تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٣

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-6289-73-8
الصفحات: ٧٤٨

والأخبار المستفيضة لو لم تكن متواترة كخبر معاوية (١) بن عمار عن الصادق عليه‌السلام قال : قلت له : إذا قمت للصلاة اقرأ بسم الله الرحمن الرحيم في فاتحة الكتاب؟

قال : نعم ، قلت : فإذا قرأت فاتحة الكتاب أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم مع السورة؟ قال : نعم (٢).

وصحيح محمد (٣) بن مسلم قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن السبع المثاني والقرآن العظيم أهي الفاتحة؟ قال : «نعم هي أفضلهن» (٤).

وخبر يحيى (٥) بن أبي عمران الهمداني قال : كتبت إلى أبي جعفر عليه‌السلام : جعلت فداك! ما تقول في رجل ابتدأ بسم الله الرحمن الرحيم في صلاته في أم الكتاب وحده ، فلما صار إلى غير أم الكتاب من السورة تركها؟

فقال العياشي : ليس بذلك بأس ، فكتب عليه‌السلام بخطه : يعيدها مرتين على رغم أنفه (٦) ـ يعني العياشي ـ.

والمراد إعادة الصلاة لا البسملة والحمل على تركها سهوا مع بقاء المحل بعيد من السياق.

وذكر بعض المحدثين أن العياشي إن حمل على الرجل المشهور صاحب التفسير فينبغي تخصيصه بكون ذلك في أول عمره ، فإنه كان من فضلاء العامة ثم

__________________

(١) معاوية بن عمار بن أبي معاوية خباب بن عبد الله الكوفي ، كان من ثقات أصحاب الصادق والكاظم عليهما‌السلام.

(٢) وسائل الشيعة : ج ٢ / ٧٤٦ ، ح ٥ عن فروع الكافي : ج ١ / ٨٦.

(٣) محمد بن مسلم بن رباح الطحان الكوفي الفقيه الوجيه المتوفى (١٥٠) ه. رجال النجاشي : ٣٢٣.

(٤) الوسائل : ج ٢ / ٧٤٥ عن التهذيب : ج ١ / ٢١٨.

(٥) يحيى بن أبي عمران الهمداني من أصحاب الرضا عليه‌السلام وثقه أرباب الرجال.

(٦) الوسائل : ج ٢ / ٧٤٦ ، ح ٦ عن فروع الكافي : ج ١ / ٨٦.

١٠١

استبصر ورجع إلى مذهب الشيعة ، فالحمل عليه غير بعيد (١) ، ويحتمل غيره.

قلت : لكن الموجود في بعض نسخ الوسائل وغيره «العباسي» بالموحدة والمهملة ، وعليه فالمراد بعض العباسيين أو بعض فقهائهم (٢).

وعن أمير المؤمنين روحي له الفداء عليه آلاف التحية والثناء أنه بلغه أن أناسا ينزعون (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فقال عليه‌السلام : «هي آية من كتاب الله أنساهم إياها الشيطان» (٣).

وفي «العيون» بالإسناد إنه قيل لأمير المؤمنين عليه‌السلام : أخبرنا عن (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) أهي من فاتحة الكتاب؟ فقال : «نعم ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقرؤها ويعدّها آية» (٤).

وعن الصادق عليه‌السلام : «ما لهم قاتلهم الله عمدوا إلى أعظم آية في كتاب الله فزعموا أنها بدعة إذا أظهروها ، وهي (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (٥)».

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة المستفيضة المعتضدة بالشهرة العظيمة بل بإجماع الطائفة المحقة.

ومن هنا يظهر أن ما دل على خلافه كصحيحة محمد بن مسلم عن الصادق عليه‌السلام في الرجل يكون إماما فيستفتح الحمد ولا يقرء (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ

__________________

(١) الحمل عليه بعيد جدا لأنه كان معاصر للكليني ، وتوفي على ما في معجم المؤلفين : ج ١٢ / ٣٠ سنة (٣٢٠) ه ، ولعله لم يولد في عصر الإمام الجواد عليه‌السلام.

(٢) الظاهر أنه هشام بن إبراهيم العباسي الذي قالوا في ترجمته : إنه كان مؤمنا في أول أمره وصار زنديقا في آخره ، راجع : معجم رجال الحديث ، رقم ١٥٣٨٨.

(٣) تفسير العياشي : ج ١ / ٢١ ، ح ١٢.

(٤) عيون الأخبار : ص ١٨١ ، وعنه الوسائل : ج ٢ / ٧٤٧ ، ح ١٠.

(٥) مستدرك الوسائل : ج ٤ / ١٦٦ ، عن تفسير العياشي : ج ١ / ٢١.

١٠٢

الرَّحِيمِ) ، فقال : «لا يضره ولا بأس» (١).

وموثق مسمع (٢) ، قال : صلّيت مع أبي عبد الله عليه‌السلام ، فقرأ : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، ثم قرأ السورة التي بعد الحمد ولم يقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ثم قام في الثانية فقرأ الحمد ولم يقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (٣).

وصحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يفتتح القراءة في الصلاة أيقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)؟ قال : «نعم ، إذا افتتح الصلاة فليقلها في أول ما يفتتح ثم يكفيه ما بعد ذلك» (٤).

ينبغي حملها على التقية أو على عدم الإجهار بها. أو على عدم وجوبها في السورة أو كون الصلاة نافلة ، أو غيرها ، وإن كان الأظهر حملها على الأول كما يظهر من سياق بعضها ، وإلا فيتعين طرحها لندرتها وشذوذها ومخالفتها لما مر كشذوذ ما يحكى عن ابن الجنيد (٥) من أنها في الفاتحة بعضها ، وفي غيرها افتتاح لها.

وبالجملة فأصحابنا كأكثر المخالفين على عدّها آية جميع السور ، ولذا أثبتوها في المصاحف بخط القرآن مع شدة اهتمامهم بعدم كتابه غيره بخطه ، ولذا

__________________

(١) الوسائل : ج ٢ / ٧٤٩ ، ح ٥ عن التهذيب : ج ١ / ١٥٣.

(٢) هو مسمع بن عبد الملك بن مسمع بن مالك أبو سيار كردين الكوفي البصري ، كان من أصحاب الباقر والصادق والكاظم عليهم‌السلام ، وثقه الشيخ.

(٣) الوسائل : ج ٢ / ٧٤٨ ، ح ٤ ، عن التهذيب : ج ١ / ٢١٨.

(٤) الوسائل : ج ٢ / ٧٤٨ ، ح ٣ ، عن التهذيب : ج ١ / ١٥٣.

(٥) ابن الجنيد : محمد بن أحمد بن الجنيد أبو علي الكاتب من أكابر علماء الإمامية ومن أفاضل قدمائهم وأكثرهم علما وفقها وأدبا وتصنيفا ، وثقه النجاشي وروى عنه المفيد ، قيل : توفي بالري سنة (٣٨١) ه. ـ سفينة البحار ك ج ١ / ٦٦٦.

١٠٣

كتبوا تراجم السورة والأجزاء وأنصافها والأحزاب وركوعاتها بالتغير ، مضافا إلى الأخبار الكثيرة الواردة من طرق العامة أيضا.

بل حكي شيخنا البهائي عن صريح بعض محدثيهم أنها تجاوز العشرة (١).

نعم ، للقراء تفصيل في البسملة ، وهو أنها تأتي في ثلاثة مواضع : إذا ابتدأ سورة أو موضعا منها أو بين السورتين.

ففي الأول : أجمعوا على البسملة كما حكاه في «شرح طيبة النشر في القراءات العشر» ، نعم ، استثنوا منها سورة التوبة ، لكونها من الأنفال كما حكوه عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أو لنزولها بالسيف ورفع الأمان.

وفي الثاني وهو أوساط السور ، قالوا : القاري فيه مخيّر بين الإتيان بالبسملة فيه بعد الاستعاذة ، وبين الاقتصار على الاستعاذة ، يرجح البسملة إذا كان مفتتح الآية شيئا من أسماء الله تعالى ، والاستعاذة إذا كان اسم الشيطان ، وذلك كله في سوى برائة ، فإنه يحتمل التخيير فيها كغيرها ، ويحتمل المنع من البسملة.

قلت : أما التخيير يمكن استفادته من الإطلاقات الآمرة بالاستعاذة من الكتاب والسنة بضميمة ما رواه في «الكافي» عن فرات (٢) بن أحنف عن أبي جعفر عليه‌السلام ، قال : سمعته يقول :

«أوّل كل كتاب نزل من السماء بسم الله الرحمن الرحيم ، فإذا قرأت بسم الله الرحمن الرحيم فلا تبالي أن لا تستعيذ ، وإذا قرأت بسم الله الرحمن الرحيم سترتك

__________________

(١) لم أظفر على هذه الحكاية عن الشيخ بهاء الدين قدس‌سره لا في «العروة الوثقى» ولا في «الحبل المتين».

(٢) فرات بن الأحنف العبد الهلالي أبو محمد ، روى عن السجاد والباقر والصادق عليهم‌السلام ، ضعفه أرباب التراجم وقالوا : يرمى بالغلو.

١٠٤

فيما بين السماء والأرض» (١).

وهذا المعنى يستفاد من غيره من الأخبار أيضا تصريحا وتلويحا.

مضافا إلى ما سمعت من أنّ حقيقة الاستعاذة هي الالتجاء والتفويض والتوكل ، والتسمية مشتملة على تلك المقامات حسب ما تسمع إن شاء الله ، ولذا قال مولانا الرضا عليه آلاف التحية والثناء :

«بسم الله يعني أسم نفسي بسمة من سمات الله ، وهي العبادة ، قيل : وما السمة؟ قال : العلامة» (٢).

بل التحقيق أن التسمية والاستعاذة بمنزلة التولي والتبري الذين إذا اجتمعا افترقا ، وإذا افترقا اجتمعا كغيرهما من الألفاظ التي حالها كذلك كالفقراء والمساكين.

إلا أنه لا يخفى أن هذا كله لا يدفع استحباب الاستعاذة عينا بعد تعلق الأمر به في ظاهر الكتاب ، وتعليقه على الشرط المفيد للعموم حسب تحقق الشرط.

مضافا إلى أن البسملة أيضا من القرآن الذي أمرنا الله سبحانه عند إرادة قراءته بالاستعاذة ، وغاية ما يدل عليه خبر فرات مع الغض عن ضعفه ، وقصوره عن تخصيص ظاهر الكتاب إنما هو حصول الغاية التي هي حجب الشيطان وطرده كما هو الظاهر من مساقه ، وأين هذا من سقوط الحكم الندبي الثابت بظاهر الآية.

وقد ظهر من جميع ما مر أن الأولى هو الجميع بين الاستعاذة والبسملة مطلقا في مفتتح السور وأوساطها ، وأما أوساط سورة برائة فلا وجه لاستثنائها أو الترديد فيها مطلقا ، نعم ، قد سمعت أن البسملة ليست جزءا منها وأين هذا من عدم

__________________

(١) الوسائل : ج ٢ / ٧٤٦ ، ح ٨ ، عن فروع الكافي : ج ١ / ٨٦.

(٢) عيون الأخبار : ج ١ / ٢٦٠ ، ح ١٩ ، وعنه كنز الدقائق : ج ١ / ٤٢ ، ط مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم.

١٠٥

استحباب البسملة أو المنع منها في قراءة بعض آياتها.

وأما في الثالث : وهو البسملة بين السورتين فاختلفوا على أقوال ثلاثة :

البسملة بينهما ، والوصل ، أي وصل أخر الأولى بأول الثانية من دون وقف ولا سكت ولا بسملة ، والسكت وهو عبارة عن قطع الصوت زمنا دون زمن التوقف عادة من غير تنفس ، وقد اختلف عبارتهم في التأدية عنه من حيث طول زمن السكت وقصره.

قالوا : والمشافهة أصدق حاكم به ، وعلى كل حال فأصحاب البسملة قالون (١) ، وعاصم (٢) ، وابن كثير ، وأبو جعفر (٣) ، والكسائي بغير خلاف من أحد منهم ، وكذا الإصفهاني (٤) ، عن ورش (٥).

وأما الوصل فهو المحكي عن حمزة ، وأما أصحاب السكت فورش ، وأبو عمرو (٦) ، وابن عامر.

وعن ابن مجاهد (٧) كل من الوصل والسكت كما حكاه عنه في «التيسير» ،

__________________

(١) هو أبو موسى عيسى بن مينا الزهري مولاهم المدني ، صاحب نافع وكان قارئ أهل المدينة توفي سنة (٢٢٠) ه. ـ العير ج ١ / ٣٨١.

(٢) هو عاصم بن أبي النجود (بهدلة) الأسدي الكوفي ، أحد القراء السبعة ، توفي سنة (١٢٧) ه.

(٣) أبو جعفر القري : يزيد بن القعقاع المدني أحد العشرة ، قرأ على مولاه عبد الله بن عياش ، مات حدود سنة (١٣٠) ه. ـ التمهيد : ج ٢ / ١٩٦.

(٤) هو محمد بن عبد الرحيم المقرئ الإصفهاني ، توفي ببغداد سنة (٢٩٦) ه.

(٥) هو عثمان بن سعيد المصري المقرئ الملقب ب (ورش) لشدة بياضه ، توفي سنة (١٩٧ ه‍.) ، التمهيد : ج ٢ / ٢٠٣.

(٦) هو : أبو عمرو بن العلاء المازني المقرئ البصري واسمه زبان ، كان أحد السبعة ، روى عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، توفي سنة (١٥٤) ه.

(٧) ابن مجاهد : أحمد بن موسى بن العباس البغدادي المقرئ ، توفي (٣٢٤) ه.

١٠٦

لكن في «طيبة النشر» عن ابن عامر ، وأبي عمرو ، ويعقوب (١) ، وورش من طريق الأزرق (٢) الأوجه الثلاثة وهي : السكت ، والوصل ، والبسملة.

لكن اختار أصحاب الوصل في (ويلين) وفي (لا أقسمين) السكت ، وأصحاب السكت في الاربعة البسملة ، لكن الحقّ ما سمعت أوّلا فلا داعي للتعرض لنقل كلامهم إلّا الإفصاح عن فساد مرامهم.

نعم ، بقي الإشكال في الفصل بين (الضحى) و (ألم نشرح) وكذا بين (الفيل) و (لإيلاف) بالبسملة وعدمها ، حيث إنّك قد سمعت أن الأوليين سورة واحدة كالأخريين ، ففي «مجمع البيان» عن أبي بن كعب أنه لم يفصل بينهما بالبسملة في مصحفه.

وقال الشيخ في «الاستبصار» أن هاتين السورتين سورة واحدة عند آل محمد صلى الله عليهم أجمعين ، وينبغي أن يقرئهما موضعا واحدا ، ولا يفصل بينهما (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) في الفرائض (٣).

وفي «الفقه الرضوي» عنه عليه‌السلام قال :

«ولا تقرأ في صلاة الفريضة (والضحى) ، و (ألم نشرح) ، و (ألم تر كيف) ، و (لإيلاف) ، لأنه روي أن (والضحى) و (ألم نشرح) سورة واحدة ، وكذا (ألم تر كيف) ، و (لإيلاف) سورة واحدة ، إلى أن قال : فإذا أردت قراءة بعض هذه السور فاقرأ : (والضحى) و (ألم نشرح) ولا تفصل بينهما ، وكذلك (ألم تر كيف)

__________________

(١) هو يعقوب بن إسحاق الحضرمي القاري البصري المتوفى (٢٠٥) ه.

(٢) هو أبو يعقوب الأزرق يوسف بن عمرو المدني المصري ، لزم ورشا مدة طويلة ، مات حدود سنة (٢٤٠) ه.

(٣) الاستبصار : ج ١ / ٣١٧ ، في ذيل الحديث الرابع.

١٠٧

و (لإيلاف) (١).

لكن المحكي عن العلامة وغيره البسملة بينهما للإثبات في المصاحف ، وعدم منافاة ذلك لوحدة السورة كما في سورة النمل ، كما أنه لا ملازمة بين تركها والوحدة كما في سورة برائة ، بل ربما يقال : إن في صحيح زيد (٢) الشحام : قال : صلى بنا أبو عبد الله عليه‌السلام فقرأ (والضحى) و (ألم نشرح) في ركعة (٣) ، دلالة عليه ، إذ لو ترك عليه‌السلام البسملة لذكره الراوي أيضا كما ذكر الجمع ، ولذا قيل : إن البسملة أحوط ، والأحوط منها تركهما في الفريضة رأسا ، وتمام الكلام في مقام آخر ، وقد سمعت بعض الكلام في المقدمات.

وعلى كل حال فحيث قد ثبت كون البسملة جزءا من السور ، بل آية برأسها ، بل ستسمع اشتمالها على جميع ما في القرآن من الأمور التشريعية والتكوينية مما كان أو يكون فلنشر بعض حقائقها في فصول :

__________________

(١) فقه الرضا : ص ٩ ، وعنه مستدرك الوسائل : ج ٤ / ١٦٤ ، ح ٤٣٨٤.

(٢) هو زيد بن محمد بن يونس أبو أسامة الشحام الكوفي ، من أصحاب الباقر والصادق والكاظم عليهم‌السلام ، وثقه النجاشي في رجاله : ص ١٧٥.

(٣) وسائل الشيعة : ج ٢ / ٧٤٣ ، الباب ١٠ من أبواب القراءة في الصلاة ، عن التهذيب : ج ١ / ٢٢٥.

١٠٨

الفصل الأوّل

الباء

في الباء والبحث فيها مرة في الأحكام اللفظية ، وأخرى في الحقائق العلمية.

أمّا الأحكام اللفظية فاعلم أنّ الباء من الحروف المفردة المعانيّة التي لها معنى حرفي لا المبانيّة التي يتركب منها الكلام ، ومن حقّها أن تفتح فإنهم لمّا بالغوا في تخفيفها بوضعها في الأصل على حرف واحد ، وكانت مبنيّة ، والأصل في البناء السكون ، وتعذر الابتداء بالساكن بنوها على الفتح ، لأنه أخفّ الحركات لكنهم قالوا : إنّها لمّا اختصت من بين الحروف بلزوم الحرفية ، والجر المقتضي لزوم كل منهما لمناسبة الكسر مناسبة ضعيفة لاقتضاء الحرفية عدم الحركة والكسر يناسب العدم لقلته ، بل لعدمه في الفعل ، واقتضاء الجر موافقه حركتها لأثرها ، فلذلك كسروها ، كما كسروا لام الجارّة ، ولام الأمر دفعا لالتباسهما بلام الابتداء ، ولذا فتحوا الداخلة على المضمر سوى ياء المتكلم المكسورة للمناسبة ، إذ اللبس مرتفع بجوهر المدخول عليه ، بخلاف الداخلة على المظهر.

والفرق بالإعراب لا يجدي في المبنى وما قدر إعرابه أو وقف عليه ، ولم يعكسوا بأن يجر والجارّة على الأصل الذي هو الفتح دون الابتدائية لملاحظة ترافق العامل وأثره.

وأمّا الداخلة على المستغاث فإنما فتحت لتتميّز من المستغاث له مع أنه في موضع ضمير أدعوك ، فكأنها داخلة على المضمر.

١٠٩

وسميت بحروف الجارّة لأنها وضعت كأخواتها لأن تجرّ معنى الفعل إلى الاسم ولذا سميت أيضا حروف الإضافة والحروف المفضية لقضية الإضافة والإفضاء.

ومن هنا قال الزمخشري : حروف الجرّ كلها تسمى حروف الإضافة لأنها تضيف معاني الأفعال إلى الأسماء ، فإنك إذا قلت مررت بزيد لا يصل معنى المرور إلى زيد إلا بواسطة الباء التي هي للتعدية.

ومعانيها وإن كانت كثيرة ، بل أنهاها بعضهم إلى أربعة عشر ، وأخر إلى أزيد ، لكن أمّ معانيها والأصل فيها هي الإلصاق ، ولذا قيل : إنّه معنى لا يفارقها ، وبه عللّ اقتصار سيبويه عليه ، لكنّ الحق أنها معان متغايرة تحمل في كل موضع على ما هو الأنسب بها ، وإن كان غير الإلصاق ، ولذا اختلفوا في المقام بعد القطع بعدم كونها له في أنها للمصاحبة أو للاستعانة على قولين :

فعن البعض الأوّل واختاره الزمخشري وأتباعه ، ورجّح بأن التبرك باسمه تعالى أدخل في الأدب من جعله آله ، لتبعية الإله وابتذالها.

وبأنّ باء المصاحبة في نفسها أكثر استعمالا من باء الاستعانة ، لا سيما في المعاني وما يجري مجراها.

وبأن جعله آلة يشعر بأنه غير مقصود لذاته.

وبأنّ ابتداء المشركين باسم آلهتهم كان على وجه التبرك ، فقصد التبرك أدخل في الردّ عليهم.

وبأنّ باء المصاحبة أدلّ على ملابسة أجزاء الفعل لاسم الله تعالى من باء الآلة والاستعانة.

وبأنّ كون اسم الله تعالى آلة للفعل ليس إلّا ـ باعتبار أنه يتوصل إليه ببركته ، فقد رجع إلى معنى التبرك به فليقل به أولا.

١١٠

ويضعف الأوّل بأنّ الاستعانة غير منحصرة في الآلات التي لا يصلح استناد الفعل إليها لضعفها ، وإنّما الوسائط بين الفاعل وفعله بالاستعانة بمعنى طلب العون والقوة ، ولذا يكون كثيرا بالقوي السديد ، والإيواء إلى ركن شديد.

وفي كلام أمير المؤمنين روحي له الفداء في وصيته لابنه الحسن عليه‌السلام : «واستعن بالذي خلقك ورزقك» (١).

ولعل ما ذكرناه هو المراد بما قيل من أنّ للآلة جهتين : جهة تبعية وابتذال وجهة توقف واحتياج ، وهذه الثانية هي الملحوظة في المقام.

والثاني بأنّ مجرّد كثرة الاستعمال على فرضها إنما يصلح مرجحا لأحد المعنيين على فرض تساوي نسبة اللفظ إليهما وعدم رجحان أحدهما في نفسه ، ولعل للمانع دعوى رجحان الاستعانة في المقام بالنظر إلى المعنى ، بل دعوى الغلبة النوعية المقدمة على الغلبة الجنسية.

والثالث : بما مر في الأول.

والرابع : بأن الاستمداد والاستعانة أقرب إلى التبرك به لاشتماله مضافا اليه على ما هو كالحجة والبرهان على أنه ينبغي التبرك به لا بغيره ، وستعرف أنه لا مانع من إرادتهما معا في المقام ، مع أنّ كون المراد خصوص ردّ المشركين ممنوع.

والخامس : بالمنع من عدم دلالة باء الاستعانة على ملابسة جميع أجزاء الفعل لما هو ظاهر من أنّ الاستعانة في الكل استعانة في الأجزاء.

مع أنه يمكن أن يقال : إنّ كون الباء للمصاحبة أقرب إلى توهم الشرك ومقابلة فعل العبد لفعل الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وباء الاستعانة أدلّ على

__________________

(١) في نهج البلاغة : الكتاب (٣١) وتحف العقول : ص ٤٩ : فاعتصم بالذي خلقك ...

١١١

التوحيد والتفريد ، كما قال الله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) (١).

وقوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (٢).

وقوله سبحانه على ما أخبر به عنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا ابن آدم! بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء ، وبإرادتي كنت أنت الذي تريد لنفسك ما تريد ، وبفضل نعمتي عليك قويت على معصيتي ، وبعصمتي وعفوي وعافيتي أدّيت إلى فرائضي ، فأنا أولى بحسناتك منك ، وأنت أولى بذنبك مني» الخبر (٣).

والسادس : بأن المصاحبة والاستعانة مشتركتان في معنى التبرك ، إلا أنك قد سمعت الفرق بينهما بأن الأولى أقرب إلى الشرك ، والثانية أدل على التوحيد.

ومن جميع ما سمعت يظهر وجوه أخر لترجيح كونها للاستعانة على ما ذهب إليه كثير من المتأخرين ، مضافا إلى إشعاره على كونه تعالى هو المفيض للقوى والآلات والأدوات التي بها يتمكن العبد ويقتدر على فعل الطاعات والمعاصي ، بل جميع الأفعال ، وأنّه هو الملهم الموفق لاختيار الحسنات واجتناب السيئات بعد صلوح الآلات والأدوات للأمرين ومعرفته للنجدين ، كما أشير إليه في الحوقلة لا حول من المعاصي ، ولا قّوة على شيء من الطاعات ، بل الأفعال إلّا بإعانة الله تعالى ، وفي بعض الانتقالات الصلواتيّة : بحول الله وقوّته أقوم وأقعد ، وأنّه تعالى هو القيّوم الحقّ ، والفيّاض المطلق ، فكلّ شيء سواه قام بأمره ، كما في الخطبة العلويّة بلا فرق بين الذوات والصفات والأفعال ، واليه الإشارة بقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) (٤) وأنّ ذكر الاسم الكريم عند ابتداء الفعل ، بل

__________________

(١) النساء : ٨٩.

(٢) النساء : ٨٨.

(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ج ١ / ١٤٤ ـ ١٤٥ ، مع تفاوت في العبارات.

(٤) الروم : ٢٥.

١١٢

للتوسّل في الأفعال سيّما الخيرات بالأسماء اللفظيّة فضلا عن الحقيقيّة الّتي هي السبل والوسائل والشفعاء عند الله باذنه تعالى وسيلة إلى إتمام الفعل ووقوعه على الوجه الأكمل الأفضل الأسهل حتّى كأنّه لا يتأتّى له ذلك بل لا يوجد أصلا إلّا بذلك.

وأمّا ما ذكره ثاني الشهيدين في شرح اللمعة : من أنّ كونها للملابسة أدخل في التعظيم ، وللاستعانة لتمام الانقطاع لاشعاره بأنّ الفعل لا يتمّ بدون اسمه تعالى.

ففيه أنّ المفضّل عليه في الأوّل ليس هو المفضّل في الثاني وإن جمعهما الاستعانة فإنّه أحدهما أولا على وجه الآليّة والابتذال ، وأخيرا على معنى العون والقوّة فلا تغفل.

ثمّ إنّ هذه الوجوه وإن دلّت على إرادة الاستعانة منها إلّا أنّها لا تمنع من إرادة غيرها أيضا فانّ المصاحبة على بعض الوجوه اللائقة بالمقام ملازمة للاستعانة.

وتوهم أنه من قبيل استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي والمجازي ، أو المشترك في معنييه ، وإن كلا منهما غير جايز ، بعيد عن الصواب بمراحل ، فإنه مع الغض عما في الحكم بعدم الجواز على بعض الوجوه حسبما قرر في محله لا يخفى أن الأصل في معاني الباء وأمها وأسها على ما يظهر من إشارات كلماتهم هو الإلصاق ، وغيره من المعاني راجعة إليه بإضافة بعض الخصوصيات التي يقتضيها خصوص الموارد ، فحقيقة الاستعانة هو الالتصاق والاتصال الحسي أو المعنوي بالمعين أو بالآلة ، ومعنى المصاحبة هو المعية الوجودية أو الفعلية أو الانفعالية حسية كانت أو معنوية ومرجعها إلى نحو من الإلصاق مغاير للمعنى المتقدم.

وللسببية التي هي إلصاق المسبب لسببه لقضية السببية ، إلى غير ذلك من معانيها التي مرجعها إلى الإلصاق ، وإن كان إرجاع بعضها إليه لا يخلو من تكلف ،

١١٣

ولذا أشرنا سابقا إلى أنها معان مختلفة متغايرة.

وأما متعلق الباء ففيه وجوه ثمانية ، فإنه إما فعل ، أو اسم يشبهه وعلى الوجهين إمّا عام أو خاص مؤخّر عن الظرف أو مقدم عليه.

لكن قد يقال : إن الأولى هو الأوّل وهو الخاص الفعلي المؤخر.

أما الخصوص فلأن العام كمطلق الابتداء يوهم بظاهره قصر الاستعانة على ابتداء الفعل فيفوت شمولها لجملته.

أقول : ويؤيده أن المناسبة في كل فعل أن يقدّر ذلك الفعل ، فتكون الاستعانة سارية في جميع أجزاء الفعل ، على أن القصد وهو العمدة في المقام متوجه نحو التوسل والاستمداد في خصوص ما يباشره من الفعل ولذا ينبغي لكل فاعل أن يضمر ما يجعل التسمية مبدءا له ، فالداخل يضمر «بسم الله أدخل» والخارج يضمر «بسم الله أخرج» والمتكلم يضمر «بسم الله أتكلم» ، والقارئ يضمر «بسم الله أقرأ» وهكذا.

وإنّما حذف المتعلق لدلالة المقام وسياق الكلام عليه.

ويدل عليه أيضا ما روي في «تفسير الإمام عليه‌السلام» ، وفي «التوحيد» عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «بسم الله يعني بهذا الاسم أقرأ أو أعمل هذا العمل» (١).

نعم ، في رواية أخرى عنه عليه‌السلام قال : «بسم الله أي أستعين على أموري كلها بالله الذي لا تحق العبادة إلا له ، المغيث إذا استغيث ، والمجيب إذا دعي» (٢).

ولعل المراد التعبير عن معنى الباء ، أو أن الجمع باعتبار الموارد ، لبيان خصوص المتعلق ، فلا يكون منافيا لما مر ، بل فيه دلالة على كون الباء للاستعانة كما مر.

__________________

(١) تفسير الصافي : ج ١ في تفسير سورة الفاتحة : ص ٥٠ عن التوحيد ، وتفسير الإمام عليه‌السلام.

(٢) نفس المصدر.

١١٤

نعم ها هنا مقام آخر ، وهو أن العارف ربما يكون في مقام الانبساط الجمعي فلا يخصص شيئا من الأفعال بالاستعانة فيه وإن كان مشتغلا به ، وقد يكون أيضا ملتفتا إلى شؤونه الجزئية المتكثرة التي لا تحصى فيحمل الجميع بالذكر باعتبار الجمع ، مع أنه ربما يكون في التخصيص الإيهام بعدم الحاجة إلى الاستعانة في غيره ، وإن كان قد يكون لزيادة الاهتمام فيه بالخصوص.

وفي «العيون» و «المعاني» عن الرضا عليه‌السلام قال : «بسم الله يعني أسم نفسي بسمة من سمات الله وهي العبادة ، قيل له : ما السمة؟ قال : العلامة» (١).

وهو مبنيّ على أنّ الاسم من الوسم بمعنى العلامة ، يعني أعلم نفسي بعلامة الله وهي العبادة التي جعلها علامة وسمة لعباده بها يمتازون عن غيره ، فالمتعلق حينئذ ما يشتق منه.

وأما الفعلية فلأنها لدلالتها على التجدد والحدوث أقرب إلى التوسل والتذلل ودوام الانقياد والاستمداد من منبع الفيض والجود وسيلان الاستفاضة من تجليات شمس الوجود.

هذا مضافا إلى احتوائه على ركني الكلام الذين هما المسند والمسند إليه ، مع أنّ إضمار المسند إليه يوجب تعلق الباء بغيره.

ثم إنّه قد ذكر ثاني الشهيدين وبعض من تأخّر عنه أن الباء إن كانت للملابسة فالظرف مستقرّ حال من ضمير أبتدء الكتاب كما في دخلت عليه بثياب السفر ، وإن كانت للاستعانة فالظرف لغو كما في كتبت بالقلم ، وفيه نظر ، إذ كما يمكن استفادة الاستعانة من الباء في الثاني مع تعلقها بالكتابة ، كذلك يمكن في الثاني استفادة

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ج ١ / ٢٦٠ ـ ٢٦١ ، ح ١٩.

١١٥

التلبس منها مع تعلقها بالدخول ، فيحتمل الأمرين كما نبّه عليه نجم الأئمة (١) وغيره.

وأما التأخر فلدلالته على حصر المستعان به في اسم الله تعالى.

وقد يؤيد أيضا بأنه سبحانه لقدمه سابق في الوجود فيستحق اسمه السبق في الذكر مع كونه أدخل في التعظيم وأنسب بقوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) (٢) وأقرب إلى قوله : «ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله» (٣).

ولعل الخطب في ذلك كله سهل ، سيّما بعد وروده في القرآن على الوجهين كقوله تعالى : (بِسْمِ اللهِ مَجْراها) (٤).

وقوله : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (٥).

بل قد سمعت ورود الخبرين المتقدمين على الوجهين.

وقد تبيّن مما ذكرنا أنّ موضع المجرور منصوب على المفعولية ، وقيل : إنه مرفوع على تقدير مبتدأ ، وهو ابتدائي ، أو قراءتي ، على أن يكون المقروء ما يلي البسملة ، وأما إذا أردتها به فعلى الحكاية.

وأما الحقائق العلمية فاعلم أنّ الباء هي الحجاب الأعظم والباب الأقدم ، والنقطة الجوالة ، والرحمة السيالة ، وباكورة الجنان ، ونفس الرحمن ، وسر الخليقة ، ومفتاح الحقيقة ، والاستقامة على الطريقة ، ومظهر الوجود ، وامتياز الشاهد من

__________________

(١) نجم الأئمة : الشيخ رضي الدين محمد بن الحسن الاسترآبادي النحوي شارح الكافية والشافية ، توفي سنة (٦٨٦) ه. ـ سفينة البحار : ج ٣ / ٣٧٣.

(٢) الفاتحة : ٤.

(٣) مرصاد العباد : ص ٣٠٥ وفيه : ما نظرت في شيء وقائله محمد بن واسع الزاهد البصري المتوفي سنة (١٢٣) ه.

(٤) هود : ٤١.

(٥) العلق : ١.

١١٦

المشهود ، والعابد من المعبود ، والقاصد من المقصود.

فروى الشيخ الجليل البرسي (١) في «مشارق الأنوار» عن مولانا أمير المؤمنين روحي وروح العالمين له الفداء وعليه وعلى أخيه وذريته آلاف التحية والثناء أنه قال : «ظهرت الموجودات من باء بسم الله وأنا النقطة التي تحت الباء» (٢).

وقال عليه‌السلام : «من الباء ظهر الوجود ، ومن النقطة تميّز العابد من المعبود» (٣).

وقال عليه‌السلام : «بالباء عرفه العارفون ، وما من شيء إلّا والباء مكتوبة عليه ، وهي الحجاب» (٤).

وقال عليه‌السلام كما في «أسرار الصلاة» وغيره : «لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من تفسير باء بسم الله» (٥).

وعن ابن عباس عنه عليه‌السلام : «أن كل ما في العالم في القرآن وكل ما في القرآن بأجمعه في فاتحة الكتاب ، وكل ما في الفاتحة في البسملة ، وكل ما في البسملة في الباء ، وأنا النقطة تحت الباء» (٦).

قال الشيخ الجليل محمد (٧) بن أبي جمهور في «المجلي» : اعلم أن قائل «أنا

__________________

(١) الحافظ الشيخ رجب البرسي ، فاضل ، محدث ، شاعر ، أديب من علماء الإمامية في أواخر القرن الثامن وفرغ من كتابه «المشارق» سنة (٧٧٤) ه تقريبا ولا يعتمد المتأخرون على ما تفرد بنقله.

(٢) مشارق الأنوار : ص ٢١ و ٣٨.

(٣) مشارق الأنوار : ص ٣٨ ، وفيه : وبالنقطة تبين العابد عن المعبود.

(٤) نفس المصدر : ص ٣٨.

(٥) عوالي اللئالي : ج ٤ / ١٠٢ ، ح ١٥٠. المناقب لابن شهر آشوب : ج ٢ / ٤٣. ورواه في منهج الصادقين : ج ١ / ٢٣ وفيه : سبعين بعيرا في تفسير فاتحة الكتاب.

(٦) في شرح توحيد الصدوق للقاضي سعيد القمي ص ٣٢ ما في معناه بتفاوت يسير.

(٧) هو أبو جعفر محمد بن علي بن إبراهيم بن أبي جمهور الأحسائي الهجري المتوفى

١١٧

النقطة تحت الباء» هو علي عليه‌السلام دون غيره من الكمّل ، نقله عنه أكابر الصحابة كسلمان ، وأبي ذرّ ، وكميل بن زياد ، وغيرهم ، وأولاده عليهم‌السلام» (١).

ورواه عنه ذلك في الخطبة الطويلة الافتخارية التي قال فيها ما هو أعظم من هذا ، حتى قال فيها :

«أنا وجه الله ، أنا جنب الله ، أنا يد الله ، أنا عين الله ، أنا القرآن الناطق ، أنا البرهان الصادق ، أنا اللوح المحفوظ ، أنا القلم الأعلى ، أنا ألم ذلك الكتاب ، أنا كهيعص ، أنا طه ، أنا حاء الحواميم ، أنا طاء الطواسين ، أنا الممدوح في هل أتى ، أنا النقطة التي تحت الباء» (٢).

وروى فيه في موضع آخر : عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «ظهرت الموجودات من باء بسم الله الرحمن الرحيم» (٣).

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : «لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من باء بسم الله الرحمن الرحيم» (٤).

قال : وتكلم فيه لابن عباس من أول الليل إلى آخره وقال : يا بن عباس! لو طال الليل لطلنا لك.

وورد عن الكمّل : بالباء ظهر الوجود ، وبالنقطة تميز العابد من المعبود (٥).

__________________

(٩٤٠) ه. ـ الردود والنقود لآية الله المرعشي ص ١.

(١) المجلي لابن أبي جمهور الاحسائي : ص ٤٠٩.

(٢) راجع مشارق الأنوار : ص ١٦٠ ـ ١٧٢ ، فإنه نقل خطبا عنه عليه‌السلام في تعريف ذاته.

(٣) المشارق : ص ٢١ و ٣٨.

(٤) عوالي اللئالي : ج ٤ / ١٠٢. وفي لطائف المنن : ج ١ / ١٧١ : لو شئت لأوقرت لكم ثمانين بعيرا من معنى الباء.

(٥) مشارق الأنوار : ص ٣٨ وفيه : وبالنقطة تبين العابد عن المعبود.

١١٨

قال شيخنا التقي (١) المجلسي رحمة الله عليه في «روضة المتقين» : في المشهور بين الخاصة والعامة عن عبد الله بن عباس أنه قال : كنت ليلة عند أمير المؤمنين عليه‌السلام وسألت عن تفسير الحمد ، فشرع في تفسير بسم الله وقاله حتى أصبحنا فقلت له : يا أمير المؤمنين طلع الصبح ولم يتم تفسير بسم الله ، فقال عليه‌السلام : لو أردت بيانها لأوقرت سبعين جملا من تفسيرها (٢).

ثم قال المجلسي رحمه‌الله : وذكر العالم الرباني ، والفاضل الصمداني السيد حيدر الآملي (٣) : «إنه صلوات الله عليه تكلم على قدر فهم الخلايق ، وإلا فأنا عبد من عبيده واستفضت من أنواره صلوات الله عليه قادر على أكثر من ذلك.

أقول : ومجمل الإشارة إلى بعض اسرار النقطة أنّ الكتاب التدويني طباق ووفاق للكتاب التكويني ، وقد قوبل به فما زاد منه ولا نقص بحرف من الحروف ، ولذا قد وضع لكل حقيقة من الحقائق ولكل سر من الأسرار ، ونور من الأنوار عبارة من العبارات ، وكلمة من الكلمات وحرف من الحروف.

نعم ، لو لم يكن الإذن في إظهاره يقفل باب البيان واللسان والجنان بقفل غيبي ملكوتي لا يهتدي صاحبه إلى مفتاحه سبيلا إلّا بعد حصول الإذن ، وإلا فجميع الحقائق والمراتب والعوالم والمقامات المترتبة في السلسلة العرضية والطولية في قوسي الهبوط ، والصعود مندرجة متنزلة في كسوة الحروف والألفاظ في كتاب الله المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، كما قال عز من قائل :

__________________

(١) هو المولى محمد تقي بن علي المجلسي المولود (١٠٠٣) ه والمتوفى (١٠٧٠) ه.

(٢) روضة المتقين : ج ٢ / ٣١٣ ، باب وصف الصلاة.

(٣) هو السيد حيدر بن علي حيدر الحسيني الآملي الصوفي كان حيا في سنة (٧٨١) ه وفي تلك السنة صنف في تأويل القرآن في سبع مجلدات. ـ أعلام الشيعة ج ٣ / ٦٦.

١١٩

(نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (١) و (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) (٢) و (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٣) و (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) (٤).

والأخبار في هذا المعنى متظافرة متكاثرة ، بل متواترة ، فبسائط الكلمات وهي الحروف محتوية على بسائط العالم وحقائقها.

ولذا قال مولانا الرضا عليه‌السلام في خبر عمران الصابي : «اعلم أن الإبداع والمشية والإرادة معناها واحد وأسماؤها ثلاثة ، وكان أول إبداعه ومشيته وإرادته الحروف التي جعلها أصلا لكل شيء ، ودليلا على كل مدرك ، وفاصلا لكل مشكل ، وبتلك الحروف تفريق كل شيء من اسم حق أو باطل أو فعل ، أو مفعول ، أو معنى ، أو غير معنى ، وعليها اجتمعت الأمور كلها ، ولم يجعل للحروف في إبداعه لها معنى غير أنفسها يتناهى ولا وجود لها ، لأنها مبدعة بالإبداع ، والنور في هذا الموضع أو فعل الله الذي هو نور السماوات والأرض ، والحروف هي المفعول بذلك الفعل ، وهي الحروف التي عليها الكلام والعبارات» (٥).

فالحروف باعتبار انبساط النقطة فيها واحتوائها عليها تسمى فعلا ، كما عبر به الإمام عليه‌السلام أولا ، وباعتبار تميزها عن النقطة وتحصلها منها تسمى مفعولا كما أشار إليه ثانيا. فعلى هذا فالفعل الذي هو المشية والإرادة والإبداع هو النقطة التي خلقها الله تعالى بنفسها وخلق الحروف بها.

__________________

(١) النحل : ٨٩.

(٢) يوسف : ١١١.

(٣) الأنعام : ٥٩.

(٤) يس : ١٢.

(٥) بحار الأنوار : ج ١٠ / ٣١٤ ، عن توحيد الصدوق وعيون الأخبار.

١٢٠