القلائد الجوهريّة في تاريخ الصالحيّة

أبي عبد الله شمس الدين محمّد بن علي بن طولون الدمشقي الصالحي [ ابن طولون ]

القلائد الجوهريّة في تاريخ الصالحيّة

المؤلف:

أبي عبد الله شمس الدين محمّد بن علي بن طولون الدمشقي الصالحي [ ابن طولون ]


المحقق: محمّد أحمد دهمان
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مطبوعات مجمع اللغة العربيّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٥٦

وما زال هذا الدين لله قائما

وكل زمان ينتشي فيه فرسان

على أهله بالعلم صاروا ملوكهم

إلى يومنا هذا ولله احسان

ولو لم تضق عنهم قوافي قصيدتي

لفصلت ثوب المدح فيهم وان كانوا

على عدد القطر السمائي كثرة

ولا ندعنّ من كنا القوم انسان

ولكنني ان طال عمري وساعدت

من الله أقدار وفضل واحسان

سأنظم عقدا من جواهر فضلهم

ولفظهم يتلوه در ومرجان

من الرجز السهل القوافي لكي يرى

به من بديع الشعر روح وريحان

ووالله لم أقصد بنظمي نصبة

على أهل بر يرتجى منه احسان

ولكن لوجه الله جل جلاله

وحبا لأهل العلم في أين ما كانوا

وأيضا فعندي في البخاري قطعة

وفي الكرماني جانب فيه نقصان

وعندي قاموس واحيا علومنا

نواقص أيضا والكمال له شان

وأنتم شيوخ الناس والعلم عندكم

وعندكم والله لطف واحسان

٥٢١

فقلت عساني أمزج الود بيننا

فأعطفكم بالشعر والله حنان

فأكملهم وابني معي في كتابتي

عسى الله يقضي حاجتي فهو رحمن

فأنفع أولادي ونفسي بحقهم

وهذا مراد العبد والناس أعوان

* * *

وأما قصيدي هذه فتأسست

لمدرسة الشيخ الذي فيه عرفان

أبي عمر المشهور والقارئين في

محلتها اذ كلهم فيه أعوان

وأصحاب تدريس بها في علومهم

ونظارها والكاتبين لمن كانوا

وحيث ذكرنا ما بها من مدرس

تعين لي ذكر الذي فيه اتقان

[ص ١٧٠]

وذلك شيخ المسلمين وحبرهم

وكاملهم من لم يكن فيه نقصان

أمام رؤوس الناس شيخ جميعهم

ومن كل من في الكون قالوا له شان

ومن هو شيخ الشافعية كلهم

وشمس سماء العارفين الألى (١) زانوا

أبو بكر المشهور بالدين والتقى

وكل تقي الدين دين وايمان

__________________

(١) في الاصل : الذين.

٥٢٢

وأولاده السادات من فيض فضله

ترقوا سماء العز والكل أعيان

فإن إمام المسلمين له بها

وظيفة تدريس وذو الخير أعوان

ولا شك أن الله فيها أقامه

كما قد أقام الله من قبله كانوا

وباشر عنه الآن في الدرس شيخنا

امام نحاة الوقت شيخ له شان

بكل اصول الدين والفقه عارف

وان لهذا الشيخ دين وايمان

ألا فانظروا يا عارفين وحققوا

عناية مولانا فذو اللطف منان

أقام ثلاثا زاهدين أئمة

أعفّا لطافا هم على الخير أعوان

لينفع كل منهم جلساءه

بتقريره إذ في اللطافة احسان

اذا ما وزنت اللطف والظرف والتقى

تجدهم سواء ان تحرر ميزان

وهم أحمد الشيخ الامام ويوسف

وأحمدنا ان الثلاثة اخوان

شهابان في أعلى سما الفضل نورهم

بنور جمال الدين تم لهم شان

وهذي كرامات الذي تم فتحه

أبي عمر القطب الذي منه احسان

٥٢٣

دعا الله للأشياخ في وقفه بأن

يكونوا ولاة عارفين كذا كانوا

وبرهان دين الله أقضى قضاتنا

ومعتمد الطلاب حبر له شان

هو الشافعي الثانيّ لله دره

وفي كل قول عنه يظهر برهان

ومدرسة الشيخ الامام له بها

امتزاج قديم فيه دين وايمان

ومن أعظم الاشياخ شمس نهارنا

فتى الشيخ عيسى فهو في الناس نعمان

وان قيل لي أطنبت قلت محمد

وأقسم أن الشيخ حبر له شان

فضائله مشهورة وعلومه

وفي الحكم والتوريق حبر وما شان

وأما بهاء الدين أقضى قضاتنا

ذوو الفضل من حجين ما فيه نقصان

وعندي أهل العلم في دهرنا لهم

أجور توازي الاقدمين وان كانوا

هم دونوا هذي العلوم وحرروا

فإن لأهل العلم ذا الوقت احسان

لانهم آحاد والناس أدبروا

عن الدين والدنيا وغالبهم هانوا

ومن يك ذا علم ودين بدهرنا

فقد لحق الماضين في كل ما كانوا

٥٢٤

لانهم أسباب ايصال من دنا

الى الله بالإرشاد والخلق عميان

فإن فقيها واحدا مرشدا لهم

يوازن ألفا ثم يرجح ميزان

ووالله لو لا العلم فينا وأهله

وأهل كتاب الله في الناس وحدان

هم يقرأوا القرآن في كل موطن

لأظلمت الدنيا وما عاد ايمان

ومن أعظم الاشياخ ناظر وقفها

وشيخ شيوخ الوقت جازاه رحمن

بكل جميل فهو حقا عمادنا

وضابط هذا الوقف والشيخ عنوان

ومن أعظم النظار أولاد عمه

فإنهم في الضبط والخير أعوان

جزاهم اله الناس خيرا بفعلهم

وفضلهم لم يخفه قط انسان (١)

أرى فعلهم فعلا جميلا لانهم

يقولوا لمن قد غاب يكفيك حرمان

غيابك فالبث جائعا لو حضرتنا

أكلت ولو أحسنت عمك احسان

فيا كاتبا للغيبة اصبر فاننا

نعدّك ذا ظلم وما فيك نقصان

تسببت للأكل الحلال بهذه

وللجمع حتى يحضروا فهو احسان

__________________

(١) في الاصل : وفضلهم اذ لم يخفى قط انسان.

٥٢٥

فلو قال ذو فضل رأيتك مطنبا

وعندك ايغال وما فيك عرفان

ففي الارض أرض أفضل الارض كلها

كذا الانبيا في الناس والكل أعيان

كذلك أهل العلم كالقطر كثرة

وكل ولي منهم فيه امكان

وانك ان فضلت من قد ذكرتهم

عليهم فأنت اليوم لا شك شيطان

أقول له اصبر يا أخي واطمئن لا

تلج فمن يعجل يوافيه حرمان

مديحي بعض العالمين بعلمهم

وتركي للباقين ما هو كفران

[ص ١٧١]

وانك تدري ان من كان مسلما

أحب جميع الانبياء الذي كانوا

وخالقهم سبحانه وأحب ما

به امروا والفعل بالأمر ايمان

وهل مثل بيت الله جل جلاله

ومثل ضريح المصطفى فيه رضوان

وهل مسجد الاقصى يضاهى بمسجد

وهل مثل أنفاس[](١)

وهل مالك والشافعي وأحمد

يضاهوا بنا أو هل يشبه نعمان

__________________

(١) لم يظهر في الاصل المصور مكان هذا الفراغ.

٥٢٦

وهل قارىء القرآن طول زمانه

كقارئه في عامه وهو نعسان

فلو رام أهل المدح من بعث آدم

الى يومنا هذا ولو رام حسان

بأن يحصروا من بعض فضل محمد

عليه سلام الله ما فاه انسان

لقيراط عشر العشر من ألف عشره

مكررة والآخر السبع دخان

ولو كتب الكتاب من يوم خلقه

وأقلامهم أشجارهم حيث ما كانوا

لأعجزهم هذا وأحمد واحد

فكيف بجمع فاستفق أنت نعسان

وغاية ما في الباب أن مرادنا

أبو عمر في المدح اذ هو عنوان

لتأسيس هذا الخير والجمع جمعه

ومن أسس التقوى له دام بنيان

وألزمني استطراد نظمي لذكر من

ذكرتهم اذ هم على الخير أعوان

ولو رمت أحكي فضل كل مفضل

لضاق على جزء الفضائل ديوان

فأسألك اللهم يا واسع العطا

أغثنا فأنت الله بر ورحمن

وحقق رضانا فيك وانظر لجمعنا

باحسانك الوافي فكم لك احسان

٥٢٧

ورجح لنا يوم الحساب أجورنا

ولا تفضحنا يوم ينصب ميزان[](١)

[ص ١٧٢]

[من ذم الصالحية]

وقد ذم الصالحية بذم أهلها جمع منهم الامام نجم الدين سليمان ابن عبد القوي الطوفي ـ قال الذهبي عنه : كان دينا ساكنا قانعا ، ويقال : انه تاب من الرفض ونسب اليه أنه قال عن نفسه :

حنبلي رافضي ظاهري

أشعري انها احدى الكبر

انتهى ـ فقال :

قوم اذا حل الغريب بأرضهم

أضحى يفكر في بلاد مقام (٢)

بثقالة الاخلاق منهم والهوا

والماء وهي عناصر الاجسام

ووعورة الارضين فامض وقم ونم

كتعثر المستعجل التمتام

بجوار قاسيون هم وكأنهم

من جرمه خلقوا بغير خصام (٣)

__________________

(١) فراغ بعد ذلك مقدار صفحة من الاصل.

(٢) وردت هذه الابيات في الدرر الكامنة (٢ / ١٥٥) مع تصحيف فيها وقد استطعنا ان نرجع التصحيف الى اصله. ونذكر هنا بيتين كما وردا في الاصل المصور مصحفين :

قوم اذا دخل الغريب بأرضهم

اضحى يكفر في بلاد مقام

وزعورة الارضين فامض وقم ونم

كبعير المستعجل النمنام

(٣) فراغ مقدار اربعة اسطر من الاصل.

٥٢٨

[ص ١٧٣]

الباب الاربعون

في

مزارات الصالحية وختامها الترب العامة

أما المزارات بها فكثيرة ، فالمشهور منها في الجبل :

مغارة الدم.

ومحاريب الاربعين في رأسه وفلوتهم (١).

ومغارة التوبة هناك.

ومسجد الكهف والغار الذي فيه ، وقبور الشهداء هنالك.

ومغارة زاوية الارموي فوق الروضة.

ومغارة تربة (٢) هناك.

ومسجد تل الشيخ سعيد والمغارة الكبيرة هناك.

ومسجد مئذنة عبد الحق وقبور الشهداء تحت جسر البط هناك.

ومسجد الربوة ، ومهد عيسى ، والتخوت هنالك.

ومسجد مقرا.

ومدرسة الشيخ أبي عمر.

وشباك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي غربي دار الخطابة بالجامع المظفري.

وقبر سيدي ركن الدين بمحلة الركنية.

وقبر الشيخ موفق الدين بن قدامة وسط الروضة وهو معروف.

وقبر الحافظ ضياء الدين المقدسي ، ويقال ان قبره المحجر الذي

__________________

(١) كذا في الاصل. ولعل الصواب : ومحاريب الاربعين في رأسها وخلوتهم ، لان فوق هذه المغارة قاعة كبيرة فيها اربعون محرابا.

(٢) تحتمل قراءتها : توبة.

القلائد الجوهرية م ـ ٣٤

٥٢٩

تحت الحدرة التي تحت الشيخ موفق الدين على ما أخبرنا الشيخ جمال الدين بن عبد الهادي عن عدة من المشايخ.

وقبر الامام الكبير ابو العباس البخاري والد الفخر بن البخاري وسمعت القاضي نجم الدين بن القاضي برهان الدين بن مفلح يقول سمعت والدي يقول : ان قبره الذي فوق الشيخ موفق الدين.

وقبر الحافظ العماد المقدسي الذي قال الشيخ موفق الدين عنه : كنا نجري خلفه ولا نلحقه وأخباره مشهورة. وقد صنف الحافظ ضياء الدين المقدسي مناقبه في عدة أجزاء ، وقبره شمالي قبري الموفق والبخاري بغرب بينه وبينهما فسحة كبيرة. قال أبو المحاسن بن المبرد : وقد أخبرني بن الشهاب المؤذن بالجامع المظفري وكان من الاخيار أنه مرة كان يسبّح بمئذنة الجامع المذكورة وكان القمر في جهة القبلة ، فكان اذا دار فيها الى جهة الشمال يرى من الارض قمرا خارجا من قبر العماد مثل القمر الذي في السماء من جهة القبلة فجعل يعجب من ذلك ويدور ، ثم يأتي فيجده ويتمنى ان يأتي أحد من المؤذنين حتى يريه اياه ، فلما قرب الفجر سمع حسّ واحد من المؤذنين قد جاء فسر حتى يريه اياه فدار فلم يجده.

قال وأخبرني الشيخ ابن الشياح وكان سكنه في زاوبتهم فوق الروضة وكنا كثيرا نصعد عنده وننام فقلت له هل رأيت من هذه القبور قط شيئا رابك؟ فقال : لا ، الا مرة كنا جماعة ونحن على الذكر فرأينا ضوءا كثيرا في الروضة على قبر العماد ، فقلنا هؤلاء حرامية فنزلنا ، فلما قربنا من المحل لم نر شيئا ، فعدنا فاذا به قد عاد ، فرجعنا حتى قربنا [منه فلم نر شيئا] فذهبنا ثلاث مرات نفعل ذلك ونذهب ثم نعود ، فقلنا ان ذلك ليس هو مع أحد انتهى.

* * *

٥٣٠

وقبر الشيخ الصالح المعتقد المولّه اسماعيل بن عبد الله الصالحي أحد الفقراء بمدرسة ابي عمر ، كان من أصحاب الشيخ خلف والشيخ عبد الرحمن أبو شعر ، قرأ القرآن فأتقنه حفظا ثم أخذه نشاف خ فزال عقله ، فقيل ان سببه كثرة الدرس للقرآن ، ويقال بل أحب شخصا فصبر وكتم ، وكان في حال تولهه يكثر قراءة القرآن ، وله كلمات حسنة ، وللناس فيه اعتقاد كبير ، حتى الاعيان كشيخ الاسلام الزين بن العيني والقاضي بهاء الدين الباعوني والسيد شهاب الدين بن نقيب الاشراف.

ويقال إنه رؤي مرارا بالجبل يوم عرفة ، وفي آخر عمره كان يلازم الجامع الجديد [ص ١٧٤] وجامع الافرم ، وكنت كثيرا أجتمع به فيهما فبسألني عن آيات من المتشابهة.

وتوفي في تاسع عشري رمضان سنة تسعمائة ودفن شرقي قبر العماد بالروضة ، وكانت له جنازة مشهورة وحمل على الايدي ، وعملت بنت الباعوني لقبره تابوتا وبنت لها بيتا قبالة قبره ، وكانت توقد على قبره كل ليلة جمعة قنديلا ، وبعد موتها بطل ذلك وزال التابوت.

* * *

وقبر الشيخ جمال الدين بن مالك قبلي قبر الشيخ اسماعيل المذكور ، قبلي يفصل بينهما قبر واحد لصيق القبر العالي المحجر من جهة الشمال ، وعلى رأسه حجر من صوان أسود.

قال شيخنا الجمال ابن المبرد : ويقال انه في مغارة الجوع ، والذي رأيته منقولا أنه في تربة الارموي.

ولما قدم العلامة شعبان الآثاري الصالحية أراد زيارة قبره فقيل له : لا يعرفه الا رجل حفّار يقال له زعتر ، فذهب اليه فلما وصل الى الروضة وجد شخصا يلحد ميتا ، فسأل من هذا الحفار؟ فقيل له هذا زعتر فأنشد :

٥٣١

ولما صرفنا العزم نحو ابن مالك

مررنا بشخص يقبر الناس في الثرى

فقلنا من القبار وهو مخلل

يطم فألفينا المخلل زعترا

فقال له يا شيخ : أرنا قبر الشيخ جمال الدين بن مالك ، فذهب معه وأراه هذا القبر الذي عيناه أولا فقال :

سألت أناسا عن ضريح ابن مالك

فأخبرني شخص به وهو حفار

وقالوا بأن الشخص يدعى بزعتر

فوا عجبا من زعتر وهو قبّار

وقد أجاد في ذلك :

* * *

والشيخ جمال الدين بن مالك هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله ابن عبد الله بن عبد الله (ثلاثة) بن مالك الطائي النسب ، الاندلسي الاقليم ، الجياني المنشأ ، وجيان مدينة من مدن الاندلس ، الدمشقي الدار ، الشيخ جمال الدين المشهور بجده الاعلى.

مولده بجيان ، وميلاده ـ قال البرهان بن القيم ـ سنة ستمائة او احدى وستمائة ، وقال الشمس الهواري سنة ثمان وتسعين وخمسمائة ، ثم رحل الى الحجاز وتردد في البلاد الشامية ، فسكن بحلب وحماه ، ثم انتهى آخرا الى دمشق ، وأتقن النحو واللغة والقراءات ، وحفظ أشعار العرب ، وشارك في الحديث وسمعه ، وكذا شارك في الفقه.

قال أبو عبد الله بن جابر المالكي : وكان اماما في علم العربية ، وقد أحرز فيها قصب السبق ، واشتهر بها اشتهار البدر في الافق ، لم يكن يجارى ، في هذا المضمار ، ولا اطلع أحد على ما اطلع عليه فيها من الاسرار ، ولقد أحيى فيها علوما ورسوما دراسة ، وأظهر معالم

٥٣٢

طامسة ، وجمع منها ما تفرق ، وحقق ما لم يكن ظهر من ذلك ولا تحقق ، هذا مع أخذه من كل فن بنصيب ، ورميه الى غرض الورع بسهم مصيب ، فجمع العلم والعمل ، واشتهر بدر علمه وكمل ، ولم يزل معتكفا على الاشتغال والاشغال ، معرضا عما عدا العلم من الاشغال ، خرج من الدنيا ولم يتعلق بأعراضها ، ولا صرف نفسه الى أغراضها ، ولما ورد من الاندلس استقر بالشام ، وانتقل الى مذهب الامام الشافعي رضي‌الله‌عنه ، هكذا ذكر بعض من عرّف به ، فالله أعلم بموجب ذلك وسببه.

وله في هذا العلم تصانيف جامعة للمسائل ، لكنها على الناظر بعيدة الوسائل ، تطالب الذهن الثاقب نفس معانيها ، وينشد عند احتجاب معانيها :

لا تحسب المجد تمرا أنت آكله

لن تبلغ المجد حتى تلعق الصّبرا

ومع هذا فانها كثيرة الافادة ، موسومة بحمد الله بالاجادة ، وليست لمن هو من هذا العلم في درجة ابتدائية ، ولكنها لمتوسط يترقى بها الى درجة انتهائية ، انتهى.

ومن تصانيفه [ص ١٧٥] التسهيل ، والكافية نظما ، وشرحها ، ومختصرها الخلاصة الالفية ، واللامية في التصريف ، وشرحها والمثلث [نثر ونظم](١) والعمدة ، وشرحها.

ولما أقام بحلب تصدر للاقراء ولما انتقل الى دمشق تولى مشيخة

__________________

(١) لم يظهر في الاصل المصور مقدار كلمتين ، ولكن الكلمة الاولى ظهرت بخط ضعيف استظهرنا انها : نثر. ونظمه في المثلث مشهور مطبوع ، ومن البديهي الا يقدم على نظمه الا بعد ان يعده نثرا.

٥٣٣

التربة العادلية بسفح قاسيون (١) ، وتصدر بجامع دمشق ، وانتفع به الناس الى أن توفي في ثاني عشر شعبان سنة اثنتين وسبعين وستمائة وقد (٢) ودفن بالصالحية اتفاقا ، ورثاه بهاء الدين بن النحاس بقوله :

قل لابن مالك ان جرت بك أدمعي

حمرا يحاكيها النجيع القاني

فلقد جرحت القلب حين نعيت لي

فتدفقت بدمائه أجفاني

لكن يهون ما احر من الاسى

علمي بنقلته الى رضوان

وآخر من روى عنه الامام شهاب الدين احمد بن سلمان الكاتب كتاب الخلاصة عرضا.

* * *

وههنا اتفاقية عجيبة من الغرائب نبّه عليها أبو النجا المصري في شرح التوضيح وهي : ان لنا محمد بن عبد الله بن مالك النحوي الشريشي ، يكنى أبا عبد الله ، ويدعى بهاء الدين أحد أئمة الصناعة العربية ، وله في ذلك كتاب جليل سماه : تسهيل الفوائد ، ورجز مفيد يستعمله أهل البلاد المشرقية ، وهو غير الشيخ جمال الدين المذكور أولا.

* * *

وأما ولد الشيخ جمال الدين صاحب هذا القبر فهو العلامة بدر

__________________

(١) الصواب انه تولى مشيخة التربة العادلية داخل دمشق في المدرسة العادلية الكبرى ، انظر مقالنا عنها في مجلة المجمع العلمي العربي ج ٢٩ ص ٥٢ وقد افردنا طبعه على حدة.

(٢) لم تظهر في الاصل المصور.

٥٣٤

الدين قال الذهبي : توفي سنة ست وثمانين وستمائة من قولنج كان يعتريه كثيرا ولم يتكهل انتهى وقال ابن حبيب : توفي عن نيف وأربعين سنة ودفن بباب الصغير ودفن والده بالصالحية.

ومن تصانيفه : شرح ألفية والده ، وهو في غاية الحسن ، وذكره شيخنا المؤرخ المحيوي النعيمي في كتابه القول الجدير فيمن دفن من الشافعية بباب الصغير.

* * *

وقبر الشيخ يوسف القميني والناس يبدلون النون ميما وتبعهم الشيخ جمال الدين بن عبد الهادي وقال : وله مزار.

والناس قد اختلفوا فيه ، فمنهم من يعده من الصالحين المعتقدين ، ومنهم من يقول : ان ذلك من خرافات العامة وانه كان يوقد في القمامين ولا يتحرز من النجاسات وليس هو من هذا المقام في شيء انتهى.

(قلت) توفي صبح ليلة نصف شعبان سنة سبع وستمائة ، كذا رأيته في بلاطة عن رأس ضريحه ، وقد كان مزاره تخرب فجدد في أيامنا خلا حوشه ، وهذه ثاني مرة جدد فان خادمه الشيخ علي كان جدده قبل ذلك كما هو مكتوب على الباب الخارج.

* * *

وقبر الشيخ ابي السعود بن هنفري الجعفري البدوي وله مزار شمالي الشيخ يوسف المتقدم وشرقي الروضة والى جانب مزاره مكان قيل انه زاويته.

ورأيت في حائط مزاره مكتوب أنه توفي سابع عشرين رمضان سنة خمس وستمائة قيل وبينه وبين الشيخ رسلان أخوة ، وخلف قبره قبر الذي يظهر أنه حريمه ، ورأيت خادمه الشيخ الصالح محمد النشار يقول : انه قبر الشيخ يوسف الدسوقي ، وقد كان هذا المكان خاملا حسب ما أدركناه ، ثم ان شيخنا العلامة شهاب الدين أحمد بن

٥٣٥

محمد بن أبي بكر بن نقيب الاشراف البكري الحسيني اشهره لما بنت زوجته بنت الباعوني قدام هذا المزار من جهة القبلة بيتا لها وفوقه طبقة مشرفة على قبر الشيخ اسماعيل المتقدم لكثرة اعتقادها فيه ، وهو القائل فيه كما نقلته من خطه أولا :

من أمّ باب أبي السعود وجاءه [ص ١٧٦]

في حاجة بلغ المراد ونالها

رجل رقى درج العلا حتى انتهى

لنهاية في القرب عزّ منالها

وثانيا :

يا زائري لابي السعود بلغتم

كل المراد وذاك منه لكم قرى

الغوث آل المصطفى من زاره

سعيا على الأحداق كان مقصّرا

أحواله ظهرت فلا تخفى على

عبد بعين القلب حقا أبصرا

الجعفري ومن غدت أسراره

في الناس أشهر أن تعد وتحصرا

فالله ينفعنا به وبجده

أعلى وأشرف من يشفّع في الورى

صلى عليه الله ربي دائما

ما حن صب للقا وتذكرا

والآل والصحب الكرام جميعهم

خير الورى بعد النبي بلا مرا

ثم انتشر ذكر هذا الرجل بعد ذلك بخادمه المذكور.

* * *

٥٣٦

وقبر أبي منصور عبد السلام بن عبد الوهاب بن عبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر بن ابي صالح الكيلاني بمقبرة الارموي فوق الروضة وعلى نصيبته قبره ، اختصر هذا النسب ونسب الى جده عبد القادر ، وفيها أنه توفي سنة ثلاثين وسبعمائة رحمه‌الله ، وقد جمع الحافظ شمس الدين بن ناصر الدين شجرة في أولاد الشيخ عبد القادر الكيلاني رضي‌الله‌عنه وذكر فيها تراجم كل منهم وذكر منهم عبد السلام هذا ولم اقف عليها مبيضّة بل ولا بالتسويد الا بعضا منها.

* * *

وقبر الشيخ محيي الدين أبي عبد الله محمد بن علي بن محمد بن العربي الطائي الحاتمي من أهل الاندلس بتربة قاضي القضاة ابن الزكي الشافعي وقد بنى عليه الان الملك المظفر سليم خان بن عثمان قبة وجعل عليه سردابا وتابوتا بثوب (١).

قال الحافظ محب الدين بن النجار في ذيل تاريخ بغداد : ذكر لي أنه ولد في ليلة الاثنين سابع عشر رمضان سنة ستين وخمسمائة ونشأ بالاندلس وانتقل الى اشبيلية في سنة ثمان وسبعين فأقام بها الى سنة ثمان وتسعين ، ثم دخل بلاد الشرق ، وطاف بلاد الشام ، ودخل بلاد الروم ، وكان قد صحب الصوفية وأرباب القلوب ، وسلك طريق الفقه ، وحج وجاور ، وصنف كتبا في علم القوم وفي أخبار مشايخ الغرب وزهادها ، وله أشعار حسنة ، وكلام مليح اجتمعت به بدمشق وكتبت عنه شيئا من شعره ، نعم الشيخ ، دخل بغداد وحدث بها بشيء من مصنفاته ، وكتب عنه الحافظ أبي عبد الله الدبيثي (؟) ومن شعره ما أنشدني لنفسه :

__________________

(١) راجع ص ١١٤ ـ ١٢٣ عن بناء قبته والمسجد الى جانبها.

٥٣٧

أيا حائرا ما بين علم وشهرة

ليتصلا ما بين ضدين من وجلي (؟)

ومن لم يكن مستنشق الريح لم يكن

يرى الفضل للمسك العبيق على الزبل

كتب اليّ الحافظ ضياء الدين المقدسي أن ابن العربي توفي ليلة الجمعة الثاني والعشرين من ربيع الاول سنة ثمان وثلاثين وستمائة انتهى.

* * *

وقد اختلف الناس قديما وحديثا في ابن عربي هذا :

ففرقة تعتقد ولايته وتقصده بالزيارة وتعده من الاقطاب وهم غالب الاعاجم وجميع الاروام ، وجماعة البواعنة بدمشق ، ومن هذه الفرقة الشيخ تاج الدين بن عطاء الله من أئمة المالكية ، والشيخ عفيف الدين اليافعي من أئمة الشافعية ، والعلامة سراج الدين الهندي [ص ١٧٧] من أئمة الحنفية ، والعلامة نجم الدين الباهي من أئمة الحنابلة ، والشيخ ولي الدين الملوي من أئمة التفسير ، والشيخ شمس الدين شيخ الوضوء من أئمة القراءات ، والشيخ ابو عبد الله التوزري من أئمة الاصول ، والشيخ أبو ذر العجمي من أئمة المعقولات ، والعلامة مجد الدين الشيرازي من أئمة اللغة ، والعلامة شمس الدين [البوني](١) من أئمة الصوفية.

قال الجلال السيوطي : وهذه الفرقة هي المصيبة ولكن تعقبه في ذلك الشمس الغزي.

وفرقة تعتقد ضلاله وتعده مبتدعا اتحاديا كافرا وهم غالب فقهاء أبناء العرب وجميع المحدثين ، وسمعت الشيخ شمس الدين

__________________

(١) لم تظهر في الاصل.

٥٣٨

الكفرسوسي يقول : وقد رقاهم بعض المتأخرين الى نحو الخمسمائة ، ومنهم قاضي القضاة تقي الدين عبد الرحمن ابن قاضي القضاة تاج الدين عبد الوهاب بن بنت الأعز المصري ، والعلامة شهاب الدين احمد ابن حمدان الحراني نزيل حلب ، وعلامة زمانه تقي الدين بن تيمية ، والعلامة كمال الدين جعفر الادفوي ، والعلامة شهاب الدين احمد ابن يحيى بن أبي (١) ، والحافظ عماد الدين بن كثير ، ونادرة زمانه علما وعملا علاء الدين محمد البخاري ، وقاضي القضاة ولي الدين أبو زرعة أحمد العراقي ، وقاضي القضاة بدر الدين محمود العيني ، وشيخ الاسلام شمس الدين البلاطنسي ، والعلامة محمد بن امام الكاملية الصوفي ، وحافظ العصر شهاب الدين أحمد بن حجر ، والفقيه الاصولي تقي الدين بن الصلاح ، وقاضي القضاة تقي الدين ابن دقيق العيد ، وقاضي القضاة بدر الدين بن جماعة ، وشيخ الاسلام تقي الدين السبكي.

* * *

وفرقة شكت في أمره ومنهم الحافظ الذهبي في الميزان. قال الجلال السيوطي وعن الشيخ عز الدين بن عبد السلام فيه كلامان : الحط عليه ، ووصفه بأنه القطب.

والجمع بينهما ما أشار اليه الشيخ تاج الدين بن عطاء الله في لطائف المنن أن الشيخ عز الدين كان في أول أمره على طريقة الفقهاء من المسارعة الى الانكار على الصوفية ، فلما حج الشيخ ابو الحسن الشاذلي ورجع جاء الى الشيخ عز الدين قبل ان يدخل بيته وأقرأه السلام من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخضع الشيخ عز الدين لذلك ولزم مجلس الشاذلي من حينئذ وصار يبالغ في الثناء على الصوفية لما

__________________

(١) كلمة لم تظهر في الاصل.

٥٣٩

فهم طريقتهم على وجهها وصار يحضر معهم مجالس السماع ويرقص فيها.

وفرقة سكتت عنه وجعلت أمره الى الله قال شيخنا الجمال ابن المبرد في كتابه الدرة المضيئة : وهذا الطريق هو الاسلم.

وقد سئل بقية المجتهدين شرف الدين المناوي عن ابن عربي فأجاب بما حاصله أن السكوت عنه أسلم وهذا هو اللائق بكل ورع يخشى على نفسه.

قال شيخنا الجلال السيوطي في رسالة تنبيه الغبي بتبرئة ابن عربي : والقول الفصل عندي في ابن عربي طريقة لا يرضاها فرقتا أهل العصر لا من يعتقده ولا من يحط عليه ، وهي اعتقاد ولايته ، وتحريم النظر في كتبه ، فقد نقل عنه أنه قال : نحن قوم يحرم النظر في كتبنا ، وذلك أن الصوفية تواضعوا على ألفاظ اصطلحوا عليها وأرادوا بها معاني غير المعاني المتعارفة منها ، فمن يحمل ألفاظهم على معانيها المتعارفة بين أهل العلم الظاهر كفر وكفّر [ص ١٧٨] نص على ذلك الغزالي في بعض كتبه وقال انه شبيه بالمتشابه في القرآن والسنة من حمله على ظاهره كفر ، وله معنى سوى المتعارف منه ، فمن حمل آيات الوجه واليد والعين والاستواء على معانيها المتعارفة كفر قطعا. والمتصدي لتكفير ابن عربي لم يخف من سوء الحساب. يقال له : هل ثبت عندك أنه كافر؟

فان قال : كتبه تدل على كفره ، أفأمن أن يقال له : هل ثبت عندك بالطريق المقبول في نقل الاخبار أنه قال هذه الكلمة بعينها وأنه قصد بها معناها المتعارف؟

والاول لا سبيل اليه لعدم سند يعتمد عليه في مثل ذلك ولا عبرة بالاستفاضة الآن ، وعلى تقدير ثبوت أصل الكتاب عنه ، فلا بد من

٥٤٠