رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٦

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٦

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-278-4
الصفحات: ٦١١

من ذنب الرجل وقوّة بدنه » (١).

وفي الموثّق : عن التعزير كم هو؟ قال : « بضعة عشر ما بين العشرة إلى العشرين » (٢).

( ولو فعل ) المولى بعبده ذلك أي زاد في تأديبه على العشرة ـ ( استحبّ ) له ( عتقه ).

إطلاق العبارة يقتضي ثبوت الاستحباب فيما إذا لم تبلغ الزيادة حدّا ، ولم أجد به نصّاً ، بل ولا فتوًى ، وإنّما الموجود في غير الكتاب حتى الشرائع (٣) استحباب العتق لو ضربه في غير حدٍّ حدّا ، كما هو ظاهر الصحيح : « من ضرب مملوكاً حدّا من الحدود من غير حدّ أوجبه المملوك على نفسه ، لم يكن لضاربه كفّارة إلاّ عتقه » (٤) وظاهره الوجوب كما عن الشيخ في النهاية (٥) ، لكن فرضه فيمن ضرب عبده فوق الحدّ ، وهو خارج عن مورد الرواية ، فتكون بظاهرها شاذّة ، والعاملون بها في موردها حملوها على الاستحباب ، فتأمّل جدّاً.

الخامسة : ( يعزَّر من قذف عبده أو أمته ) كما يعزَّر الأجنبيّ بقذفهما ؛ لحرمتهما ، وعدم الفارق بين الأجنبيّ والمولى هنا ، مع عموم ما مرّ من النصوص بتعزير من قذفهما (٦).

__________________

(١) الكافي ٧ : ٢٤١ / ٥ ، علل الشرائع : ٥٣٨ / ٤ ، الوسائل ٢٨ : ٣٧٥ أبواب بقية الحدود ب ١٠ ح ٣.

(٢) الكافي ٧ : ٢٤٠ / ١ ، التهذيب ١٠ : ١٤٤ / ٥٧٠ ، الوسائل ٢٨ : ٣٧٤ أبواب بقية الحدود ب ١٠ ح ١.

(٣) الشرائع ٤ : ١٦٧.

(٤) الكافي ٧ : ٢٦٣ / ١٧ ، الوسائل ٢٨ : ٤٨ أبواب مقدمات الحدود ب ٢٧ ح ١.

(٥) النهاية : ٧٣٢.

(٦) راجع ص ٤٢.

٦١

وفي الخبر : « إنّ امرأة جاءت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : إنّي قلت لأمتي : يا زانية فقال : هل رأيت عليها زناءً؟ فقالت : لا ، فقال : أما إنّها ستقاد منك يوم القيامة ، فرجعت إلى أمتها فأعطتها سوطاً ، ثم قالت : اجلديني ، فأبت الأمة ، فأعتقتها ، ثم أتت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبرته ، فقال : عسى أن يكون به » (١).

( وكذا ) يعزَّر ( كلّ من فعل محرّماً أو ترك واجباً ) عالماً بهما وبحكمهما ( بما دون الحدّ ) متعلّق بـ : يعزَّر ، أي يعزَّر هذان بما دون الحدّ بما يراه الإمام.

قيل : ولا يبلغ حدّ الحرّ في الحرّ وإن تجاوز حدّ العبد ، ولا حدّ العبد في العبد ، ففي الحرّ : من سوط إلى تسعة وتسعين ، وفي العبد : منه إلى تسعة وأربعين ، كما في التحرير (٢).

وقيل : يجب أن لا يبلغ أقلّ الحدود ، وهو في الحرّ : ثمانون ، وفي العبد : أربعون (٣).

وقيل : إنّه فيما ناسب الزناء يجب أن لا يبلغ حدّه ، وفيما ناسب القذف أو الشرب يجب أن لا يبلغ حدّه ، وفيما لا مناسب له أن لا يبلغ أقلّ الحدود ، وهو : خمسة وسبعون ، حدّ القوّاد. ونسبه في المسالك إلى الشيخ والمختلف واختاره (٤).

ومرّ في المسألة السابقة من الأخبار ما يدلّ على المنع عن بلوغه حدّ‌

__________________

(١) التهذيب ١٠ : ٨٠ / ٣١١ ، الوسائل ٢٨ : ١٧٤ أبواب حدّ القذف ب ١ ح ٤.

(٢) قال به في كشف اللثام ٢ : ٤١٥ ، وهو في التحرير ٢ : ٢٣٧.

(٣) الخلاف ٥ : ٤٩٧.

(٤) المسالك ٢ : ٤٣٩ ، ولم نعثر عليه في كتب الشيخ ، وهو في المختلف : ٧٨٣.

٦٢

القذف في العبد وهو أربعون مطلقاً ، من غير تقييد بكون المعزَّر عبداً ، بل يشمل ما لو كان حرّا. ولا ريب أنّ الاقتصار عليه أحوط وأولى ، وإن لم أجد به قائلاً.

ثمّ وجوب التعزير في كلّ محرّم من فعل أو ترك إن لم يحصل الانتهاء بالنهي والتوبيخ ونحوهما فهو ظاهر ؛ لوجوب إنكار المنكر. وأمّا مع الانتهاء بهما ، فلا دليل على التعزير مطلقاً إلاّ في مواضع مخصوصة ورد النصّ بالتأديب أو التعزير فيها.

ويمكن تعميم التعزير في العبارة ونحوها لما دون الضرب أيضاً من مراتب الإنكار ، فتأمّل جدّاً.

٦٣

( الفصل الرابع )

( في ) بيان ( حدّ المسكر )

وهو على قول : ما يحصل معه اختلال الكلام المنظوم ، وظهور السرّ المكتوم. وعلى آخر : ما يغيّر العقل ، ويحصل معه سرور وقوّة النفس في غالب المتناولين. أمّا ما يغيّر العقل لا غير فهو المرقد إن حصل معه تغيّب الحواس الخمس ، وإلاّ فهو المفسد للعقل ، كما في البَنج (١) والشوكران (٢).

( والنظر ) في هذا الفصل يقع ( في أُمور ثلاثة ) :

( الأوّل : في ) بيان ( الموجب ) للحدّ.

( وهو تناول المسكر ) جنسه وإن لم يسكر قليله : ( أو الفقّاع ، اختياراً ، مع العلم بـ ) المتناوَل و ( التحريم ) وإن لم يعلم وجوب الحدّ به.

( ويشترط ) مع ذلك : ( البلوغ ، والعقل ) فهذه قيود أربعة.

( فالتناول يعمّ الشارب ) إيّاه خالصاً ( والمستعمل ) له. والأولى أن يقول : يعمّ الشرب والاستعمال ( في الأدوية والأغذية ).

وحيث اجتمعت ثبت الحدّ بلا خلاف ، بل عليه الإجماع في كثير من العبارات (٣) ؛ وهو الحجّة ، مضافاً إلى النصوص المستفيضة التي كادت تكون متواترة ، بل هي متواترة.

__________________

(١) البَنْج : نبت له حَبّ يخلط بالعقل ويورث الخبال ، وربّما أسكر إذا شربه الإنسان بعد ذَوبه ، ويقال : إنّه يورث السبات المصباح المنير : ٦٢.

(٢) وهو السيكران كما في تاج العروس ١٢ : ٢٣٣ ٢٣٤ ، وانظر تذكرة اولي الألباب للأنطاكي : ٨٤ ٨٥.

(٣) مجمع الفائدة ١٣ : ١٩٠ ، كشف اللثام ٢ : ٤١٧.

٦٤

وجملة منها عامّة لكل مسكر متّخذ من العنب وهو المعروف بالخمر أو التمر وهو النبيذ أو الزبيب وهو النقيع أو العسل وهو البِتَع أو الشعير وهو المِزر أو الحنطة ، أو الذُّرة ، أو غيرها. ففي الصحيح : « كلّ مسكر من الأشربة يجب فيه كما يجب في الخمر من الحدّ » (١).

وفي الخبر : « يضرب شارب الخمر وشارب المسكر » قلت : كم؟ قال : « حدّهما واحد » (٢).

وقريب منهما النصوص الواردة في علّة تحديد حدّ شارب الخمر بثمانين جلدة ، من أنّه إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، فاجلدوه حدّ المفتري (٣) ، وهي موجودة في شرب كلّ مسكر ، وهي مستفيضة ، بل ادّعى في التنقيح أنّها متواترة (٤).

وجملة منها ما بين خاصّة بالخمر ، وعامّة لها وللنبيذ ، وهي تجاوزت حدّ الاستفاضة.

ففي الموثّق كالصحيح : عن رجل حسا حسوة خمر ، قال : « يجلد ثمانين جلدة ، قليلها وكثيرها حرام » (٥).

__________________

(١) الكافي ٧ : ٢١٦ / ١٣ ، التهذيب ١٠ : ٨٩ / ٣٤٤ ، الوسائل ٢٨ : ٢٣٠ أبواب حدّ المسكر ب ٧ ح ١.

(٢) الكافي ٧ : ٢١٦ / ١١ ، التهذيب ١٠ : ٩٠ / ٣٤٥ ، الوسائل ٢٨ : ٢٣٠ أبواب حدّ المسكر ب ٧ ح ٢.

(٣) علل الشرائع : ٥٣٩ / ٨ ، الوسائل ٢٨ : ٢٢٥ أبواب حدّ المسكر ب ٤ ح ٧.

(٤) التنقيح الرائع ٤ : ٣٦٧.

(٥) علل الشرائع : ٥٣٩ / ٦ ، الوسائل ٢٨ : ٢٢٣ أبواب حدّ المسكر ب ٤ ح ٧.

٦٥

وفي الصحيح (١) وغيره (٢) : « يضرب شارب الخمر وشارب النبيذ ثمانين ».

وجملة منها مصرّحة بحكم الفقّاع ، كما هو مذهب الأصحاب ، وادّعى عليه جماعة منهم بحدّ الاستفاضة إجماع الإماميّة ، مصرّحين بثبوت الحدّ فيه وإن لم يسكر (٣).

ففي الصحيح (٤) وغيره (٥) : عن الفقّاع ، فقال : « هو خمر ، وفيه حدّ شارب الخمر » ونحوهما في إطلاق الخمر عليه المستلزم لثبوت أحكامها التي من جملتها الحدّ كثير من الأخبار (٦).

ومقتضى إطلاق هذه النصوص وغيرها ( و ) كذا الفتوى وصريح جملة منها أنّه ( يتعلّق الحكم ) بالحدّ بتناول المسكر والفقّاع مطلقاً ( ولو بالقطرة ) الغير المسكرة منهما ، وادّعى عليه الإجماع جماعة (٧).

وأمّا الصحيحان الدالاّن على عدم حدّ شارب النبيذ إن لم يسكر (٨) ،

__________________

(١) الكافي ٧ : ٢١٤ / ٤ ، التهذيب ١٠ : ٩٠ / ٣٤٨ ، الوسائل ٢٨ : ٢٢٤ أبواب حدّ المسكر ب ٤ ح ١.

(٢) الكافي ٧ : ٢١٥ / ٨ ، الوسائل ٢٨ : ٢٢٤ أبواب حدّ المسكر ب ٤ ح ٢.

(٣) المهذب البارع ٥ : ٧٩ ، الروضة ٩ : ١٩٧ ، مجمع الفائدة ١٣ : ١٨٨.

(٤) التهذيب ١٠ : ٩٨ / ٣٧٩ ، الوسائل ٢٨ : ٢٣٨ أبواب حدّ المسكر ب ١٣ ح ١.

(٥) التهذيب ١٠ : ٩٨ / ٣٧٨ ، الإستبصار ٤ : ٩٥ / ٣٧٠ ، الوسائل ٢٨ : ٢٣٨ أبواب حدّ المسكر ب ١٣ ح ٣.

(٦) انظر الوسائل ٢٥ : ٣٥٩ أبواب الأشربة المحرمة ب ٢٧.

(٧) منهم الشيخ في الاستبصار ٤ : ٢٣٦ ، والسيوري في التنقيح الرائع ٤ : ٣٦٨ ، والمحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة ١٣ : ١٩٢.

(٨) أحدهما في : التهذيب ١٠ : ٩٦ / ٣٧٠ ، الإستبصار ٤ : ٢٣٥ / ٨٨٦ ، الوسائل ٢٨ : ٢٢٤ أبواب حدّ المسكر ب ٤ ح ٤.

والآخر في : التهذيب ١٠ : ٩٦ / ٣٧١ ، الإستبصار ٤ : ٢٣٦ / ٨٨٧ ، الوسائل ٢٨ : ٢٢٥ أبواب حدّ المسكر ب ٤ ح ٥.

٦٦

فمع شذوذهما ، محصولان على التقية كما ذكره شيخ الطائفة أو على النبيذ الحلال ، كما احتمله بعض الأجلّة (١).

قالوا : ( وكذا العصير ) العنبي ( إذا غلى ما لم يذهب ثلثاه ) يجب بتناوله أو استعماله فيما مرّ الحدّ مطلقاً وإن كان قليلاً غير مسكر ، وكأنّه إجماع بينهم ، كما صرّح به في التنقيح (٢) وغيره (٣) ، ولم أقف على حجّة معتدّ بها سواه.

( و ) كذا ( كلّ ما حصلت فيه الشدّة المسكرة ) من نحو العصير التمري والزبيبي ، يجب بتناوله أو استعماله الحدّ بلا خلاف ولا إشكال ؛ لعموم ما مرّ من النصّ والفتوى.

وفي ثبوته بتناول العصيرين أو استعمالهما إذا لم يبلغا الإسكار وجهان ، مبنيّان على القول بتحريمهما أو حلّهما ، وقد مضى في كتاب الأطعمة والأشربة كون الثاني أشهر وأقوى (٤) ، فلا حدّ فيهما. ويحتمل العدم على القول الأول أيضاً ؛ لعدم التلازم بين التحريم والحدّ أصلاً ، إلاّ أن يكون إجماعاً ، كما هو ظاهر الأصحاب هنا ، حيث إنّ ظاهرهم بناء الوجهين على القولين كما ذكرنا.

( ويسقط الحدّ ) عمّن استعمل المسكر وما في معناه في نحو الاحتقان والسعوط حيث لا يدخل الحلق ، بلا خلاف في الظاهر ؛ للأصل ،

__________________

(١) مجمع الفائدة ١١ : ١٩٦.

(٢) التنقيح الرائع ٤ : ٣٦٨.

(٣) انظر الروضة ٩ : ١٩٧.

(٤) في ج ١٣ : ٤٤٣.

٦٧

وعدم إطلاق الشرب الوارد في النصوص عليه ، ومثله وإن جرى في استعماله في نحو الدواء والغذاء ؛ لعدم إطلاق الشرب عليهما جدّاً ، إلاّ أنّ العذر في ثبوت الحدّ به الإجماع الظاهر ، المحكي في جملة من العبائر (١).

وعمّن تناوله مكرهاً بأن وجر في فمه ، أو ضرب عليه ، أو خوّف بما لا يتحمّله عادةً أو اضطراراً لحفظ النفس ، كإساغة اللقمة على الأصحّ.

قيل : أمّا للتداوي أو حفظ الصحّة ، فلا يسقط عنه (٢).

وفيه إشكال ؛ للأصل ، واختصاص النصوص المثبتة للحدّ بشربه بحكم التبادر وغيره بغير الشرب اضطراراً ، فلا حدّ فيهما وإن قلنا بتحريمهما ، فتأمّل جدّاً (٣).

و ( عمّن جهل المشروب ) أنّه مسكر مثلاً ( أو التحريم ) وإن علمه لقرب عهده بالإسلام وشبهه ، أو كان صبيّاً ، أو مجنوناً ، بلا خلاف.

لحديث رفع القلم في الأخيرين (٤).

والموثّق كالصحيح (٥) وغيره (٦) في الجاهل بالحكم ، وفيه : « إنّ رجلاً شرب خمراً على عهد أبي بكر ، فقال : إنّي أسلمت وحسن إسلامي ، ومنزلي بين ظهراني قوم يشربون الخمر ويستحلّون ، ولو علمت أنّها حرام اجتنبتها ، فقال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : ابعثوا به من يدور به على مجالس‌

__________________

(١) مجمع الفائدة ١٣ : ١٩٠ ، كشف اللثام ٢ : ٤١٧.

(٢) المسالك ٢ : ٤٣٩.

(٣) ليست في « ب ».

(٤) الخصال : ٩٣ / ٤٠ ، الوسائل ١ : ٤٥ أبواب مقدمة العبادات ب ٤ ح ١١.

(٥) الكافي ٧ : ٢١٦ / ١٦ ، التهذيب ١٠ : ٩٤ / ٣٦١ ، الوسائل ٢٨ : ٢٣٢ أبواب حدّ المسكر ب ١٠ ح ١.

(٦) الكافي ٧ : ٢٤٩ / ٤ ، الوسائل ٢٨ : ٣٣ أبواب مقدمات الحدود ب ١٤ ح ٥.

٦٨

المهاجرين والأنصار من كان تلا عليه آية التحريم فليشهد عليه ، ففعلوا ذلك فلم يشهد عليه أحد ، فخلّى عنه ، وقال له : إن شربت بعدها أقمنا عليك الحدّ » والنصوص به زيادة على ذلك مستفيضة (١).

( ويثبت ) هذا الفعل ( بشهادة عدلين ) ذكرين ( أو الإقرار مرّتين ) الصادر ( من مكلّف حرّ مختار ) بلا خلاف فيهما وفي عدم الثبوت بالمرّة من الإقرار ، بل على الأخير في ظاهر المبسوط الإجماع (٢) ؛ وهو الحجّة فيه ، كالعمومات في الأولين ، وخصوص النصّ الآتي في المسألة الاولى من مسائل الأحكام في الأول.

( الثاني : في ) بيان ( الحدّ ).

( وهو ثمانون جلدةً ) إجماعاً ، وللنصوص المستفيضة المتقدّمة إلى جملة منها الإشارة (٣).

( ويستوي فيه ) الذكر والأُنثى ، و ( الحرّ والعبد ، والكافر مع التظاهر ) به بين المسلمين ، وهذا قيد للكافر خاصّة ، واحترز به عمّا لو كان مستتراً به ، فإنّه لا يحدّ حينئذ.

بلا خلاف في شي‌ء من ذلك ، عدا مساواة العبد للحرّ في مقدار الحدّ ، فإنّ الحكم بها مشهور بين الأصحاب ، مدّعى عليه الإجماع في صريح الغنية (٤) ، وظاهر السرائر والتهذيب والشرائع والتحرير (٥) ، حيث نسب في الأول إلينا ، وحكم بشذوذ الرواية الآتية بحدّه أربعين في الثاني ،

__________________

(١) انظر الوسائل ٢٨ : ٣٢ أبواب مقدّمات الحدود ب ١٤.

(٢) المبسوط ٨ : ٦١.

(٣) راجع ص ٦٤.

(٤) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٣.

(٥) السرائر ٣ : ٤٧٥ ، التهذيب ١٠ : ٩٢ ، الشرائع ٤ : ١٦٩ ، التحرير ٢ : ٢٢٦.

٦٩

وبمتروكيّتها في الثالث ، وبمطروحيّتها في الرابع ؛ وهو الحجّة.

مضافاً إلى عموم الأخبار المتواترة بأنّ حدّ الشارب ثمانون جلدة (١) ، من دون فرق فيها بين الحرّ والعبد ؛ مع ظهور جملة منها في الشمول للعبد غايته ، وهي ما مرّ من المستفيضة (٢) بل المتواترة في التعليل تحديده بالثمانين بأنّه إذا شرب سكر ، وإذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، فاجلدوه جلد المفتري ؛ وذلك بناءً على ما مرّ من أنّ العبد المفتري حدّه ثمانون أيضاً (٣).

هذا ، مضافاً إلى صريح المعتبرة المستفيضة المتجاوزة حدّ الاستفاضة.

ففي الصحيح : « حدّ اليهودي والنصراني والمملوك في الخمر والفرية سواء ، وإنّما صولح أهل الذمّة على أن يشربوها في بيوتهم » (٤).

وأصرح منه آخر : « يجلد الحرّ والعبد واليهودي والنصراني في الخمر ثمانين » (٥).

وفي الموثّقات الثلاث (٦) وغيرها (٧) : « كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يجلد‌

__________________

(١) انظر الوسائل ٢٨ : ٢٢٠ أبواب حدّ المسكر ب ٣.

(٢) راجع ص ٦٤.

(٣) راجع ص ٤٩.

(٤) الكافي ٧ : ٢١٦ / ١٤ ، التهذيب ١٠ : ٩٢ / ٣٥٥ ، الإستبصار ٤ : ٢٣٧ / ٨٩٢ ، الوسائل ٢٨ : ٢٢٨ أبواب حدّ المسكر ب ٦ ح ٥.

(٥) الكافي ٧ : ٢١٦ / ١٢ ، الوسائل ٢٨ : ٢٢٨ أبواب حدّ المسكر ب ٦ ح ٤.

(٦) أحدها في : الكافي ٧ : ٢١٥ / ٨ ، التهذيب ١٠ : ٩١ / ٣٥٣ ، علل الشرائع : ٥٣٩ / ٩ ، الوسائل ٢٨ : ٢٢٧ أبواب حدّ المسكر ب ٦ ح ١.

والأُخرى في : الكافي ٧ : ٢١٥ / ٩ ، الوسائل ٢٨ : ٢٢٧ أبواب حدّ المسكر ب ٦ ح ٢.

والثالثة في : التهذيب ١٠ : ٩١ / ٣٥٤ ، الإستبصار ٤ : ٢٣٧ / ٨٩١ ، الوسائل ٢٨ : ٢٢٧ أبواب حدّ المسكر ب ٦ ذيل ح ٢.

(٧) دعائم الإسلام ٢ : ٤٦٤ / ١٦٤٧ ، مستدرك الوسائل ١٨ : ١١٢ أبواب حدّ المسكر ب ٥ ح ١.

٧٠

الحرّ والعبد واليهودي والنصراني في الخمر والنبيذ ثمانين » قلت : ما بال اليهودي والنصراني؟ فقال : « إذا أظهروا ذلك في مصر من الأمصار ؛ لأنّهم ليس لهم أن يظهروا شربها ».

وقصور أسانيدها مع عدم قدحه في الحجّية منجبرة بالشهرة العظيمة ، والإجماعات المحكيّة حدّ الاستفاضة وإن اختلفت ظهوراً وصراحةً ، والمخالفة للعامّة ، كما ستعرفه من شيخ الطائفة.

مع أنّه لا مخالف فيها منّا ، عدا الصدوق خاصّة ، حيث قال (١) بأنّ حدّه أربعون (٢) ؛ لما مرّ في الحسن : عن عبد مملوك قذف حرّا ، قال : « يجلد ثمانين ، هذا من حقوق المسلمين ، فأمّا ما كان من حقوق الله تعالى فإنّه يضرب فيها نصف الحدّ » قلت : الذي من حقوق الله تعالى ما هو؟ قال : « إذا زنى أو شرب الخمر فهذا من الحقوق التي يضرب فيها نصف الحدّ » (٣).

وهو مع عدم صحّته ومكافأته لمقابله من وجوه عديدة حمله الشيخ على التقيّة ، قال : لأنّه مذهب بعض العامّة.

أقول : ومع ذلك لم يقل الصدوق به ؛ لتضمّنه حدّ العبد في القذف ثمانين ، وقد مرّ عنه أنّه عنده أربعون (٤) ، وهو موجب لوهنه أيضاً ، إن لم نقل بخروجه بذلك عند الصدوق عن الحجّية.

نعم ، يؤيّده الأصل ، وإطلاق الحسن : « حدّ المملوك نصف حدّ‌

__________________

(١) في « ب » : حكم.

(٢) الفقيه ٤ : ٤٠.

(٣) التهذيب ١٠ : ٩٢ / ٣٥٧ ، الإستبصار ٤ : ٢٣٧ / ٨٩٤ ، الوسائل ٢٨ : ٢٢٩ أبواب حدّ المسكر ب ٦ ح ٧.

(٤) راجع ص ٥٠.

٧١

الحرّ » (١).

وقريب منه إطلاق الخبر الذي مرّ (٢) : عن التعزير كم هو؟ قال : « دون الحدّ » قلت : دون ثمانين؟ قال : « لا ، ولكن دون الأربعين ، فإنّها حدّ المملوك » الخبر.

ولكن الأصل يجب الخروج عنه بما مرّ ، والخبران قاصرا السند ، عديما الجابر ؛ مع ضعف الثاني سنداً بمعلّى بن محمّد ، ومتناً بعدم قائل بتحديد التعزير بما فيه كما مرّ (٣) ؛ مع ضعفه دلالةً كالأول أيضاً بعدم الصراحة ، واحتمالهما (٤) التقييد بحدّ ما عدا الشرب ، كما ذكره شيخ الطائفة.

وبالجملة : لا ريب في ضعف هذا القول وشذوذه ، وإن مال إليه الشهيدان والفاضل في المختلف (٥) ، مع عدم تصريحهم بالموافقة ، وإنّما غايتهم في الظاهر الميل الضعيف ، بل التردّد ، ولا وجه له.

( ويضرب الشارب ) ومن في معناه ( عرياناً ) مستور العورة عن الناظر المحترم ( على ظهره وكتفيه ) وسائر جسده ( ويتّقى وجهه وفرجه ) ومَقاتله ، بلا خلاف ظاهر ولا محكي ، إلاّ عن المبسوط ، فقال : لا يجرّد عن ثيابه ؛ لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بالضرب ولم يأمر بالتجريد (٦). وهو شاذّ ، بل‌

__________________

(١) التهذيب ١٠ : ٩٣ / ٣٥٨ ، الإستبصار ٤ : ٢٣٨ / ٨٩٥ ، الوسائل ٢٨ : ٢٢٩ أبواب حدّ المسكر ب ٦ ح ٩.

(٢) في ص ٥٩.

(٣) في ص ٥٨.

(٤) في « ح » و « ن » : واحتمالها.

(٥) الشهيدان في اللمعة والروضة ٩ : ٢٠٤ ، المختلف : ٧٦٩.

(٦) المبسوط ٨ : ٦٩.

٧٢

لم يحك الخلاف عنه إلاّ نادر ، ومضعَّف بالصحيح الصريح : عن السكران والزاني ، قال : « يجلدان بالسياط مجرّدين بين الكتفين ، فأمّا الحدّ في القذف فيجلد على ثيابه ضرباً بين الضربين » (١).

( ولا يُحَدّ حتى يُفيق ) عن سكره ، بلا خلاف أجده ؛ وكأنّ الحجّة فيه أنّ الحكمة في شرع الحدود هو الإيلام والإيذاء والتأثّر ، ليمتنع المحدود عمّا حُدَّ به فلا يفعله ثانياً ، وهي إنّما تحصل بعد الإفاقة لا مطلقاً.

( وإذا حُدَّ مرّتين قُتل في ) المرّة ( الثالثة ) كما قطع به الأكثر ، ومنهم : الشيخان والعماني والتقي والحلّي وابن زهرة (٢) ، وعليه عامّة المتأخّرين ، عدا النادر الآتي ذكره ، وعليه الإجماع في الغنية ( وهو ) الحجّة ، مضافاً إلى أنّه ( المرويّ ) في الصحاح المستفيضة الصريحة ونحوها من المعتبرة المتجاوزة عن حدّ الاستفاضة.

ففي الصحيح (٣) : « من شرب الخمر فاجلدوه ، فإن عاد فاجلدوه ، فإن عاد فاقتلوه » (٤) ومع ذلك معتضد بعموم الصحيح بقتل أهل الكبائر في الثالثة (٥).

__________________

(١) الكافي ٧ : ٢١٦ / ١٤ ، التهذيب ١٠ : ٩٢ / ٣٥٥ ، الوسائل ٢٨ : ٢٣١ أبواب حدّ المسكر ب ٨ ح ١.

(٢) المفيد في المقنعة : ٨٠١ ، الطوسي في النهاية : ٧١٢ ، حكاه عن العماني في المختلف : ٧٦٧ ، التقي الحلبي في الكافي : ٤١٣ ، الحلّي في السرائر ٣ : ٤٧٣ ، ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهيّة ) : ٦٢٣.

(٣) في « س » و « ن » : الصحاح.

(٤) الكافي ٧ : ٢١٨ / ٢ ، التهذيب ١٠ : ٩٥ / ٣٦٧ ، الوسائل ٢٨ : ٢٣٤ أبواب حدّ المسكر ب ١١ ح ٣.

(٥) الكافي ٧ : ٢١٩ / ٦ ، التهذيب ١٠ : ٩٥ / ٣٦٩ ، الاستبصار ٤ : ٢١٢ / ٧٩١ ، الفقيه ٤ : ٥١ / ١٨٢ ، الوسائل ٢٨ : ٢٣٤ أبواب حدّ المسكر ب ١١ ح ٢.

٧٣

( وقال ) الصدوق في المقنع و ( الشيخ في الخلاف ) والمبسوط (١) : إنّه ( يقتل في الرابعة ) وتبعهما الفاضل في الإرشاد وولده في الإيضاح والشهيد في اللمعة (٢).

لمرسل الكافي والفقيه : « إنّه يقتل في الرابعة » (٣).

ولأنّ الزناء أعظم منه ذنباً ، وفاعله يقتل فيها كما مضى (٤) ، فهنا أولى.

والمرسل غير مقبول مطلقاً ، خصوصاً مع معارضة الصحاح المتقدّمة وغيرها.

والأولويّة جيّدة لولاها.

وتأوّل ابن أبي عمير المرسلة كما نقله عنه في الكافي فقال : وكأنّ المعنى أنّه يقتل في الثالثة ، ومن كان إنّما يؤتى به يقتل في الرابعة.

قال بعض الأصحاب : ولعلّ مراده أنّه ما اتي في الثالثة ، بل في الرابعة ، فيقتل فيها ؛ لأنّه ما اتي به إلاّ حينئذ ، لا أنّه ما استحقّ القتل إلاّ فيها (٥).

( ولو شرب مراراً ولم يُحَدّ ) خلالها ( كفى ) عن الجميع ( حَدٌّ واحد ) ( بلا خلاف ) (٦) كما مرّ في الزناء (٧).

__________________

(١) المقنع : ١٥٤ ، الخلاف ٥ : ٤٧٣ ، المبسوط ٨ : ٥٩.

(٢) الإرشاد ٢ : ١٨٠ ، الإيضاح ٤ : ٥١٥ ، اللمعة ( الروضة ٩ ) : ٢٠٥.

(٣) الكافي ٧ : ٢١٨ / ٤ ، الفقيه ٤ : ٤٠ / ١٣١ ، الوسائل ٢٨ : ٢٣٥ أبواب حدّ المسكر ب ١١ ح ٧ ، ٩.

(٤) في ج ١٥ : ٤٩٠.

(٥) مجمع الفائدة ١٣ : ١٩٦.

(٦) ليست في « ن ».

(٧) راجع ج ١٥ : ٤٨٨.

٧٤

( الثالث : في ) بيان ( الأحكام ).

( وفيه مسائل ) أربع :

( الاولى : لو شهد واحد ) عدل على شخص ( بشربها ) أي بشربه الخمر وما في معناها ـ ( وآخر ) مثله ( بقيئها ) أي بقيئه لها ـ ( حُدَّ ) على الأشهر الأقوى ، بل ذكر الشهيدان في النكت والمسالك (١) عدم الخلاف فيه بين أصحابنا ، وادّعى إجماعهم عليه في السرائر والتنقيح (٢) ، وحكي عن الخلاف أيضاً (٣) ؛ وهو الحجّة.

مضافاً إلى الخبر المنجبر ضعفه ولو من وجوه بالعمل ، المرويّ في الكتب الثلاثة عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، أنّه قال في حقّ الوليد (٤) لمّا شهد عليه واحد بشربها وآخر بقيئها : « ما قاءها إلاّ وقد شربها » (٥).

ويلزم من التعليل وجوب الحدّ لو شهدا بقيئها.

وتردّد فيهما جماعة من المحقّقين كالسيّد جمال الدين بن طاوس ، والفاضلين في الشرائع والقواعد (٦) لاحتمال الإكراه.

ورُدّ بأنّه خلاف الأصل والظاهر ، ولو كان واقعاً لدفع به عن نفسه (٧).

__________________

(١) غاية المراد ٤ : ٢٣٩ ، المسالك ٢ : ٤٤٠.

(٢) السرائر ٣ : ٤٧٥ ، التنقيح ٤ : ٣٧٠.

(٣) الخلاف ٥ : ٤٩٢.

(٤) في جميع المصادر : قدامة بن مظعون.

(٥) الكافي ٧ : ٤٠١ / ٢ ، الفقيه ٣ : ٢٦ / ٧٢ ، التهذيب ٦ : ٢٨٠ / ٧٧٢ ، الوسائل ٢٨ : ٢٣٩ أبواب حدّ المسكر ب ١٤ ح ١ ؛ بتفاوت يسير.

(٦) حكاه عن السيّد جمال الدين بن طاوس في المسالك ٢ : ٤٤٠ ، الشرائع ٤ : ١٧٠ ، القواعد ٢ : ٢٦٤.

(٧) المسالك ٢ : ٤٤٠.

٧٥

وربما يسلم الأول ، ويتردّد في الثاني ؛ لأنّ العمدة في الأوّل الإجماع ، وهو منفيّ في الثاني (١) وإن كان الحكم فيه أيضاً مشهوراً بين الأصحاب كما ادّعاه بعضهم (٢) ؛ لما مرّ من احتمال الإكراه ، وهو يوجب الشبهة الدارئة.

والجواب عنه بما مرّ من مخالفته الأصل والظاهر ضعيف غايته ، كيف لا؟! وغايتهما إفادة الظهور ، وهو غير كافٍ في إثبات الحدود ؛ لعدم منافاتهما الشبهة الدارئة ، ولذا لو ادّعى ما يوجبها قُبِلَ ولو كان مخالفاً لهما إجماعاً.

نعم ، يجاب عن هذا التردّد بابتنائه على انحصار الدليل في الأوّل في الإجماع بناءً على ضعف الخبر من وجوه ، وهو في حيّز المنع ؛ لانجبار ضعف الخبر بالشهرة ، ودعوى الحلّي الإجماع على روايته وقبوله ، فيجبر به بجميع ما فيه ، حتى التعليل المقتضي للتعميم.

( الثانية : من شربها ) أي الخمر ـ ( مستحلا ) لشربها أصلاً وهو مسلم ( استُتيب ، فإن تاب أُقيم عليه الحدّ ) ثمانون جلدة خاصّة ( وإلاّ ) يتب ( قُتِلَ ) من غير فرق في الاستتابة بين كونه فطريّاً أو ملّياً ، كما عن الشيخين (٣) وأتباعهما (٤).

قيل : لإمكان عروض الشبهة في الشرب فاستحلّه ، والحدود تدرأ بالشبهات (٥).

__________________

(١) الروضة ٩ : ٢١٠.

(٢) المسالك ٢ : ٤٤٠ ، وفيه : الأشهر القبول.

(٣) المفيد في المقنعة : ٨٠١ ، الطوسي في النهاية : ٧١١.

(٤) القاضي في المهذّب ٢ : ٥٣٦ ، وابن حمزة في الوسيلة : ٤١٦ ، والراوندي في فقه القرآن ٢ : ٣٧٩.

(٥) انظر المسالك ٢ : ٤٤٠.

٧٦

ولما رواه المفيد في إرشاده ، فقال : روت العامّة والخاصّة : أنّ قدامة بن مضعون شرب الخمر ، فأراد عمر أن يجلده ، فقال : لا يجب عليّ الحدّ ؛ إنّ الله تعالى يقول ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا ) (١) فدرأ عنه الحدّ ، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فمشى إلى عمر ، فقال : « ليس قدامة من أهل هذه الآية ولا من سلك سبيله في ارتكاب ما حرّم الله سبحانه ، إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يستحلّون حراماً ، فاردُد قدامة فاستتبه ممّا قال ، فإن تاب فأقم عليه الحدّ ، وإن لم يتب فاقتله فقد خرج عن الملّة » الخبر (٢).

( وقيل ) والقائل الحلّي والتقي كما حكي (٣) ـ : إنّ ( حكمه حكم المرتدّ ) لا يستتاب إذا ولد على الفطرة ، بل يقتل من غير استتابة ( وهو قويّ ) متين ، وعليه عامّة المتأخّرين ؛ لإنكاره ما علم تحريمه ضرورة من الدين ، ومعه لا شبهة ، إلاّ إذا ادّعاها وأمكنت في حقّه ؛ لقرب عهده بالإسلام ونحوه ، فيدفع عنه الشبهة ، ولا يقتل بلا شبهة ، كما هو الحال في إنكار سائر الضروريّات.

وهذه الصورة خارجة عن مفروض المسألة ، بل هو ما إذا لم يكن هناك شبهة محتملة ، ولذا أنّ شيخنا في المسالك بعد أن اختار المختار وقال : هذا إذا لم يمكن الشبهة في حقّه ؛ لقرب عهده بالإسلام ونحوه ، وإلاّ اتّجه قول الشيخين ، قال : وعليه يحمل استتابة قدامة بن مظعون وغيره‌

__________________

(١) المائدة : ٩٣.

(٢) الإرشاد ١ : ٢٠٣ ، الوسائل ٢٨ : ٢٢٠ أبواب حد المسكر ب ٢ ح ١.

(٣) حكاه عنهما في التنقيح ٤ : ٣٧١ ، وهو في الكافي في الفقه : ٤١٣ ، والسرائر ٣ : ٤٧٧.

٧٧

ممّن استحلّها في صدر الإسلام بالتأويل (١). انتهى.

ومنه يظهر الجواب عن الدليلين اللذين مضيا.

ولكن يتوجّه على شيخنا أنّه كيف استوجه على تقدير الشبهة المحتملة قول الشيخين ومن تبعهما بالاستتابة والحدّ أولاً ثم القتل مع عدمها؟! مع أنّهما ليسا وظيفة المنكر لضروريّ الدين بالشبهة المحتملة ، بل وظيفته رفع الشبهة عنه بحيث يصير ما أنكره ضروريّاً له ، فإن استحلّ أيضاً كان حينئذٍ مرتدّاً يستتاب إن كان ملّياً ، ويقتل إن كان فطريّاً.

وبالجملة : فما ذكره الشيخان لا ينطبق على صورة الشبهة أيضاً.

ومن هنا يظهر جواب آخر عن الاستدلال بهما لهما ، وأنّ جواب شيخنا عن الرواية بحملها على صورة الشبهة لا يوافق الصواب على ما عرفته ، والحقّ في الجواب عنها بعد الإغماض عن سندها ـ : أنّها قضيّة في واقعة ، فلا تكون عامّة لصورتي كون المستحلّ فطريّاً أو ملّياً ؛ لاحتمال كون قدامة ارتداده عن ملّة لا عن فطرة ، فيتوجّه حينئذٍ القتل بعد الاستتابة ، وبهذا أجاب الفاضل المقداد في شرح الكتاب عن الرواية (٢).

هذا حكم الخمر.

وأمّا غيرها من المسكرات والأشربة كالفقّاع والنبيذ فقد أشار إليه بقوله : ( ولا يقتل مستحلّ ) شرب ( غير الخمر ) مطلقاً ( بل يحدّ ) بشربه خاصّة ( مستحلا ) كان له ( أو محرّماً ) قولاً واحداً ؛ لوقوع الخلاف فيها بين المسلمين وتحليل بعضهم إيّاها ، فيكون ذلك كافياً في انتفاء الكفر باستحلالها.

__________________

(١) المسالك ٢ : ٤٤٠.

(٢) التنقيح ٤ : ٣٧١.

٧٨

ولا فرق بين كون الشارب لها ممّن يعتقد إباحتها كالحنفي (١) ـ [ وغيره (٢) ] ، فيحدّ عليها ولا يكفر ؛ لأنّ الكفر مختصّ بما وقع عليه الإجماع من المسلمين وثبت حكمه ضرورةً من الدين ، وهو منتف في غير الخمر بيقين.

خلافاً للحلبي ، فكفّر مستحلّها ، وأوجب قتله (٣).

وهو نادر ، كما صرّح به في الروضة (٤).

الثالثة : ( من باع الخمر مستحلا ) بيعها ( استُتيب ) مطلقاً ولو كان فطريّاً ؛ إذ ليس تحريمه معلوماً ضرورةً ، وقد يقع فيه الشبهة من حيث إنّه يسوغ تناوله على بعض وجوه (٥) الضرورات.

قيل : فيعزّر فاعله ويستتاب (٦) إن فعله مستحلا ( فإن تاب ) قُبِلَ منه ( وإلاّ قُتِلَ ) حدّا ، وكأنّه موضع وفاق ، وما وقفت على نصّ يقتضيه (٧).

( وفيما سواها ) من الأشربة إذا باعه مستحلا لا يقتل قطعاً وإن لم يتب ؛ لعدم إجماع المسلمين على حرمته ، فلا يحكم بكفر مستحلّه الموجب لقتله.

نعم ، قالوا : ( يعزّر ) لفعله المحرّم وهو حسن إن كان ممّن يعتقد التحريم ، وإلاّ ففيه نظر وفاقاً لبعض من تأخّر ، حيث قال : وفي تأديبه مع‌

__________________

(١) الهداية ( البناية في شرح الهداية ١ ) : ٤٧٦.

(٢) ما بين المعقوفين أضفناه لاستقامة العبارة ، كما في المسالك ٢ : ٤٤٠.

(٣) الكافي في الفقه : ٤١٣.

(٤) الروضة ٩ : ٢٠٧.

(٥) في « ب » : الوجوه.

(٦) في النسخ زيادة : و. أسقطناها كما في المصدر لاستقامة المعنى.

(٧) المسالك ٢ : ٤٤٠.

٧٩

كونه من أهل الخلاف نظر (١).

الرابعة : ( لو تاب ) الشارب عنه ( قبل قيام البيّنة ) عليه بشربه ( سقط الحدّ ) عنه ، بلا خلاف في الظاهر ، مصرّح به في جملة من العبائر (٢) ؛ وهو الحجّة ، مضافاً إلى جميع ما مرّ في الزناء من الأدلّة.

( ولا يسقط ) عنه الحدّ ( لو تاب بعد ) قيام ( البيّنة ) على الأظهر الأشهر بين الطائفة ؛ للأصل ، مع عدم ظهور المسقط بالكلّيّة (٣).

خلافاً للحلبي ، فجوّز للإمام العفو عنه هنا كما اختاره في الزناء (٤).

وهو مع شذوذه على الظاهر المصرّح به في بعض العبائر (٥) حجّته غير واضحة ، عدا ما مرّ ثمّة ، وقد عرفت جوابه (٦).

( و ) لو تاب ( بعد الإقرار ، يتخيّر الإمام في الإقامة ) للحدّ عليه أو العفو عنه كما في الزناء ، على الأظهر الأشهر ، كما صرّح به جمع ممّن تأخّر (٧) ؛ لأنّها بعد الإقرار مسقطة لتحتّم أقوى العقوبتين وهو الرجم أو الجلد مائة في أقوى الذنبين ، وهو الزناء ، فأضعفهما وهو الجلد ثمانين والشرب بطريق أولى.

وبهذا التقرير الذي بيّنّا به الأولويّة يندفع ما أورد عليها جماعة من‌

__________________

(١) كشف اللثام ٢ : ٤١٨.

(٢) السرائر ٣ : ٤٧٩ ، المسالك ٢ : ٤٤٧ ، مجمع الفائدة ١٣ : ٢٠٤ ، كشف اللثام ٢ : ٤٢٨.

(٣) في « ن » زيادة : وربما أشعر بالعدم الرواية الآتية.

(٤) الكافي في الفقه : ٤٠٧ ، ٤١٣.

(٥) كما في المفاتيح ٢ : ٨٨.

(٦) في ج ١٥ : ٤٧٠ ٤٧١.

(٧) الروضة ٩ : ٢٠٨ ، ونسبه في مجمع الفائدة ١٣ : ٢٠٥ والمفاتيح ٢ : ٨٨ إلى المشهور.

٨٠