القلائد الجوهريّة في تاريخ الصالحيّة

أبي عبد الله شمس الدين محمّد بن علي بن طولون الدمشقي الصالحي [ ابن طولون ]

القلائد الجوهريّة في تاريخ الصالحيّة

المؤلف:

أبي عبد الله شمس الدين محمّد بن علي بن طولون الدمشقي الصالحي [ ابن طولون ]


المحقق: محمّد أحمد دهمان
الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: مطبوعات مجمع اللغة العربيّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٧٥٦

شرح هذه الوظائف وتصنيفها لتكرر ذكرها في الكتاب ولتعلقها بموضوعه.

* * *

الوظائف

تقسم وظائف المعاهد الاسلامية في عصر المؤلف الى ثلاثة انواع :

(١) وظائف ادارية : ككتابة الغيبة ، والمشارفة والشهادة ، والنظر ، ونيابة النظر.

(٢) وظائف علمية كالفقاهة ، وتلقين القرآن ، ومشيخة الاقراء ، والاعادة ، والتدريس ، والافتاء ، ومشيخة الخانقاه أو الزاوية.

(٣) وظائف عملية ، كالامامة ، والخطابة ، وقراءة القرآن ، ونظر خزائن الكتب.

كتابة الغيبة ـ هو ان يخصص موظف في اصل شرط الواقف ليكتب اسم من يتخلف عن الحضور ويسمى كاتب الغيبة. يكتب اسم من يتخلف عن الحضور ويرفعه الى الناظر أو نائبه فيخصم عليه من راتبه بمقدار ما تخلف ان رأى مصلحة بذلك.

ويكون عند قراءة الكتاب كاتب غيبة ايضا. فعندما يغيب الطالب يكتب اسمه واسم الباب الذي فاته.

الاجازة او الطباق ـ وحينما تكتب الاجازة للحاضرين والمستمعين يذكر فيها اسماؤهم ويكتب للمتغيب اسمه والى جانبه «وفاته من باب كذا الى كذا» وقد يجمل فيكتب اسمه والى جانبه «مع فوت» وتكتب هذه الشهادة في آخر صفحات الكتاب يذكر

٢١

فيها اسماء جميع الحاضرين واسم كاتبها ويوقع الشيخ في آخرها بعد ان يؤرخها ويذكر المكان الذي قرئت فيه كاسم المسجد أو المدرسة أو داره أو البستان أو القرية أو سطح المسجد أو نحو ذلك وتسمى طبقة ، وجمعها طباق وهي المراد بما يرد كثيرا في تراجم بعض العلماء «وكتب الطباق» وهو وصف مدح أي ان المترجم كاتب ضابط ثقة حسن الخط. وتحفظ النسخة التي عليها الطباق بمسجد أو مدرسة كسجل لاسماء الطلاب الذين قرأوا الكتاب على الاستاذ وسمعوه بحضوره وكثيرا ما يلجأ المؤرخون الى هذه الطباق لمعرفة مشايخ من يريدون ترجمته وما سمعه من الكتب ، وحينما يدّعي شخص سماع كتاب يطالب بنص الطبقة ليبرزها ان كان الشيخ كتب له ذلك على نسخته الخاصة. والا فعليه ان يعين المكان الموجود فيه نسخة من هذا الكتاب وفي آخره شهادة الشيخ بحضوره السماع ، وكثيرا ما يزور بعض الناس هذه الطباق فيمحي او يحك اسم احد السامعين للكتاب ويضع مكانه اسم نفسه ولكن العلماء ينتبهون الى ذلك ويبينون تزويره ويطعنون في امانته ويصمونه بانه كذاب. اما اذا اضطر الكاتب الى حك كلمة فعلية ان يكتب الى جانبها صح ويوقع الشيخ باسمه الى جانبها.

المشارفة

هي ان يشرف على امور المدرسة كالنظافة والخدمة وامثالها.

الشهادة

هي ان يكون للمدرسة بنص الواقف شاهد او اكثر. وهذا الشاهد هو كالمراقب للناظر او نائبه. فاذا باع او اشترى او اجر او

٢٢

اعطى شيئا لاحد يكون ذلك بحضوره ويضع شهادته على الصكوك والعقود.

النظارة

الناظر هو بمنزلة المدير العام للمدرسة. فهو يباشر شؤون المدرسة ويؤجر عقاراتها ويشتري لها لوازمها ويعمر ويرمم ويصرف للموظفين رواتبهم ويخصم على المتخلفين مقدار ما تخلفوا ، ويزيد لهم في رواتبهم ان زادت الغلة ، وينزل لهم منها ان قلت وكثيرا ما تعطى هذه الوظيفة للمدرس بالاضافة الى التدريس.

نيابة النظارة

هي وكالة الناظر لمن يثق به ويراه اهلا للنظارة.

الوظائف العلمية

وظيفة التصوف

وهي تكون في الخوانق والربط. ويشترط لصاحبها ان يكون مستقيم الاخلاق تقيا. وقد جوز الفقهاء لطلبة العلم ان يحوزوا هذه الوظيفة لان شرطها متحقق فيهم ، ولم يجوزوا للصوفي ان يجوز شيئا من الوظائف العلمية كالفقاهة الا اذا كان متحققا بها وحينئذ لا يسمى صوفيا بل طالب علم. والخوانق والربط في الاسلام كالاديرة في النصرانية ، ويقصد بالنزول بالخوانق التقشف والعبادة والهدوء والبعد عن الناس. وكثيرا ما ينزلها العلماء والوزراء المتزهدون.

الفقاهة

هي ان يكون صاحب هذه الوظيفة مشتغلا بالفقه او متصفا به سواء كان طالبا مبتدئا او فقيها عالما ، وكثيرا ما يكون في هذه الوظيفة

٢٣

والتي قبلها احد كبار العلماء ممن لم يدركهم الحظ لتولي وظيفة اكبر منها. ويقول ابن طولون عن نفسه انه تولى الفقاهة بالماردانية في ٢٥ المحرم سنة ٨٩١ وهو ولد سنة ٨٨٠ فيكون عمره حين تولاها احدى عشرة سنة ومن هذا النص نستطيع ان نعرف السن التي يمكن فيها للطالب ان يدخل المدرسة بعد ان ينهي تعليم الكتاب.

وظيفة الاعادة

المعيد هو الاستاذ الثاني للطالب ، وقد يكون اعلم من المدرس ولكن لم يسعفه الحظ لان يكون مدرسا وكثيرا ما يرقى المعيد الى التدريس وعمله ان يعيد للطلبة الدرس ويفهمهم ما قرره لهم الاستاذ وعليه ان يحضر درس الاستاذ ، ولذلك يكون تقريره الثاني للدرس موافقا لتقرير الاستاذ السابق وقد يقرر المعيد الدرس اولا ثم يقرره الاستاذ ثانيا.

الافتاء

الافتاء درجة عالية نستطيع ان نعادلها بما يسمى الان دوكتوراه ولا يؤذن لطالب بالافتاء الا ان يكون قد بلغ النهاية في العلم. اما من يأذن بالافتاء فهو عالم كبير اشتهر بالعلم فيأذن بالافتاء الى نبغاء تلامذته. او لرجل آخر صاحبه وجالسه مدة وعلم مقدرته ومبلغ علمه فيأذن له بالافتاء ان رآه اهلا لذلك. وكانت اساتذة المدرسة الشامية بدمشق يعطون اذنا بالافتاء ويسجلون اسم الطالب في عداد المفتين بشرط ان يؤلف الطالب كتابا في الفقه الشافعي يقدم لمدرس المدرسة فيناقشه فيه امام بقية الاساتذة والطلاب.

مشيخة الخانقاه

رغم ان الخانقاه للصوفية فلم يكن يشرط في شيخها ان يكون

٢٤

صوفيا فقط بل ان يكون عالما شرعيا بالاضافة الى تصوفه ليكون سلوك المتصوفة طبق الاحكام الشرعية.

الزوايا

في الغالب ان لا تكون للزوايا صبغة رسمية كالخوانق لان للاخيرة اوقافا وجرايات وتكون مرتبطة بشخصية رسمية هو شيخ الشيوخ الذي كثيرا ماقام باعمال سياسية ذات شأن.

اما الزوايا فهي اعمال فردية يقوم بها من يريد الظهور او العيش من ورائها فيبتدع اورادا واذكارا ورقصا ونشيدا. ورغما عن انه يكون خاضعا لشيخ الشيوخ من الوجهة القانونية فسلطة شيخ الشيوخ على صاحب الزاوية ضعيفة جدا لان شيخ الزاوية ليس مرتبطا به من الوجهة المالية. بل ان موارده تكون من تلامذته ومريديه ومن يعتقدون فيه. ولذلك تتطرق البدع والخرافات والجهل الى الزوايا دون الخوانق.

اما تلقين القرآن ، ومشيخة الاقراء ، والتدريس فهي واضحة لا تحتاج الى بيان.

ونعود الى مؤلفنا محمد بن طولون وما تولاه من الوظائف فانه تولى :

كتابة الغيبة

بالمدرسة الجوهرية في ٢٢ رجب سنة ٩٠٩.

المشارفة

بالمدرسة المرشدية (١) في ٣ رمضان سنة ٨٩٤.

__________________

(١) تولى ربع مشارفة هذه المدرسة وقد كانت الوظائف تتجزأ في

٢٥

الشهادة

بالمدرسة العذراوية في ١٢ ذي القعدة سنة ٩٠١ ووقفها بحصة الحنفية.

النظر

على الزاوية المنبجية بالربوة ووقفها في ٢٢ رجب سنة ٩٠٩

وعلى خزانة كتب علاء الدين البخاري ووقفها

وعلى الزاوية السيوفية ووقفها سنة ٩٢٦

نيابة النظر

على الخانقاه اليونسية ووقفها سنة ٩٢٦

الفقاهة

بالماردانية في ٢٥ المحرم سنة ٨٩١

بالخاتونية البرانية في ٢٦ شعبان سنة ٩٠٢

بالجامع الجديد مستهل المحرم سنة ٨٩٥

بالجوهرية في ٢٢ رجب سنة ٩٠٩

بالمرشدية

بالمنجكية في ٣ رمضان سنة ٨٩٤

بالدماغية في ١٠ شوال سنة ٩٢٦

بالجمالية ، والشبلية الجوانية ، والبرانية ، والبلخية ، والعزية البرانية ، والمعينية ، والعزيزية ، والمقدمية البرانية ، والعلمية ، والاقبالية.

__________________

العصر المملوكي حينما هبطت ادارة البلاد واتبعت سياسة الارضاء فانهارت الحكومة والشعب معا الى الحضيض.

٢٦

الاعادة

بالمقدمية الجوانية مستهل المحرم سنة ٩٢١

التدريس

بالماردانية (١) في ٦ جمادى الاولى سنة ٨٩٤

بالعذراوية سنة ٩٢٦

بالجامع الجديد في ٢٩ جمادى الاولى سنة ٩١٢

والجامع الاموي سنة ٩٢١

والتدريس الحنفي بالعمرية سنة ٩٣١

مشيخة زاوية

المنبجية ، والسيوفية (٢)

مشيخة خانقاه

اليونسية بالشرف الاعلى في ١٠ شوال سنة ٩٢٦

قراءة القرآن

تحت قبة النسر بالجامع الاموي بالمصحف الذي وفقه المؤيد

شيخ بالتربة الشهابية سلخ ربيع الاول سنة ٩٠١

بالتربة السعرتية بالجسر في ٦ جمادى الآخر سنة ٩٠٩

بالسبع (٣) بمدرسة ابي عمر في ٢٢ رجب سنة ٩٠٩

__________________

(١) نصف تدريسها.

(٢) ثلثها.

(٣) لا يعلم المراد من السبع. هل هو القراءات السبع ، ام

٢٧

بتربة العيني بالجامع الجديد في ٦ ربيع الاول سنة ٩٠١

بالعزية بالشرف الاعلى في ٧ ربيع الاول سنة ٩٠١

بالدلامية بصالحية دمشق في ٢٦ شعبان سنة ٩٠٢

بالتربة الشاهينية الشجاعية

بمسجد الشيخ محيي الدين بن عربي مستهل المحرم سنة ٩٢٤

قراءة الحديث

بالعزية بالشرف الاعلى في ١٠ شوال سنة ٩٢٦

صحيح البخاري ومسلم بالجامع الجديد في ٥ جمادى الثانية ٩٠٦ وقراءة البخاري وقف ابن قنديل في ١٠ شوال سنة ٩٢٦

خزن الكتب (١)

بخزانة كتب الحنفية بالعمرية ، وبالجامع الجديد ، وبمشهد عروة بالجامع الاموي.

وتفرقة الربعة (٢)

بالمدرسة الجوهرية

الامامة

بالخانقاه اليونسية بالشرف الاعلى والسيوفية ، والمسجد السليمي.

__________________

سبع القراءة اي قراءة القرآن بسبعة ايام. والظاهر ان المراد هو الثاني.

(١) يقوم خازن الكتب مقام ما يسمى في عصرنا : محافظ ، ومناول.

(٢) الربعة صندوق مربع يوضع فيه القرآن الكريم حالة كونه ثلاثين جزءا او حين القراءة يفرق على الحاضرين فيقرأ كل انسان جزءا من الثلاثين.

٢٨

الخطابة

بالمدرسة الركنية في ١٢ ذي القعدة سنة ٩٠١

وفي آخر حياته عرضت عليه الخطابة بالجامع الاموي ، ووظيفة الافتاء الحنفي العام بدمشق ، وتدريس القصاعية ، والظاهرية الجوانية فامتنع واعتدر بتوالي الاوجاع عليه.

تلك هذه ابرز اعماله في حياته العلمية. ومن الواضح فيها كثرتها وجمعه لوظائف عديدة.

القلائد الجوهرية

ميزة هذا الكتاب

كان تأسيس الصالحية على مقربة من دمشق حادثا خطيرا في تاريخ دمشق العمراني والاجتماعي والعلمي ، فقد ساعدت على انفراج الضيق عن مدينة دمشق واحدثت منطقة صحية جميلة زادت في دعم كيان دمشق ، وانشىء فيها من معاهد العلم والمصانع الجميلة ما يحقق لها ان تدعى مدينة المدارس والقباب. وان انتشار البنيان العظيم في عصرنا هذا وقيام القصور الفخمة في سفوح جبل قاسيون يرجع الفضل فيه الى التأسيس الاول.

لذلك كان كتاب القلائد الجوهرية من عظم الشأن وخطارة الموضوع بمكان يستحق التقدير والاعجاب. فقد جلا لنا ناحية عظيمة من تاريخ دمشق الاجتماعي والعمراني ما كنا لنتعرف اليها لو لا وجودها فيه.

على ان ما يؤسف له كثيرا هو انخرام الكتاب ونقص عدة ابواب

٢٩

منه من المحتمل انها تتضمن نواحي خطيرة من تاريخ الصالحية ودمشق بقيت مجهولة لفقد هذه الابواب. وكان لنا بعض العزاء بهذا النقص في نشر كتاب (المروج السندسية) فقد اشتمل على بعض ابواب وفصول غير موجودة في القلائد الجوهرية هي بلا شك من القسم المخروم. بل ان ابن كنان نقل فصل الخانات من «القلائد» وهذا الباب مخروم منه ايضا. وقد تممنا فيه خرما كبيرا من كتاب تنبيه الطالب للنعيمي باعتباره مصدرا من مصادره ، وذلك في ص (٣٢٣ ـ ٣٣٠).

على ان في «القلائد» ميزة لا توجد في غيره هي انه يصف الابنية القديمة في زمنه كأن الانسان يشاهدها الآن.

شهرة القلائد

الظاهرة ان هذه النسخة التي بخط المؤلف كانت وحيدة لم ينقل عنها نسخة ثانية وقد وقعت تحت أيدي عدد من العلماء كتبوا على هامش بعض صفحاتها بعض الملاحظات فعند بحث التربة البهائية كتب على الهامش بخط غير خط المؤلف «الصحيح انها المعروفة بالشهابية نسبة الى الشهاب محمود» والراجح ان هذه الكتابة بخط اكمل الدين بن مفلح فقد كتب مثل هذه العبارة على احدى نسخ مختصر تنبيه الطالب للعلموي (١).

وجاء على الهامش في بحث المآذن عند ذكر مئذنة جامع الشبلية ما يلي : «وهي الآن سنة ١١٣» محمد. وعند مئذنة ابن قوام ما يلي : «والآن مأذنة ابن قوام جددت في السبعين والف» محمد الكناني.

__________________

(١) راجع التعليقة رقم (٢) في ص (٣٢١) من كتاب القلائد.

٣٠

ومحمد الكناني هذا هو مؤلف المروج السندسية وقد افاد من كتاب «القلائد» ونقل عنه عدة نصوص في المروج.

وقد نقل عن القلائد العلموي في مختصر تنبيه الطالب (١) ما يلي : قال ابن طولون في تاريخ الصالحية «انشأ الداودية الشيخ ابو بكر في حدود الثمانمائة».

ونقل وصف المدرسة اليغمورية عن «القلائد» من غير ان يشير الى المصدر وذلك في ص (١١٦) من مختصر تنبيه الطالب.

وصف القلائد الجوهرية

تقع النسخة الموجودة منه في (١٠٧) ورقات او (٢١٤) صفحة وقد سقط منها في مواضع مختلفة عدد من الاوراق لا يعلم مقدارها (٢). وهذه النسخة بخط المؤلف وليس عليها شيء ينصّ على انها بخطه. غير ان خطه معلوم مما لا يشك فيه لوضوح اسلوبه وكثرة كتبه ورسائله وكلها بخطه كأنها افرغت بقالب واحد. وخطه صعب القراءة كما يظهر للقارىء من مثال الصفحة الاولى التي اثبتناه في هذه المقدمة غير ان الذي يألفه يتمكن من حلّه لأن صور حروفه على هيأة واحدة لا تتغير.

كانت هذه النسخة في دمشق ، ثم بيعت في مصر منذ اثنتين وعشرين

__________________

(١) مختصر تنبيه الطالب ص (١٦٩) طبع مديرية الآثار وتحقيق المنجد.

(٢) راجع تعليقات ص (٩٥ و ٢٢٣ و ٢٢٩ و ٢٣٢ و ٣٢٣ و ٣٣٠).

٣١

٣٢

سنة بثمن باهظ ولا يعلم مستقرها الآن. بيد ان مالكها اخذ عنها صورا فوطوغرافية قبل بيعها ، منها نسخة في المكتبة التيمورية بمصر ، واخرى في دمشق بالمجمع العلمي العربي وعنها طبعنا هذا الكتاب.

مصادره

ان المتأمل في كتابه هذا لا يستطيع ان يثبت له اكثر من بضعة مصادر وهي :

(١) رواياته عن الضياء المقدسي كما تقدم ص (١٢ ـ ١٣).

(٢) كتاب «تاريخ الصالحية» لشيخه يوسف بن عبد الهادي الذي اختصره ابن كنان في «المروج السندسية» ونرجح بانه هو الذي عناه في ص (١٤٣ : ٤) بقوله : وعلى ذلك مشى الجمال بن عبد الهادي في فضائل الصالحية.

وقد نقل عن ابن عبد الهادي في عدة مواضع من الكتاب من غير ان يشير الى اسم الكتاب بل ينقل عنه رأسا. راجع ص (١٣٨ : ٤ ، ٢٤٦ : ٢ ، ٢٤٧ : ١ ، ٢٤٨ : ١٤ ، ٢٥٧ : ٢ ، ٢٥٩ : ١٦ ، ٢٦٠ : ٧ ، ٢٦١ : ٣ ، ٢٦٣ : ٩ ، ٢٦٦ : ١٣ ، ٢٧٠ : ١٢ ، ٢٩٥ : ١٧ ٢٩٧ : ٦ و ١٥ ، ٢٩٩ : ١٩.

(٣) كتاب «الرياض اليانعة في اعيان المائة التاسعة» لابن عبد الهادي نقل عنه ص (١٠١ : ١)

(٤) «إنباء الغمر» لابن حجر نقل عنه ص (١١٨ : ٩)

(٥) كتاب «تنبيه الطالب للنعيمي» وهذا الكتاب مع نصوص ابن عبد الهادي كانت اكبر مادة له فقد نقل عنه ما يتعلق بالمدارس

القلائد الجوهرية م ـ ٣

٣٣

والجوامع والخوانق والزوايا والترب وما الى ذلك. وزاد عليها من عنده وصف هذه الاماكن واسماء المدرسين والشيوخ الذين بعد النعيمي. وقد ردد ذكر النعيمي ثلاث مرات في القلائد ولقبه «بشيخنا المحيوي النعيمي» ص (١٣٦ : ٧ ، ٢٤٧ : ٨ ، ٢٥٦ : ٢). على ان تلقيبه للنعيمي بشيخنا يرجح انه تلقيب احترام لا تلقيب تلمذة ، فقد جاء ايضا في أول كتاب «الفلك المشحون» لابن طولون ما يلي : سألني في جمعه المحدث الكبير والمؤرخ الذي ليس له في عصره نظير ، شيخي المحيوي ابو المفاخر فلان ، ولم يذكر اسمه ولكن بلا شك هو النعيمي وتلقيبه بفلان يدل على ان ابن طولون يجهل اسمه فوضع مكان اسمه لفظ «فلان».

وحينما يذكر ابن طولون في كتابه «الفلك المشحون» اسماء شيوخه والكتب التي قرأها عليهم والاجازات التي اجازوه بها فاننا لا نرى للنعيمي ذكرا فيمن قرأ عليهم ولا فيمن اجازوه. كما اننا نلاحظ ان النعيمي كان محل سكنه عند جامع منجك بالميدان ، وان سكن ابن طولون كان في الصالحية وبينهما مسافة كبيرة يصعب على كل منهما المشي الى الآخر للقراءة ولكن لا شك بان بعض المجالس كانت تجمع بينهما وان النعيمي اعجب بابن طولون وبكثرة مؤلفاته وانتاجه فطلب منه ان يترجم نفسه ويذكر اسماء مؤلفاته وشيوخه فامتثل ابن طولون لذلك. ولهذا لا نرى للنعيمي ذكرا في هذا الكتاب «الفلك المشحون» رغم انه يلقبه بشيخنا.

ونصوص ابن طولون التي نقلها عن النعيمي لها قيمة كبيرة لان النسخ الموجودة في دمشق من «تنبيه الطالب» مغلوطة مصحفة ، ولذلك فان نصوص ابن طولون لها قيمتها من جهة الصحة لانها تمثل

٣٤

نسخة المؤلف التي كانت في عصره. ولقد مثلتها اكبر تمثيل فقد وقع النعيمي في كثير من الاوهام تابعه عليها ابن طولون ، كما ان في نسخة النعيمي الفاظا مبهمة صورها ابن طولون تصويرا كما رآها في النسخة التي ينقل عنها ، وسنبين هذه الاشياء في الملاحق التي سنتبعها في آخر الكتاب.

(٦) وآخر هذه المصادر هي استقراءات المؤلف. فقد وضع في آخر كل مدرسة ومعهد وصفا جميلا له يبين لنا هيأته الاصلية في عهد المؤلف. وهذه ناحية لا نستطيع اغفال التنويه بها وبفضلها. كما انه في الزوايا والترب استقرأ بنفسه بعض ما أهمله النعيمي فزاده.

واما نصوص ابن كثير والذهبي والحسيني وغيرهم فهي بواسطة تنبيه الطالب للنعيمي وليس للمؤلف دخل فيها. ولا يسعنا الا الترحم على المؤلف : محمد بن طولون ، وشيخه يوسف بن عبد الهادي ، وعبد القادر النعيمي ، فلولاهم لضاع تاريخ دمشق في القرن التاسع والعاشر ، فقد اثبتوا لنا في كتبهم ومؤلفاتهم ما كان موضع تقدير العلماء وتمجيدهم.

تصحيحنا لهذا الكتاب

كانت مهمتنا في تحقيق هذا الكتاب شاقة جدا. فلم يكن لدينا الا نسخة واحدة منه ، وهي نسخة كافية وجديرة بأن يعتمد عليها لانها بخط المؤلف. غير اننا اثناء التصحيح اصطدمنا بعقبات عدة ، فبعض الكلمات ترك المؤلف محلها فارغا ، وما كان من الكلمات في طرف الصفحة اليمنى لم يظهر في التصوير من الجهة اليسرى منها ، وهناك كلمات كنا نشتبه بها تحتمل قراءتها وجهين ، وكان لزاما علينا ان نرجع

٣٥

الى كتاب تنبيه الطالب وكانت نسخه مجتمعه عند من يحقق هذا الكتاب ومن الصعب علينا وعليه ان نرجع اليه حين اللزوم وكنا نختلس بعض الفرص لنراجع به بعض الكلمات ونسخه متعددة ومغلوطة ليس من السهل ان نرمز اليها او نرجع اليها جميعا. حتى واتتنا فرصة استطعنا ان نفيد من الجزء الثاني النسخة المونيخية افادة جيدة ، وكنا نعتمد خط المؤلف. ثم يظهر لنا خطؤه ، ونرجع الى نسخ التنبيه فاذا بها تزيد في تشكيكنا ، ولذلك سنجعل في آخر الكتاب ملحقا للتصحيحات العلمية الواردة في القلائد والموافقة لنسخ التنبيه. ونثبت بعدها الفهارس العلمية المفصلة مع المخطط.

وكنا نود ان نتوسع في المقدمة والتعليقات والملاحق لو لا ان وضعنا مخططنا للصالحية وفيه كثير من الاماكن والمحلات مما لم يذكر في الكتاب ، ولذلك عولنا على ان نستعيض عن هذه التعليقات والزيادات بكتاب ندعوه «معجم الصالحية» يكون تبيانا وشرحا للمخطط. فكل اسم ورد فيه نشرحه ونبين حالته الحاضرة ونذكر النصوص والمؤيدات التي تدل على ما ذهبنا اليه. ثم نذكر المصادر التي ورد ذكره فيها ، وسنجعل هذا الكتاب محيطا بكل ما يتعلق بتاريخ الصالحية وجبل قاسيون مما اطلعنا عليه.

وأخيرا فلا يسعنا الا شكر الاستاذين صلاح الدين المنجد ، وناجي الطنطاوي على ما أسدياه الينا من معونة عند طبع هذا الكتاب.

٢٥ شوال سنة ١٣٦٨ و ١٩ آب سنة ١٩٤٩.

محمد أحمد دهمان

٣٦

جبل قاسيون (١)

قاسيون هو الجبل الاشم الذي تقوم مدينة دمشق عند أقدامه ، يتصل من جهة الغرب بسلسلة جبال لبنان ومن الشمال والشرق بسلسلة جبال قلمون الممتدة الى منطقة حمص ، وقد عملت مياه دمشق على استقلال هذا الجبل وجعله جبل مدينة دمشق خاصة ، قامت مياه بردى مع مياه الفيجة تساعدهما في ايام الشتاء مياه السيول والامطار تعمل على فصله عن جبل المزة المتصل بجبال الشيخ وحوران واخذت تؤثر في جسمه الصلب ألوفا من السنين حتى فتحت خليجا تنساب فيه وتمر منه. وجاء الانسان بعد ذلك فأخذ في توسيع هذا الخليج ورصف ضفته حتى اصبح طريقا مذللا تسير فيه السيارات والقطارات ، فاتصلت دمشق ببيروت وبحار المياه ببحار الرمال.

وعملت مياه قرية منين على فصل هذا الجبل من جهة الشرق عن سلسلة جبال قلمون ففتحت لها ممرا فيه كمياه بردى وبذلك اصبح هذا الجبل خاصا بمدينة دمشق عرف بها وعرفت به ، ويعرفه ياقوت الحموي بقوله : قاسيون الجبل المشرف على مدينة دمشق.

قاسيون ودمشق

لقاسيون شأن كبير في تكوين مدينة دمشق وتعيين موضعها الحاضر ، فقد تكونت دمشق في منتهى الوادي الذي في غربها حيث يخرج بردى من سجنه الضيق بين ضفتي الوادي فيتنفس الصعداء في

__________________

(*) محاضرة القاها محقق هذا الكتاب محمد احمد دهمان في قاعة المجمع العلمي العربي في ٦ صفر سنة ١٣٦٣ و ١٢ شباط سنة ٩٤٣ اخترنا نشرها لكونها كمقدمة لتاريخ الصالحية.

٣٧

السهل الفسيح أمامه ويسيل منبسطا على الارض فيشكل البطائح والجزر من الرمل والحصى التي تجرفها السيول كل عام أيام الشتاء.

في شمال الواحة الخصبة التي عرفت بعد ذلك بالغوطة تجمع قسم من الانسان القديم حول هذه المياه يزرعون ما تسمح لهم معلوماتهم ونجاربهم أن يزرعوا مبتعدين قليلا عن مضيق الوادي ليأمنوا على انفسهم ومزروعاتهم تيارات السيول.

وكان هذا القسم من الانسان محتاجا الى ان يحمي نفسه وماشيته ، ومحتاجا الى بيت يأوي اليه ويعتصم فيه ، فكان اقرب موضع يصلح لذلك هو جبل قاسيون حيث تسيل المياه تحت أقدامه ، ويبدو سفحه قليل الانحدار فيسهل تسلقه والاعتصام به ، ويراقب المعتصم به كل واردة وشاردة في السهل المنبسط أمامه شرقا وغربا وجنوبا فسكن هذا الجبل والتجأ الى ما فيه من كهوف ومغاور. وما اسطورة مغارة الدم في هذا الجبل الا حلقة من سلسلة تاريخه القديم.

سكن أهل المدينة دمشق هذا الجبل قبل ان يسكنوا دمشق ، وعاشوا فيه اجيالا طويلة من الزمن حتى اذا كثروا وتناسلوا وارتقت معارفهم وتجاربهم هبطوا الى السهل المنبسط اسفله فبنوا مدينتهم دمشق ولكن مدينتهم الاولى هي قاسيون ففيه نشؤوا أولا ، واليه رجعوا اليوم.

الجبال في التاريخ الديني

للجبال أثر كبير في التاريخ الديني ، فجبل سرنديب هبط عليه آدم أبو البشر ، وسفينة نوح استوت على جبل الجودي. والفتية

٣٨

الذين آمنو بربهم أووا الى الكهف في جبل الرقيم ، وموسى بن عمران كلمه الله على جبل الطور ، وعيسى وامه مريم أويا الى ربوة ذات قرار ومعين ، وجبريل الملك جاء بالرسالة الى سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في جبل حراء ، واختبأ الرسول مع أبي بكر في جبل ثور حين لحقته كفار قريش ، وأحد قال عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أحد جبل يحبنا ونحبه».

فليس من الغريب بعد ذلك ان تتأثر بقية الجبال بهذه الحوادث فتوضع لها الاحاديث والاساطير والقصص ، وتصبغ بالصبغ القدسية والدينية.

قاسيون والاساطير

لقاسيون شكل مقدس عند أهل دمشق ، وهذا يرجع الى تقاليد قديمة وعنعنات متطاولة في القدم باعتباره المسكن الاول لاهل دمشق. وقد أخذ العرب أساطير كثيرة من سكان دمشق القدماء فصبغوها بالصبغة الدينية ثم رووها في كتبهم فاصبحت جزءا منها.

أحاطوا جبل قاسيون بالاساطير الغريبة التي لا تتفق مع التاريخ ، وأحاطوه بالاماكن المقدسة المنسوبة الى الانبياء العظام وجعلوا له روحا دينية ، وهم لا يقصدون من ذلك الابيان حبهم وتعلقهم بوطنهم والدعاية له.

ذهبت من دمشق أبهة الملك ، وعظمة السلطنة ، وهلهلة العاصمة ، فأي شيء بقي فيها وأي شيء يفضلها على غيرها وماذا يحفظها من التراجع والتقهقر أمام غيرها من البلدان الكبيرة والعواصم العظيمة.

٣٩

أمام هذه المشكلة ظهرت عبقرية الدمشقي وألمعيته وظهرت كفاءته ولبقاته ، فقد استطاع أن يلفت اليها انظار جميع العالم الاسلامي وأن يظهرها بالمظهر المقدس ويقيم لها من ضروب الدعاية ما يجعل الناس يحنون اليها ويقصدونها بالزيارة والتواطن بها ، اذ صارت رابع الاماكن المقدسة بعد مكة والمدينة وبيت المقدس.

واذا كان جبل قاسيون هو جزء من أجزاء دمشق لا ينفصل عنها ، بل هو أعظم مظهر من مظاهرها ، كان من اللازم ان يكون له أعظم قسط من اقساط الدعاية والاساطير والقدسية ، وأن موقعه الممتاز باشرافه على الغوطة الفسيحة الارجاء ، ومرور نهري يزيد وثورى في سفحه اللذين يزيدانه جمالا وروعة ونضارة كان أكبر عامل في اغراء الشعراء والادباء على مدح دمشق وما حولها من الحدائق والمناظر الجميلة مما زاد في الدعاية لها.

أحيط قاسيون بالاساطير والاماكن المقدسة ، ففي سفحه الادنى في بيت أبيات (١) كان يسكن أبو البشر آدم ، وفي اعلاه قتل قابيل أخاه هابيل ففتح الجبل فاه لفظاعة هذا العمل يريد أن يبتلع القاتل ، واخذ الجبل يبكي وتسيل دموعه حزنا على هابيل ، وبقي لون الدم على صفحة الصخرة التي قتل عليها هابيل ظاهرا باديا ، وفي كهف جبريل جاءت الملائكة الى آدم تعزيه بابنه هابيل ، وفي شرقي قاسيون كان مولد ابراهيم الخليل عليه‌السلام ، وفي غربيه الربوة التي اوى اليها المسيح وامه عليهما‌السلام ، وقرب الربوة في النيرب كان مسكن حنة ام مريم جدة المسيح. واخذ الذين يستجيزون وضع الاحاديث في فضائل الاماكن والمواضع ليلفتوا نظر الناس اليها أحاديث مكذوبة

__________________

(١) محلة بقيت عامرة الى آخر القرن التاسع الهجري محلها البوم طاحونة الأشنان.

٤٠