تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٢

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٣

الأول : جواز إنكاح الصغيرة لجميع الأولياء ، وهذا مذهب الهدوية ، والمؤيد بالله ، وأبي حنيفة ، وصاحبيه.

القول الثاني للناصر ، والشافعي : لا يجوز ذلك إلا للأب والجد.

القول الثالث : لا يجوز ذلك إلا للأب فقط ، وهذا قول الأوزاعي ومروي عن القاسم.

وفي التهذيب وعن أبي علية : لا يجوز زواج الصغيرة.

دليل الأولين ما اقتضاه قوله تعالى : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) وهي نزلت في شأن اليتيمة ينكحها وليها ، ولا يقسط لها في المهر ، فنهوا عن ذلك ، وأمروا أن يقسطوا في المهر ؛ لقوله تعالى في سورة النساء : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) [النساء : ٣] واليتم الحقيقي مع الصغر ، وغيره مجاز ، وأدنى الأولياء الذي يجوز له النكاح ابن العم ، فإذا صح فيه صح في غيره.

حجة القول الثاني : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تنكح اليتيمة حتى تستأذن» والأذن لا يكون إلا بعد البلوغ ، فإن حملتموه على البوالغ خرجتم إلى المجاز.

وروي أن قدامة بن مظعون (١) زوّج ابنة أخيه عبد الله (٢) من عبد الله بن عمر فرفع ذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «إنها يتيمة لا تنكح إلا بإذنها».

قال أهل القول الأول : ولها الخيار حيث زوّجها غير الأب أو الجد (٣) ، قياسا على الأمة إذا عتقت.

__________________

(١) هو ابو عمر ، وقيل : أبو عمرو ، بفتح الميم ، وسكون الظاء المعجمة ، وضم العين المهملة. جامع أصول.

(٢) لم يذكر في بعض النسخ (عبد الله) بعد أخيه.

(٣) المذهب أن الجد كسائر الأولياء فلها الخيار.

٥٠١

وأما في زواجة الأب فخرج الخيار بكونه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعرف عائشة بذلك.

وقال مالك : لا يزوج الصغيرة غير الأب ، إلا أن يخاف عليها الضياع ، ويجوز أن يزوّج الصغير ؛ لأن بيده الطلاق ، ولا خيار له.

وقال (أبو العباس ، والمؤيد بالله) : إذا زوج الأخ ، أو العم الصغير صح ، وله الخيار إذا بلغ.

وقال المرتضى : لا يصح (١) كقول الشافعي.

الحكم الثاني :

أنه يجوز أن يتولى طرفي العقد واحد في النكاح ، وهذا ظاهر كلام الهدوية وأبي حنيفة ، ومالك.

وقال الناصر ، والشافعي : لا يجوز ، دليلنا قوله تعالى : (وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) وهي نزلت في اليتيمة يرغب وليها في نكاحها ، ولا يقسط لها في المهر ، فنهي عن عدم الإقساط.

واحتج أهل القول الثاني بقوله عليه‌السلام : «كل نكاح لا يحضره أربعة فهو سفاح».

وأما زواجة الإنسان بنت ابنه من ابن ابنه [...] (٢).

__________________

(١) لعله يعني النكاح ، كما صرح به في الغيث ، حيث قال : وقال المرتضى ، والشيخ محي الدين ، والأمير علي بن الحسين ، وابن معرف : إنه لا يصح العقد للصغير من غير الأب ، بل يكون العقد موقوفا حقيقة ، فلا يصح فيه شيئ من أحكام النكاح حتى يبلغ فيميز العقد.

(٢) بياض في أصولي قدر سطر يحتمل أنه (فهل من منع من تولي طرفي العقد واحد يمنع هنا) فينظر ، ولها نظائر. ـ

٥٠٢

الحكم الثالث

أنه يجوز للأولياء التصرف في المال ؛ لأن القيام بالقسط لا يتم إلا بذلك.

قوله تعالى

(وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء ١٢٨ ـ ١٢٩]

النزول

قيل : نزلت في أبي السائب وامرأته وذلك أنه امرأته كان لها ولد منه ، ولما كبرت أراد أن يطلقها فقالت : لا تطلقني ، ودعني أقوم على ولدي ، واقسم لي في كل شهر عشرا ، فقال لها (١) زوجها : إن كان هذا يصلح فهو أحب لي ، فنزلت (٢).

__________________

ـ لعل بياض إنما لأجل المأخذ ، وإلا فهو صريح كلام أهل المذهب في الغيث وغيره بأن الولي على الصغيرين يتولى طرفي عقدهما في النكاح ، وفي الوكيل والفضولي أيضا مع الإجازة ، ولعله يتوجه الدليل لقياس على تولي ولي اليتيمة طرفي العقد بها لنفسه ، والله سبحانه أعلم.

(١) لها ، ساقط في (أ).

(٢) الكشاف (١ / ٥٦٨).

٥٠٣

وقيل : أراد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يطلق سودة فالتمست منه أن يمسكها ، وتكون نوبتها لعائشة ، فأجابها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

وقيل : نزلت في المرأة تكون عند الرجل لا يشتكي منها شيئا ، ويريد الاستبدال منها ، فتقول : امسكني ، وتزوج غيري ، وأنت في حل من النفقة والقسم (٢) ، وقيل : نزلت في بنت محمد بن مسلمة. قيل : اسمها عمرة وقيل : خولة. وفي زوجها. قيل : هو سعد بن الربيع ، وقيل : رافع بن خديج. فلما طعنت في السن تزوج عليها شابة وآثرها عليها وجفاها ، فأتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تشكوا عليه فنزلت الآية.

وقد أفادت أحكاما هي ثمرات لها.

الحكم الأول

أن المرأة متى خافت من زوجها النشوز أو الإعراض. جاز لها المصالحة بإسقاط قسمتها ، أو نفقتها ، وجاز للزوج الدخول في هذا ؛ لأن الله سبحانه نفى الجناح عليهما ، وفي قوله تعالى : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) دلالة على جواز المصالحة ببدل هو المال ؛ لأن الشح يتعلق بالمال ، ودلت على جواز إمساك الزوج زوجته مع الكراهة ، وذلك مع إيفائه الحقوق ، وإنما الممنوع المضارة ، ودلت أن الصلح والبقاء أفضل من الطلاق ؛ لقوله تعالى : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ).

والخوف المذكور في الآية ، قال الحاكم : قيل : أراد به العلم ، وقيل : الظن ، والأظهر الظن ، وقد قال جار الله في معناه : إنها توقعت ذلك لما لاح لها من مخايله وأماراته (٣) ، والنشوز هو : الترفع عليها لأجل

__________________

(١) نفسه (١ / ٥٦٨).

(٢) نفسه (١ / ٥٦٨).

(٣) الكشاف (١ / ٥٦٨).

٥٠٤

البغضة ، ومنه يقال : نشز من الأرض لما ارتفع ، وذلك بأن يمنعها نفسه ونفقته ، أو أن يؤذيها بسب أو ضرب ، ويظهر لها خلاف المودة والرحمة ، التي بين الرجل والمرأة ، والإعراض هو : أن يعرض عنها بوجهه أو منافعه ، أو يقل محادثتها ومؤانستها لسبب ؛ إما لطعن في السن ، أو دمامة خلق (١) أو كراهة شيء من خلقها ، أو خلقها ، أو تطمح نفسه إلى غيرها (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا) قرئ بغير ألف ، وضم الياء ، وكسر اللام ، وقراءة الأكثر : يَصَّالَحَا بفتح الياء والصاد ، مع تشديدها ، والألف بين الصاد واللام ، وهو بمعنى الموافقة بينهما ، والمعنى مع هذه القراءة أظهر ، فيحصل التصالح بإسقاط حق ، أو مال من النفقة والمهر ، أو بعضه ، أو القسمة.

وقوله تعالى : (وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا) قيل : الإحسان من المرأة بأن تسقط حقها أو بعضه ليحصل الصلح وقرار القلوب ، وهي الممدوحة ، قيل : الممدوح الزوج ، والإحسان منه أن يقوم بالحقوق مع كراهته إياها ، مراعاة لحق الصحبة ، ويتقى النشوز والإعراض.

قوله تعالى : (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ) أي : من الإحسان (خَبِيراً) فيجازيكم بالإثابة عليه.

قال جار الله : وكان عمران بن حطان الخارجي من آدم بني آدم ، وكانت امرأته من أجملهم فأجالت نظرها في وجهه يوما ، ثم تابعت الحمد لله ، فقال مالك؟ فقالت : حمدت الله تعالى على أني وإياك من أهل الجنة ، قال : كيف؟ قالت : لأنك رزقت مثلي فشكرت الله ، ورزقت مثلك فصبرت ، وقد وعد الله تعالى الجنة عباده الشاكرين والصابرين (٢).

__________________

(١) في (ب) : أو دمامة في الخلق.

(٢) الكشاف (١ / ٥٦٨).

٥٠٥

وفي هذه الآية حث على الصبر على حسن الصحبة لقوله تعالى : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) أي : خير من الفرقة ، أو من النشوز والإعراض ، وسوء العشرة ، أو خير من الخصومة ، أو خير من الخيور ، كما أن الخصمة شر من الشرور ، وقد كان من مكارم أخلاقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه كان يكرم صواحب خديجة بعد موتها.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه» وهذا فيه صبر ، وفي الصبر ما لا يحصر من المحاسن والفضائل ، والصلح فيه أنواع من الترغيب.

روى الحاكم عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أصلح بين اثنين استوجب ثواب شهيد».

وعن أنس : «من أصلح بين اثنين أعطاه الله بكل كلمة عتق رقبة» ، وهذه الآية الكريمة وسبب نزولها تقوي قول المؤيد بالله : إنه يصح إبراء المرأة من النفقة المستقبلة ، ويقول : قد وجد سببها ، وهو عقد النكاح (١) ، كما يبرى من الأجرة في المستقبل (٢) لوجود العقد ، وظاهر قول الهدوية : لا يصح الإبراء من النفقة ، وهو يتفرع من الآية صور ، وهو الصلح على الإنكار ، أجازته الحنفية ومنعه أهل المذهب ، والشافعي.

والصلح عن المجهول ، وفيه خلاف معروف.

والصلح على السكوت ، قال الحاكم : أجازته الحنفية ، ومنعه غيرهم.

__________________

(١) وفي بعض النسخ (وهو عقد الزوجية).

(٢) هذا قوي ، وقد اعتمده الإمام شرف الدين ، وتبعه شارح الفتح.

٥٠٦

الحكم الثاني

يتعلق بقوله تعالى : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) وفي هذا تخفيف ورفع للحرج فيما لا يستطاع من المساواة بين النساء ، وقد قيل : هذا في المحبة والشهوة ، وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقسم بين نسائه ويقول : (هذه قسمتي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ، ولا أملك) يعني المحبة ؛ لأنه كان يحب عائشة أكثر من غيرها ، وقد فرع المتأخرون بأن قالوا : له حفظ متاعه مع من يأتمن منهما ، ويستعمل النفقة مع أكملهما صنعة ، فهذا ترخيص ، وقيل : إن هذا تشديد في العدل ، وبيان أن العدل أمر صعب يتوهم أنه غير مستطاع ؛ لأنه تجب القسمة ، والتسوية في النفقة ، والتعهد ، والنظر ، والإقبال ، والممالحة ، والموانسة ، وغير ذلك ، فهو كالخارج من حد الاستطاعة لمشقته.

الحكم الثالث

أنه يجب القسمة ، وترك الميل ، وإن كان بعضهن محبوبا ، وبعضهن منفورا عنه ، وذلك لقوله تعالى : (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) وهي التي ليست بذات بعل ولا مطلقة ، وفي قراءة أبيّ (فتذروها كالمسجونة) وهي شاذة.

وفي الحديث : «من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل».

قال جار الله : وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث إلى أزواج الرسول عليه‌السلام بمال فقالت عائشة : أإلى كل أزواج رسول الله بعث عمر بمثل هذا؟ قالوا : لا بعث إلى القرشيات بمثل هذا ، وإلى غيرهن بغيره ، فقالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعدل فيما بيننا ، في ماله ونفسه ، فرجع الرسول فأخبره فأتم لهن جميعا.

٥٠٧

وكان لمعاذ امرأتان ، فإذا كان عند أحدهما لم يتوضأ في بيت الأخرى.

وهذا يظهر منه أنه يساوي في التبرعات التي لا تجب عليه من الفضلات. وقد قال الأمير الحسين : هذا ظاهر المذهب ، والمحفوظ جوازه.

وقد ذكر أن الهادي عليه‌السلام نص : أن له أن يخص بالتطوع سرا.

قال : والوطئ منه ، وعموم الآية يقضي بالمساواة في جميع الأحوال من الصحة والمرض ، ويؤكده ما روي أنه عليه‌السلام كان يحمل في ثوب وهو مريض إلى بيوت أزواجه ، وإنما خرجت المساواة بين الحرة والأمة لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «للحرة الثلثان في القسم وللأمة الثلث» وهكذا روي عن علي عليه‌السلام وهذا هو مذهبنا ، وأبي حنيفة ، والشافعي.

وقال مالك : وأحد قولي أبي العباس : تجب المساواة لعموم الآية ، وإنما تجب القسمة في البلد الواحد ، وقدره المنصور بالله بالميل. وفي قول : في دون البريد.

قال في الروضة والغدير : وهو الذي يظهر من قول أئمتنا ، وإنما خرجت هذه السورة من العموم ؛ لأنه قد ثبت أن له إن يسافر بمن شاء بما نذكره من الدليل.

قال في الروضة والغدير : وكان مجد الدين يقسم لامرأته بنت المنصور بالله ، وهي في ظفار وهو بقطابر ، ويبيت ليلتها وحده ، ولعل هذا تشدد.

وخرج تخصيص الداخلة بسبع للبكر ، وثلاث للثيب بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «للبكر سبعا وللثيب ثلاثا».

٥٠٨

وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه كان إذا تزوج بكرا (١) أقام عندها سبعا ثم قسم ، وإذا تزوج ثيبا أقام عندها ثلاثا ثم قسم ، وهذا مذهب الأئمة عليهم‌السلام ، وهو قول مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وروي عن أنس ، والشعبي ، والنخعي.

قال في النهاية : قال ابن القاسم (٢) : ذلك واجب.

وقال بن عبد الحكم (٣) : مستحب ، والوجوب هو الظاهر من مذهبنا ، وعند أبي حنيفة وأصحابه أنه يسوّي ، ولا يفضّل.

واحتجوا بالعموم ، وبحديث أم سلمة وهو قوله عليه‌السلام : «إن شئت سبعت لك ، وسبعت لهن ، وإن شئت ثلثت ثم درت» فلو كانت مستحقة لثلاث لقال : وربعت عندهن ، ولم يقل : وسبعت لهن.

قلنا : إنما قال ذلك ؛ لأنه إذا زاد الواحدة فوق حقها برضاها بطل حقها (٤).

وقال الحسن ، وابن المسيب : إن للبكر ثلاثا ، وللثيب ليلتين ، ويخرج تفضيل من وهب لها بحديث سودة ، وهبتها لعائشة ، وفي عموم الأدلة إبطال ما روي عن بعضهم أنه يفضل من له امرأتان إحداهما ، فيكون لها ثلاث ، وللأخرى ليلة ؛ لأنه له أن يتزوج أربعا ، وهذا لا معنى له ؛ لأنه ميل ، وقد منعته الآية والخبر ، ويخرج من العموم هجرها للتأديب (٥) ، حيث أبيح له ، لقوله تعالى في هذه السورة : (وَاهْجُرُوهُنَ) [النساء : ٣٤].

__________________

(١) لم يتزوج صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكرا إلا عائشة.

(٢) من فقهاء المالكية.

(٣) من فقهاء المالكية أيضا.

(٤) بما يبطل حقها بطلبها ، والخبر حجة لهذا ، لأنها طلبت الزيادة ، وذكر هذا في البحر.

(٥) يحقق هل يناسب المذهب أم لا؟ ولعله يقال : إن فعلت ما تكون به ناشزة استقام كلامه ، وإلا فلا. (ح / ص).

٥٠٩

الحكم الرابع

جواز المفارقة وأنها غير قبيحة

وذلك لقوله تعالى : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ) [النساء : ١٣] وذكر الإغناء تسلية لهما ، ولكن اختلفوا هل لفظ الفراق صريح أو كناية؟ فعندنا وأبي حنيفة : أنه كناية ؛ لأن الفرقة تطلق على الغيبة.

وقال الشافعي : ذلك صريح

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) [النساء : ١٣٥]

النزول

قيل : نزلت الآية في القضاة والحكام ، ونهوا عن الميل إلى أحد الخصمين ، عن ابن عباس.

وقيل : نزلت في الشهود حتى لا يغيروا الشهادة لمكان الغنى ، والفقر ، والقرابة.

وذكر النيسابوري في كتابه أسباب النزول بإسناده إلى السدي : قال : نزلت في النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك أنه اختصم إليه غني وفقير ، وكان ميله مع الفقير أي : أن الفقير لا يظلم فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير.

ولهذه الآية الكريمة ثمرات هي أحكام :

الأول : وجوب العدل على القضاة والولاة ، وألا يعدل عن القسط

٥١٠

لأمر تميل إليه النفس ، وتهواه القلوب من غناء ، أو فقر ، أو قرابة ، بل يستوي عنده الدني ، والشريف ، والقريب ، والبعيد.

ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إياكم والإقراد» الحديث المعروف (١).

ويروى أن عمر رضي الله عنه أقام حدا على ولده فذاكره في حق القرابة ، فقال : إذا كان يوم القيامة شهدت عند الله أن أباك كان يقيم الحدود.

الحكم الثاني : أنه يجب الإقرار على من عليه الحق ، ولا يكتمه لقوله تعالى : (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) قيل : أراد بالشهادة على النفس الإقرار ، وهذا ظاهر ولكن أخرج من هذا صورة ، وهي إذا كان صاحبه أن أخذه أنفقه في المعاصي ، فإنه لا يقرّ به ، ولا يسلمه له ؛ لأن فعله للحسن يكون سببا في فعل القبيح (٢) ، ذكر ذلك أبو رشيد ، وقاضي القضاة ، وأبو مضر ،

__________________

(١) الإقراد : هو أن يؤخر حاجة المسكين ، ويعجل قضاء حاجة الشريف والغني ، ويترك الآخرين مقردين ، أقرد الرجل : إذا سكت ذلا ، وأصله الغراب يقع على البعير يلتقط القردان ، فيقر ، ويسكن بما يجد من الراحة ، ذكره في النهاية.

فائق للزمخشري ، قالوا : يا رسول الله وما الإقراد؟ قال : الرجل يكون منكم أميرا ، أو عالما فيأتيه المسكين والأرملة فيقول لهم : مكانكم حتى أنظر في حوائجكم ، ويأتيه الشريف والغني فيدنيه ، ويقول : عجلوا فضاء حاجته) ويترك الآخرين مقردين ، يقال : أحرد ـ سكت حياء ، وأقرد : سكت ذلا ، وأصله أن يقع الغراب على البعير فيلتفط عنه القردان فيقرد لما يجد من الراحة. اه وذكره .. في تخريجه على البحر ، الذي تمم فيه تخريج الغفاري عن الهروي ، وبمعناه في الانتصار ، وأصول الأحكام.

(٢) وسيأتي مثل هذا في تفسير قوله تعالى : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) الآية وتكون يمينه أن ليس عنده وديعة يجب تسليمها ، كما يأتي. (ح / ص). وهو قول أبي مضر ، قواه ابن سليمان ، وهو ظاهر الأزهار ، وقال في الهداية : والقاضي عبد الله الدواري : يجب الرد وإلا ضمن ، قال : وعصيان العاصي على نفسه. اه يقال : يجب دفع المنكر بما أمكن ، كأخذ السلاح من يد من يريد قتل الغير عدوانا حيث لا يمكن دفعه بغير ذلك فتأمل. (ح / ص).

٥١١

وقيل : يحتمل أن معنى قوله تعالى : (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي : ولو كانت الشهادة وبالا ومضرة على أنفسكم وآبائكم ، بأن تكون الشهادة على سلطان ظالم ، وهذه المسألة فيها خلاف بين الفقهاء إذا خشي مضرة دون القتل هل تجب عليه الشهادة أم لا؟ فقيل : تجب ؛ لأنه لا يحفظ ماله بتلف مال غيره.

وعن الشافعي ، والمتكلمين ، وصحح للمذهب : أنه لا يجب ؛ لأن الشهادة أمر بمعروف ، وشروطه ألا يؤدي إلى منكر ، ولكن إنما يسقط عنه أداء الشهادة بحصول الظن بمضرته لا بمجرد الخشية ، وقد قال المؤيد بالله في الإفادة : على الشاهد أن يشهد وإن خشي على نفسه وماله ؛ لأن الذي يخشاه مظنون ، ولعله غير كائن ، فأوّل على أن مراده مجوز ، لا أنه قد ظن حصول المضرة.

وهل تجوز له الشهادة مع الخشية على نفسه؟.

قال في شرح الإبانة : يجوز إذا كان قتله إعزازا للدين ، كالنهي عن المنكر ، أما لو كتم لغير عذر فلا إشكال في عصيانه.

وعن ابن عباس : ذلك من الكبائر.

وقوله تعالى : (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا) في معنى ذلك وجوه ثلاثة :

الأول : أن المراد لا تتبعوا الهوى لتعدلوا أي : لتكونوا فاعلين للعدل ، كقولك : لا تتبع هواك لترضي الله ، أي : كيما ترضي الله ، وهذا مروي عن الفراء.

الثاني : أن المراد فلا تتبعوا الهوى كراهة لفعل العدل بين الناس ، وإرادة لفعل الجور والحيف.

٥١٢

الثالث : أن المراد فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا أي : مريدين للعدول عن الحق إلى خلافه ، فيكون الثاني والأول بمعنى : العدل ، والثالث بمعنى : العدول.

وقوله تعالى : (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا) [النساء : ١٣٥]

قراءة حمزة (وَإِنْ تلُوا) بضم اللام وواو واحدة ، من الولاية أي : تولوا إقامة الشهادة ـ أعرضتم عن إقامتها ، فإن الله عليم بذلك فيجازيكم ، وقراءة الباقين : (تَلْوُوا) بسكون اللام وواوين ، قيل : تلووا ألسنتكم بالتحريف.

عن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن زيد ، والضحاك ، وعطية ، وقيل : (تَلْوُوا) أي : تدفعوا مأخوذ من لي الغريم ، ومنه الحديث : «لي الغني ظلم» وقيل : تلووا أعناقكم عما أمركم الله أي : تعرضوا.

الحكم الثالث : يتعلق بقوله تعالى : (شُهَداءَ لِلَّهِ) أي : تشهدون لوجه الله كما أمركم ، وفي ذلك دلالة على أن أخذ الأجرة على تأدية الشهادة لا يجوز ؛ لأنه لم يقمها لله تعالى ، وقد استثنى أهل الفقه صورا جوزوا أخذ الأجرة على الشهادة ، منها : إذا طلب إلى موضع يجوز فيه الإرعاء جاز له أخذ الأجرة ؛ لأن الخروج غير واجب عليه (١).

ومنها : إذا كان غيره يشهد ويحصل به الحق فإن شهادته غير لازمة.

ومنها : أخذ القاضي الأجرة من بيت المال.

قالوا : لأن الوجوب على الإمام ، ولأن عتاب بن أسيد بعثه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاضيا بمكة ، وجعل له في السنة أربعين أوقية ، وفرضت

__________________

(١) إلى موضع لمثله أجرة ، هكذا في الغيث ، وسواء كان فوق البريد ، أو دونه ، وهو ظاهر إطلاق أهل المذهب في الفروع ، وتكون الأجرة على قطع المسافة ، لا على النطق. (ح / ص).

٥١٣

الصحابة لأبي بكر ، ولعمر وجعل علي عليه‌السلام لشريح في كل شهر خمسمائة درهم ، ذكره في شرح الإبانة ، لكن أطلق أهل المذهب جواز أخذ القاضي ولو تعين عليه.

قال الإمام يحيى ، وأصحاب الشافعي : يحرم إذا تعين عليه وله كفاية ، ويجوز إذا كان لا كفاية له ، ولو تعين عليه ، ويكره حيث لم يتعين عليه ، وله كفاية.

قال بعض المفرعين : فلو طلب القاضي إلى خارج البلد جاز له أخذ الأجرة ، يعني : أجرة المثل.

قوله تعالى

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) [النساء ١٣٧]

دلت على أن توبة المرتد تقبل ؛ لأنه تعالى أثبت إيمانا بعد كفر تقدمه إيمان.

وعن أحمد بن حنبل : لا تقبل توبته.

وعن إسحق (١) : إذا ارتد في الدفعة الثالثة لم تقبل توبته ، وهي رواية الشعبي عن علي عليه‌السلام.

نكتة تتعلق بهذا : وهي إذا تاب المرتد هل يعود ثواب طاعته أم لا؟ وإن (٢) كفر هل يعود عقاب معاصيه؟ في ذلك أقوال :

الأول : قول بشر (٣) أنه يعود في الوجهين.

__________________

(١) إسحاق : هو إسحاق بن راهويه ، قد تقدم هذا القول في تفسير قوله تعالى في سورة آل عمران : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً).

(٢) في نخ أ (وإذا كفر).

(٣) هو : بشر بن المعتمر.

٥١٤

الثاني : قول أبي القاسم : أنه يعود الثواب لا العقاب ، والوجه أن بطلان الثواب عقوبة على الردة ، وقد سقطت العقوبات وغفران الذنب تفضل ، والله سبحانه لا يعود فيه.

الثالث (١) : [أنه لا يعود في الوجهين ، عند أبي علي ، وأبي هاشم ، والفرق بينهما ـ وهو أن بطلان الثواب عقوبة على الردة ، وقد سقطت العقوبات ، كذلك بطلان الثواب ، وغفران الذنب تفضل ورحمة ، فلا يجوز أن يعود فيها].

قوله تعالى

(بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء : ١٣٨ ـ ١٣٩]

قال الحاكم : دلت على وجوب موالاة المؤمنين ، والنهي عن موالاة الكفار.

قال : والمنهي عن موالاتهم في الدين فقط ، وقد ذكر المؤيد بالله قدس الله روحه معنى هذا : وهي أن يحبه لما هو عليه ، وهذا ظاهر ، وهو يرجع إلى الرضاء بالكفر ، وما أحبه لأجله.

فأما الخلطة فليست بموالاة ، وقد جوز العلماء رضي الله عنهم نكاح الفاسقة ، وكذلك الإحسان فقد مدح الله تعالى من أطعم الأسارى ، وجوز

__________________

(١) بياض في الأصل ، وقد أصلحناه من الحاكم. ولفظ الحاكم. (اختلفوا فيه على ثلاثة أقوال ـ منهم من قال : يعود في الوجهين ، وهو قول بشر ، وجعل فائدة الآية ذلك ، ومنهم من قال لا يعود في الوجهين ، وهو قول أبي علي وأبي هاشم ، ومنهم من قال يعود الثواب ، ولا يعود العقاب ، وهو قول أبي القاسم ، والفرق بينهما ـ وهو أن بطلان الثواب عقوبة على الردة ، وقد سقطت العقوبات ، كذلك بطلان الثواب ، وغفران الذنب تفضل ورحمة ، فلا يجوز أن يعود فيها.

٥١٥

كثير منهم الوصية لأهل الذمة ، وكذلك الإغتمام بغمه في أمر ، كاغتمام المسلمين لغلب فارس للروم ، وسيأتي زيادة على هذا إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى

(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) [النساء : ١٤٠]

النزول

قيل : كان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود ، فيسخرون من القرآن ويحرفونه عن مواضعه ، فنزلت الآية نهيا عن مجالستهم ومخالطتهم.

قال ابن عباس : دخل في هذه الآية كل محدث في الدين.

وثمرة الآية : صريح وفحوى.

أما الصريح فالنهي عن القعود مع المستهزئيين بآيات الله.

وأما الفحوى : فجواز القعود معهم إذا أعرضوا عن الاستهزاء ، وخاضوا في حديث غيره.

واعلم : أنه لا خلاف في تحريم القعود والمخالطة إذا كان ذلك يوهم بأن القاعد راض ، ولا خلاف أنه يحرم القعود إذا خشي الإفتتان ، ولا خلاف أنه يجوز القعود للنكير عليهم ، والدفع لهم (١).

قال الحاكم : ولذلك يحضر العلماء مع أهل الضلالة يناظرونهم ، ولهم بذلك الثواب العظيم.

__________________

(١) في (ح / ص) : بل يجب.

٥١٦

وأما إذا خلا عما ذكرنا فكان لا يوهم بالرضى ، ولا يفتتن ، ولا ينكر ، فاختلف العلماء في ذلك.

قال الحاكم : فمنهم من أوجب الميل لظاهر الآية.

قال الحاكم : وروي أن قوما أخذوا على شراب فضربوا الحد وفيهم صائم ، فقيل لعمر بن عبد العزيز : إن هذا صائم فتلا قوله تعالى : (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) [النساء : ١٤٠]

وهذا أيضا ظاهر الحديث : «لا يحل لعين ترى الله يعصى فتطرف حتى تغير أو ينتقل».

قال الحاكم : ويحتمل أن وجوب المفارقة خاص في المستهزئ ، لعظم ذلك ويحتمل أن يكون عاما في كل منكر ، وقد قال ابن عباس ما تقدم : إنه يدخل في هذا كل محدث في الدين.

وقال أبو علي ، وأبو هاشم : إذا أنكره بقلبه لم يجب عليه أكثر من ذلك ، وجاز له القعود ، يعني مع عجزه عن الإنكار باليد أو اللسان ، وعدم تأثير ذلك.

قال الحاكم : وقد قيل : إن النهي عن القعود معهم إذا أمكنه النكير ولم ينكر ، وقيل : كان القعود محرما ، وعند نزول الآية كان لا يحل للمسلمين أن يقعدوا معهم إذا استهزءوا ، فنسخ بقوله تعالى في سورة الأنعام : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٦٩] وهذا مروي عن ابن عباس.

وقال قاضي القضاة وغيره : لا نسخ في الآية.

قال القاضي ، والحاكم : أما لو كان له حق في تلك البقعة فله ألا يفارق كمن يحضر الجنائز مع النوح ، أو الولائم فيسمع المنكر فيسعه أن يقعد ، والنكير على قدر الإمكان واجب عليه.

٥١٧

وعن الحسن : لو تركنا الحق للباطل لبطل الشرع ، وكان قد خرج إلى جنازة خرجت النساء فيها فلم يرجع ، ورجع ابن سيرين.

قال أبو علي : يحرم القعود في المجلس لما فيه من الإيهام ، فإذا أظهر الكراهة جاز القعود في مكان آخر ، وإن قرب.

وأما إذا خاضوا في حديث آخر جاز القعود لمفهوم الآية ، وهذا هو الظاهر من أقوال العلماء.

وعن الحسن رخص في القعود معهم إذا خاضوا في حديث آخر.

ثم نسخ بقوله تعالى في سورة الأنعام : (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى) [الأنعام : ٦٨] أي : بعد ذكرك ما نهيناك عنه (١) ، وقيل : المراد بعد الذكرى بعد تذكيرك إياهم ونهيك لهم وسيأتي.

ودلت الآية على أن الرضاء بالاستهزاء بالرسول والدين كفر ؛ لأنه قال تعالى : (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) ، ويدل على أن الرضى بالكفر كفر ، هكذا ذكر الحاكم ، فيتفرع على هذا ما قد اتفق في مواضع في زماننا في نساء كرهن أزواجهن وأردن الخروج من حبال الزوج بالدخول في اليهودية ،

__________________

(١) يقال : لا نسخ بقوله : (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) لأن الآية في سورة الأنعام (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) فالمنهي عنه القعود معهم في حال الخوض في الآيات ، ولا نهي عن القعود معهم إذا خاضوا في حديث آخر ، بل مفهوم آية الأنعام يدل على جوازه ، فأين النسخ؟ نعم يمكن أن يصح النسخ على تفسير الذكرى بالتذكر ، كما أشار إليه ، وقيل : المراد .. الخ لأن ظاهره العموم ؛ إذ المعنى أنك إذا ذكرتهم فلا تقعد بعد الذكرى معهم سواء أعرضوا أم لم يعرضوا ، لكن يعترض بأن سورة الأنعام مدنية فلا يصح النسخ ، والله أعلم فينظر ـ وكلام الفقيه يوسف المؤلف هنا بقوله : وهذه الآية كانت في المدينة يدل على عدم النسخ بما في الأنعام ، والله أعلم. (ح / ص).

٥١٨

وذلك برضاء وليها وأمره ، فتصير المرأة كافرة والولي كذلك ، وكذلك المفتي إن أمرهم.

أما كفر الولي فلا إشكال فيه ؛ لأنه راض بكفرها لتبين من زوجها فتبين منه امرأته إن لم يدخل بها ، ومع الدخول الخلاف المشهور.

وأما الإمرأة فتكفر على قول من قال : إن الاعتقاد ليس بشرط ، وتحصل المفارقة.

وأما من قال : إن الاعتقاد شرط كما يحكى عن أبي هاشم فلا تكفر ولا تبين.

وأما ما حكى عن الإمامين المؤيد بالله يحيى بن حمزة ، والمهدي لدين الله علي بن محمد عليهما‌السلام : من أنها تكفر ولا تبين منه مؤاخذة لها بنقيض قصدها ، ففي هذا مناقضة ظاهرة ؛ إذ المرتدة لا تكون زوجة لمؤمن (١).

عدنا إلى بيان التشديد بمعنى الآية.

قوله تعالى

(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) [النساء : ١٤٠]

قراءة عاصم ويعقوب : (نَزَّلَ) بالفتح والتشديد ، يعنى الله نزل ، وقراءة

__________________

(١) الذي رواه في شرح البحر عن الإمامين مثل قول أبي هاشم : إنها تكفر ، فتحقق هذه الرواية.

وفي البحر (فرع) كالإكراه كفي الزوجة بالكفر لتنفسخ عن الزوج ، ولا يحكم بكفرها ، ولا الفسخ ؛ إذ لم تشرح بالكفر صدرا ، وقد شرطه حيث قال : (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) ويجب تأديبها.

قد قيل : إن خلاف المؤيد بالله يحي بن حمزة عليه‌السلام إنما هو فيما بينها وبين الله تعالى ، وأما الأحكام فتلزمها ، ذكر معناه في الغايات ، فيبحث فيها.

٥١٩

الباقين بالضم على ما لم يسم فاعله ، قيل : الخطاب لأهل الكتاب ، وأراد به التوراة والإنجيل أنهم نهوا فيها عن القعود مع من يستهزئ بآيات الله ، وقيل : المنافقين نهيا لهم عن مجالسة المستهزيئين من الكفار ، وقيل : للمؤمنين ، والكتاب القرآن ، والذي نزل فيه ما في سورة الأنعام من قوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) [الأنعام : ٦٨] لأن المشركين بمكة كانوا يستهزؤن بالقرآن فنهى المسلمون عن القعود معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ، وهذه الآية كانت في المدينة لأن أحبار اليهود كانوا يستهزئون بالقرآن فنهوا عن القعود معهم (١).

قال جار الله : ولم يكن المجالسون للمستهزئين بمكة مثلهم ، وكان المجالسون في المدينة للمستهزئين مثلهم لقوله تعالى : (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) لأنهم في مكة كانوا يعجزون عن الإنكار ، والذين في المدينة لم ينكروا مع القدرة ، فكان ترك الإنكار كرضاهم يقال : إذا كان من بمكة لا يطيق الإنكار فلم نهى؟ ولعله يقال : لأن ذلك يوهم الرضاء ، فيكون معصية غير كفر ، والله أعلم.

ومن قال بوجوب الإنتقال وإن لم يقدر فذلك حجة له.

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً).

قال جار الله : يعني القاعدين والمقعود معهم.

__________________

(١) كلام المصنف رحمه‌الله هنا يدل على أنه لا يصح ما ذكره من النسخ في قوله :

فنسخ بقوله في سورة الأنعام : إن نزولها مترتب على نزول (وَإِذا رَأَيْتَ) الآية.

٥٢٠