).

وخلق الاستحالة كقوله : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) (٣) ، وقوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) (٤).

وخلق التقدير كقول الله تعالى لنبيّه عيسى على نبيّنا وآله وعليه‌السلام : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) (٥). (٦)

وقد سمعت أنّ نسبة الخالقيّة وغيرها اليه سبحانه والى عباده المكرمين وملائكته المقرّبين على وجوه مختلفة ، وإن كانت من جهات اخرى غير مذكورة في الخبر فإنّ المراد الإشارة إلى نوع الاختلاف ، ومن هنا وغيره ممّا مرّ يظهر الجواب عن الاستدلال بالآيات الدالّة على نسبة الخالقيّة اليه سبحانه دون غيره ، فإنّ فعل عبيده فعله ، لأنّهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بامره يعملون ، كما أجاب به مولينا أمير المؤمنين في خبر سؤال الزنديق المتقدم ذكره.

بل لمّا اندكت جبل انيّاتهم من أشعّة تجليّات العظمة والجلال ، وأشرقت على

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٤ / ١٤٧ ـ ١٤٨.

(٢) الأعراف : ٥٣ ، يونس : ٣ ، هود : ٥٧ ، الحديد : ٤.

(٣) الزمر : ٦.

(٤) غافر : ٦٧.

(٥) المائدة : ١١٠.

(٦) بحار الأنوار : ج ٦٠ / ٣٣٣ عن النعماني.

٦٠٥

حقائقهم القدسيّة في مقام الوصال عند انتهاء قوس الإقبال أنوار الكمال والجمال كانت قلوبهم أوعية لمشية الله الّتي هي أصل صفات الأفعال.

ولذا روى في الخرائج عن مولينا القائم المهدي عجّل الله فرجه وسهّل مخرجه وأوسع منهجه أنّه سئل عن المفوّضة فقال عليه‌السلام : كذبوا بل قلوبنا أوعية لمشيّة الله عزوجل فاذا شاء شئنا. ثمّ تلا قوله تعالى : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (١). (٢)

فتدبّر في اشتمال هذا الخبر على نوعي التفويض اللذين أحدهما شرك والآخر ايمان ، حسب ما مرّ بيانه كى يظهر لك الجواب عمّا في السؤال أيضا من قول مولينا الصادق عليه‌السلام : من زعم أنّا خالقون.

وأمّا عدّ نفى السهو عنهم عليهم‌السلام غلوّا فليس ببدع منهم بعد ما اشتهر من القميّين بل وبعض أئمّة الرجال أيضا كابن الغضايرى ، وغيره من نسبة الراوي إلى الغلوّ والارتفاع بمجرّد رواية بعض الأخبار الدالّة على ثبوت بعض المراتب والفضائل للنّبي والأئمّة عليهم‌السلام ، ولذا طعنوا في كثير من الرواة بذلك ، بل رموا به كثيرا من خواصّ أصحابهم وثقاتهم وبطانتهم كمحمّد بن سنان ، والمعلى بن الخنيس ، والمفضل بن عمر ، ونصر بن صباح ، وغيرهم من الاجلّة والمشايخ الذين قلّ من سلم من الطعن بذلك ، وبغيره من المفاسد الذين هم منزّهون منه كما نبّه عليه المحقّق البهبهاني في تعليقاته الرجاليّة بل قال : إنّه نسب ابن طاووس ، والخواجة نصير الدين ، وابن فهد ، والشهيد الثاني ، وشيخنا البهائى وجدّي العلّامة التقى المجلسي وغيرهم من الأجلّة إلى التصوّف ، وغير خفيّ أنّ ضرر التصوّف إنّما هو فساد

__________________

(١) الدهر : ٣٠.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٥ / ٣٣٧ عن غيبة الطوسي ص ١٦٠.

٦٠٦

الإعتقاد من القول بالحلول ، أو الوحدة في الوجود ، والاتحاد أو فساد الأعمال كالأعمال المخالفة للشرع الّتي يرتكبها كثير من المتصوّفة في مقام الرياضة أو العبادة ، وغير خفيّ على المطّلعين على أحوال هؤلاء الأجلّة أنّهم منزّهون عن كلا الفسادين قطعا ، ونسب جدّى العالم الرباني محمد صالح المازندراني وغيره من الأجلّة إلى القول باشتراك اللفظ ، والمحمدون الثلاثة كابن الوليد إلى القول بتجويز السهو على النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ونسب الصدوق بل وابن الوليد منكر السهو إلى الغلوّ ، وبالجملة أكثر الاجلّة ليسوا بخالصين عن أمثال ما أشرنا اليه.

أقول ولله درّه قدس سرّه حيث شمر عن ساق الجدّ والاجتهاد لدفع المطاعن الّتي قد حوا بها في كثير من رواة الأخبار وأصحاب الأئمّة الاطهار ، حتّى انه أصلح كثيرا من الجراحات الواقعة عليهم من مطاعن الشيخ الحسين بن عبد الله الغضايرى الذي قيل لا يكاد يسلم جليل من قدحه وجرحه ، وغيره من المشايخ سيّما القميين الذين لا ينبغي ان يقال فيهم بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله ، وذلك لأنّه كان ناشيا من شدّة ورعهم واحتياطهم في الدين وإن كان ذلك سببا للقدح في أخبار عديدة مستمرا الى مدّة مديدة سيّما مع تنويع الأخبار إلى أقسام الاربعة ، وغيرها من الاصطلاحات الجديدة ، وبالجملة الظاهر أنّ منشأ كلّ ذلك عدم استقرار المذهب واختلاط أهله مع العامّة العمياء خذلهم الله ، وشدّة التقيّة ، وعموم البليّة وتشتّت المؤمنين في البلاد ، وظهور الفساد من أهل العناد ، واختلاط الأخبار ، وعدم اجتماع الآثار الواردة في كلّ باب من الأبواب ، وقصور كثير من الأنظار ، وعدم تفرّغهم للتدبّر في الآيات والأخبار.

ولذا صدرت من بعضهم جملة من المذاهب الفاسدة الّتي ربما قامت الضرورة

٦٠٧

على عنادها في مثل هذه الأزمنة ، كما نبّه عليه الشيخ سليمان (١) صاحب «المعراج» وغيره من الأجلّة فإنّ العلامة حكى في «الخلاصة» عن الشيخ أبى جعفر الطوسي قدس‌سره انه كان يذهب إلى مذاهب الوعيدية ، وهو وشيخة المفيد إلى أنّه تعالى لا يقدر على غير مقدور العبد كما هو مذهب الجبائي (٢) والسيّد المرتضى رضى الله عنه إلى مذهب البهشميّة من أن إرادته تعالى عرض لا في محلّ.

والشيخ الجليل ابو سهل إسماعيل النوبختي (٣) الى جواز اللذة العقلية عليه سبحانه ، وانّ مهيته تعالى معلومة كوجوده ، وماهيّته الوجود المعلوم ، وأنّ المخالفين يخرجون من النار ولا يدخلون الجنّة.

ومحمّد بن ابى عبد الله الأسدي (٤) إلى الجبر والتشبيه ، والصدوق ، وشيخة ابن الوليد ، والطبرسي في مجمع البيان إلى جواز السهو على النبي عليه‌السلام وغير ذلك ممّا يطول به الكلام.

ومن ذلك ما مرّ في السؤال من إنكار عالم الذرات ، بل إنكار سبق خلق الأرواح على الأبدان كما ذهب إليه الشيخ المفيد والسيّد المرتضى وغيرهما ، لكن المتتبع المطلع على أخبار الأئمة الاطهار يعلم أنّ إثباتهما كان من ضروريات

__________________

(١) هو الشيخ سليمان بن عبد الله بن على البحراني المتوفى (١١٢١) ه وكتابه معراج أهل الكمال الى معرفة الرجال شرح لفهرست شيخ الطائفة لم يتمّ بل خرج منه حرف الألف والباء والتاء فقط ـ الذريعة ج ٢١ ص ٢٢٨.

(٢) هو عبد السلام بن محمّد بن عبد الوهّاب أبو هاشم الجبّائى من شيوخ المعتزلة توفّي سنة (٣٢١) ه ـ معجم المؤلفين ج ٥ ص ٢٣٠.

(٣) هو إسماعيل بن على بن إسحاق أبو سهل النوبختي المتكلم الامامى البغدادي المعاصر لأبى القاسم الحسين بن روح السفير للإمام عليه أفضل الصلاة والسلام.

(٤) هو محمد بن أبى عبد الله جعفر بن محمد بن عون الأسدى الرازي الامامى الثقة ، روى عنه الكليني المتوفى (٣٢٩) ه كثيرا.

٦٠٨

مذهب الأئمّة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.

ولذا قال شيخنا المجلسي بعد نقل جملة منها في جامعة بحار الأنوار وحكاية هذا القول عنهم أنّ طرح هذه الأخبار بأمثال تلك الدلائل الضعيفة والوجوه السخيفة جرأة على الله وعلى أئمّة الدين ، ولو تأمّلت فيما يدعوهم إلى ذلك من دلائلهم وما يرد عليها من الاعتراضات الواردة لعرفت أنّ بأمثالها لا يمكن الاجتراء على طرح خبر واحد فكيف يمكن طرح تلك الاخبار الكثيرة الموافقة لظاهر الآية الكريمة بها وبأمثالها (١). انتهى.

على أنّ الشيخ المفيد مع غاية مبالغته في إنكار الأمرين لمّا لاحظ صحّة أخبار الباب وقوّة دلالتها ألجأه ذلك إلى أن قال : والصحيح من حديث الأشباح الرواية الّتي جاءت عن الثقات بان آدم عليه‌السلام راى على العرش أشباحا فسئل الله تعالى عنها ، فأوحى اليه أنّها أشباح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمير المؤمنين والحسن والحسين وفاطمة صلوات الله عليهم ، وأغلمة أن لو لا الأشباح الّتي راها ما خلقه ، ولا خلق سماء ولا أرضا.

والوجه فيما أظهره الله تعالى من الأشباح والصّور لآدم أن دلّه على تعظيمهم وتبجيلهم ، وجعل ذلك إجلالا لهم ، ومقدمة لما يفترضه من طاعتهم ودليلا على أن مصالح الدين والدنيا لا تتم الّا بهم ، ولم يكونوا في تلك الحال صورا مجيبة ، ولا أرواحا ناطقة لكنها كانت على مثل صورهم في البشريّة يدلّ على ما يكونون عليه في المستقبل في الهيئة والنور الّذى جعله عليهم يدلّ على نور الدين بهم وضياء الحق بحججهم ، وقد روى أنّ أسماءهم كانت مكتوبة إذ ذاك على العرش وأنّ آدم عليه‌السلام لمّا تاب إلى الله عزوجل وناجاه بقبول توبته سئله بحقّهم عليه ومحلّهم عنده

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥ / ٢٦٧.

٦٠٩

فأجابه.

وهذا غير منكر في العقول ولا مضادّ للشرع المنقول وقد رواه الصالحون الثقات المأمونون وسلّم لروايته طائفة الحق ولا طريق إلى إنكاره. (١) انتهى.

فانظر كيف اضطره صحّة الخبر إلى حمله على ما يقطع بفساده من له أدنى اطّلاع باخبار الباب ، وليت شعري ما المانع من حمل هذه الأخبار على ظواهرها؟ وما الصارف عنها إلى مثل هذه المحامل ، ولعلّ هذا كلّه ناش عن الاستيناس بأصول غير مؤسّسة كلامية عامية ، ولذا ليس عندهم للإمام فضل على غيره من الأنام إلّا في قليل من العلوم المتعلّقة بالاحكام ، ويتحاشون عن إثبات ما تقتضيه العصمة والولاية في الأمور التشريعية ، فضلا فتبعهم من ليس منهم غفلة عن حقيقة الحال ، حتّى أنكروا كون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة عليهم‌السلام حجّة لله على جميع ما خلق ، مع أنّهم بهم فتح الله وبهم يختم ، وبهم ينزل الغيث ، وبهم يمسك السماء أن تقع على الأرض إلّا باذنه ، طأطأ كلّ شريف لشرفهم ، وبخع كلّ متكبّر لفضلهم ، وذلّ كلّ شيء لهم ، وأشرقت الأرض بنورهم ، وفاز الفائزون بولايتهم ، وقد أخذ الله ميثاق ولايتهم على جميع الأنبياء والأوصياء والشهداء والصدّيقين والصالحين ، والملئكة المقربين ، والخليل لمّا عهدوا منه الوفاء ألبسوه حلّة الاصطفاء ، وروح القدس في الجنان الصاقورة ذاق من حدائقهم الباكورة ، وبهم ابتلى من ابتلى من الأولين والآخرين ، ونجا من نجا وهلك من هلك ، ما من مولود يولد ولا أحد يموت ويبعث إلّا بحضورهم وبابيتهم ووساطتهم وهم الحجج على العوالم لاثني عشر ألف عالم كلّ عالم أكبر من السموات والأرض أو الألف ألف عالم وألف ألف أدم ، ولا يكون الحجّة على قوم إلّا من يعلّمهم ويشهدهم ، فهم يد الله الباسطة ، وقدرته القاهرة ،

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥ / ٢٦٢.

٦١٠

ومشيّته النافذة ، وعينه النّاظرة.

ولذا قال الصادق عليه‌السلام لليمنى الذي حضر مجلسه : إنّ عالم المدينة يسير في ساعة من النهار مسير ألف ألف سنة حتى يقطع الف عالم مثل عالمكم هذا (١).

وقال ابو جعفر عليه‌السلام لميسر الذي قال : قمت ببابه فخرجت جارية خماسيّة فوضعت يدي على رأسها فناداني عليه‌السلام من أقصى الدار : ادخل لا أبا لك لو كانت هذه الجدر تحجب أبصارنا كما تحجب أبصاركم لكنّا نحن وإياكم سواء (٢).

وفي الآثار الجعفرية روحي له الفداء : الدنيا ممثلة للإمام كفلقة الجوزة في يد أحدكم (٣).

وعنه عليه‌السلام يا مفضل إنّ العالم منا يعلم كلّ شيء حتّى تقلّب جناح الطير في الهواء ومن أنكر من ذلك شيئا فقد كفر بالله من فوق عرشه وأوجب لأوليائه الجهل ، وهم حلماء علماء أبرار أتقياء يا مفضل من زعم أنّ الإمام من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعزب عنه شيء في السموات والأرض من الأمر المحتوم فقد كفر بما أنزل الله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفي البحار عن نوادر الحكمة عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : يا حمران إن الدنيا عند الامام والسموات والأرضون إلّا هكذا ، وأشار بيده إلى راحته ، يعرف ظاهرها وباطنها وداخلها وخارجها ورطبها ويابسها (٤).

وفيه عن أبى بصير قال كنت عند أبى عبد الله عليه‌السلام فدخل عليه المفضّل بن عمر

__________________

(١) في البحار ج ٥٥ / ٢٢٨ عن البصائر : يسير في ساعة من النهار مسيرة الشمس سنة حتى يقطع اثنى عشر الف عالم مثل عالمكم هذا ...

(٢) البحار : ج ٤٦ / ٢٥٨.

(٣) البحار : ج ٢٥ / ٣٦٨ عن البصائر ص ١٢١.

(٤) بحار الأنوار : ج ٢٥ / ٣٨٥ ح ٤٢ وفيه بعد ذكر الحديث : بيان : (إن الدنيا) : إن نافية ، أو حرف النفي ساقط ، أو مقدّر ، أو إلّا زائدة.

٦١١

فقال : مسألة يا بن رسول الله قال : سل يا مفضل ، قال : ما منتهى علم العالم؟ قال : قد سئلت جسيما ولقد سئلت عظيما ما السماء الدنيا في السماء الثانية الّا كحلقة درع ملقاة في أرض فلاة ، وكذلك كلّ سماء اخرى ، وكذلك السماء السابعة عند الظلمة ، ولا الظلمة عند النور ، ولا ذلك كلّه في الهواء ولا الأرضون بعضها في بعض ، ولا مثل ذلك كلّه في علم العالم يعنى الامام إلا مثل مدّمن خردل دققته دقا ثم ضربته بالماء حتّى إذا اختلط ورخا (١) أخذت منه لعقة بإصبعك ولا علم العالم في علم الله تعالى إلّا مثل مدّمن خردل دققته دقّا ثم ضربته بالماء حتى إذا اختلط ورغا انتهزت منه برأس ابرة نهزة (٢).

الى غير ذلك من الاخبار الكثيرة التي ستسمع الكلام فيها عند تفسير قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) (٣).

وكان مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول غير مرّة على ما رواه المخالف والمؤالف : سلوني قبل ان تفقدوني فأنا بطرق السماء اعلم منى بطرق الأرض (٤).

قد علّم بعض أصحابه علم البلايا والمنايا ، وقصّة رشيد الهجري وحبيب بن مظاهر ، وميثم التّمار مشهورة مذكورة في كتب الرجال وغيرها ، وإرائتهم ملكوت السموات والأرضين لأبى بصير وغيره مشهور مستفيض.

وانكار غرائب أحوال سلمان ممّا لا يليق باهل الإيمان فاذا عرفت أحوال أصحابهم فما ظنّك بهم فإنّهم نور الله المخزون ، وسرّ الله المكنون ، وامره بين الكاف

__________________

(١) رخا اللبن : صار له رغوة أى الزيد.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢٥ / ٣٨٥ ح ٤٣ ـ والانتهاز : الأخذ بالسرعة.

(٣) آل عمران : ١٧٩.

(٤) ينابيع المودة ص ٦٦ ط اسلامبول وعنه ملحقات الإحقاق ج ٧ ص ٦١٨.

٦١٢

والنون ، خلقهم الله تعالى نورا فجعلهم محدقين بعرش العظمة والجلالة حتّى منّ الله تعالى علينا بهم فجعلهم في بيوت من أبدانهم الناسوتيّة وهياكلهم البشرية كما قالوا نحن اسرار الله المودعة في الهياكل البشرية فهم من الله والكلّ منهم كما في الخبر وخلق المشيّة بنفسها ثمّ خلق الأشياء بالمشية ، وهم صنائع الله ، والخلق بعد صنائع لهم ، أو صنائعهم على اختلاف الخبر ، فإن الأوّل مروىّ عن مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام مذكور في نهج البلاغة (١) والثاني عن الحجّة المنتظر عجل الله فرجه كما نقله في الاحتجاج (٢).

أشهدهم الله خلق الأشياء ، وأجرى طاعتهم عليها ، فميّتهم إذا مات لم يمت ، بل هم أحياء عند ربّهم يرزقون ، وغائبهم إذا غاب لم يغب ، بل هم للأشياء مشاهدون ، فلا يعزب عنهم شيء في الأرض ولا في السماء بإذن خالقهم وبارئهم.

فلا ينبغي الإصغاء الى ما يقال : من انّه لا علم لهم بما غاب عنهم وبما استقبل من أحوالهم وأحوال غيرهم نظرا إلى انّه تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ).

إذ مع الغضّ عن الاستثناء في الأوّل والإستدراك في الثاني لا يخفى أنّ علمهم ليس علما بالغيب بل هو تعلّم من ذي علم كما أجاب به مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام من اعترضه بمثل ذلك على ما في نهج البلاغة (٣).

على أنّه لا ينكر ولا يدافع علمهم بالكتاب الذي فيه تفصيل كلّ شيء ممّا كان أو يكون إلى يوم القيمة من الأمور التكوينية والتشريعية والجزئيّة والكليّة ، كما

__________________

(١) نهج البلاغة : الرسالة (٢٨) وعنه البحار ج ٣٣ ص ٥٨ ح ٣٩٨.

(٢) بحار الأنوار : ج ٥٣ / ١٧٨ ح ٩ عن الإحتجاج.

(٣) نهج البلاغة ج ١ ص ٢٤٥ وعنه البحار ج ٢٦ ص ١٠٣ ح ٦.

٦١٣

في الآيات الكثيرة والأخبار المستفيضة بل المتواترة.

إلّا أنّ بعض من لم يطّلع على غرائب أحوالهم قاس حالهم بحالهم ، ولذا قال السيّد المرتضى رضى الله عنه في كتابه «تنزيه الأنبياء» معترضا على نفسه بما حاصله أنّه ما العذر في خروج مولينا سيّد الشهداء روحي له الفداء من مكة بأهله وعياله إلى الكوفة والمستولي عليها أعدائه وكيف خالف ظنّه ظن جميع نصحائه في الخروج؟ وابن عباس يشير بالعدول عن الخروج ويقطع على العطب فيه ، وابن عمر لمّا ودّعه يقول له : أستودعك من قتيل ، ثمّ كيف لم يبايع يزيد حقنا لدمه ودماء من معه من أهله وشيعته ومواليه؟ ولم ألق بيده إلى التهلكة؟ الى آخر ما ذكره.

ثمّ أجاب بما حاصله أنّ الإمام متى غلب على ظنّه أنّه يصل إلى حقّه والقيام بما فوّض اليه بضرب من الفعل ، وجب عليه ذلك ، وان كان فيه ضرب من المشقة يتحمّل مثلها ، وسيّدنا ابو عبد الله عليه‌السلام لم يسر إلى الكوفة إلّا بعد توثّق من القوم وعهود وعقود ، وبالجملة أسباب الظفر بالأعداء كانت لائحة ، وانّ الاتّفاق السّيئ هو الذي عكس الأمر وقلبه حتّى تمّ فيه ما تمّ ... الى أن قال :

وليس يمتنع أن يكون عليه‌السلام في تلك الحال مجوزا أن يفيء اليه قوم ممّن بايعه وعاهده ، ثم قعد عنه ويحملهم ما يرون من صبره واستسلامه وقلة ناصره على الرجوع إلى الحقّ دينا أو حميّة فقد فعل ذلك تفر منهم حتى قتلوا بين يديه شهداء ومثل هذا يطمع فيه ويتوقّع في أحوال الشدّة.

فأمّا الجمع بين فعله وفعل أخيه الحسن فواضح صحيح ، لأنّ أخاه سلّم كفّا للفتنة وخوفا على نفسه وأهله وشيعته وإحساسا بالغدر من أصحابه والحسين عليه‌السلام لمّا قوي في ظنّه النصرة ممّن كاتبه ووثق له ، وراى من أسباب قوّة نصّار الحقّ وضعف نصّار الباطل ما وجب معه عليه الطلب والخروج ، فلمّا انعكس ذلك وظهر أمارات الغدر وسوء الاتّفاق رام الرجوع ، والمكافّة والتسليم كما فعل أخوه فمنع

٦١٤

من ذلك ، وحيل بينه وبينه ، فالحالان متفقان إلّا أنّ التسليم والمكافة عند ظهور أسباب الخوف لم يقبلا منه عليه‌السلام (١).

انتهى ملخصا فانظر إلى هذا الجليل الذي لا يجوز عنده إلّا العمل على العلم لانسداد باب الظّن عنده للمجتهد كيف فتح باب العمل بالظّن للإمام عليه‌السلام سيّما مثل هذا الظّن الّذى أطبق على خلافه جميع نصحائه وهم مصيبون ، ثمّ كيف التزم بإصابة ابن عباس وعبد الله بن عمرو غيرهما في ظنونهم ، وخطاء الإمام عليه‌السلام في ظنّه ، ثمّ كيف اعتمد عليه‌السلام على مثل هذا الظّن ، ومتى رام الرجوع والتسليم فلم يقبل منه فوا عجباه كيف لم يكن عليه‌السلام عالما بما يجرى عليه من الرزايا والبلايا وقد أخبر الله تعالى نبيّه في آيات كثيرة من القرآن تأويلا وتنزيلا بما يجرى عليه كقوله : (كهيعص) ، (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا) (٢) ، (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) (٣). (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) (٤) ، (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) (٥) ، (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) (٦) ، (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) (٧) ، (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) (٨) ، (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (٩) ، (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ) (١٠).

إلى غير ذلك من الآيات الّتي لا يخفى على من لاحظ الاخبار المأثورة في

__________________

(١) تلخيص الشافي ج ٤ ص ١٨٢ مع التلخيص ـ تنزيه الأنبياء ص ١٧٧ ـ ١٧٨.

(٢) الإسراء : ٣٣.

(٣) التكوير : ٨.

(٤) الأحقاف : ١٥.

(٥) البقرة : ٢٤٦.

(٦) الفجر : ٢٧.

(٧) الحج : ٤٠.

(٨) الصافات : ٨٨.

(٩) الصافات : ١٠٧.

(١٠) البقرة : ٣٧.

٦١٥

تفسيرها وتأويلها ، أنّ الله تعالى أخبر ساير الأنبياء أيضا بذلك ، وقد أخبر رسول الله وأمير المؤمنين وفاطمة الزهراء ، والسبط المسموم ، والشهيد المظلوم ، صلى الله عليهم أجمعين كلّهم بذلك في أخبار كثيرة متفردة بالتصانيف إلى دعاء الثالث من شعبان : بكته السماء ومن فيها والأرض ومن عليها ولمّا يطأ لابتيها (١) وهو تأويل قوله : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) (٢) من باب مفهوم المخالفة.

فهل كان عليه‌السلام والعياذ بالله جاهلا بجميع تلك الآيات والأخبار الّتي قرع الأسماع ، وملأ الأصقاع ، حتّى أخبروا عليهم‌السلام الكفرة الفجرة الذين يقتلونهم ويظلمونهم بذلك ، إلى غير ذلك ، ممّا لا يحتمل المقام ذكرها ، ولا ذكر أسباب الشهادة واسرارها من نيل الشفاعة ، وحفظ الدين ، وكشف الكفر عن العالمين ، ولا استقصاء الاعتراضات الواردة على عبارة السيّد «ره» وان صدر عن بعض المتأخّرين أيضا ما يقرب منه.

فإنّ الفاضل القمى رحمه‌الله في باب ترك الاستفصال من قوانينه تمسّك بأصالة عدم علم الإمام فلاحظ (٣).

وشيخنا الفقيه صاحب جواهر الكلام استشكل في باب تحديد الكر بالوزن والمساحة وعدم انطباقهما معا بل نقصان الوزن عن المساحة بالمذهب المشهور دائما بأنّه لا داعي إلى هذا التقدير المختلف بعد علمه بنقص الوزن عن المساحة دائما مع القدرة على ضابط بغير ذلك منطبق عليه.

ثمّ أجاب عنه بأنّ دعوى علم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام بذلك ممنوعة ولا غضاضة لأنّ علمهم عليهم‌السلام ليس كعلم الخالق عزوجل فقد يكون قدّروه بأذهانهم

__________________

(١) مصباح المتهجد : ص ٧٥٨.

(٢) الدخان : ٢٩.

(٣) قوانين الأصول الباب الثالث في العموم والخصوص ص ٢٢٦.

٦١٦

الشريفة وأجرى الله الحكم عليه (١).

أقول : ولنا على جواهر الكلام حواشي وتعليقات ذكرت في هذا الموضع منها : قوله : ولا غضاضة ، آه ، بل فيه غضاضة وأىّ غضاضة لأنّه لو أنكر علم النّبى والأئمّة عليهم‌السلام بالنّسبة إلى التكوينيّات فلا سبيل إلى إنكاره في التشريعيّات يتعلّق بها من الموضوعات سيّما بعد شهادة الله تعالى له بقوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (٢) ، وقوله : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) (٣) ، ولا ريب أنّ الكر وإن كان الموضوعات لكنّه يناط به كثير من الأحكام بل لعلّه من الموضوعات الشرعيّة من حيث التّحديد ، وبالجملة دعوى جهل النّبى والائمّة عليهم‌السلام بالكر الحقيقي أو بتفاوت التقريبين لعلّه إقرار بجهلهم بالشرع المبين أو تقوّلهم على الله تعالى بالخرص والتخمين ، وقد قال الله تعالى : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٤).

ولعمري إنّ مثل شيخنا الشارح لا ينبغي ان ينسب اليه مثل هذا التقريب الذي هو أقرب إلى التبعيد ، فكيف إلى النّبى صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام الذين هم مهابط الوحي وخزّان العلم فكيف يقدّرون بأذهانهم الشريفة مثل هذا التقدير ، وكيف يقع إجراء الحكم عليه من اللّطيف الخبير.

هذا كلّه مع الغضّ عن علمهم بالقرآن الذي فيه كلّ شيء من الحلال والحرام ممّا يحتاج اليه الامّة إلى يوم القيامة بل جميع الحوادث والكينونات ولو من غير

__________________

(١) الجواهر ج ١ ص ١٨٢.

(٢) النجم : ٣.

(٣) الأنعام : ٥٠.

(٤) الحاقّة : ٤٤.

٦١٧

الأحكام لقوله : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (١) ، (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (٢) ، (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٣).

وعن الباقر عليه‌السلام انّ الله لم يدع شيئا يحتاج إليه الامّة إلّا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٤).

وعن الصادق عليه‌السلام ما من امر يختلف فيه اثنان وله أصل في كتاب الله ولكن لا تبلغه عقول الرجال (٥).

وعنه عليه‌السلام انّ الله انزل في القرآن تبيان كلّ شيء حتّى والله ما ترك الله شيئا يحتاج إليه العباد حتّى لا يستطيع عبد يقول لو كان هذا انزل في القرآن (٦).

إلى غير ذلك من الأخبار المتواترة الدالّة على علمهم بما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة ، وبخبر السماء وبخبر الأرض ، وخبر الجنّة والنّار ، وان ذلك كلّه بتعليم من الله فلا ينافي ذلك ظاهر قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) (٧) وقوله : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) (٨) ، فانّ النّبى والائمّة عليهم‌السلام هم المستثنون في الآيتين ، بل هو المرتضى وهم المجتبون كما يؤمي اليه بعض الأخبار.

مضافا إلى أنّ لنا طرقا اخرى إلى إثبات علمهم عليهم‌السلام بجميع الأمور التكوينيّة

__________________

(١) الأنعام : ٣٨.

(٢) النحل : ٨٩.

(٣) الانعام : ٥٩.

(٤) الكافي ج ١ ص ٥٩ ح ٢.

(٥) الكافي ج ١ ص ٦٠ ح ٦.

(٦) الكافي ج ١ ص ٥٩ ح ١.

(٧) آل عمران : ١٧٩.

(٨) الجنّ : ٢٧.

٦١٨

والتشريعيّة لعموم ولايتهم في الأمرين وبرزخيّتهم الكبرى في البين ، مع كونهم الأشهاد في خلق الأرض والسّموات والأعضاد لبارئ الكاينات إلى غير ذلك مما قصرت عن نيل إدراكه أكثر الأفهام فالأولى أن نقبض عنان الكلام كيلا تتحرك سلسلة جحود اللّئام وعلى الله التوكّل وبه الاعتصام.

(نصيحة) : اعلم يا أخى وحبيبي أنّه لم يسعنا في المقام إقامة الحجّة على غرائب أحوالهم عليهم‌السلام على وجه الاستقصاء لتوقّفها على مقدّمات كثيرة ، وإثبات أمور لا يهمنا البحث عنها في المقام ، ولعلّنا نشير إلى جملة وافية منها في مواضع من هذا التفسير ، فإن حصل لك التصديق التفصيلي أو الإجمالي بها أو شيء منها فكن لله من الشاكرين ، والّا فإياك ثمّ إياك أن تبادر إلى الإنكار والتكذيب لما بلغك عنهم أو نسب إليهم فتكون من الهالكين.

قال مولينا الصادق عليه‌السلام : لا تكذبوا بحديث أتاكم أحد فإنّكم لا تدرون لعلّه من الحقّ فتكذّبوا الله فوق عرشه (١).

وعن أبي الحسن عليه‌السلام أنه كتب في رسالة كتبها الى على بن سويد السائي : ولا تقل لما بلغك عنّا أو نسب إلينا : هذا باطل ، وان كنت تعرف خلافه فإنّك لا تدري لم قلنا ، وعلى أيّ وجه وصفة (٢).

بل روى الصدوق «في العلل» بالإسناد عن أحدهما عليهما‌السلام : لا تكذّبوا بحديث آتاكم مرجئيّ ولا قدريّ ولا خارجيّ نسبه إلينا ، فإنّكم لا تدرون لعلّه شيء من الحقّ فتكذّبوا الله عزوجل فوق عرشه (٣).

إلى غير ذلك من الاخبار الدالّة على وجوب التسليم لهم والرّد إليهم ، وانّ

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢ / ١٨٦ ح ١٠ عن بصائر الدرجات.

(٢) البحار : ج ٢ / ١٨٦ ح ١١ عن البصائر.

(٣) بحار الأنوار : ج ٢ / ١٨٧ ـ ١٨٨ عن علل الشرائع.

٦١٩

الكلمة لتنصرف على سبعين وجها من كلّها المخرج ، فانّهم لا يعدّون الرجل من شيعتهم حتّى يلحن له فيعرف اللحن ، وانّ حديث آل محمّد صعب مستصعب لا يحتمله الّا ملك مقرّب أو نبيّ مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للايمان (١).

فإنّ من الملئكة مقرّبين وغير مقرّبين ، ومن الأنبياء مرسلين وغير مرسلين ، ومن المؤمنين ممتحنين وغير ممتحنين ، فعرض ولايتهم على الملئكة فلم يقرّبه الّا المقرّبون ، وعرض على الأنبياء فلم يقرّبه إلّا المرسلون ، وعرض على المؤمنين فلم يقرّبه الّا الممتحنون (٢).

بل من أخبارهم وأحوالهم ما لا يحتمله ملك مقرّب ولا نبىّ مرسل ولا مؤمن امتحن الله قلبه للايمان ، قيل فمن يحتمله قال عليه‌السلام نحن نحتمله (٣).

وفي خبر آخر : من شئنا (٤).

ولذا كان لأخبارهم وأسرارهم مراتب مختلفة : منها ، ما لا يحتمله غيرهم ، ومنها ما يحتمله بعض الأنبياء عليه‌السلام أو بعض الملائكة أو خواص شيعتهم ، وفي كلّ من هذه الأقسام عرض عريض وذلك لاختلاف الهويّات والمهيّات في الكينونات والاقتضاءات والقابليات والاستعدادات ، وكلّ أحد لا يدرك فوق رتبته ، ولا يتجاوز إدراكه عن قوس كماله ، إلّا على سبيل الاشراق والتّجلى والإفاضة من العالي إلى السافل بحسب اختلاف القابل في الصقالة والكدورة والقرب والبعد والتّهيؤ للقبول والعدم وزيادة الحجب وقلّتها وغلظتها ورقّتها ونورها وظلمتها إلى غير ذلك من الأسباب والمعدّات والموانع الّتي ربّما تفضي إلى الإنكار البحت ، ولله درّ من قال

__________________

(١) البحار : ج ٢ / ١٨٩ ح ٢١ عن البصائر.

(٢) في البحار : ج ٢ / ١٩٠ ح ٢٣ ما يقرب منه.

(٣) البحار : ج ٢ ص ١٩٣ ح ٣٦ عن البصائر.

(٤) البحار : ج ٢ / ١٩٢ ح ٣٤.

٦٢٠