القلائد الجوهريّة في تاريخ الصالحيّة

أبي عبد الله شمس الدين محمّد بن علي بن طولون الدمشقي الصالحي [ ابن طولون ]

القلائد الجوهريّة في تاريخ الصالحيّة

المؤلف:

أبي عبد الله شمس الدين محمّد بن علي بن طولون الدمشقي الصالحي [ ابن طولون ]


المحقق: محمّد أحمد دهمان
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مطبوعات مجمع اللغة العربيّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٥٦

ومنهم ـ عبد الرحمن بن علي بن محمد الحلبي الحنفي الشريف ركن الدين المعروف بالدخان اشتغل بدمشق وسكن بالصالحية [ص ١٦٣] وناب في الحكم لابن الكشك وفيه يقول القائل :

فقد كنت قبل اليوم للكشك كارها

فكيف به اذ صار كشكا مدخنا (١)

وولي القضاء بعده استقلالا توفي في سابع رجب سنة أربعين وثمانمائة ودفن بسفح قاسيون.

* * *

ومنهم ـ عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام العلامة قاضي القضاة تاج الدين أبو نصر ابن شيخ الاسلام تقي الدين أبي الحسن الانصاري الخزرجي السبكي مولده بالقاهرة سنة سبع ـ بتقديم السين ـ وعشرين وسبعمائة وقيل سنة ثمان وحضر وسمع بمصر من جماعة ثم قدم دمشق مع والده في جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين وسمع بها من جماعة واشتغل على والده وغيره وقرأ على الزكي ولازم الذهبي وتخرج به وطلب بنفسه ودأب وأجازه الشمس بن النقيب بالافتاء والتدريس ولما مات ابن النقيب كان عمر القاضي تاج الدين ثماني عشرة سنة ، وأفتى ودرس وحدث وصنف وشغل وناب عن أبيه بعد وفاة اخيه القاضي الحسين ثم استقل بالقضاء بسؤال والده في ربيع الاول سنة ست وخمسين ثم عزل مدة لطيفة ثم أعيد ثم عزل بأخيه البهاء وتوجه الى مصر على وظائف أخيه المذكور ثم عاد الى القضاء على عادته وولي الخطابة بعد وفاة ابن جملة ثم عزل منهما

__________________

(١) في الاصل :

فقد كنت للكشك كارها

فكيف وقد صار كشكا مدخنا

والتصحيح من الاستاذ احمد عبيد.

٥٠١

وحصلت له محنة شديدة وسجن بالقلعة نحو ثمانين يوما ثم عاد الى القضاء ودرس بمصر والشام بمدارس كبار : العزيزية والعادلية الكبرى والغزالية والعذراوية والشاميتين والناصرية والامينية ومشيخة دار الحديث الاشرفية وتدريس الشافعي بمصر والشيخونية والميعاد بالجامع الطولوني وغير ذلك ، وقد ذكره الذهبي في المعجم المختص وأثنى عليه وقال : أجاز له الحجار وطائفة ، وقال الشهاب بن حجي : خرج له ابن سعد مشيخة ومات قبل تكميلها وحصل فنونا من العلم ، وكان ماهرا في الاصول والحديث والادب وشارك في العربية ، وكان له يد في النظم والنثر جيد البديهة ذا بلاغة وطلاقة لسان وجراءة جنان وذكاء مفرط وذهن وقاد وقدرة على المناظرة ، صنف تصانيف عدة في فنون على صغر سنه وكثرة اشتغاله قرئت عليه وانتشرت في حياته وبعد موته ، وانتهت اليه رئاسة القضاء والمناصب بالشام وحصل له محنة بسبب القضاء وأوذي فصبر وسجن فثبت وعقدت له مجالس فأبان عن شجاعة وأفحم خصومهم (١) مع تواطئهم عليه ثم عاد الى رتبته وعفا وصفح عمن قام عليه وكان سيدا جوادا كريما مهيبا تخضع له أرباب المناصب من القضاة وغيرهم ، وقال ابن كثير : جرى عليه من المحن ما لم يجر على قاض قبله ، وحصل له من المناصب ما لم يحصل لاحد قبله.

كان معه حين توفي منها القضاء والخطابة والعادلية والغزالية والشامية البرانية والجوانية والامينية ودار الحديث الاشرفية ودار الحديث الظاهرية وكان يباشر الاسوار والبيمارستان ، وقد درس في وقت في القيمرية والرواحية والتقوية والدماغية والناصرية الجوانية والمسرورية انتهى ، توفي شهيدا بالطاعون في عشية الثلاثاء سابع ذي الحجة

__________________

(١) لعله خصومه.

٥٠٢

سنة احدى وسبعين وسبعمائة ببستانه بالدهيشة (١) من أرض النيرب وكان قد خطب بالجامع يوم ثالث الشهر وطعن يوم السبت رابعه وصلي عليه غداة ثامن الشهر غير مرة ودفن بتربتهم بالسفح وشيعه خلائق وحضر نائب السلطنة وحمل نعشه الامراء الكبار ومن تصانيفه شرح مختصر ابن الحاجب في مجلدين سماه رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب وشرح المنهاج للبيضاوي وكان والده قد كتب منه قطعة يسيرة من اوله فبنى عليها ولده وطبقات الفقهاء الكبرى ثلاثة أجزاء وفيه غرائب وعجائب ، والوسطى في مجلد ضخم ، والصغرى في لطيف ، والترشيح في اختيارات والده وفيه فوائد غريبة ، وهو أسلوب غريب ، والتوشيم على التنبيه والتصحيح والمنهاج وجمع الجوامع في الاصول ، وكتب عليه كتابا سماه منع الموانع وجلب حلب ، جواب أسئلة سأله عنها الاذرعي ، وأرجوزة سماها ترجيح التصحيح قال في آخرها :

الحمد لله وقد تنجزا

نظمي هذا واضحا مرجزا

في السجن والتضييق والترسيم

أتممت ما حررت من منظومي

وربما أهملت أو غفلت

فالحبس قد ينسي الذي علمت

وليس عندي كتب خ أطالع

والحفظ يا لم (؟) جهد ما يراجع

أسأل رب العالمين فرجا

معجلا فهو الكريم المرتجى

__________________

(١) هي الدهشة الصغيرة وفيها أتم تأليف كتابه في الاصول «جمع الجوامع» انظر مكان الدهشة الصغيرة في : مخطط الصالحية.

٥٠٣

ولم أزل في حبس قبر عذرا

خمسين يوما لا عدمت أجرا

ثم قال :

حتى نقلت بعده للقلعة

وحبسها مر خ ولكن ذو سعه

ومكر الاعداء مكرا ومكر

ربي لي مكرا عزيزا ونصر

ذكره الصلاح الصفدي في كتابه : الوافي بالوفيات في نحو عشرة أسطر ، ووصف طبقاته بالورقات مع كبرها.

* * *

وترك ولدا [ص ١٦٤] اسمه علي ولي خطابة الجامع الاموي بعد ابيه وله عشر سنين ودرس في حياة أبيه بالامينية وعمره سبع سنين.

توفي مع ولدي عمه جمال الدين عبد الله وأخيه عبد العزير في يوم واحد بالطاعون خامس عشري ذي القعدة سنة سبعين وسبعمائة ودفنوا بتربتهم بالسفح تحت كهف جبريل من جهة الغرب.

[القضاة الواردون اليها]

وأما القضاة الواردون اليها فمنهم :

محمد بن محمد بن علي بن يوسف بن الجزري الدمشقي نزيل شيراز الشافعي الشيخ الامام العلامة المقرىء المحدث المفيد قاضي القضاة شمس الدين أبو الخير.

ولد بعد صلاة التراويح من ليلة السبت الخامس والعشرين من رمضان سنة احدى وخمسين وسبعمائة بدمشق ، وسمع بها من الصلاح ابن أبي عمر وابن أميلة وأحمد بن النجم والعماد بن كثير وابن المحب

٥٠٤

الصامت والكمال بن حبيب وست العرب بنت ابن البخاري وخلق ، وأجاز له العز بن جماعة وآخرون.

ومن مؤلفاته : كتاب النشر في القراءات العشر ، وطيبة النشر في قراءات العشر ، والحصن الحصين من كلام سيد المرسلين ، والتعريف بالمولد الشريف.

توفي يوم الجمعة خامس ربيع الاول سنة ثلاث وثلاثين وثمانمائة بمدينة شيراز ودفن بدار القرآن التي انشأها. كذا وجدته بخط الحافظ ابن ناصر الدين.

* * *

ومنهم ـ احمد بن نصر الله بن احمد بن محمد بن عمر التستري الاصل ثم البغدادي المولد القاهري الدار الحنبلي العلامة قاضي القضاة محب الدين ابو الفضل ابن العلامة جلال الدين ابي القاسم.

ولد يوم السبت سابع عشري رجب سنة خمس وستين وسبعمائة ، ونشأ على الاشتغال بالعلوم على اختلاف فنونها ، وسمع من والده عدة كتب ، والنجم السنجاري الموطأ رواية يحيى بن يحيى ، وسنن ابن ماجه وجامع المسانيد لابن الجوزي والحسين بن سالار (١) قطعة من المصابيح للبغوي واجاز له الجمال الكرماني شرح البخاري له والكتب الخمسة ومشيخته ولقبه شهاب الدين ووصفه بالفضيلة مع صغر السن وتمثل بقول الشاعر :

ان الهلال اذا رايت نموه

أيقنت ان سيصير بدرا كاملا

ثم رحل من بغداد سنة ست وثمانين فقدم حلب ، ثم دمشق ، فسمع بها من المحب الصامت وابن رجب ، ثم عاد الى حلب فسمع بها من احمد بن المرحل والشرف الحراني المنتقى من مسند الحارث بن ابي

__________________

(١) في الاصل : بالا. والتصحيح من الضوء اللامع (٢ / ٢٣٤).

٥٠٥

أسامة ومن ابن المرحل وحدة قطعة من السنن الصغرى للنسائي ثم عزم على الحج فلما كان بزيزاء (١) آخر بلاد حو [ر] ان سقطت نفقته ، ثم توجه الى القدس وترك الحج ، ثم القاهرة وسمع بها على العز بن الكويك جزء سفيان بن عيينة وغيره ، والزين بن رزين الصحيح ، واسماعيل الجيلي سنن ابي داود وجامع الترمذي والسيرة لابن اسحاق وغيرهم ، والسراج البلقيني جزؤه تخريج الولوي العراقي ، والتقي بن حاتم الشفاء ، والجمال الحنبلي مسند احمد ، وتفقه بالصلاح بن الاعمى ، ولازم ابن الملقن وغيره ، والعجب انه لم يلازم الزين العراقي في علم الحديث مع انه محدث وبرع فيه وفي الاصول والعربية ، ودرس بالظاهرية البرقوقية اول ما فتحت ، ثم بالمؤيدية ، وحضر مجلس المؤيد في كل اسبوع ، وصار عالم الحنابلة ، وناب في الحكم عن ابن مغلي.

ثم ولي قضاء القضاة بعد موته في صفر سنة ثمان وعشرين ، ثم صرف بالعز البغدادي ثم اعيد سنة احدى وثلاثين واستمر الى ان مات ، وحدث ، سمع منه الطلبة ، ولا نعلم ما يعاب به الا انه ولي القضاء ، فالله يرضي عنه اخصامه.

وتوفي بعلة القولنج صبيحة يوم الاربعاء خامس عشر جمادى الاولى سنة اربع واربعين وثمانمائة بالقاهرة بعد ان صلى الصبح بالايماء ، فاكمل ثمانية وسبعين سنة وعشرة اشهر الا يومين ، ولم يخلف في القاهرة بعده مثله.

قال شيخنا القاضي ناصر الدين بن ابي عمر : سمعت عليه جزءا من حديث شيخ الاسلام سراج الدين البلقيني يعني الجزء المتقدم خلا الكلام على الحديث بدار الحديث الاشرفية بالصالحية حين قدم مع الملك الاشرف

__________________

(١) من قرى البلقاء كبيرة يطؤها الحاج ، ويقام بها لهم سوق ، وفيها بركة عظيمة (معجم البلدان).

٥٠٦

برسباي سنة سبع وثلاثين ، ثم سمعت عليه جزء الاحاديث المستخرجة من مسند الحارث بن أبي اسامة ، واوله حديث السن ، واخره فهو مؤمن ، بالمدرسة المنصورية بالقاهرة في رحلتي اليها الاولى انتهى.

وقد سمعت هذين الجزأين على شيخنا بمدرسة جده أبي عمر من غير هذين الطريقين وغيرهما كما هو مثبت في ثبتي ، وأجاز لنا روايتهما عنه وجميع ما يجوز له وعنه روايته ولاهل الصالحية بسفح قاسيون.

[ص ١٦٥] الباب الثامن والثلاثون

فيما نسب من المحاسن الى الصالحية من الفواكه وغيرها

مما ينسب اليها من الفواكه :

التفاح السكري ، ينسب الى النيرب بحيث انه ينادى عليه سكر وادي النيرب.

وكذلك القراصيا ، ولكن ينادى عليها بنت وادي النيرب.

وكذلك التوت المحسني ، وهو منسوب الى بستان بيت محسن بالصالحية.

قال شيخنا الجمال بن عبد الهادي وأكثر التوت قرشي ، وسمعنا قديما أنه لم يكن ثم غيره ، وان اول ظهور المحسني ان سوقيا وجد على نصبة برية في سياجة ببستان ابن محسن توتا جيدا فأخذ منها حفنة فوضعها على طبليته ، فجاء صاحب البستان فرآه ، فقال له : من أين لك هذا؟ فأخذه وأراه اياها ، فأخذ منها وطعم فكثر حتى ترك الناس القرشي وزال بالكلية ، وأنا اعرف اول هذا الامر ثم بعد ذلك ظهر البندقي واللؤلؤي وقد كثرا وغلبا عليه انتهى.

وكذلك الرمان الصيرفي الجيد للصالحية أيضا.

وكذلك التين الماسوني للصالحية ايضا.

٥٠٧

وكذلك الخس بحيث ينادى عليه كيف ما نودي عليه : صالحي وأبيض.

وكذلك الهليون للصالحية.

وكذلك الزنبق ، للصالحية ايضا.

وكذلك البنفسج الجيد للصالحية أيضا ، والقليجي منه ، نسبة الى بيت قليج بها.

وكذلك النارنج ، للصالحية ايضا.

وكذلك الورق ، للصالحية أيضا ولا يصنع إلا بها ومنها يجلب الى سائر الدنيا.

وكذلك الشربات للصالحية أيضا ، ومنها تنقل الى غالب البلاد.

وكذلك اللحم على عجين ، للصالحية أيضا ، قال شيخنا أبو المحاسن ابن المبرد سمعت شيخنا التقي بن قندس يقول : الصالحي اذا ضيفه أحد لحما على عجين في غير الصالحية فقد ظلم نفسه ، والبعلبكي اذا ضيفه أحد قنبريسية (١) في غير بعلبك فقد ظلم نفسه ، فان اللحم على عجين للصالحية ، والقنبريسية لبعلبك انتهى.

* * *

ثم قال شيخنا : هذا ومما هي مختصة به من الفضائل مما ليس هو في غيرها المدرسة العمرية ، فانه ليس في الدنيا مثلها.

وكذلك مغارة الدم ، ومكان طالوت ، انتهى.

(قلت) وفيها حمام المقدم ، يشتمل على داخلين : أحدهما للرجال

__________________

(١) هي شبيهة بما نسميه باللبن المصفى غير ان تصفيته لا تكون بواسطة الكيس القماش ، بل بواسطة قدر يثقب من اسفله يقطر منه الماء ويبقى فيها أللبن الخاثر وهذه الطريقة لا تزال مستعملة في بعلبك وما حولها من سهل البقاع وتسمى الان بالقنبريس.

٥٠٨

وهو الجانب الشرقي ، والثاني للنساء وهو الجانب الغربي ، ولذا عمل بمشلحه بركتان وقد ادركنا حمام النساء هذا عاطلا وفك غالبه يوقد لهما في اقميم واحد ولم نر حماما على هذا المنوال.

وفيها طبقة المعلم والاجير ، اما طبقة المعلم فعلى ظهر التربة الزينية الخازنية تجاه باب الجامع المظفري الغربي بقبلة ، واما طبقة الاجير فعلى ظهر التربة النجمية العدوية تجاه مئذنة الجامع المذكور الشمالية بقبلة أيضا ، وهما في غاية الحسن.

وقيل ان طبقة الاجير فائقة على طبقة المعلم بواسطة (١) ان طبقة الاجير على جناحين والاخرى على جناح ، ولكن قد ادركنا طبقة الاجير خرابا وطبقة المعلم عامرة ، وهذا يدل على أن هذه أتقن من تلك. وقد كان شيخنا ابو عراقية الصوفي ساكنا في طبقة المعلم وفيها قرأنا عليه صحيح البخاري وعدة كتب.

* * *

ومنها التربة الاذرعية تجاه شبابيك جامع الجديد من جهة الشرق وهي سكن صاحبنا مؤدب الاطفال الشيخ محمد بن خير البلقاوي فيها شجرة لوز ترهز دائما في أول يوم من مربعينيات الشتاء بخلاف شجر اللوز في ضواحي دمشق فانه ربما تقدم وربما تأخر وقد انجعفت في الثلجة العظمى التي ما رأينا أعظم منها في رمضان سنة ست واربعين وتسعمائة وكانت على قبر واقف الخانكاه.

[ص ١٦٦] الباب التاسع والثلاثون

فيما قيل في الصالحية مدحا من النثر والنظم

أما النثر

فقال شيخنا الجمال بن عبد الهادي : اعلم انه ورد في أحاديث

__________________

(١) في الاصل بواسة.

٥٠٩

كثيرة أن خير البلاد في الفتن الشام. أخرج أحمد في مسنده وغيره من حديث أبي الددراء قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (بينا أنا نائم اذ رأيت عمود الكتاب استل من تحت رأسي فظننت انه مذهوب به ، فأتبعته بصري ، فعمد به الى الشام ، الا وان الايمان حين تقع الفتن في الشام).

وأخرجه أبو القاسم الرازي في فوائده ، ومحمد بن يعقوب بن الاصم في كتابه من حديث عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (اني رأيت عمود الاسلام انتزع من تحت وسادتي فنظرت فاذا هو نور ساطع عمد به الى الشام) ، وقد ورد ما هو أخص من ذلك ، وهو ان خيارها غوطة الى جانب دمشق.

أخرج أحمد في مسنده وغيره من حديث أبي الدرداء أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (فسطاط المسلمين يوم الملحمة الغوطة الى جنب مدينة يقال لها دمشق) ، وخرجه الحاكم ولفظه (خير مدائن المسلمين).

والغوطة قال الجوهري : بالضم موضع بالشام كثير الماء والشجر وهو غوطة دمشق ، وقال بعض أهل اللغة : هي الوادي المتسع ، وقال بعضهم : هو المكان المطمئن.

فعلى هذا الغوطة اما أن تكون اسما لما كثر به الماء والشجر حول دمشق وليس بلد حولها اكثر أنهارا وأشجارا من الصالحية ، واما أن تكون اسما لجميع ما حول دمشق من البلاد الكائنة في واديها المتسع والمكان المطمئن فالصالحية داخلة فيه بل هي احق بذلك لان بعض العلماء قال ان عمود الكتاب (١) المذكور في الحديث أولا نصب بسفح جبل قاسيون.

على أن الحافظ أبا عبد الله البخاري أخرج في صحيحه عن

__________________

(١) انظر تاريخ دمشق لابن عساكر تحقيق الدكتور صلاح الدين المنجد ١ / ٩١ تر احاديث عدة عن عمود الكتاب والاسلام.

٥١٠

الحميدي ثنا الوليد ثنا ابن جابر ثنا عمير بن هانيء (١) أنه سمع معاوية [يقول : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٢) يقول : (لا تزال من امتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك). قال عمير بن هانيء (٣) فقال مالك بن يخامر (٤) قال معاذ : وهم بالشام فقال معاوية هذا مالك يزعم أنه سمع معاذا يقول : وهم بالشام انتهى ، وفي بعض الروايات بأبواب الشام ، وقد قال بعض العلماء ان منهم بالصالحية ، وبعضهم : انهم بالصالحية.

وقال أبو عيسى الترمذي في جامعه : ثنا محمود بن غيلان ، ثنا أبو داود ، ثنا شعبة ، عن معاوية بن قرة ، عن أبيه ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (اذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم ، لا تزال طائفة من أمتي منصورون لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة). قال الترمذي عقيب هذا : قال محمد بن اسماعيل ، قال علي بن المديني : هم أصحاب الحديث انتهى.

ولا شك أن الصالحية منذ عمرت الى اليوم معدن الحديث واليها ينسب المحدثون ويتقصدون الرحلة اليها وكذلك الحفاظ.

وقد روينا في المسند والترمذي وغيرهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الارض ألزمهم مهاجر ابراهيم) يعني الشام ، والصالحية منها ، وجبلها معقل الصالحين من البلاء والفتن في الزمان.

ولما قصدها الدوادار أقبردي بلغنا أنه وجماعته رأوا خيلا من

__________________

(١) في الاصل عمر بن هانيء ، والتصحيح من المصدر الآتي

(٢) زيادة من صحيح البخاري مع شرحه للقسطلاني ٦ / ٨٤ طبعة سنة (١٢٨٥).

(٣) في الاصل : مالك بن دينار ، والتصحيح من المصدر السابق.

٥١١

برزة الى الربوة قد انتشرت فخاف ورجع عن ذلك [ص ١٦٧] فسألنا هل عندكم هذه الخيول كلها في الصالحية؟ ولا والله ما نعلم ولا فرسا واحدة صعدت ذلك اليوم وانما ظهر رجال مشاة.

وبلغنا عن بعض جماعته أنه قال له ما نشير عليك بالمسير اليها فانها محمية بالصالحين فرجع عن ذلك.

ويكفي في الصالحية دخولها في عموم الاحاديث الشامية منها : ما أخرج البخاري في الصحيح من حديث ابن عمر قال ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال (اللهم بارك لنا في شامنا ، اللهم بارك لنا في يمننا) ـ قالوا يا رسول الله وفي نجدنا ـ قال : (اللهم بارك لنا في شامنا ، اللهم بارك لنا في يمننا) ـ قالوا يا رسول الله : وفي نجدنا ، فاظنه قال في الثالثة : (هنالك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان).

ومنها ما أخرج أحمد في مسنده وابو مسهر في جزئه واللفظ له من حديث أبي ادريس الخولاني عن عبد الله بن حوالة الازدي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (إنكم ستجدون أجنادا : جند بالشام ، وجند بالعراق ، وجند باليمن). فقال الحوالي خر لي يا رسول الله ، قال : (عليكم بالشام فمن أبي فليلحق بيمنه وليسق من غدره ، فإن الله قد تكفل لي بالشام وأهله) ، فكان أبو ادريس الخولاني اذا حدث بهذا الحديث التفت الى ابن عامر فقال من تكفل الله به فلا ضيعة عليه.

ومنها ما أخرج أحمد في مسنده وأبو داود وابن حبان في صحيحيهما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : (عليكم بالشام فانها خيرة الله من أرضه يجتبي اليها خيرته من عباده). وقلب الشام دمشق.

أخرج أبو القاسم الرازي من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أربع مدائن في الدنيا من الجنة ، مكة والمدينة وبيت

٥١٢

المقدس ودمشق ، وأربع مدائن من مدائن النار في الدنيا : ارمينية وقسطنطينية وأنطاكية وصنعا).

وروح دمشق الصالحية وقد شبهوا دمشق بالجنة لدوام الفواكه بها ، والصالحية بفردوسها.

وأما النظم

فمنه ما أنشد أبو العباس أحمد بن الحسن بن عبد الله بن ابي عمر :

الصالحية جنة

والصالحون بها أقاموا

فعلى الديار وأهلها

مني التحية والسلام

ومنه ما أنشد شيخنا الجمال يوسف بن حسن بن أحمد بن عبد الهادي من أبيات :

بالله ان جزت الصوالح فاقرها

مني السلام ولا تذ [د] عن صدرها

شوقي يزيد إلى محلة أنسها

والقلب مني دائما في ذكرها

فالسهم منها قد أصاب لمهجتي

والعين تجري مذ غدت في نهرها

والجامع المشهور شملي جامعا

وبه مدار الأنس صب بنعرها

والروضة الفيحاء ليس كمثلها

وبها الفحول وسادة في قعرها

فهمو مناي إن رحلت وان أقم

وبهم سروري في الحياة ونشرها

القلائد الجوهرية م ـ ٣٣

٥١٣

ومن أبيات أخر :

ألا يا صالحي فلا عدمتي

ودمتي هكذا أبدا وجدتي

وبورك في نواحيكي وزادت

وسدتي كلما أرض ومدتي

فاتني قد بديت فتاة حسن

بسهمك وسط قلبي قد أصبتي

وبروضتيكي [قد] أضاءت كل ارض

وصار الكهف منها فوق بت

وسيار سرى حتى أتاك

وكم شداد عندك قد شددتي

وحزت بالموفق كل خير

وحزت الخير منهم كل وقت

فأنت القصد والتهيام فيكي

وانت الدار روقي قد قبلت

ومنه ما أنشدنا الشيخ موسى الخيري من خطه ولفظه لنفسه فقال :

بإسمك اللهم [ص ١٦٨] أبدأ مقصدي

وأختمه أنت الرحيم ورحمان

وبعد صلاتي والسلام (١) على الذي

عليه من الوهاب انزل قرآن

اقول قصيدا بدؤه ابن قدامة

ولي كبير مقدسي له شان

__________________

(١) في الاصل وسلامي.

٥١٤

ابو عمر الشيخ الامام يعمه

من الله خلاق الخلائق رضوان

ويسقي ضريحا ضمه كل رحمة

يعم لمن والاه فالله رحمن

وينشر مسكا ذافرا من ترابه

عليهم الى ان يشمل الكل غفران

كما شمل الاحياء من فيض فضله

بمعروف هذا الشيخ اذهوددان (١)

فكم واقف مذ مات ماتت وقوفه

وذا حاله ماش وكم باد أزمان

وان يك زاد الوقف فالشيخ اصله

ولم يسم الا الشيخ والشيخ عنوان

ففي أي مصر يا مسافر ابصرت

عيونك جمعا في المدارس اخوان

على مذهب فرد جميعا تجمعوا

على العلم والقرآن بصر وعميان

نهارهم والليل يتلا كتابه

تعالى دواما ليش يشغلهم شان

يصلوا (؟) صلاة الصبح ليلا ويجلسوا

فيتلوا الى ان ينظر الشمس من كانوا

ويجلس طلاب العلوم عقيبهم

بحضرة أشياخ كبار لهم شان

__________________

(١) كأنه يريد : ديدن. وفي المختار : الديدن ، الدأب والعادة.

وسيعيد ايرادها مرة اخرى بعد اثني عشر بيتا.

٥١٥

جلالتهم مشهورة ولفضلهم

اقرّ رؤوس الشام خاص واعيان

دواما على مر السنين التي مضت

الى يومنا هذا وربك منان

وما ذاك من اجل الرغيفين انما

لرب السما سرّ ولله احسان

فكم موضع فيه الوف كثيرة

لطلابه ما فيه يسمع قرآن

وان كان ذاك الجامع الأزهر الذي

بمصر محل العلم محضا وان كانوا

به يقرؤوا القرآن لكن جمعنا

بمدرسة الشيخ الموفق دادان

لو رادها والساكنين بربعها

ويكفيك ما يتلو من الذكر سكان

اشبهها في الارض شهر صيامنا

فان بشهر الصوم انزل قرآن

نعم عصبة الاسلام تتلو كتابه

ولكن فرادى او لجمعهم شان

ولا شك ان الشيخ كان موفقا

مقاصده خير ودين وايمان

ومن أجل هذا دام في الخير وقفه

ومن اسس التقوى له دام تبيان

ووالله هذا النور من فيض أحمد ب

ن حنبل موجود وذاك له شان

٥١٦

فان امام المذهب الحبر نوره

أضاءت به الدنيا وأبصر عميان

وان جميع الانس والفضل فضله

ولولاه لم يحضر من الناس انسان

وان امام الناس أحمد فضله

يجلّ عن الاوصاف ما فيه نقصان

ففي محنة المأمون لله دره

تجرع كأس الصبر من عصبة هانوا

وإبن دؤاد كان في القوم خصمه

وخصم اولي الاهواء في الحشر ديان

يقول له القرآن من خلق ربنا

يرادده : المخلوق ما هو قرآن

ومسنده ينبيك ايضاح فضله

فسبحان من أعطاه فالله منان

سقى الله تربا ضمه كل رحمة

ولا زال في مثواه روح وريحان

ولا شك هذا الجمع والانس أنسه

وهذي كرامات له وهو يقظان (١)

فان جميع الواردين تمذهبوا

بمذهبه والكل من دينه دانوا

وغالبهم من زهده قد تعلموا

وأكثرهم من علمه في الورى زانوا

اجلهم ذا اليوم والحق واضح

وأعظم في الفتوى ومن فيه عرفان

__________________

(١) في الاصل : يقضان.

٥١٧

إمامان مشهوران بالدين والتقى

وبالعلم والفتوى لهم في الورى شان

هما أحمد الشيخ الامام ويوسف الا

إمام العظيم الشان والشفع اخوان

أقامهما الله العظيم لدينه

بمذهب هذا الحبر والله رحمن

فإنهما كالغيث في النفع هل ترى

عن الغيث مستغن من الناس إنسان

وأما إمام الناس قاضي قضاتنا

وعين الشيوخ العارفين الألى (١) زانوا

فذاك هو النجم المنير ومن له

على فلك العلياء تسحب أردان

ومن جده حاك «الفروع» وحسبه

به شرفا أن عدّ فخر وبرهان

وإبن المنجا الشيخ أقضى قضاتنا

فذاك شهاب الدين من معشر كانوا

[ص ١٦٩]

بنو الأسعد المشهور في الناس فضلهم

وعلمهم والكل كالشّيخ أعيان

ومن أعظم الاشياخ أقضي قضاتنا ال

رجيحي محيي الدين حبر له شان

تخلى عن الأوطان حبا لربعنا

فآنس أهل العلم والأهل إخوان

__________________

(١) في الاصل : الذين

٥١٨

وأما اللطيف الذات ابن عبادة

فذلك طاووس له الفضل صحبان

اذا رمت أحكي حاله في أموره

وحشمته فاللطف والظرف أقران

له قامة كالغصن في زهره إذا

تعداه آذار وأقبل نيسان

وفي جملة التفضيل في الفضل فاضل

وفي الحشمة العلياء في الناس سلطان

وغالب من ماتوا إلى حين رحمة

لهم خلف فيهم ذكاء خ وعرفان

هم زينة الدنيا كما كان أهلهم

وياما بجوف الارض ناس لهم شان

وقد أخبر المملوك بعض صحابه

بإمراة مرت على معشر كانوا

مشاة أتوا من خلف دفن جنازة

لعل ترى في القوم من فيه عرفان

فتخبره عن حالها في مسائل

فقالت لشخص دلني أين إنسان

على أحد يفتي بما قد أقوله

فقال لها ما تنظري وهو غضبان

جميع الذي تلقين يفتوك كلهم

وكانوا قريب الاربعين كما كانوا

كذلك أهل العلم من كل مذهب

عليهم من الله المهيمن رضوان

٥١٩

لقد كان إثنا عشر ألف مدرس

ببغداد بقالين قوم لهم شان

على مذهب الشيخ الامام محمد ب

ن ادريس منهم عصبة هكذا كانوا

كذا نقل السبكيّ في طبقاته

فطالع تجد ما قال عندك برهان

كذاك أقام الله دين محمد

بسيد هذا الدين والله رحمن

إمام البرايا الشافعيّ محمد

على روحه العظمى من الله رضوان

لقد طبق الدنيا بفيض علومه

كما طبق الدنيا من الماء طوفان

وكان خليلا للامام ابن حنبل

وصاحبه إن المحبين اخوان

أقاما منار الدين شرقا ومغربا

ولولاهما ـ كانا ـ لدلّس إيمان

فانهما قاما وقد مات مالك

ومات وأيم الله من قبل نعمان

وكانا اماما القبلتين واهلها

وسبقهما في العمر والدين احسان

جزى الله عنا أحمدا ومحمدا

بخير جزاء كلما دام رضوان

ومالك والنعمان [أيضا] وكل من

أقام منار الدين يرحم رحمن

٥٢٠