رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٦

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٦

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-278-4
الصفحات: ٦١١

والصحيح : « إذا قتل المسلم يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً وأرادوا أن يقيدوا ردّوا فضل دية المسلم وأقادوا به » (١) ونحوهما الموثق (٢).

ولكنّها بإطلاقها شاذّة معارضة بما عرفت من الإجماع المستفيض في كلام الجماعة ، ونصّ الكتاب ، قال سبحانه ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (٣).

مضافاً إلى الاعتبار ، والنصوص الآتية ، فلتكن هذه مطرحة ، أو محمولة على التقية ؛ لموافقتها لرأي أبي حنيفة كما حكاه عنه بعض الأجلة (٤) ، أو على صورة الاعتياد كما فصّلته النصوص المعارضة.

وبالجملة : لا ريب في عدم قتل المسلم بالكافر مطلقا في الصورة المفروضة.

( ولكن يعزّر ) المسلم القاتل ( ويغرم دية الذميّ ) إذا قتله.

( ولو اعتاد ) المسلم ( ذلك ) أي قتل الذمّي فهل يجوز قتله به ، أم لا؟ الحلّي (٥) على الثاني ؛ عملاً بنصّ الكتاب المتقدّم ، مع دعواه الإجماع عليه ، ووافقه فخر الدين ووالده في جملة من كتبه (٦) في ظاهر كلامه.

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٠٩ / ٢ ، التهذيب ١٠ : ١٨٩ / ٧٤١ ، الإستبصار ٤ : ٢٧١ / ١٠٢٣ ، الوسائل ٢٩ : ١٠٧ أبواب القصاص في النفس ب ٤٧ ح ٢.

(٢) الكافي ٧ : ٣٠٩ / ٣ ، التهذيب ١٠ : ١٨٩ / ٧٤٢ ، الإستبصار ٤ : ٢٧١ / ١٠٢٤ ، الوسائل ٢٩ : ١٠٨ أبواب القصاص في النفس ب ٤٧ ح ٣.

(٣) النساء : ١٤١.

(٤) انظر الإيضاح ٤ : ٥٩٤.

(٥) السرائر ٣ : ٣٥٢.

(٦) فخر الدين في الإيضاح ٤ : ٥٩٤ ، والده في المختلف : ٧٩٤ ، القواعد ٢ : ٢٩٠ ، التحرير ٢ : ٢٤٧.

٢٤١

والأشهر كما ادّعاه الشهيدان وغيرهما (١) الأوّل ، بل زاد أوّلهما فادّعى الإجماع عليه ، فقال : والحقّ أنّ هذه المسألة إجماعية ، فإنّه لم يخالف فيها أحد سوى ابن إدريس ، وقد سبقه الإجماع عليه ، ولو كان هذا الخلاف مؤثّراً في الإجماع لم يوجد إجماع أصلاً.

وقريب منه كلام الثاني في الروضة ، حيث قال : والعجب أنّ ابن إدريس احتجّ على مذهبه بالإجماع على عدم قتل المسلم بالكافر ، وهو استدلال في مقابلة الإجماع ، انتهى.

وحكى التصريح به عن الانتصار (٢) ، وهو الحجّة على انتصار هذا القول.

مضافاً إلى نحو الصحيحين المتقدّمين المجوِّزين لقتل المسلم بالذمّي بعد ردّ أوليائه الدية ، وشمولها لصورة عدم الاعتياد بالإطلاق مقيّد بالإجماع ، وببعض المعتبرة المروي بعدّة طرق ، جملة منها موثّقة كالصحيحة بأبان وفضالة اللذين قد نقل على تصحيح ما يصحّ عنهما إجماع العصابة (٣) : عن دماء اليهود والنصارى والمجوس ، هل عليهم وعلى من قتلهم شي‌ء ، إذا غشّوا المسلمين وأظهروا لهم العداوة؟ قال : « لا ، إلاّ أن يكون متعوّداً لقتلهم » وعن المسلم هل يقتل بأهل الذمّة وأهل الكتاب إذا قتلهم؟ قال : « لا ، إلاّ أن يكون معتاداً لذلك لا يدع قتلهم ، فيقتل وهو صاغر » (٤).

__________________

(١) الشهيد الأوّل في غاية المراد ٤ : ٣٤٧ ، الشهيد الثاني في الروضة ١٠ : ٥٥ ، كشف اللثام ٢ : ٤٥٤.

(٢) الانتصار : ٢٧٢.

(٣) انظر رجال الكشي ٢ : ٦٧٣ ، ٨٣٠.

(٤) الكافي ٧ : ٣٠٩ / ٤ ، الفقيه ٤ : ٩٢ / ٣٠١ ، التهذيب ١٠ : ١٨٩ / ٧٤٤ ، الإستبصار ٤ : ٢٧١ / ١٠٢٦ ، الوسائل ٢٩ : ١٠٧ أبواب القصاص في النفس ب ٤٧ ح ١.

٢٤٢

ونحوه خبر آخر (١) ، ضعف سنده كقصور سابقه إن كان منجبر بالشهرة الظاهرة والمحكية ، مضافاً إلى حكاية الإجماعات المتقدّمة ، وبهذه الأدلّة تخصّ ظاهر الكتاب وإطلاق الصحيحة : « لا يقاد مسلم بذمّي في القتل ولا في الجراحات ، ولكن يؤخذ من المسلم ديته للذمّي على قدر دية الذميّ ثمانمائة درهم » (٢).

وأمّا الجواب عن إجماع الحلّي فقد عرفته بما في الروضة ، فلا ريب أيضاً في هذه المسألة.

ولعلّه لذا رجع الماتن عن التردّد فيها في الشرائع (٣) إلى الجزم بما هنا ؛ لقوله : ( جاز الاقتصاص مع ردّ فاضل الدية ) (٤) وظاهره كما ترى كون القتل قصاصاً لا حدّا ، كما عن المقنعة والنهاية والجامع والوسيلة (٥) ، وعن الإسكافي والحلبي وظاهر الفقيه والغنية (٦) أنّه يقتل حدّا فلا يجب ردّ الدية ، كما عليه الفاضل (٧).

ومقتضى النصوص بعد ضمّ بعضها إلى بعض بالنسبة إلى ردّ فاضل الدية هو الأوّل ، وهو الوجه مع عدم ظهور دليل غيره.

وفي الروضة : ويمكن الجمع بين الحكمين ، فيقتل لقتله وإفساده ،

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣١٠ / ١٢ ، الفقيه ٤ : ٩٢ / ٣٠١ ، التهذيب ١٠ : ١٨٩ / ٧٤٤ ، الإستبصار ٤ : ٢٧١ / ١٠٢٦ ، الوسائل ٢٩ : ١٠٩ أبواب القصاص في النفس ب ٤٧ ح ٦.

(٢) الكافي ٧ : ٣١٠ / ٩ ، التهذيب ١٠ : ١٨٨ / ٧٤٠ ، الإستبصار ٤ : ٢٧٠ / ١٠٢٢ ، الوسائل ٢٩ : ١٠٨ أبواب القصاص في النفس ب ٤٧ ح ٥.

(٣) الشرائع ٤ : ٢١١.

(٤) في المختصر المطبوع : دية المسلم.

(٥) المقنعة : ٧٣٩ ، النهاية : ٧٤٩ ، الجامع للشرائع : ٥٧٢ ، الوسيلة : ٤٣١.

(٦) حكاه عن الإسكافي في المختلف : ٧٩٤ ، الحلبي في الكافي : ٣٨٤ ، الفقيه ٤ : ٩٢ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٠.

(٧) التحرير ٢ : ٤٤٧.

٢٤٣

ويردّ الورثة الفاضل. وتظهر فائدة القولين في سقوط القود بعفو الوليّ ، وتوقّفه على طلبه على الأوّل دون الثاني. وعلى الأوّل ففي توقّفه على طلب جميع أولياء المقتولين أو الأخير خاصة ، وجهان ، منشؤهما كون قتل الأوّل جزءاً من السبب أو شرطاً فيه ، فعلى الأوّل الأوّل ، وعلى الثاني الثاني ، ولعلّه أقوى. ويتفرّع عليه أنّ المردود عليه هو الفاضل عن ديات جميع المقتولين أو عن دية الأخير ، فعلى الأوّل الأوّل أيضاً ، وعلى الثاني الثاني. والمرجع في الاعتياد إلى العرف ، وربما تحقق بالثانية ؛ لأنّه مشتق من العود ، فيقتل فيها أو في الثالثة ، وهو الأجود ؛ لأنّ الاعتياد شرط في القصاص ، فلا بدّ من تقدّمه على استحقاقه (١) ، انتهى كلامه زيد إكرامه.

وإنّما نقلناه بطوله لتكفّله لجملة من فروع المسألة ومتعلّقاته ، مع جودة مختاره.

لكن ما ذكره أوّلاً من إمكان الجمع بين الحكمين لا يخلو عن نظر ؛ لكونه إحداث قول ، ولذا فرع جماعة على القولين ردّ فاضل الدية فأثبتوه على الأوّل ، ونفوه على الثاني.

وكذا ما ذكره أخيراً من جواز القتل في الثالثة منظور فيه ؛ لعدم صدق الاعتياد بالمرّتين عرفاً ، وإن صدق لغةً نظراً إلى مبدأ الاشتقاق ، بناءً على ترجيح العرف عليه ، كما هو الأظهر الأشهر ، وبه اعترف.

نعم لو عكس صحّ ما ذكره ، فتأمّل.

( ويقتل الذمّي بالذمّي ) وإن اختلفت ملّتهما ، كاليهودي والنصراني ( وبالذمّية بعد ردّ ) أوليائها ( فاضل ديته ) عن دية الذمّية ، وهو نصف ديته.

__________________

(١) الروضة ١٠ : ٥٧.

٢٤٤

( و ) تقتل ( الذمّية بمثلها ، وبالذمّي ) مطلقاً ( ولا ردّ ) هنا ؛ فإنّ الجاني لا يجنى على أكثر من نفسه ، مع أنّه لا خلاف فيه ولا في شي‌ء ممّا سبقه ، بل حكى عليه الإجماع بعض الأجلّة (١).

والأصل فيها بعده عمومات الكتاب والسنّة المتقدمة في جناية المسلم والمسلمة ، مضافاً إلى خصوص القوية في الجملة : « أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يقول : يقتصّ لليهودي والنصراني والمجوسي بعضهم من بعض ، ويقتل بعضهم ببعض إذا قتلوا عمداً » (٢).

( ولو قتل الذمّي مسلماً عمداً دفع هو وماله إلى أولياء المقتول ، وله ) أي لوليّه ( الخيرة بين قتله واسترقاقه ) على الأظهر الأشهر ، بل عليه عامّة من تأخّر ، وعن الانتصار والسرائر وظاهر النكت وفي الروضة (٣) الإجماع عليه ، وهو الحجّة. مضافاً إلى الصحيح المروي في الكتب الثلاثة : في نصراني قتل مسلماً ، فلمّا أُخذ أسلم ، قال : « اقتله به » قيل : فإن لم يسلم ، قال : « يدفع إلى أولياء المقتول ، فإن شاءُوا قتلوا ، وإن شاءُوا عفوا ، وإن شاءُوا استرقّوا » قيل : وإن كان معه عين مال ، قال : « دفع إلى أولياء المقتول هو وماله » (٤).

ولا فرق في تملّك أمواله بين ما ينقل منها وما لا ينقل ، ولا بين العين والدين ، كما هو ظاهر إطلاق النصّ والفتوى ، وبه صرّح في التحرير (٥) ،

__________________

(١) مجمع الفائدة ١٤ : ٢٨.

(٢) الكافي ٧ : ٣٠٩ / ٦ ، التهذيب ١٠ : ١٩٠ / ٧٤٩ ، الوسائل ٢٩ : ١١٠ أبواب القصاص في النفس ب ٤٨ ح ١.

(٣) الانتصار : ٢٧٥ ، السرائر ٣ : ٣٥١ ، نكت النهاية ٣ : ٣٨٧ ، الروضة ١٠ : ٦١.

(٤) الكافي ٧ : ٣١٠ / ٧ ، الفقيه ٤ : ٩١ / ٢٩٥ ، التهذيب ١٠ : ١٩٠ / ٧٥٠ ، الوسائل ٢٩ : ١١٠ أبواب القصاص في النفس ب ٤٩ ح ١.

(٥) التحرير ٢ : ٢٤٧.

٢٤٥

واختصاص السؤال في الرواية بالعين لا يوجب تقييد المال المطلق في الجواب بها ، فتأمّل جدّاً.

وكذا لا فرق بين المساوي لفاضل دية المسلم والزائد عليه المساوي للدية والزائد عليها ؛ لما مضى.

خلافاً للمحكي عن الحلبيّين (١) ، فإنّما أجازا الرجوع على تركته أو أهله بدية المقتول أو قيمته إن كان مملوكاً.

ولا بين اختيار الأولياء قتله أو استرقاقه.

خلافاً للحلّي (٢) ، فإنّما أجاز أخذ المال إذا اختير الاسترقاق ؛ لأنّ مال المملوك لمولاه.

قيل : ويحتمله الخبر وكلام الأكثر (٣). وفيه نظر.

( وهل يسترقّ ولده الصغار ) غير المكلّفين؟ قولان :

من أنّ الطفل يتبع أباه ، فإذا ثبت له الاسترقاق شاركه فيه ، وأنّ المقتضي لحقن دمه واحترام ماله وولده هو التزامه بالذمّة ، وقد خرقها بالقتل ، فتجري عليه أحكام أهل الحرب.

ومن أصالة بقاء حرّيتهم ؛ لانعقادهم عليها ، وعموم ( وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ) (٤) وخلوّ النص المتقدّم عن ذلك مع وروده في مقام الحاجة.

مع ضعف الأوجه السابقة ، فالأوّل : بمنع التبعية كلّيةً حتى هنا ، وإن‌

__________________

(١) أبو الصلاح في الكافي في الفقه : ٣٨٥ ، ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦١٩.

(٢) السرائر ٣ : ٣٥١.

(٣) كشف اللثام ٢ : ٤٥٥.

(٤) فاطر : ١٨ ، الزمر : ٧.

٢٤٦

هي إلاّ عين المتنازع ، ولا دليل عليها أصلاً.

والثاني : بأنّه يوجب اشتراك المسلمين فيهم ؛ لأنّهم في‌ء ، أو اختصاص الإمام عليه‌السلام بهم ، لا اختصاص أولياء المقتول.

ولعلّه لذا قال الماتن : ( الأشبه : لا ) وهو كذلك ، وفاقاً لكثير من متأخّري أصحابنا ، تبعاً للحلّي (١) ، وربما يعزى إلى ابن بابويه والمرتضى (٢).

خلافاً للمفيد وجماعة (٣) ، وربما نسب إلى الشيخ (٤) ، لكن ذكر الشهيدان أنّه لم يجداه في كتبه (٥).

( ولو أسلم ) الذمّي ( بعد القتل ) أي بعد قتله المسلم وقبل قتله به ( كان كالمسلم ) في عدم جواز استرقاقه ، بل يتعيّن قتله أو العفو عنه ، بلا خلاف ، كما في الصحيح المتقدم.

وأخذ ماله باقٍ على التقديرين ؛ للإطلاق (٦) ، وبه صرّح شيخنا في الروضة (٧) ، واحتمل بعض الأجلّة خلافه ، قال : إذ لا يحل أخذ مال امرئ مسلم بغير وجه مقرّر (٨).

( ولو قتل ) الذمّي ( خطأً لزمته الدية في ماله ) إن كان له مال ( ولو

__________________

(١) السرائر ٣ : ٣٥١.

(٢) انظر تعليقات باب القصاص لصاحب مفتاح الكرامة ١٠ : ٢٢.

(٣) المقنعة : ٧٥٣ ، المراسم ( للمجمع العالمي لأهل البيت عليهم‌السلام ) : ٢٣٨ ، الوسيلة : ٤٣٥.

(٤) نسبه إليه في الإيضاح ٤ : ٥٩٦ ، وهو في النهاية : ٧٤٨.

(٥) الشهيد الأوّل في غاية المراد ( مخطوط ) ٣٠٩ ، الشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٤٦٥.

(٦) في « ن » : للأصل.

(٧) الروضة ١٠ : ٦١.

(٨) مجمع الفائدة ١٤ : ٣٣.

٢٤٧

لم يكن له مال كان الإمام عاقلته دون قومه ) كما في الصحيح : « ليس بين أهل الذمّة معاقلة فيما يكون من قتل أو جراحة ، إنّما يؤخذ ذلك من أموالهم ، فإن لم يكن لهم مال رجعت [ الجناية ] على إمام المسلمين ؛ لأنّهم يؤدّون إليه الجزية كما يؤدّي العبد الضريبة إلى سيّده » قال : « وهم مماليك الإمام فمن أسلم منهم فهو حرّ » (١).

وبه أفتى الشيخ في النهاية (٢) والمتأخرون كافّة ، ولكن لم يذكروه هنا ، بل ذكروه في بحث عاقلة الذمّي من دون أن يذكروا خلافاً فيه ثمّة.

نعم في المختلف والتنقيح (٣) حكي الخلاف فيه عن الحلّي ، حيث حكم بأنّ عاقلته ، الإمام مطلقا ولو كان له مال ، وعن المفيد أنّه قال : تكون الدية على عاقلته ، ولم يفصّل. وتردّد فيه في المختلف ، ولا وجه له ؛ لما عرفته من الصحيحة الصريحة.

( الشرط الثالث : أن لا يكون القاتل أباً ) للمقتول.

( فلو قتل الوالد ولده لم يقتل به ) مطلقا ، بلا خلاف أجده ، بل عليه إجماعنا في كلام جماعة (٤) ، وهو الحجة.

مضافاً إلى المعتبرة المستفيضة العامية والخاصية ، ففي النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لا يقاد الوالد بالولد » (٥).

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٦٤ / ١ ، الفقيه ٤ : ١٠٦ / ٣٥٧ ، التهذيب ١٠ : ١٧٠ / ٦٧٤ ، الوسائل ٢٩ : ٣٩١ أبواب العاقلة ب ١ ح ١ ، وما بين المعقوفين أضفناه من المصادر.

(٢) النهاية : ٧٤٨.

(٣) المختلف : ٧٩٤ ، التنقيح ٤ : ٤٢٨ ، وهو في السرائر ٣ : ٣٥٢ ، والمقنعة : ٧٥٣.

(٤) منهم ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦١٩ ، الشهيد في المسالك ٢ : ٤٦٧ ، والأردبيلي في مجمع الفائدة ١٤ : ١٦ ، الفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٤٥٥.

(٥) مسند أحمد ١ : ١٦ ، ٢٢ ، سنن الدارقطني ٣ : ١٤١ / ١٨٢ ، كنز العمّال ١٥ : ٥.

٢٤٨

وفي الصحيح : عن الرجل يقتل ابنه ، أيقتل به؟ قال : « لا » (١).

وفي القريب منه سنداً : « لا يقاد والد بولده ، ويقتل الولد إذا قتل والده عمداً » (٢).

ونحوه أخبار أُخر مستفيضة ، منجبر قصور أسانيدها أو ضعفها بفتوى الطائفة ، فلا إشكال بحمد الله سبحانه في المسألة.

( و ) لا في أنّ ( عليه ) أي الأب القاتل ( الدّية ) لورثة ولده الذي قتله غيره ؛ لئلاّ يطلّ دم امرئ مسلم ، وحسماً للجرأة ، وللخبر : « لا قود لرجل أصابه والده في أمر يعيب عليه فيه فأصابه عيب من قطع وغيره ، وتكون له الدية ، ولا يقاد » (٣).

( والكفّارة ) لعموم الأدلّة أو فحواها ، بلا شبهة ( والتعزير ) لذلك ، وللنصّ : في الرجل يقتل ابنه أو عبده ، قال : « لا يقتل به ، ولكن يضرب ضرباً شديداً ، وينفى عن مسقط رأسه » (٤) مع أنّ ذلك مقتضى فعل كلّ محرّم لم يحدّ فيه حدّ.

( ويقتل الولد بأبيه ) بلا خلاف ؛ للعمومات ، وخصوص ما مرّ من الروايات.

__________________

(١) الكافي ٧ : ٢٩٨ / ٤ ، التهذيب ١٠ : ٢٣٧ / ٩٤٣ ، الوسائل ٢٩ : ٧٧ أبواب القصاص في النفس ب ٣٢ ح ٢.

(٢) الكافي ٧ : ٢٩٧ / ١ ، التهذيب ١٠ : ٢٣٦ / ٩٤١ ، الوسائل ٢٩ : ٧٧ أبواب القصاص في النفس ب ٣٢ ح ١.

(٣) التهذيب ١٠ : ٢٣٧ / ١١٤٨ ، الوسائل ٢٩ : ٧٩ أبواب القصاص في النفس ب ٣٢ ح ١٠.

(٤) الفقيه ٤ : ٩٠ / ٢٩٠ ، التهذيب ١٠ : ٢٣٦ / ٩٣٩ ، الوسائل ٢٩ : ٧٩ أبواب القصاص في النفس ب ٣٢ ح ٩.

٢٤٩

( وكذا الامّ تقتل بالولد ) ويقتل بها ( وكذا الأقارب ) يقتلون به ، ويقتل بهم ؛ عملاً بالعمومات ، واقتصاراً فيما خالفها على ما هو مورد الفتاوي وما مضى من الروايات.

ولا خلاف في شي‌ء من ذلك أجده بيننا ، إلاّ ما يحكى عن الإسكافي في قتل الأمّ بالولد وكذا الأقارب ، فمنع عنه تبعاً للعامّة ، كما حكاه عنه بعض الأجلّة (١).

( وفي قتل الجدّ ) للأب ( بولد الولد تردّد ) ينشأ : من أنّه هل هو أب حقيقةً ، أو مجازاً؟ فإن قلنا بالأوّل لم يقتل به ، وإلاّ قتل به ، والمشهور الأوّل ، ومنهم الفاضلان في الشرائع والإرشاد والقواعد والتحرير ، والشهيدان في اللمعتين (٢) ، وغيرهم من متأخّري الأصحاب (٣) ، تبعاً للمحكي عن الخلاف والمبسوط والوسيلة (٤) ويعضدهم تقديم الشارع عقده على ابنة الابن على عقده عليها إذا تقارنا ، مع أنّي لم أجد في ذلك مخالفاً عدا الماتن هنا ، حيث بقي في الحكم متردّداً ، وتبعه بعض (٥).

ومقتضى إطلاق النص والفتوى عدم الفرق في الحكم بعدم قتل الوالد بالولد بين كونه ذكراً أو أُنثى ، وكون الوالد مساوياً لولده في الدين والحرّية أم لا ، وبه صرّح جماعة من أصحابنا (٦).

__________________

(١) انظر المختلف : ٨١٩.

(٢) الشرائع ٤ : ٢١٤ ، الإرشاد ٢ : ٢٠٣ ، القواعد ٢ : ٢٩١ ، التحرير ٢ : ٢٤٩ ، اللمعة والروضة ١٠ : ٦٤.

(٣) كالفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٤٥٥.

(٤) الخلاف ٥ : ١٥٢ ، المبسوط ٧ : ٩ ، الوسيلة : ٤٣١.

(٥) التنقيح ٤ : ٤٢٨ ، المفاتيح ٢ : ١٢٧.

(٦) منهم العلاّمة في التحرير ٢ : ٢٤٩ ، الشهيد في المسالك ٢ : ٤٦٧ ، الفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٤٥٥.

٢٥٠

( الشرط الرابع : كمال العقل )

( فلا يقاد المجنون ) بعاقل ، ولا مجنون ، سواء كان الجنون دائماً أو أدواراً إذا قتل حال جنونه ، بلا خلاف أجده ، بل ادعى عليه الإجماع بعض الأجلّة (١) ، وهو الحجّة.

مضافاً إلى المعتبرة المستفيضة ، منها الصحيح : « كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يجعل جناية المعتوه على عاقلته ، خطأً كان أو عمداً » (٢).

والقوي : « أنّ محمد بن أبي بكر كتب إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام يسأله عن رجل مجنون قتل رجلاً عمداً ، فجعل الدّية على قومه ، وجعل عمده وخطأه سواء » (٣) إلى غير ذلك من النصوص الآتية.

( ولا الصبي ) بمثله ، ولا ببالغ ، بلا خلاف إذا لم يبلغ خمسة أشبار ولا عشراً ، وكذا إذا بلغهما على الأشهر الأقوى ، بل عليه عامة متأخّري أصحابنا ، وفاقاً منهم للحلّي والخلاف (٤) من القدماء ، وادّعى الأخير فيه إجماع الفرقة ، وهو الحجة.

مضافاً إلى بعض ما مرّ إليه الإشارة ، وللمعتبرة المستفيضة التي هي ما بين صريحة وظاهرة ، فمن الأوّل : الصحيح : « عمد الصبي وخطاؤه واحد » (٥).

__________________

(١) كشف اللثام ٢ : ٤٥٦.

(٢) الفقيه ٤ : ١٠٧ / ٣٥٨ ، التهذيب ١٠ : ٢٣٣ / ٩١٩ ، الوسائل ٢٩ : ٤٠٠ أبواب العاقلة ب ١١ ح ١.

(٣) الفقيه ٤ : ٨٥ / ٢٧٢ ، التهذيب ١٠ : ٢٣٢ / ٩١٦ ، الوسائل ٢٩ : ٤٠١ أبواب العاقلة ب ١١ ح ٥.

(٤) الحلّي في السرائر ٣ : ٣٦٩ ، الخلاف ٥ : ١٧٦.

(٥) التهذيب ١٠ : ٢٣٣ / ٩٢٠ ، الوسائل ٢٩ : ٤٠٠ أبواب العاقلة ب ١١ ح ٢.

٢٥١

والخبر ، بل الموثق أو الحسن كما قيل (١) : أنّ عليّاً عليه‌السلام كان يقول : « عمد الصبيان خطأ تحمله العاقلة » (٢).

ونحوه المروي عن قرب الإسناد ، عن علي عليه‌السلام « أنّه كان يقول في المجنون والمعتوه الذي لا يفيق ، والصبي الذي لم يبلغ : عمدهما خطاء تحمله العاقلة ، وقد رفع عنهما القلم » (٣).

ومن الثاني : النصوص المتقدّمة في كتاب الحجر في حدّ بلوغ الصبي والجارية.

( و ) بعض الأخبار الأوّلة كبعض ما سبقها في المجنون صريح في أنّ ( جنايتهما عمداً وخطأً على العاقلة ) مطلقا ، كما عليه الأصحاب ، لكن سيأتي في المجنون ما يوهم أخذ الدّية من ماله إن كان له مال ، وإلاّ فمن عاقلته ، إلاّ أنّه مع ضعف سنده غير صريح ، بل ولا ظاهر في قتله حال الجنون ، بل ظاهره ورود الحكم فيه بذلك في صورة اشتباه وقوع قتله حال جنونه أو إفاقته.

وكيف كان فلا شبهة فيما ذكره الأصحاب.

( و ) لكن ( في رواية ) أنّه ( يقتصّ من الصبي إذا بلغ عشراً ) قيل : وبها أفتى الشيخ في النهاية والمبسوط والاستبصار (٤) ، ولم نظفر بها كذلك مسندة هنا ، وإن ذكرها جملة من الأصحاب (٥) كذلك ، ولكن آخرون‌

__________________

(١) روضة المتقين ١٠ : ٣٤١.

(٢) التهذيب ١٠ : ٢٣٣ / ٩٢١ ، الوسائل ٢٩ : ٤٠٠ أبواب العاقلة ب ١١ ح ٣.

(٣) قرب الإسناد : ١٥٥ / ٥٦٩ ، الوسائل ٢٩ : ٩٠ أبواب القصاص في النفس ب ٣٦ ح ٢.

(٤) كشف اللثام ٢ : ٤٥٦ ، وهو في النهاية : ٧٦٠ ، المبسوط ٧ : ٤٤ ، الاستبصار ٤ : ٢٨٧.

(٥) السرائر ٣ : ٣٢٥ ، القواعد ٢ : ٢٩٢ ، التحرير ٢ : ٢٤٩ ، المفاتيح ٢ : ١٢٦.

٢٥٢

منهم (١) اعترفوا بما ذكرناه ، فهي مرسلة لا تصلح للحجيّة ، فضلاً أن يعترض بها الأدلّة المتقدّمة ، المعتضدة بالشهرة العظيمة التي كادت تكون إجماعاً ، بل لعلّها إجماع في الحقيقة.

وأمّا الصحيح : عن غلام لم يدرك وامرأة قتلا رجلاً؟ فقال : « إنّ خطأ المرأة والغلام عمد ، فإن أحبّ أولياء المقتول أن يقتلوهما قتلوهما » الحديث (٢).

فشاذّ ، مخالف للإجماع ؛ إذ لا قائل بأنّ خطأ الصبي والمرأة عمد ، ولذا حمل الشيخ رحمه‌الله الخطأ فيه على العمد ، بناءً على ما يعتقده بعض العامة من أنّ عمدهما خطأ ؛ لأنّ من قتل غيره بغير حديد كان ذلك خطأً ويسقط القود (٣) ، فكأنّه عليه‌السلام قال : إنّ عمدهما الذي يزعمه هؤلاء خطأً عمد.

ونحوه في الشذوذ ما دلّ على أنّه إذا بلغ ثمان سنين جاز أمره في ماله ، وقد وجب عليه الفرائض والحدود (٤) ، مع قصور سنده.

( وفي ) رواية ( أُخرى ) للسكوني عن الصادق عليه‌السلام ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : « عن رجل وغلام اشتركا في قتل رجل ، فقال : ( إذا

__________________

(١) كنز الفوائد ٣ : ٧٠١ ، إيضاح الفوائد ٤ : ٦٠٠ ، التنقيح ٤ : ٤٢٩ ، المسالك ٢ : ٤٦٨ ، كشف اللثام ٢ : ٤٥٦.

(٢) الكافي ٧ : ٣٠١ / ١ ، الفقيه ٤ : ٨٣ / ٢٦٧ ، التهذيب ١٠ : ٢٤٢ / ٩٦٣ ، الوسائل ٢٩ : ٨٧ أبواب القصاص في النفس ب ٣٤ ح ١.

(٣) التهذيب ١٠ : ٢٤٣ ، الاستبصار ٤ : ٢٨٧ ، انظر المبسوط للسرخسي ١١ : ١٢٠ ، بدائع الصنائع ٧ : ١٨٠ ، المغني لابن قدامة ٩ : ٣٢٤.

(٤) التهذيب ٩ : ١٨٣ / ٧٣٦ ، الوسائل ١٩ : ٢١٢ أبواب أحكام الوقوف والصدقات ب ١٥ ح ٤.

٢٥٣

بلغ ) الغلام ( خمسة أشبار ) اقتصّ منه ، وإن لم يكن قد بلغ خمسة أشبار قضى بالدية » (١).

( و ) ليس فيها كما ترى أنّه ( تقام عليه الحدود ) كما ذكره الماتن ، وبمضمونها أفتى الشيخان والصدوق وجماعة (٢).

وقصور سندها مع عدم مكافأتها لما مضى يوهن العمل بها ( و ) يتعيّن العمل بما هو ( الأشهر ) من ( أنّ عمده خطأ حتى يبلغ التكليف ) لما مضى ، مع تأيّده بلزوم الاحتياط في الدماء.

وليس في شي‌ء من النصوص وأكثر الفتاوي اعتبار الرشد بعد البلوغ.

خلافاً للفاضل في التحرير (٣) ، فاعتبره. ولم أعلم مستنده ، كما اعترف به جماعة (٤) ، وتأوّله بعض المحشّين عليه بأنّ مراده من الرشد هنا كمال العقل ؛ ليخرج المجنون ، لا إصلاح المال ؛ لقبول إقرار السفيه كما سيأتي. ولا بأس به ؛ صوناً لفتوى مثله عن مثله.

ثم إنّ ما ذكر من أنّه لا يقاد المجنون بغيره إنّما هو إذا قتل حال جنونه ( أمّا لو قتل العاقل ثم جنّ لم يسقط القود ) بلا خلاف يظهر ؛ للأصل.

والخبر القريب من الصحيح : عن رجل قتل رجلاً عمداً فلم يقم عليه‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٠٢ / ١ ، الفقيه ٤ : ٨٤ / ٢٧٠ ، التهذيب ١٠ : ٢٣٣ / ٩٢٢ ، الإستبصار ٤ : ٢٨٧ / ١٠٨٥ ، الوسائل ٢٩ : ٩٠ أبواب القصاص في النفس ب ٣٦ ح ١.

(٢) المفيد في المقنعة : ٧٤٨ ، الشيخ في النهاية : ٧٦١ ، الصدوق في المقنع : ١٨٦ ؛ مجمع الفائدة ١٤ : ٩.

(٣) التحرير ٢ : ٢٤٩.

(٤) منهم الشهيد الثاني في الروضة ١٠ : ٦٦ ، والفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٤٥٦.

٢٥٤

الحدّ ولم تصح الشهادة حتى خولط وذهب عقله ، ثم إنّ قوماً آخرين شهدوا عليه بعد ما خولط أنّه قتله؟ فقال : « إن شهدوا عليه بأنّه قتله حين قتله وهو صحيح ليس به علّة من فساد عقل قتل به ، وإن لم يشهدوا عليه بذلك وكان له مال يعرف دفع إلى ورثة المقتول الدية من مال القاتل ، وإن لم يترك مالاً أعطي الدية من بيت المال ، ولم يطلّ دم امرئ مسلم » (١).

( ولو قتل البالغ الصبي ) مع التكافؤ من غير جهة البلوغ ( قتل به على الأشبه ) الأشهر ، بل عليه عامّة من تأخّر ؛ للعمومات السليمة هنا عن المعارض.

مضافاً إلى ظاهر خصوص المرسل : « كلّ من قتل شيئاً صغيراً أو كبيراً بعد أن يتعمّد فعليه القود » (٢).

خلافاً للحلبي (٣) ، فأوجب الدية كالمجنون ؛ لاشتراكهما في نقصان العقل.

ويضعّف بأنّ المجنون خرج بدليل من خارج كما يأتي ، وإلاّ كانت العمومات متناولة له ، بخلاف الصبي ، مع أنّ الفرق بينهما متحقّق ، كذا ردّه جماعة (٤).

وله أنّ يقول : إنّ النصّ المخرج للمجنون مخرج للصبي أيضاً ، وإن‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٢٩٥ / ١ ، الفقيه ٤ : ٧٨ / ٢٤٢ ، التهذيب ١٠ : ٢٣٢ / ٩١٥ ، الوسائل ٢٩ : ٧٢ أبواب القصاص في النفس ب ٢٩ ح ١.

(٢) الفقيه ٤ : ٨٣ / ٢٦٥ ، التهذيب ١٠ : ١٦٢ / ٦٤٨ ، الوسائل ٢٩ : ٥٣ أبواب القصاص في النفس ب ١٩ ح ٥.

(٣) الكافي في الفقه : ٣٨٤.

(٤) منهم العلاّمة في المختلف : ٨٠٠ ، وابن فهد في المهذّب البارع ٥ : ١٩٥ ، والشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٤٦٨ ، والفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٤٥٦.

٢٥٥

كان نصّاً في الأوّل وظاهراً في الثاني ؛ لقوله عليه‌السلام : « فلا قود لمن لا يقاد منه » (١) وهو عامّ ، ووروده في خصوص المورد لا يوجب التخصيص ، كما قرّر في الأُصول.

مع تأيّده بما ورد من مثله في الحدود ، وهو أنّه « لا حد لمن لا حدّ عليه » (٢) وبلزوم الاحتياط في الدم.

وهو غير بعيد ، إلاّ أنّ الاكتفاء بمثل هذا الظهور في رفع اليد عن العمومات القطعية من الكتاب والسنّة وظاهر المرسلة المعتضدة بالشهرة العظيمة التي كادت تكون لنا الآن إجماع الطائفة في غاية الجرأة ، وإن كان الاحتياط للأولياء معه ، فلا يختاروا قتله ، بل يصالحوا عنه بالدية.

( ولا يقتل العاقل بالمجنون ) بلا خلاف أجده ، وبه صرّح في الغنية (٣) ، بل عليه الإجماع في السرائر (٤) ؛ للصحيح : عن رجل قتل رجلاً مجنوناً؟ فقال : « إن كان المجنون أراده فدفعه عن نفسه فقتله فلا شي‌ء عليه من قود ولا دية ، ويعطى ورثته الدية من بيت مال المسلمين ، وإن كان قتله من غير أن يكون المجنون أراده فلا قود لمن لا يقاد منه ، وأرى أنّ على قاتله الدية في ماله يدفعها إلى ورثة المجنون ، ويستغفر الله عزّ وجلّ ويتوب إليه » (٥).

__________________

(١) الكافي ٧ : ٢٩٤ / ١ ، الفقيه ٤ : ٧٥ / ٢٣٤ ، التهذيب ١٠ : ٢٣١ / ٩١٣ ، الوسائل ٢٩ : ٧١ أبواب القصاص في النفس ب ٢٨ ح ١.

(٢) الكافي ٧ : ٢٥٣ / ١ ، ٢ ، الفقيه ٤ : ٣٨ / ١٢٥ ، التهذيب ١٠ : ١٩ ، ٨٣ / ٥٩ ، ٣٢٥ ، الوسائل ٢٨ : ٤٢ أبواب مقدمات الحدود ب ١٩ ح ١.

(٣) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦١٩.

(٤) السرائر ٣ : ٣٦٩.

(٥) تقدّم في ص ٢٥٤.

٢٥٦

وفيه الدلالة أيضاً على بعض ما ذكره بقوله : ( وتثبت الدية على العاقل إن كان ) قتله ( عمداً أو شبيهاً ) به ( وعلى العاقلة إن كان خطأً )

( ولو قصد العاقل دفعه ) عن نفسه بعد أن أراده ، فآل إلى قتله ( كان ) دم المجنون ( هدراً ) لا دية له على العاقل ، ولا عاقلته ، اتفاقاً ظاهراً ، فتوًى ونصّاً خاصّاً ، وهو الصحيح المتقدم ، وعامّاً ، وهو كثير ، وشطر منه قد تقدّم في كتاب الحدود في أواخر الفصل السادس في حدّ المحارب.

وظاهر إطلاق العبارة ونحوها أنّه لا دية له أصلاً ، كما عن النهاية والمهذّب والسرائر (١) ، ويقتضيه عموم نصوص الدفع.

خلافاً للمحكي عن المفيد والجامع (٢) ، فأثبتاها في بيت المال ، كما في الصحيحة ، ويقتضيه عموم : « لا يطلّ دم امرئ مسلم » (٣) المروي في المعتبرة.

ورواية أبي الورد المعتبرة برواية الحسن بن محبوب عنه ، وهو ممّن أجمع على تصحيح ما يصحّ عنه العصابة : رجل حمل عليه رجل مجنون بالسيف فضربه المجنون ضربة ، فتناول الرجل السيف من المجنون فضربه فقتله ، فقال : « أرى أن لا يقتل به ، ولا يغرم ديته ، وتكون ديته على الإمام ، ولا يطلّ دمه » (٤).

ونفى عنه البأس الصيمري في شرح الشرائع ، قال : والمشهور سقوط‌

__________________

(١) النهاية : ٧٥٩ ، المهذّب ٢ : ٥١٤ ، السرائر ٣ : ٣٦٨.

(٢) المفيد في المقنعة : ٧٤٨ ، الجامع للشرائع : ٥٧٥.

(٣) انظر الوسائل ٢٩ : ٨٩ أبواب القصاص في النفس ب ٣٥.

(٤) الكافي ٧ : ٢٩٤ / ٢ ، التهذيب ١٠ : ٢٣١ / ٩١٤ ، الوسائل ٢٩ : ٧١ أبواب القصاص في النفس ب ٢٨ ح ٢.

٢٥٧

القود والدية معاً ؛ لأنّ الدفع إمّا مباح أو واجب ، فلا يتعقّبه ضمان (١).

وفي هذا الدليل ما ترى ؛ لأنّ مقتضاه نفي الأمرين عن القاتل لا مطلقاً.

وقريب منه الاستدلال بنصوص الدفع ؛ لعدم معلومية شمول إطلاقها لمحل البحث ، بل ظاهرها كون الحكم بالهدرية مقابلةً للمحارب ومؤاخذةً له بما له من القصد والنية ، وليس ذلك في المجنون بلا شبهة ، وجواز دفاعه إنّما هو لأجل حفظ النفس المحترمة ، لا المؤاخذة له بالقصد والنية ، فلا غرو في وجوب الدية لدم المجنون ؛ لأنّ نفسه أيضاً محترمة حيث لم يستصحبها فساد قصد ونيّة ، والشارع لما رخّص في إتلافها من غير تقصير من جهتها تداركها بالدية.

فالقول بثبوتها لا يخلو عن قوة ، سيّما مع استفادته ممّا عرفت من المعتبرة بالصحة والقرب منها بما عرفته ، وإن وقع الاختلاف بينها بدلالة الصحيحة بكونها في بيت المال ، والقريبة منها بكونها على الإمام ، لكن الجمع بينهما ممكن بحمل الأخيرة على الصحيحة ، والعكس وإن أمكن ، إلاّ أنّه مع بعده لا قائل به ، مع استلزامه ترجيح ما ليس بحجة على الحجة ، وهو فاسد بالبديهة.

ويظهر من الماتن هنا وفي الشرائع (٢) نوع تردّد له في المسألة ، حيث أشار إلى الرواية الصحيحة بقوله : ( وفي رواية ديته من بيت المال ) (٣)

__________________

(١) غاية المرام ٤ : ٣٨٧.

(٢) الشرائع ٤ : ٢١٦.

(٣) الكافي ٧ : ٢٩٤ / ١ ، الفقيه ٤ : ٧٥ / ٢٣٤ ، التهذيب ١٠ : ٢٣١ / ٩١٣ ، الوسائل ٢٩ : ٧١ أبواب القصاص في النفس ب ٢٨ ح ١ ؛ وقد تقدّمت في ص ٢٥٤.

٢٥٨

ولم يُجب عنها بالمرّة.

نعم فتواه أوّلاً بالهدرية مطلقاً ظاهرة في ترجيحه له ، ونحوه كلام الفاضل في التحرير (١). وفيه ما عرفته.

( ولا قود على النائم ) إجماعاً ، فتوًى ونصّاً ، وللأصل ، مع انتفاء التعمّد المشترط في شرعية الاقتصاص.

( و ) هل يثبت ( عليه الدية ) في خاصّة ماله مطلقاً ، أم على العاقلة كذلك ، أم على تفصيل يأتي ذكره في أوائل النظر الثاني من كتاب الديات؟

أقوال ، يأتي ذكرها مع تحقيق المسألة كما هو ثمة إن شاء الله تعالى.

( وفي ) القود من ( الأعمى ) إذا قتل من اقتصّ به لو كان بصيراً ( تردّد ) واختلاف ، فبين من نفاه وأثبت الدية على العاقلة استناداً إلى الرواية الآتية ، كالصدوق والشيخ في النهاية والإسكافي والقاضي وابن حمزة وجماعة (٢).

وبين من جعل ( أشبهه : أنّه كالمبصر في توجّه القصاص ) كالحلّي (٣) وعامّة المتأخّرين على الظاهر ، المصرّح به في المسالك (٤) لوجود المقتضي له ، وهو قصده إلى القتل ، وانتفاء المانع ؛ لأنّ العمى لا يصلح مانعاً مع اجتماع شروط القصاص من التكليف والقصد ونحوهما ، كما هو الفرض ، فيشمله عموم الآيات والروايات.

__________________

(١) التحرير ٢ : ٢٤٩.

(٢) الصدوق في الفقيه ٤ : ٨٥ ، النهاية : ٧٦٠ ، حكاه عن الإسكافي في المختلف : ٧٩٩ ، القاضي في المهذّب ٢ : ٤٩٥ ، ابن حمزة في الوسيلة : ٤٥٥ ، الشهيد في غاية المراد ٤ : ٣٤٢ ، الفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٤٥٧ ، وحكاه الشهيد عن الصهرشتي والطبرسي أيضاً.

(٣) السرائر ٣ : ٣٦٨.

(٤) المسالك ٢ : ٤٦٨.

٢٥٩

( و ) لكن ( في رواية الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام : أنّ جنايته خطأ تلزم العاقلة ، فإن لم يكن له عاقلة فالدية في ماله ، وتؤخذ في ثلاث سنين ) (١).

ونحوها في الدلالة على أن عمده خطأ رواية أُخرى موثقة : « عمد الأعمى مثل الخطأ فيه الدية من ماله ، فإن لم يكن له مال فإنّ دية ذلك على الإمام ، ولا يبطل حق مسلم » (٢).

وضعّفتا باشتراكهما في ضعف السند ، واختلافهما في الحكم ، ومخالفتهما الأُصول ؛ لاشتمال الاولى على كون الدّية تجب ابتداءً على العاقلة ، ومع عدمها تجب على الجاني ، والثانية على إيجابها على الجاني مع تموّله ، ومع عدمه على الإمام ، ولم يوجبها على العاقلة وظاهر اختلاف الحكمين ومخالفتهما لحكم الخطأ ، فتكونان شاذّتين من هذا الوجه.

( و ) لعلّه مراد الماتن في جوابه عن الرواية الأُولى بقوله : فـ ( هذه ) الرواية ( فيها ) أي يرد عليها ( مع الشذوذ ) أي مضافاً إليه ( تخصيص لعموم الآية ) والسنّة القطعيتين ، وهو غير جائز عند جماعة من المحقّقين (٣) ، ومنهم الماتن.

وهذا جواب ثالث ، ولم يذكره من أجاب بالأوّلين وأبد له بآخر ، وهو عدم الصراحة في الدلالة ؛ لجواز كون قوله : « خطأ » حالاً والجملة الفعلية بعده الخبر ، وإنّما يتمّ استدلالهم بها على تقدير جعله مرفوعاً على الخبرية.

__________________

(١) الفقيه ٤ : ١٠٧ / ٣٦١ ، التهذيب ١٠ : ٢٣٢ / ٩١٨ ، الوسائل ٢٩ : ٣٩٩ أبواب العاقلة ب ١٠ ح ١.

(٢) الكافي ٧ : ٣٠٢ / ٣ ، الفقيه ٤ : ٨٥ / ٢٧١ ، التهذيب ١٠ : ٢٣٢ / ٩١٧ ، الوسائل ٢٩ : ٨٩ أبواب القصاص في النفس ب ٣٥ ح ١.

(٣) منهم ابن إدريس في السرائر ٣ : ٣٦٨ ، والفاضل المقداد في التنقيح الرائع ٤ : ٤٣٢ ، والمحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة ١٤ : ١٥.

٢٦٠