تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-73-8
الصفحات: ٧٤٨

الجاهلية ولا في الإسلام ، فلثبوت اختصاصه به سبحانه وعدم إطلاقه على غيره أستفيد من كلمته.

هذا مضافا إلى جواز الاختصاص من نفس المفهوم لا من الغلبة ، ككونه المعبود الحق ، أو المفزع لجميع الموجودات ، أو المحتجب بلوامع الأنوار عن البصائر والأبصار فلا يكون لعنوانه مصداق غيره سبحانه.

وربما يجاب أيضا بالمعارضة بأنه لو كان علما لفرد معين من ذلك المفهوم ـ لم يكن (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) مفيدا للتوحيد ، لجواز أن يكون لذلك المفهوم فردان أو أكثر في نفس الأمر ، ويكون لفظة الجلالة علما لأحدهما ، مع أنهم جعلوا السورة المباركة من الأدلّة السمعية على التوحيد.

وردّ بأنّ أوّل هذه السورة يدل على الأحدية الذاتية التي هي عدم قبول القسمة بأنحائها.

وأما الواحدية بمعنى نفي الشريك ، فمستفاد من آخر السورة.

وعن الثاني أنّ المراد كماله الذي لا يشاركه فيه غيره ، وهو ربوبيته الكبرى ورحمته الواسعة كما يومي إليه صدر الآية : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (١).

ولذا قيل فيه : أي مثلا ونظيرا ، وإنما قيل للمثل سمّي لأن كل متشابهين يسمى كلّ منهما سمّيا لصاحبه.

وعن الثالث أنّه إنما يدلّ على نفس الوصفية ، لا على ثبوت العلّمية ، إذ أسماء الأجناس ، ولفظ الشيء أيضا كذلك ، وبأنّ الصفات الغالبة تعامل معاملة الأعلام في كثير من الأحكام.

__________________

(١) مريم : ٦٥.

٢٠١

وبأنه منقوض بلفظ (هو) ، فإنّه اسم من أسمائه تعالى يوصف ولا يوصف به.

وفي الأخير نظر ، إذ مع أن الكلام ليس في مثله ، لا توصف الضمائر ، ولا بها.

وعن الرابع أنّ كثيرا من صفاته التي يتصف بها ذاته تقع على الذات من حيث هي ، من دون اعتبار مغايرة حقيقية أو اعتبارية ذهنية أو خارجية.

مضافا إلى ما قيل : من أنه مغالطة من باب الاشتباه بين أحكام اللفظ وأحكام المعنى ، إذ الاتصاف بالأوصاف يوجب المساواة أو الأخصية بالقياس إلى معنى الصفة لا وقوع لفظ مخصوص بإزاء الذات.

على أنه بعد التسليم لا يلزم كونه على وجه العلمية ، بل يكفي غلبة الوصفية ومنه يظهر الجواب عن الخامس أيضا.

ثالثها : أنه علم مشتقّ غالب.

رابعها : أنه صفة مشتقة غالبة ، قيل : والفرق بينهما أنّ الاشتقاق في الأول عارضي ، وفي الأخير أصلي ، إذ اعتبار المعنى في التسمية على ثلاثة أنواع :

أحدها : أن يكون المعنى باعثا على تعيين الاسم خارجا عن الموضوع له ، كأحمر علما لما فيه حمرة.

والثاني : أن يكون داخلا في الموضوع له ، ومفهومه مركّب من ذات ومعنى معين ، كاسم الآلة والزمان والمكان.

والثالث : أن يكون داخلا في الموضوع له ، ومفهومه مركب من ذات مبهمة ومعنى معين كقائم ، وخالق ، وهذا يسمى صفة ، والأولان من الأسماء يوصفان ، ولا يوصف بهما ، عكس الصفة ، ولفظ (الله) إن قلنا إنّه صفة لكنه لا يوصف به.

وفيه أن الصفات المشتقة أيضا لا يوصف بها إلّا مع لمح الوصفية لا العلمية.

٢٠٢

وعن التفتازاني (١) : أن اللفظ إن وضع للشيء باعتبار بعض معانيه وأوصافه من غير ملاحظة لخصوصية الذات ، حتى أنّ اعتبار الذات عند ملاحظته لا تكون إلا لضرورة ، إذ المعنى لا يقوم إلا بالذات ، فهو صفة كالمعبود ، ولذا فسّروا الصفة بما تدل على ذات باعتبار معنى هو المقصود ، أو على ذات مبهمة ومعنى معين ، واسم الصفة ما دل على ذات ما باعتبار معنى ليس مقصودا ، فلفظة الإله دالّ على ذات مقدسة باعتبار معنى هو المعبودية بالحق والمقصود الذات المقدسة لا غير ، ولفظ المعبود بالحق دالّ على الذات المقدسة باعتبار معنى هو المعبودية بالحق وهو المقصود لا غير ، فهذا هو نفس الصفة والأول اسمها ، وإن وضع له بدون ملاحظة ما فيه من المعاني كرجل وفرس ، أو مع ملاحظة بعض ذلك أي مع ملاحظة خصوصية الذات كالكتاب للشيء المكتوب ، والنبات للجسم النابت وكجميع أسماء الزمان والمكان والآلة ، فهو اسم غير صفة ويستدل على أن المقصود هو المعنى أو الذات بأن الأوّل لا يوصف ويوصف به ، والثاني بالعكس ، ولا خفاء في أن الإله من قبيل الثاني ، إذ ثبت في الاستعمال إله واحد ، ولم يثبت شيء إله فيكون اسما.

واعترض بأنه لو كان تعيين الذات معتبرا في الإله دون المعبود ، وفي الكتاب دون المكتوب لاستفيد منها تعين لا يستفاد من المعبود والمكتوب ، وليس كذلك.

وفيه أن التعين مستفاد منها ، وذلك أن المكتوب هو العنوان ، والكتاب هو المعنون (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٢).

نعم ، ربما يمنع من اعتبار تعيين الذات في أسماء الزمان والمكان والآلة أيضا ، إذ لو كان معتبرا فيها لدلّت عليه تلك الأسماء ، وليس فليس ، فكما أن معنى

__________________

(١) التفتازاني مسعود بن عمر بن عبد الله ، توفي سنة (٧٩٢) ه أو قبلها. ـ معجم المؤلفين : ج ١٢ / ٢٢٨.

(٢) الروم : ٢٧.

٢٠٣

الضارب من له الضرب ، ومعنى المقتول من عليه القتل ، كذلك معنى المقتل ما فيه القتل من الزمان والمكان ، ومعنى المفتاح ما به الفتح ، وكما يعيّن خصوص الذات في الضارب والمقتول ببعض أفراد الإنسان ، كذلك يعيّن في المقتل ببعض أشخاص الزمان والمكان ، وفي المفتاح بشخص من أشخاص الخشب مثلا ، ولذا قيل : إنّ الأظهر أن يقال : لا يكفي في الصفة أن يدل على ذات مبهم باعتبار معنى معين بل لا بد مع ذلك أن يقع صفة ولا يقع موصوفا ، وبهذا القيد يخرج مثل الكتاب والآلة وأسماء الزمان والمكان ونظائرها من تعريف الصفة.

وعلى كل حال فاحتجّ القائلون بالاشتقاق وهم معظم أصحابنا الإمامية عطر الله مراقدهم ، وجمهور المتصوفة ، وكثير من العامة بقوله تعالى : (وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ) (١).

إذ لو كان علما لم تفد الآية معنى صحيحا.

قيل : لا لأنه يشعر بالمكانية ، إذ ذلك لا يتعلق بمباحث الألفاظ ، والألفاظ الموهمة للتجسّم في القرآن كثيرة ، بل لأنّ الاسم الجامد لا يصلح معناه للتقييد بالظرف ، ولذا لا يصح أن يقال : زيد إنسان في الأرض ، والطير حيوان في الهواء.

وفيه : أن الاسم قد يلاحظ فيه معنى وصفي اشتهر مسماه به ، فيتعلق به الظرف لذلك كقوله : «أسد عليّ وفي الحروب نعامة» (٢) لتضمنه معنى الصائل أو المقدم وقوله : «هو حاتم في البلد أي جواد».

وأما ما يقال من أنّ ملاحظة المعنى في أمثال الحاتم والأسد ليس إلا

__________________

(١) الأنعام : ٣.

(٢) مصراعه الآخر : فتخاء تنفر من صفير الصافر.

والبيت لعمران بن حطان السدوسي يهجو به الحجّاج الثقفي ، ويستهزئ به. ـ جامع الشواهد.

٢٠٤

لاشتهارهما بذلك ، وأما في اللفظة المقدسة فعليكم أن تثبتوا أن ذلك لدليل الاشتهار لا الاشتقاق ، ودون إثباته خرط القتاد.

ففيه أنّ الاحتمال كاف في دفع الاستدلال.

وبأنّ الاسم الموضوع إنما يحتاج إليه في الشيء الذي يدرك بالحس ويتصور في الوهم ، وينضبط في العقل ، حتى يشار بذلك الاسم الموضوع إلى ذاته المخصوصة ، والحق سبحانه يمتنع إدراكه بالحواس ، وكذا تصوره بالأوهام وانضباطه بمدارك العقول ، فيمتنع وضع الاسم العلم له ، وإنما يذكر سبحانه بالألفاظ الدالة على شيء من صفاته الجمالية أو الجلالية.

وفيه منع واضح لمسيس الحاجة إلى التعبير عن ذاته المقدسة ، فوجب في الحكمة وضع اسم لها كما قرّر في محله ، مع أنّه لا يتمّ على ما هو الحقّ من كون الواضع هو الله سبحانه.

وبأنّ المراد من وضع الاسم الإشارة بذكره إلى المسمّى ليعرف ذلك المسمى عن غيره ، والواجب الحق هو المجهول المطلق ، فلا مطمع لأحد في تعريفه وتعرفه ، فلا يبقى لوضع الاسم لهذه الحقيقة فائدة.

وفيه أنه ليس المقصود من وضع الاسم الإحاطة بكنه الحقيقة ، ولا معرفة الذات الإلهية ، بل في أيّ موضع حصل من وضع الاسم لحقيقة من الحقائق اكتناهها والإحاطة بحقيقتها ، وإنما المراد رفع حاجة المخلوق في دعائه والتوسل إليه والتعبير عنه والتوكل عليه ، وهذا قد يكون باعتبار ذاته المطلقة ، وقد يكون باعتبار تجلّيه بشيء من الصفات الجمالية الذاتية أو الفعلية أو الجلالية.

وأما ما يقال : من أن الذات المقدسة إما أن تدرك بمفهومات كلية منحصرة في فرد ، فيكون اللفظ موضوعا في الحقيقة لمفهوم ذلك الكلي لا لجزئي حقيقي فلا يكون علما ، وإن جعل المفهوم الكلي آلة للوضع ، وجعل الموضوع له الخصوصية

٢٠٥

التي يصدق عليها هذا المفهوم ، كما في الضمائر وأسماء الإشارة على ما قيل ، فلم يكن أيضا علما ، بل ينتظم في سلك المضمرات وأسماء الإشارة.

وأيضا البرهان قائم على أنّ التصور بوجه في حقه تعالى ممتنع إذ في المرتبة الأحدية لا اسم ولا رسم ولا نعت ولا وصف.

فلا يخفى عليك ما فيهما بعد ما سمعت ، لضعف الأول بأن الملحوظ هو العنوان لا على وجه يحتمل الشركة إذ نفيها من مشخصاته ، مضافا إلى ملزوميّة سلبها لغيره كالقيومية المطلقة ، ومبدئية الكل ، ووجوب الوجود وغيرها.

والثاني : بأن الحدود السلبية المذكورة أيضا من المشخصات المصحّحة للوضع ، هذا مضافا إلى ما قيل ، بل لعلّه الحق من أن الواضع هو الله مطلقا أو في أسمائه خاصة.

وبأنّ المقصود من وضع الاسم علما أن يتميّز المسمى عما يشاركه في نوعه أو جنسه ، وتعالى الله سبحانه أن يكون تحت جنس أو نوع ، فيمتنع وضع اسم علم له.

وفيه ما يظهر مما مر.

وبأن الاسم العلم لا يوضع إلا لما كان معلوما ، والخلق لا يعلمون الحقّ من حيث ذاته ، فوضع الاسم له محال ، وأيضا فالألفاظ إنّما تدلّ على ما تشخص في الأذهان لا على ما في الأعيان ، ولهذا قيل : الألفاظ تدل على المعاني والمعاني هي التي عناها العاني وهي أمور ذهنية متشخصة مقيدة متميزة عن سائر المتشخصات الذهنية ، والحق سبحانه منزه عن جميع ذلك.

وفيه أنه إن أريد بالعلم ما يمتاز به المعلوم من غيره فهو حاصل في المقام ولو بعنوان أنه واجب الوجود ، أو مبدء الكل ، بأن يكون المقصود هو المتعين بهذا الاسم لا من حيث الخصوصية ، وإن أريد العلم بالحقيقة وكنه الذات فهو غير لازم

٢٠٦

في شيء من المسميات.

وأما حكاية وضع الألفاظ للأمور الذهنية : فهو مما طال التشاجر فيه بين العلماء ، فعن بعضهم ذلك ، وعن آخرين أن الموضوع له هو الموجودات الخارجية ، ولكل منهما أدلة يمنع ضعفها عن التعرض بها في المقام.

نعم ، ربما بيني الخلاف فيها على الخلاف في مسألة أخرى ، وهو أن المعلوم بالذات هل هو الصورة الذهنية كما ذهب إليه الفارابي (١) ، والشيخ الرئيس ، وأتباعهما بناء على أنّ الحاصل في الذهن حقيقة هو الصورة الذهنية ، وذو الصورة إنما يحصل فيه بناء على أنّ صورة المطابقة وعدمها حاصلة فيه ، مع أنا نتصور بل نحكم على أشياء لا وجود لها في الخارج.

أو أنه هو ذو الصورة ، كما ذهب إليه المحقق الطوسي (٢) ، والرازي ، والسيد الشريف ، وغيرهم نظرا إلى أنّ ذا الصورة هو الملتفت إليه بالذات والصورة إنما هي من مراتب ملاحظته ، ولذا قد يحصل الالتفات إلى الأمر الخارجي من دون توجه إلى الصورة ، بل المتكلمون ذهبوا إلى نفي الوجود الذهني.

فالقائلون بالأول قالوا بالأول وبالثاني بالثاني.

وربما يزاد في المسألة قول ثالث وهو أن اللفظ في الموجود الخارجي موضوع لما هو موجود في الخارج ، وفيما عدى ذلك للأمر الذهني كما يظهر من صاحب «المحاكمات» (٣).

بل ربما يدّعى رجوع القولين المتقدمين إليه ، فيرجع النزاع لفظيا ، ويرتفع

__________________

(١) الفارابي أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان التركي الحكيم المتوفى (٣٣٩) ه. ـ العبر : ج ٢ / ٢٥٧.

(٢) هو محمد بن محمد بن الحسن نصير الدين الحكيم المتكلم المتوفى (٦٧٢) ه.

(٣) صاحب المحاكمات : قطب الدين محمد بن محمد الرازي المتوفى (٧٦٦) ه.

٢٠٧

الخلاف من البين في كلتا المسألتين.

نعم ، ربما يقال بوضع الألفاظ للماهية من حيث هي مع قطع النظر من كونها موجودة في الخارج أو الذّهن ، وهو جيّد بالنسبة إلى الطبائع الكليّة. فالحقّ كما قيل أن يقال : إنّ اللفظ في الكليّات موضوع للماهيّة من حيث هي ، وفي الجزئيّات الخارجية للّشخص الخارجي ، وفي الذهنيّة للشخص الذهني ، فلفظ الله على فرض كونه علما موضوع للذات من حيث هي ، وأمّا الخارج والذهن فهما ظرفان للأشخاص والصور الكائنة في سرادق الإمكان ، تعالى الله عن ذلك علّوا كبيرا.

نعم لا بأس فيه على فرض تعميم الخارج.

ومن جميع ما مرّ يظهر ضعف ما ذكره الشيخ صدر الدّين القونوى (١) في تفسير الفاتحة من إختيار وضع الألفاظ للمعاني الذّهنيّة نظرا إلى أنّه إذ راى جسم من بعيد وظنّ أنّه صخرة فاذا قرب وشوهدت حركته قيل : طير فاذا قرب جدّا قيل : إنسان ، فاختلاف الأسماء لاختلاف التّصورات الذّهنيّة يدلّ على أنّ مدلول الألفاظ هو الصّور الذّهنيّة ثمّ أيّده بأنّه على فرض الوضع للموجود الخارجي إذا قال إنسان : العالم قديم ، وقال غيره : إنّه حادث لزم كون العالم قديما حادثا معا وهو تناقض ، أمّا على فرض الوضع للمعاني الذّهنيّة يكون هذان القولان دالّين على حصول هذين الحكمين من هذين الانسانين بحسب تصوّرهما الذّهنى ولا تناقض في ذلك انتهى.

إذ فيه أنّ تغيير التّسمية لتغيّر الأمر الخارجي في اعتقاد المتكلّم إذ الصّخرة والطّير والإنسان قد وضع كلّ منهما للأمر الخارجي إلّا أنّ المتكلّم لمّا توهّم الشّبح

__________________

(١) هو محمد بن إسحاق صدر الدين القونوى من تلامذة ابن عربي توفى سنة (٦٧٢) ـ معجم المؤلّفين ج ٩ ص ٤٣.

٢٠٨

صخرة أطلق عليه لفظها ثمّ لمّا تبين خطاؤه وظنّ كونه طيرا أطلق عليه الطّير وهكذا فتغير الصورة الذهنيّة إنّما هو لتغيّر الشّبح في نظره فالعبرة بتغيّر الصورة الخارجيّة لا الذّهنيّة الّتي هي تابعة.

وأمّا ما أيّده به فهو بمكان من الضعف والقصور.

ثمّ انّ هذا الشيخ ذكر انّه لا يصحّ أن يكون للحقّ اسم علم يدلّ عليه دلالة مطابقة بحيث لا يفهم منه معنى آخر واستدلّ عليه بالأدلّة العقليّة الّتي مرّ الكلام مستقصى في نقلها وتزييفها.

وبالدّليل الذّوقى الّذي أطال الكلام في بيانه وحاصله أنّ الحقّ من حيث ذاته المجرّدة عن جميع التّعلقّات لا يقتضي أمرا ولا يناسبه شيء ولا يتقيّد بحكم ولا اعتبار ، ولا يتعلّق به معرفة ولا ينضبط بوجه ، وكلّ ما سمّي أو تعقّل بواسطة اعتبار أو اسم أو غيرها فقد تقيّد من وجه وانحصر باعتبار وانضبط بحكم ولا يجوز شيء من ذلك عليه سبحانه ، ولا يصحّ عليه حكم سلبّي أو ايجابيّ أو جمع بينهما أو تنزّه عنهما ، بل إدراك حقايق الأشياء من حيث بساطتها ووحدتها متعذّر ، إذ الواحد البسيط لا يدركه إلّا الواحد البسيط ، فاذا عجزنا عن إدراك حقايق الأشياء من حيث تجرّدها ، والمناسبة ثابتة بيننا من عدّة وجوه ، فعجزنا عن إدراك حقيقة الحقّ أولى وأحدى ، وعلى هذا فتسميتنا لها باسم يدل عليها بالمطابقة دون استلزامه معنى زائدا على كنه الحقيقة متعذّر ضرورة.

وتوهّم انّه يجوز أن يسمّى الحقّ نفسه باسم يدلّ على ذاته بالمطابقة ثمّ يعرّفنا ذلك الاسم فيكون هو المسمّي نفسه على ما يعلمها لا نحن.

مدفوع أوّلا بالاستقراء فانّ هذا النّوع لم نجده في الأسماء ولا نقل إلينا عن الرّسل الّذين هم أعلم الخلق بالله سيّما نبيّنا وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذينهم أعلم الرّسل وأفضلهم وأكملهم والشّاهد لهم والمهيمن عليهم مع أنّه كان يقول في دعائه : اللهم إنّى أسئلك

٢٠٩

بكلّ اسم سمّيت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علّمته أحدا من عبادك ، أو استاثرك به في علم غيبك (١).

فلو حصل له هذا الاسم ، مع ما تقرّر أنّ مثل هذا يكون أجلّ الأسماء وأشرفها وأكملها لكمال مطابقة الذّات واختصاصه بكمال الدّلالة عليها دون تضمّنه معنى آخر يوهم اشتراكا أو يفهم تعدّدا أو كثرة أو غير ذلك ، لم يحتج في دعائه إلى هذه التّقاسيم.

وأمّا ما يقال من أنّ جماعة من عباد الله عرفوا أسماء للحقّ تصرّفوا بها في كثير من الأمور وكانوا يدعون الحقّ بذلك فلم يتأخر إجابته ايّاهم فيما سئلوا كما دعا بلعم على موسى على نبيّنا وآله وعليه‌السلام وعلى قومه حتّى ماتوا في التيّه بعد أن بقوا فيه حيارى ما شاء الله من السّنين ، مع أنّه كان من الغاوين فلم يكن إلّا لخاصيّة الاسم.

ففيه انّا لا نمنع أن يكون لله أسماء يتصرّف بها في عالم الأكوان لكنّ المقصود منع دلالته على ذات الحقّ بالمطابقة التّامّة وأين هذا من ذاك.

وثانيا بأنّ التّعريف الواصل إلينا من الحقّ بهذا الاسم لا يمكن أن يكون بدون واسطة أصلا كما قال عزّ من قائل : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) (٢) مع أنّ أقلّ ما يتوقّف عليه الخطاب حجاب واحد وهو نسبة المخاطبة الحاصلة بين المخاطب والمخاطب ، والخطاب من احكام التّجلى ولوازمه ، والتّجلى لا يكون إلّا في مظهر يتبعه احكامه فينصبغ بحكم ما يصل إليه ويمرّ عليه والمخاطب مقيد باستعداد خاصّ ومرتبة

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٩٥ ص ٢٧٩ باب ١٠٨ في أدعية دفع المهموم ح ١ عن دعوات الراوندي ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع تفاوت يسير.

(٢) الشورى : ٥١.

٢١٠

وحالة وغيرها من القيود الّتي يتقيّد بها الخطاب فلا يبقى على إطلاقه.

أقول لا ريب أنّ مجرّد التّسميّة غير متوقف على الاحاطة التّامّة ومعرفة كنه الحقيقة ضرورة أنّ مثل هذه المعرفة غير حاصل لنا في شيء من المسمّيات ، ولا بالنّسبة إلى أنفسنا أيضا بل على وجه يمتاز به المسمّى عن غيره بلا فرق بين امتيازه عن الغير أو امتياز الغير عند كما في الواجب الحقّ ولذا قال مولينا على بن موسى الرضا عليه وعلى آبائه المطّهرين وعلى ذرّيّته المعصومين آلاف التّحية والثّناء : كنهه تفريق بينه وبين خلقه ، وغيوره (١) تحديد لما سواه (٢).

مع أنّ واجب الوجود وإن كان من حيث الكنه والحقيقة أخفى الأشياء لكنّه من حيث الانيّة والتّحقق أجلاها وأظهرها ، قال مولينا سيّد الشّهداء عليه الصّلوة والسّلام في دعاء عرفة : متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك ومتى بعدت حتّى تكون الآثار هي الّتي توصل إليك ، عميت عين لا تراك عليها ـ رقيبا. آه. (٣)

ولك أن تعتبر شيئا من العنوانات المختّصة كالواجب الحقّ ، والمجهول المطلق ، والقديم بالذات ، ونحوها وتعريه من جميع الملاحظات والاعتبارات حتّى من الجهة الّتي صار بها عنوانا للملاحظة وهذا الذي أشار إليه مولينا

__________________

(١) في بحار الأنوار : وغيوره (بالياء التحتانية) وقال في بيانه : الغيور إمّا مصدر ، أو جميع غير ، اى كونه مغايرا له تحديد لما سواه ، فكل ما سواه مغاير له في الكنه ، وفي شرح التوحيد للقاضي سعيد القمى : وغبوره (بالباء الموحّدة) وهو من الأضداد بمعنى الذهاب والمكث إلّا أنّ المراد هو الثاني أى البقاء ، فيصير المعنى أنّ بقائه سبحانه هو الّذى يحدّد وجود ما سواه ... إلخ.

(٢) البحار ج ٤ ص ١٢٨ ح ٣ عن التوحيد والعيون ـ وشرح التوحيد للقاضي سعيد القمى ج ١ ص ١٣٦.

(٣) بحار الأنوار ج ٩٨ في اعمال السنين والشهور والأيام ص ٢٢٦.

٢١١

أمير المؤمنين عليه‌السلام في بيان الحقيقة بقوله : «كشف سبحات الجلال من غير اشارة» (١).

فسبحات الجلال هي الشؤون الربّانية والصفات الجماليّة والجلاليّة ، وبعد كشفها وإلقائها بأجمعها لكونها أجنبيّة عن مقام الّذات يظهر سرّ الحقيقة بشرط عدم الإشارة رأسا كيلا يغشاها غشاوة التقيّد والتعيّن.

وهذا كما يعتبر العالم الأصولي الفرد من الماهيّة ويجعله مرآتا لملاحظة الطبيعة من حيث هي بإلغاء جميع القيود والمشخّصات ، فآلة الملاحظة هي الفرد ، والملحوظ هو الطبيعة من حيث هي ، لكن لله المثل الأعلى ، فلا ملاحظة في المقام. ولا ملحوظ أصلا إلّا على نحو التنزيه والتقديس عن احاطة الأوهام وإدراك الأفهام.

ثمّ إنّ هذا كلّه على فرض كون الواضع هو البشر ، ولكنّ الخطب أسهل فيه لو قلنا بأنّه هو الله تعالى في جميع الألفاظ كما يستفاد من بعض الأخبار وعليه جمع من علمائنا الأخيار.

وقد أشار الإمام عليه‌السلام في تفسير قوله : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) (٢) قال :

«علّمه أسماء كلّ شيء» (٣).

وفي صحف النبي إدريس على نبينا وآله وعليه‌السلام : «إن الله أنزل على آدم كتابا بالسريانية وقطع الحروف في إحدى وعشرين ورقة ، وهو أول كتاب أنزل الله تعالى في الدنيا وأنزل الله عليه الألسن كلها ، فكان فيه ألف ألف لسان لا يفهم

__________________

(١) ذيل شرح التوحيد للعارف القاضي سعيد القمى ج ٢ ص ٥٢٢ بتحقيق الدكتور نجفقلى الحبيبي قال : هذا الحديث المنقول عن كميل النخعي صاحب مولينا أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث سأله عن الحقيقة نقله السيّد حيدر الآملي في جامع الأسرار ص ٢٨.

(٢) البقرة : ٣١.

(٣) في بصائر الدرجات ص ٤٣٨ ، عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أما إن جبرئيل أخبرني أن الله علمك اسم كل شيء كما علم آدم الأسماء كلها.

٢١٢

فيه أهل لسان من أهل لسان حرفا واحدا بغير تعليم» (١).

أو في بعض الأسماء التي منها خصوص أسماء الله تعالى ، ولذا قيل : إنّها توقيفية لا يجوز إطلاقها إلّا بعد الوصول من صاحب الشريعة ، كما قال مولانا الرضا عليه‌السلام : «إنّ الله تبارك وتعالى قديم ، والقدم صفة دلت العاقل على أنه لا شيء قبله ولا شيء معه في ديمومته ، ثم وصف نفسه تبارك وتعالى بأسماء دعا الخلق إذ خلقهم وتعبدهم وابتلاهم إلى أن يدعوه بها ، فسمى نفسه سميعا بصيرا قادرا حيا قيوما» (٢).

وسأل محمّد بن سنان أبا الحسن الرضا عليه‌السلام ، هل كان الله عارفا بنفسه قبل أن يخلق الخلق؟ قال :

«نعم» إلى أن قال : «فليس يحتاج إلى أن يسمّي نفسه ولكنّه اختار لنفسه أسماء لغيره يدعوه بها ، لأنه إذا لم يدع باسمه لم يعرف.

فأوّل ما اختاره لنفسه العليّ العظيم ، لأنّه أعلى الأسماء كلها ، فمعناه الله ، واسمه العلي العظيم» (٣).

تجديد للكلام وعود للمرام

وحيث قد سمعت ضعف أدلّة الفريقين القائلين بالعلمية وبالاشتقاق ، فاعلم أنّ الحقّ الذي لا محيص عنه هو القول بالاشتقاق لجريان قواعد الاشتقاق فيه على حسب غيره من الألفاظ المشتقّة التي لا تحتاج إلى تجشّم الاستدلال على اشتقاقها

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١١ / ٢٥٧ ، ح ٣ عن سعد السعود ص ٣٧.

(٢) البحار : ج ٤ / ١٧٦ ، عن التوحيد والعيون.

(٣) بحار الأنوار : ج ٤ / ٨٨ ، عن التوحيد والمعاني والعيون.

٢١٣

غير ملاحظة اتحاده مع أصله الذي هو مادّته في جوهر الحروف ، وحقيقة المعنى حسبما تسمع الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

وللأخبار الكثيرة الدالة على ذلك ، ففي «الكافي» و «التوحيد» و «الاحتجاج» عن هشام بن الحكم قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن أسماء الله واشتقاقها ، فقلت : الله ممّا هو مشتق؟ فقال : «يا هشام! الله مشتق من إله وإله يقتضي مألوها ، والاسم غير المسمى ، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر» (١).

وفي «التوحيد» عن أبي جعفر عليه‌السلام قال :

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «معنى الله الذي يأله فيه الخلق ويؤله إليه ، و «الله» هو المستور عن درك الأبصار ، المحجوب عن الأوهام والخطرات».

ثم قال أبو جعفر عليه‌السلام : «الله معناه المعبود الذي اله الخلق عن درك ماهيّته والإحاطة بكيفية وتقول العرب : اله الرجل إذا تحيّر في الشيء ، فلم يحط به علما ، ووله إذا فزع إلى شيء مما يحذره ويخافه ، فالإله هو المستور عن حواسّ الخلق» إلى أن قال : «فمعنى قول «الله أحد» أي المعبود الذي يأله الخلق عن إدراكه والإحاطة بكيفية» (٢).

وفي تفسير الإمام الهمام عليه وعلى ابنه الحجّة وعلى آبائه الكرام آلاف التحية والسلام :

«الله هو الذي يتألّه إليه عند الحوائج والشدائد كل مخلوق وعند انقطاع الّرجاء من كل من دونه ، وتقطّع الأسباب من جميع من سواه ، تقول بسم الله ، أي أستعين على أموري كلها بالله الذي لا يحقّ العبادة إلا له ، المغيث إذا استغيث ،

__________________

(١) البحار : ج ٤ / ١٥٧ ، ح ٢ ، عن الاحتجاج.

(٢) بحار الأنوار : ج ٣ / ٢٢٢ ـ ٢٢٣ ، ح ١٢ ، عن التوحيد.

٢١٤

والمجيب إذا دعي» إلى أن قال : «قال جدي أمير المؤمنين عليه‌السلام : الله أعظم اسم من أسماء الله تعالى ، وهو الاسم الذي لا ينبغي أن يسمّى به غير الله ، ولن يسمّ به مخلوق» قيل : فما تفسيره؟

قال عليه‌السلام : «هو الذي يتأله إليه عند الحوائج» (١).

إلى آخر ما مر عنه عليه‌السلام.

وفي الخطبة الرضوية : «رب إذ لا مربوب ، إله إذ لا مألوه» (٢).

ودلالة الأخبار على الاشتقاق واضحة من حيث التصريح به ، والتعبير عن الاسم الشريف بالمعبود ، وغيره من المعاني الوصفية ، كالفزع إليه ، والتحير فيه ، والعجز من إدراكه.

ويؤيّده الوجوه المتقدمة لإثبات الاشتقاق وإبطال العلمية وإن أشرنا إلى بطلان جملة منها.

وعلى كل حال ، فالقائلون باشتقاقه اختلفوا في المبدأ ، فقيل : إنه من الآلهة كالعبادة وزنا ومعنى ، ويؤيّده قراءة مولانا أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام : (وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) (٣) أي عبادتك (٤).

ورواه الجمهور عن ابن عباس ، وحكي عنه أنه قال : «أصل هذا الاسم (إله) على فعال بمعنى مفعول ، لأنه مألوه أي معبود كقولنا : (إمام) فعال بمعنى مفعول لأنه مؤتم به».

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٩٢ / ٢٣٢ ، عن التوحيد ص ١٦٣.

(٢) البحار : ج ٤ / ٢٨٥ ، عن التوحيد.

(٣) الأعراف : ١٢٧.

(٤) المختصر في شواذ القرآن : ص ٤٥ ، لابن خالويه الحسين بن أحمد المتوفى سنة (٣٧٠) أو (٣٧١) ه.

٢١٥

كذا في «الصحاح» ثم أدخلت عليه الألف واللام فصار (الإله) ثم خفّفت الهمزة بأن ألقيت حركتها على اللام الساكنة قبلها وحذفت فصار (اللاه) ، ثم أجريت الحركة العارضة مجرى الحركة اللازمة فأدغمت اللام الأولى في الثانية بعد أن سكنت حركتها فقيل : (الله).

قالوا : وليست الألف واللام عوضين عن الهمزة المحذوفة وإلّا اجتمعا مع المعوض عنه في قولهم (الإله).

ولكن قال الجوهري (١) : «سمعت أبا علي (٢) النحوي يقول : إنهما عوض عنها ، قال : ويدل على ذلك استجازتهم لقطع الهمزة الموصولة الداخلة على لام التعريف في القسم والنداء ، وذلك قولهم : أفالله ليفعلن ، ويا الله اغفر لي ، الا ترى أنه لو كانت غير عوض لم تثبت كما لم تثبت في غير هذا الاسم. قال : ولا يجوز أن يكون للزوم الحرف لأنّ ذلك يوجب ان تقطع همزة الذي والّتي قال : ولا يجوز أيضا أن يكون لأنّها همزة مفتوحة وإن كانت موصولة ، كما لم يجز في أيم الله وأيمن الله التي هي همزة وصل فإنها مفتوحة.

قال : ولا يجوز أن يكون ذلك أيضا لكثرة الاستعمال لأن ذلك يوجب أن تقطع الهمزة أيضا في غير هذا مما يكثر استعمالهم له ، فعلمنا أن ذلك لمعنى اختصّت به ليس في غيرها ولا شيء أولى بذلك المعنى من أن يكون المعوّض من الحرف المحذوف الذي هو الفاء» (٣). انتهى ما حكاه في الصحاح.

__________________

(١) الجوهري : إسماعيل بن حماد أبو نصر الأديب اللغوي ، اختلفوا في تاريخ وفاته بين (٣٣٣ ، ٣٥٣ ، ٣٩٦ ، ٣٩٨ ، و ٤٠٠) ـ ريحانة الأدب : ج ١ / ٤٣٨.

(٢) أبو علي الفارسي : الحسن بن أحمد بن عبد الغفار النحوي المتوفي (٣٧٧) ه. ـ العبر : ج ٣ / ٤.

(٣) الصحاح : ج ٦ / ٢٢٢٣ ، باب الهاء ، ط بيروت.

٢١٦

وقيل : إنها من الألهانية على وزن الرهبانية بمعنى العبادة أيضا ، كما في الخبر : «إذا وقع العبد في ألهانية الرب ...» (١).

أو من ألهت إلى فلان ، أي سكنت ، فإن النفوس لا تسكن إلا إليه ، والعقول لا تقف إلا لديه ، لأنه المقصود المطلوب (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (٢).

أو من أله الرجل يأله إذا تحير في الشيء ، لتحير الأوهام من إدراك كنه جلاله ، وذهول الأفهام دون النظر إلى سبحات وجهه.

ولذا ورد النهي عن التفكر في الله ، وإليه الإشارة بقوله : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) (٣).

وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا» (٤).

ولبعض المتحيرين :

قد تحيّرت فيك خذ بيدي

يا دليلا لمن تحيّر فيكا

ويؤيده ما مر عن «التوحيد» عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام معنى الله المعبود الذي يأله فيه الخلق ويؤله إليه (٥).

فقوله : (يأله فيه) ، أي يتحيّر فيه ، ويؤله إليه ، أي يسكن إليه.

__________________

(١) قال ابن منظور الإفريقي في لسان العرب ج ١٣ حرف الهاء ، فصل الهمزة : الألهانيّة ، في حديث وهيب بن الورد : إذا وقع العبد في ألهانيّة الرّب. مهيمنيّة الصدّيقين ، ورهبانيّة الأبرار لم يجد أحدا يأخذ بقلبه.

وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب ج ١١ ص ١٥٠ رقم ٧٨١١ : وهيب بن الورد بن ابى الورد القرشي ... كان من العبّاد المتجردين لترك الدنيا مات سنة (١٥٣).

(٢) الرعد : ٢٨.

(٣) النجم : ٤٢.

(٤) في بحار الأنوار : ج ٣ / ٢٥٩ ، ح ٦ وص ٢٤٦ ، ح ٢٢ عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام.

(٥) بحار الأنوار : ج ٣ / ٢٢٢ ، ح ١٢.

٢١٧

أو من أله الرجل بالكسر فيه كسابقه يأله إذا فزع من أمر نزل به ، فآلهه بمد الألف وفتح اللام وهمزته للسلب ، أي أجاره ، فإنه المجير لكل الخلايق من كل المضار وهو الذي بيده (بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ، وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) (١).

أو من أله الفصيل إذا ولع بأمه ، لأن العباد في البليات يتضرعون إليه ، وفي المهمات يتوكلون عليه (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) (٢).

أو من لاه يلوه إذا احتجب لاحتجاب نوره بكمال ظهوره ، ولأن خلق الله حجاب بينه وبينهم ، كما قال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : «والله هو المستور عن درك الأبصار ، المحجوب عن الأوهام والخطرات» (٣).

أو من لاه بمعنى ظهر فهو من الأضداد لظهوره لمخلوقاته.

(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) (٤).

أو من لاه بمعنى ارتفع لارتفاعه عن مشابهة الممكنات ، وعن إحاطة العقول والإدراك.

أو أنه على هذين الوجهين أصله لاه ، مصدر لاه يلوه ليها بالكسر ولاها بالفتح ، إذا احتجب وارتفع ، لاحتجابه عن إدراك البصائر والأبصار ، وارتفاعه عما تدركه العقول والأفكار (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) (٥).

ومما يؤمي إلى ذلك الخبر الآتي في بحث الاشتقاق المروي عن الكاظم عليه‌السلام قال : «إن الله تبارك وتعالى خلق نور محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من اختراعه ـ من نور عظمته

__________________

(١) المؤمنون : ٨٨.

(٢) الروم : ٣٣.

(٣) بحار الأنوار : ج ٣ / ٢٢٢ ، ح ١٢ ، عن التوحيد.

(٤) فصلت : ٥٣.

(٥) الأنعام : ١٠٣.

٢١٨

وجلاله ، وهو نور لاهوتيّته الذي تبدّى» (١). من لاه ، أي من آلهيته.

أو انه من وله إذا تحير وتخبط عقله ، وأصله ولاه ، فقلبوا الواو همزة لاستثقال الكسرة عليها استثقال الضم في وجوه ، فقيل : إلاه ، كما قيل : إعاء ، وإشاح ، وأصلهما وعاء ووشاح.

قيل : ويرده الجمع على (آلهة) دون (أولهة) ، فإن جمع الكثرة كالتصغير يرد الأشياء إلى أصولها ، كما جمع إعاء وأشاح على أوعية وأوشحة.

وربما يدفع بأنّه لما أبدلت الواو همزة في جميع تصاريف (اله) عوملت معاملة الأصلية.

ويؤيّده كلام الجوهري : «أله يأله ألها وأصله وله يوله ولها».

وعلى كل حال فالأقوال في اشتقاقه كثيرة جدّا ، وإن أمكن إرجاع بعضها إلى بعض.

بل قال في «القاموس» : «أله إلهة وألوهة وألوهية عبد عبادة ، ومنه لفظ الجلالة ، واختلف فيه على عشرين قولا ذكرتها في المباسيط ، وأصحها أنه علم غير مشتق ، أو أصله إله كفعال ، بمعنى مألوه ، وكل ما أتّخذ معبودا إله عند متخذه بين الإلاهة بالكسر ، والألاهة بالضم ، والألهانية كرهبانية.

وقال في لاه يليه ليها بمعنى تستر : أنه جوّز سيبويه اشتقاق لفظ الجلالة منها» انتهى.

لكن قد سمعت أنّ الأظهر الأقوى فيه الاشتقاق للمعتبرة المستفيضة عن أئمة الدين عليهم‌السلام الذين هم أعلم الخلق بالله ، وبصفاته العليا ، وأسمائه الحسنى ، سيّما بعد حقوق شرائط الاشتقاق فيه ، ومناسبة لما اشتق منه مادة وصورة.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٣٥ / ٢٨ ، ح ٢٤ ، عن كنز الدقائق.

٢١٩

نعم ، يمكن الإشكال فيها من حيث اختلافها في نفسها لتضمن بعضها اشتقاقه من وله بمعنى فزع ، أو من أله بمعنى تحيّر أو عبد أو احتجب ، أو غير ذلك.

لكن مع ذلك لا ينبغي التأمل في أصل الاشتقاق للأخبار التي يستفاد منها كون هذا البحث مطرحا للأنظار في عصر الأئمة الأطهار عليهم‌السلام ، بل يمكن دفع الإشكال أيضا بعد إمكان إرجاع الجميع إلى مادة واحدة لو لم يرجع إلى معنى واحد.

مضافا إلى إعمال حكم الترجيح بينها حسب ما هو قضية التعارض بعد جواز اشتقاقه عن كل منها ، واشتراك الكل في عدم دلالته على الذات المقدسة من حيث هي لدلالتها على الشؤون والسبحات التي هي فزع المخلوقين إليه أو تحيرهم فيه أو عبادتهم إلى غير ذلك.

بل ربما يقال بجواز اشتقاق هذه المواد بتلك المعاني عن ذلك الاسم المقدس ، سيّما على مذهب بعض أصحاب العربية ، بل قطع الشيخ الأحسائي (١) طاب ثراه ، حيث قال في «شرح التبصرة» بعد حكاية جملة من الأقوال : «إن هذه الأقوال كما ترى ، لأنّ استعمال المشتقّ من شيء مسبوق باستعمال ذلك الشيء ولا كذلك هذا ، بل الحقّ أنّها كلها مشتقة منه وفائضة عنه.

ولعل ما ذكره قدس‌سره بالنسبة إلى الاشتقاق المعنوي ، وإلا فهو بالنسبة إلى الاشتقاق اللفظي ضعيف كما لا يخفى.

__________________

(١) تقدم أنه الشيخ أحمد بن زين الدين بن إبراهيم الإحسائي المتوفى بالمدينة المنورة سنة (١٢٤٢) ه أو بعدها ، وقيل في تاريخ وفاته :

الشيخ أحمد بن زين الدين

ذو العلم والشهود واليقين

فوارة النور جليل أمجد

بعد (دعاء) رحم الشيخ أحمد

ولا يخفى أن العلماء في عصره وبعده مختلفون في حقه بين مثن عليه وقادح فيه ، والله تعالى هو العالم.

٢٢٠