رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٦

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٦

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-278-4
الصفحات: ٦١١

مدينة ، فديته تدفع إلى أوليائه من بيت المال » (١).

وفيه دلالة على اعتبار التهمة في القسامة من وجه آخر ، بل وجهين ، كما لا يخفى على من تدبّر سياقه.

وبالجملة : لا ريب في اعتبار اللوث ولا شبهة.

( وهو أمارة ) تقرن الدعوى بحيث ( يغلب معها الظن بصدق المدّعى ) في دعواه ، وذلك بالنسبة إلى الحاكم ، أمّا المدّعى فلا بُدّ أن يكون عالماً جازماً بما يدّعيه ؛ لما مرّ من اشتراط الجزم في المدّعى (٢).

وسمّيت هذه الأمارة لوثاً لإفادتها قوة الظن ، فإنّه في اللغة بفتح اللام : القوة (٣).

وهي ( كما لو وجد ) قتيل ( في دار قوم أو محلّتهم أو قريتهم ) (٤) مع صغرها وانفصال المحلّة عن البلد الكبير ، لا مطلقاً كما ذكره بعض الأصحاب (٥) مزيداً في التقييد شيئاً آخر ، وهو أن يكون بين القتيل وأهلها عداوة ظاهرة.

( أو ) وجد ( بين قريتين وهو إلى إحداهما أقرب ، فهو لوث ) لأقربهما ، كما في الصحيح والموثق : عن الرجل يوجد قتيلاً في القرية ، أو بين قريتين؟ قال : « يقاس ما بينهما فأيّهما كانت أقرب ضمنت » (٦).

__________________

(١) التهذيب ١٠ : ٢٠٦ / ٨١٢ ، الإستبصار ٤ : ٢٧٨ / ١٠٥٤ ، الوسائل ٢٩ : ١٥٣ أبواب دعوى القتل ب ٩ ح ٦.

(٢) في « ن » : الدعوى.

(٣) الصحاح ١ : ٢٩١ ، القاموس ١ : ١٨٠ ، تهذيب اللغة ١٥ : ١٢٨.

(٤) في المختصر المطبوع زيادة : أو بين قريتهم ..

(٥) كشف اللثام ٢ : ٤٦٠.

(٦) الكافي ٧ : ٣٥٦ / ١ ، الفقيه ٤ : ٧٤ / ٢٢٤ ، التهذيب ١٠ : ٢٠٤ / ٨٠٥ ، ٨٠٦ ، الإستبصار ٤ : ٢٧٧ / ١٠٥٠ ، ١٠٥١ ، الوسائل ٢٩ : ١٤٩ أبواب دعوى القتل وما يثبت به ب ٨ ح ٤.

٢٨١

( ولو تساوت مسافتهما كانتا سواء في اللوث ) وإن ثبت العداوة لإحداهما دون الأُخرى فاللوث لها وإن كانت أبعد.

وكما لو تفرّق جماعة عن قتيل في دار كان قد دخل عليهم ضيفاً ، أو دخلها معهم في حاجة.

وكما لو وجد قتيل وعنده رجل ومعه سلاح متلطّخ بالدم ، ولو كان بقربه سبع أو رجل آخر مولٍّ ظهره لم يوجب ذلك اللوث في حقه.

وكما إذا شهد عدل واحد أو شهد عبيد أو نسوة ، أمّا الصبيان والفسّاق وأهل الذمّة فالمشهور كما في المسالك وغيره (١) عدم حصول اللوث بأخبارهم ؛ لعدم العبرة بشهادتهم.

خلافاً للتحرير والمسالك وغيرهما (٢) ، فقالوا بإفادته اللوث مع حصول الظن. وهو حسن.

قالوا : ولا يشترط في اللوث وجود أثر القتل ؛ لإمكان حصوله بالخنق ، وعصر الخصية (٣) ، والقبض على مجرى النفس ، ونحو ذلك.

ولا حضور المدّعى عليه ؛ لجواز القضاء على الغائب ، ومن منعه اشترطه.

ولا عدم تكذيب أحد الوليّين صاحبه ، فإنّه لا يقدح فيه.

ولو لم يحصل اللوث فالحكم فيه كغيره من الدعاوي ؛ عملاً بالعموم ، قيل : بل للوليّ إحلاف المنكر يميناً واحدة ولو حصل (٤).

واعلم أنّ ما لا لوث فيه كما أشار إليه الماتن بقوله : ( أمّا من جهل

__________________

(١) المسالك ٢ : ٤٧٣ ، المفاتيح ٢ : ١٢٢.

(٢) التحرير ٢ : ٢٥٢ ، المسالك ٢ : ٤٧٣ ، المفاتيح ٢ : ١٢٢.

(٣) في « س » : القضيب.

(٤) قاله العلاّمة في التحرير ٢ : ٢٥٢.

٢٨٢

قاتله ) ولم يحصل في قضيّته اللوث ( كقتيل الزحام ، والفزعات ، ومن وجد في فلاة ، أو معسكر ، أو في سوق ، أو جمعة ، فديته من بيت المال ) بلا خلاف أجده ، بل عليه الإجماع في الغنية (١).

والمعتبرة به مع ذلك مستفيضة ، منها زيادةً على الصحيحة المتقدمة الصحيح : « قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل وجد مقتولاً لا يُدرى من قتله ، قال : إن كان عرف له أولياء يطلبون ديته أُعطوا ديته من بيت مال المسلمين ، ولا يطلّ دم امرئ مسلم ؛ لأنّ ميراثه للإمام فكذلك تكون ديته على الإمام ، ويصلّون عليه ، ويدفنونه ، وقضى في رجل زحمه الناس يوم الجمعة في زحام الناس فمات ، أنّ ديته من بيت مال المسلمين » (٢) ونحوه صحيح آخر في قتيل الزحام (٣).

وفي القوي : « ليس في الهايشات عقل ولا قصاص » والهايشات : الفزعة تقع في الليل والنهار فيشجّ الرجل فيها ، أو يقع قتيل لا يدرى من قتله وشجّه (٤).

وقال عليه‌السلام في حديث آخر : « رفع إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فودّاه من بيت المال » (٥).

وفي الخبر : « من مات في زحام الناس يوم الجمعة ، أو يوم عرفة ، أو‌

__________________

(١) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢١.

(٢) الكافي ٧ : ٣٥٤ / ١ ، التهذيب ١٠ : ٢٠٢ / ٧٩٩ ، الوسائل ٢٩ : ١٤٥ أبواب دعوى القتل وما يثبت به ب ٦ ح ١.

(٣) الكافي ٧ : ٣٥٥ / ٥ ، التهذيب ١٠ : ٢٠٢ / ٧٩٨ ، الوسائل ٢٩ : ١٤٦ أبواب دعوى القتل وما يثبت به ب ٦ ح ٢.

(٤) الكافي ٧ : ٣٥٥ / ٦ ، التهذيب ١٠ : ٢٠٣ / ٨٠٢ ، الوسائل ٢٩ : ١٤٦ أبواب دعوى القتل وما يثبت به ب ٦ ح ٣.

(٥) الكافي ٧ : ٣٥٥ / ذيل ح ٦ ، الوسائل ٢٩ : ١٤٦ أبواب دعوى القتل وما يثبت به ب ٦ ح ٤.

٢٨٣

على جسر لا يعلمون من قتله ، فديته من بيت المال » (١) ونحوه القوي بزيادة : « أو عيد ، أو على بئر » (٢) إلى غير ذلك من النصوص.

ولعلّ الحكمة فيه حصول القتل من المسلمين ، فتؤخذ الدية من أموالهم المعدّة لمصالحهم.

( ومع ) تحقق ( اللوث يكون للأولياء ) أي أولياء المقتول ( إثبات الدعوى ) دعوى القتل على المتّهم مطلقاً ( بالقسامة ) إجماعاً منّا على الظاهر ، المصرّح به في كثير من العبائر ، كالمهذّب والتنقيح (٣) ، وهو الحجّة المخصِّصة للأصل المتقدم إليه الإشارة.

مضافاً إلى الصحاح المستفيضة وغيرها من المعتبرة ، البالغة حدّ التواتر ، وقد مرّ إلى جملة منها الإشارة ، وسيأتي جملة أُخرى منها وافية ، مع أنّه لم ينقل الخلاف في شرعيّتها إلاّ عن أبي حنيفة (٤).

( وهي في العمد خمسون يميناً ) إجماعاً على الظاهر ، المصرّح به في جملة من العبائر ، كالتنقيح وشرح الشرائع للصيمري والروضة ونكت الإرشاد والمسالك (٥) ، ولكن في الأخيرين نفي الخلاف عنه.

وكأنّهم لم يعتدّوا بخلاف ابن حمزة حيث قال : إنّها خمسة وعشرون في العمد إذا كان هناك شاهد واحد (٦).

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٥٥ / ٤ ، التهذيب ١٠ : ٢٠١ / ٧٩٦ ، الوسائل ٢٩ : ١٤٦ أبواب دعوى القتل وما يثبت به ب ٦ ح ٥.

(٢) الفقيه ٤ : ١٢٢ / ٤٢٧ ، الوسائل ٢٩ : ١٤٧ أبواب دعوى القتل وما يثبت به ب ٦ ذيل ح ٥.

(٣) المهذّب البارع ٥ : ٢١٥ ، التنقيح الرائع ٤ : ٤٤٠.

(٤) حكاه عنه في التنقيح ٤ : ٤٤٠ ، المبسوط للسرخسي ٢٦ : ١٠٨.

(٥) التنقيح ٤ : ٤٤٠ ، غاية المرام ٤ : ٣٩٦ ، الروضة ١٠ : ٧٣ ، نكت الإرشاد ٤ : ٤٢٨ ، المسالك ٢ : ٤٧٣.

(٦) الوسيلة : ٤٦٠.

٢٨٤

ووجهه مع ندرته غير واضح ، عدا ما قيل له من أنّه مبني على أنّ الخمسين بمنزلة شاهدين (١).

وهو اعتبار ضعيف لا تساعده الأدلّة ، بل إطلاقها من الفتوى والرواية على خلافه واضحة المقالة ، مع مخالفته الأصل والاحتياط بلا شبهة.

( وفي الخطأ ) وشبهه ( خمسة وعشرون على الأظهر ) وفاقاً للشيخ في كتبه الثلاثة ، والقاضي والصهرشتي والطبرسي وابن حمزة والفاضلين هنا وفي الشرائع والمختلف ، ويميل إليه الشهيدان في النكت والمسالك والفاضل المقداد في التنقيح (٢) وغيرهم من المتأخرين (٣) ، وجعله المشهور في القواعد (٤) ، وادّعى عليه الشيخ إجماع الطائفة (٥) ، ونسبه في الغنية (٦) إلى رواية الأصحاب مشعراً بالإجماع عليها ، وهو الحجة.

مضافاً إلى المعتبرة ، ففي الصحيح : « القسامة خمسون رجلاً في العمد ، وفي الخطإ خمسة وعشرون رجلاً ، وعليهم أن يحلفوا بالله تعالى » (٧).

__________________

(١) قال به الفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٤٦١.

(٢) المبسوط ٧ : ٢١١ ، الخلاف ٥ : ٣٠٨ ، النهاية : ٧٤٠ ، القاضي في المهذّب ٢ : ٥٠٠ ، وحكاه عن الصهرشتي والطبرسي في غاية المراد ٤ : ٤٢٩ ، الوسيلة : ٤٦٠ ، الشرائع ٤ : ٢٢٤ ، المختلف : ٧٨٩ ، النكت ٤ : ٤٢٩ ، المسالك ٢ : ٤٧٢ ، التنقيح ٤ : ٤٤١.

(٣) الفاضل الآبي في كشف الرموز ٢ : ٦١٨ ، ابن فهد في المقتصر : ٤٣٣ ، وانظر المهذب البارع ٥ : ٢١٨ ، مجمع الفائدة ١٤ : ١٩٣.

(٤) القواعد ٢ : ٢٩٧.

(٥) الخلاف ٥ : ٣٠٨.

(٦) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٥.

(٧) الكافي ٧ : ٣٦٣ / ١٠ ، التهذيب ١٠ : ١٦٨ / ٦٦٧ ، الوسائل ٢٩ : ١٥٨ أبواب دعوى القتل وما يثبت به ب ١١ ح ١.

٢٨٥

وفي آخر وغيره : « والقسامة جعل في النفس على العمد خمسين رجلاً ، وجعل في النفس على الخطأ خمسة وعشرين رجلاً » (١).

وهي مع صحة سند أكثرها ، واعتضادها بالإجماع المنقول لا معارض لها ، كما ستعرف إن شاء الله تعالى.

ومؤيّدة بما استدل به في المختلف ، فقال : لنا أنّه أدون من قتل العمد ، فناسب تخفيف القسامة ؛ ولأنّ التهجّم على الدم بالقود أضعف من التهجّم على أخذ الدية فكان التشدّد في إثبات الأوّل أولى (٢).

خلافاً للمفيد والديلمي والحلّي وغيرهم (٣) ، فساووا بينه وبين العمد في الخمسين ، واختاره الفاضل في صريح الإرشاد والقواعد وظاهر التحرير ، وولده في الإيضاح والشهيدان في اللمعتين (٤).

ومستندهم غير واضح ، عدا الأصل ، والاحتياط ، وإطلاقات الأخبار بالخمسين ، والأوّل : مخصَّص بما مرّ ، والثاني : معارض بالمثل ، فإنّ زيادة الأيمان على الحالف تكليف ينافي إلزام المكلّف به طريقة الاحتياط ، والأخبار لا إطلاق لها ؛ فإنّها ما بين نوعين :

نوع ورد في قضيّة عبد الله بن سهل ، وسياقها أجمع ظاهر ، بل صريح في قتله عمداً ، فإنّ من جملتها الصحيح : « إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينما هو‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٦٢ / ٩ ، التهذيب ١٠ : ١٦٩ / ٦٦٨ ، الوسائل ٢٩ : ١٥٩ أبواب دعوى القتل وما يثبت به ب ١١ ح ٢.

(٢) المختلف : ٧٨٩.

(٣) المفيد في المقنعة : ٧٣٦ ، الديلمي في المراسم : ٢٣٢ ، الحلّي في السرائر ٣ : ٣٣٨ ، وحكاه في المختلف عن ابن الجنيد : ٧٨٩ ، وقال الشهيد في غاية المراد ٤ : ٤٢٨ : ويلوح من كلام ابن زهرة وتبعه الكيدري.

(٤) الإرشاد ٢ : ٢١٩ ، القواعد ٢ : ٢٩٧ ، التحرير ٢ : ٢٥٢ ، إيضاح الفوائد ٤ : ٦١٥ ، اللمعة والروضة البهية ١٠ : ٧٣.

٢٨٦

بخيبر إذ فقدت الأنصار رجلاً منهم فوجدوه قتيلاً ، فقالت الأنصار : إنّ فلاناً اليهودي قتل صاحبنا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للطالبين : أقيموا رجلين عدلين من غيركم أقيده برمّته ، فإن لم تجدوا شاهدين فأقيموا قسامة خمسين رجلاً أقيده برمّته ، فقالوا : يا رسول الله ما عندنا شاهدان من غيرنا وإنّا لنكره أن نقسم على ما لم نره ، فودّاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال : إنّما حقن دماء المسلمين بالقسامة لكي إذا رأى الفاجر الفاسق فرصة من عدوّه حجزه ذلك مخافة القسامة فكّف عن قتله ، وإلاّ حلف المدّعى عليه قسامة خمسين رجلاً ما قتلنا ولا علمنا قاتلاً ، وإلاّ أُغرموا الدية إذا وجدوا قتيلاً بين أظهرهم إذا لم يقسم المدّعون » (١) ونحوه غيره (٢).

وهو كما ترى ظاهر فيما ذكرناه ، مع أنّها على تقدير تسليم إطلاقها قضيّة في واقعة لا عموم لها ينفع المتنازع قطعاً.

ونوع ورد معلّلاً لشرعيّة القسامة بما مرّ في الصحيحة من العلّة ، وهي صريحة في اختصاصها بالعمد دون الخطاء وما يشبهه.

وبالجملة : لا ريب في ضعف هذه الأدلّة ، وعدم صلوحها للحجيّة فضلاً أن يعترض بها نحو الأدلّة السابقة ، مع ما هي عليه من الكثرة والخلوص عن شائبة الوهن والريبة.

فهذا القول ضعيف في الغاية ، وإن ادّعى عليه إجماع المسلمين في السرائر (٣) ، والشهرة في الروضة (٤) ؛ لظهور وهن الأوّل بمخالفة عظماء‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٦١ / ٤ ، التهذيب ١٠ : ١٦٦ / ٦٦١ ، الوسائل ٢٩ : ١٥٢ أبواب دعوى القتل وما يثبت به ب ٩ ح ٣.

(٢) الكافي ٧ : ٣٦١ / ٥ ، التهذيب ١٠ : ١٦٦ / ٦٦٢ ، الوسائل ٢٩ : ١٥٥ أبواب دعوى القتل وما يثبت به ب ١٠ ح ٣.

(٣) السرائر ٣ : ٣٣٨.

(٤) الروضة البهية ١٠ : ٧٣.

٢٨٧

الطائفة مع أنّه لم ينقل موافقاً له عدا المفيد خاصّة ، وعلى تقدير سلامته عن الوهن فهو معارض بإجماع الشيخ (١).

وبنحو هذا يجاب عن دعوى الشهرة ، فإنّها على تقدير تسليمها معارضة بنقل الشهرة على الخلاف في القواعد ، كما عرفته (٢).

وبالجملة : المذهب هو القول الأوّل ، وإن كان الثاني أحوط ، لكن لا مطلقا كما زعموه ، بل إذا بذل الحالف الزيادة برضاء ورغبة ، وإلاّ فإلزامه بها خلاف الاحتياط أيضاً ، كما عرفته.

وكيفيّتها أن يحلف المدّعى وأقاربه أوّلاً ، فإن بلغوا العدد المعتبر وحلف كل واحد منهم يميناً ، وإلاّ كرّرت عليهم بالسوية أو التفريق ، والتخيير إليهم كما لو زاد عددهم عن العدد المعتبر.

( ولو لم يكن للمدّعي قسامة ) أو امتنعوا كلًّا ، أو بعضاً ؛ لعدم العلم ، أو اقتراحاً حلف المدّعى ومن يوافقه إن كان ، وإلاّ ( كرّرت عليه الأيمان ) حتى يأتي بالعدد كملاً.

( ولو لم يحلف وكان للمنكر من قومه قَسامة ، حلف كل منهم حتى يكملوا ) العدد ( ولو لم يكن له قسامة ) يحلفون ( كرّرت عليه الأيمان حتى يأتي بـ ) تمام ( العدد ) وهذا التفصيل كما هو وإن لم يستفد من أخبار القسامة ، إلاّ أنّه لا خلاف فيه أجده ، بل عليه الإجماع في الغنية (٣).

وربما يتوهم من بعض النصوص حلف المنكر أوّلاً ، وإلاّ فأولياء الدم ، كالصحيح في قضية عبد الله بن سهل المتضمّن لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأولياء‌

__________________

(١) الخلاف ٥ : ٣٠٨.

(٢) راجع ص ٢٨٤.

(٣) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٥.

٢٨٨

الدم : « يحلف اليهود ، قالوا : كيف يحلف اليهود على أخينا قوم كفّار؟ قال : فاحلفوا أنتم ، قالوا : كيف نحلف » الحديث (١).

لكنّه محمول على عدم القصد إلى بيان الترتيب ، وإلاّ فالمعتبرة الواردة في تلك القضية مستفيضة بعكس الترتيب المذكور في هذه الصحيحة ، فمنها الصحيح : « فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم : فليقسم خمسون رجلاً منكم على رجل ندفعه إليكم ، قالوا : كيف نقسم على ما لم نر؟ قال : فيقسم اليهود ، قالوا : كيف نرضى باليهود » الحديث (٢).

ونحوه آخر ، وفي آخره : « وإلاّ حلف المدّعى عليه قسامة خمسين رجلاً ما قتلنا ولا علمنا له قاتلاً ، وإلاّ أُغرموا الدية إذا وجدوا قتيلاً بين أظهرهم إذا لم يقسم المدّعون » (٣).

ونحوهما الخبر ، وهو طويل ، وفي آخره : « فإذا ادّعى الرجل على القوم أنّهم قتلوا كانت اليمين لمدّعي الدم قبل المدّعى عليهم ، فعلى المدّعى أن يجي‌ء بخمسين يحلفون أنّ فلاناً قتل فلاناً ، فيدفع إليهم الذي حلف عليه ، وإن لم يقسموا فإنّ على الذين ادّعي عليهم أن يحلف منهم خمسون ما قتلنا » الخبر (٤). وهو صريح في اعتبار الترتيب.

ونحوه آخر : عن القسامة على من ، أعلى أهل القاتل أو على أهل‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٦٠ / ٢ ، التهذيب ١٠ : ١٦٨ / ٦٦٥ ، الوسائل ٢٩ : ١٥٥ أبواب دعوى القتل وما يثبت به ب ١٠ ح ١.

(٢) الكافي ٧ : ٣٦١ / ٥ ، التهذيب ١٠ : ١٦٦ / ٦٦٢ ، الوسائل ٢٩ : ١٥٥ أبواب دعوى القتل وما يثبت به ب ١٠ ح ٣.

(٣) الكافي ٧ : ٣٦١ / ٤ ، التهذيب ١٠ : ١٦٦ / ٦٦١ ، الوسائل ٢٩ : ١٥٢ أبواب دعوى القتل وما يثبت به ب ٩ ح ٣.

(٤) الكافي ٧ : ٣٦٢ / ٨ ، الفقيه ٤ : ٧٣ / ٢٢٣ ، التهذيب ١٠ : ١٦٧ / ٦٦٣ ، الوسائل ٢٩ : ١٥٦ أبواب دعوى القتل وما يثبت به ب ١٠ ح ٥.

٢٨٩

المقتول؟ قال : « على أهل المقتول » الحديث (١).

ويستفاد من سابقه أنّه لو كان المدّعى عليه أكثر من واحد يكتفى بحلف الجميع العدد من دون اشتراط حلف كل واحد منهم العدد ، كما عليه الشيخ في الخلاف (٢) ، مدّعياً عليه الوفاق.

خلافاً له في المبسوط ولغيره (٣) ، قالوا : لأنّ الدعوى واقعة على كل واحد منهم بالدم ، ومن حكمها حلف المنكر العدد.

وهو الوجه ؛ لضعف الخبر ، مع عدم جابر له في محل البحث.

مع عدم صراحته ؛ لاحتماله الحمل على كون الدعوى على القوم على واحد منهم ؛ لصحة الإضافة لأدنى ملابسة ، وربما يشير إلى كونه المراد من الرواية قوله عليه‌السلام في آخرها : « يحلفون أنّ فلاناً قتل فلاناً ، فيدفع إليهم » وهو ظاهر في أنّ المدّعى عليه واحد ، وإنّما أضاف الدعوى إلى القوم لكونه منهم.

والإجماع موهون ، سيّما مع مخالفة الناقل بنفسه.

لكن ظاهر جملة من الأخبار الواردة في قضية سهل هو الأوّل ؛ لظهورها في دعوى الأنصار على اليهود أنّهم قتلوا صاحبهم ، ومع ذلك فقد اكتفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم بأن يحلفوا خمسين ، ففي الصحيح : « خرج رجلان من الأنصار يصيبان من الثمار فتفرّقا فوجد أحدهما ميتاً ، فقال أصحابه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّما قتل صاحبنا اليهود » الحديث (٤) ،

__________________

(١) التهذيب ١٠ : ١٦٨ / ٦٦٦ ، الوسائل ٢٩ : ١٥٧ أبواب دعوى القتل وما يثبت به ب ١٠ ح ٦.

(٢) الخلاف ٥ : ٣١٤.

(٣) المبسوط ٧ : ٢٢٢ ، المسالك ٢ : ٤٧٤.

(٤) الكافي ٧ : ٣٦٠ / ٢ ، التهذيب ١٠ : ١٦٨ / ٦٦٥ ، الوسائل ٢٩ : ١٥٥ أبواب دعوى القتل وما يثبت به ب ١٠ ح ١.

٢٩٠

ونحوه غيره (١).

ولكن في الصحيح : « فقدت الأنصار رجلاً منهم فوجدوه قتيلاً ، فقالت الأنصار : إنّ فلاناً اليهودي قتل صاحبنا » الحديث (٢). وهو صريح في المخالفة لتلك ، والقضية واحدة ، والجمع بينهما يقتضي إرجاع تلك إلى هذه ؛ لصراحته دونها ؛ لاحتمالها الحمل على نحو ما مرّ ممّا يرجع إليه ، دونه.

وكيف كان لو حلف المدّعى عليه هو أو مع قومه بطلت الدعوى ، وأُخذت الدية من بيت المال ؛ لدخوله فيمن جهل قاتله ؛ ولئلاّ يطلّ دم امرئ مسلم.

ولخصوص الصحيح : « إذا لم يقم القوم المدّعون البيّنة على قتل قتيلهم ولم يقسموا بأنّ المتّهمين قتلوه ، حلّف المتّهمين (٣) بالقتل خمسين يميناً بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلاً ، ثم يؤدّي الدية إلى أولياء القتيل » (٤).

( ولو نكل ) عن الأيمان كلاًّ أو بعضاً ( الزم الدعوى ، عمداً ) كان القتل المدّعى عليه ( أو خطأ ) ولا تردّ اليمين على المدّعى على الأشهر الأقوى ، بل عليه عامّة متأخّري أصحابنا ؛ لظاهر الصحيح الثاني المتقدم من النصوص المتضمنة لحلف المدّعى أوّلاً ثم المدّعى عليه (٥).

ونحوه بعض المعتبرة ، المنجبر قصور سنده بالجهالة بالشهرة ،

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٦١ / ٣ ، الوسائل ٢٩ : ١٥٥ أبواب دعوى القتل وما يثبت به ب ١٠ ح ٢.

(٢) الكافي ٧ : ٣٦١ / ٤ ، التهذيب ١٠ : ١٦٦ / ٦٦١ ، الوسائل ٢٩ : ١٥٢ أبواب دعوى القتل وما يثبت به ب ٩ ح ٣.

(٣) في النسخ : حلف المتّهمون ، وما أثبتناه من المصدر هو الأنسب ، أي كان أبي حلّف المتهمين .. ثم يؤدّي الدية ..

(٤) التهذيب ١٠ : ٢٠٦ / ٨١٢ ، الإستبصار ٤ : ٢٧٨ / ١٠٥٤ ، الوسائل ٢٩ : ١٥٣ أبواب دعوى القتل وما يثبت به ب ٩ ح ٦.

(٥) راجع ص ٢٨٨.

٢٩١

ووجود ابن محبوب قبلها ، وقد حكي على تصحيح ما يصح عنه إجماع العصابة ، وفيه : « إذا وجد مقتول في قبيلة قوم حلفوا جميعاً ما قتلوه ولا يعلمون له قاتلاً ، فإن أبوا أن يحلفوا أُغرموا الدية فيما بينهم في أموالهم سواء بين جميع القبيلة من الرجال المدركين »(١).

خلافاً للمبسوط (٢) ، فقال : تردّ اليمين على المدّعى ، كما في سائر الدعاوي ، وظاهر عبارته الإجماع عليه. وهو شاذّ ، وإجماعه موهون.

وعليه فهل تردّ القَسامة ، أم يكتفى بيمين واحدة؟ وجهان ، والمحكي عن ظاهر عبارة المبسوط (٣) هو الأوّل.

وقيل : إن قلنا : إنّ الخمسين يمين واحدة فله الردّ ، وإلاّ فلا (٤).

( ويثبت الحكم في الأعضاء بالقسامة ) كثبوته بها في النفس ، بلا خلاف أجده ، بل عليه إجماعنا في المبسوط على ما حكاه عنه في التنقيح (٥) ، وهو أيضاً ظاهر غيره (٦) ، وهو الحجة ؛ مضافاً إلى النصوص الآتية. خلافاً لأكثر العامّة.

وهل يعتبر اقتران الدعوى هنا ( مع التهمة ) كما في النفس ، أم لا؟ ظاهر العبارة ونحوها الأوّل ، وهو صريح جماعة ، ومنهم الحلّي (٧) ، قيل : مدّعياً في ظاهر كلامه الإجماع عليه (٨) ، وهو الحجة ؛ مضافاً إلى بعض‌

__________________

(١) التهذيب ١٠ : ٢٠٦ / ٨١١ ، الإستبصار ٤ : ٢٧٨ / ١٠٥٣ ، الوسائل ٢٩ : ١٥٣ أبواب دعوى القتل وما يثبت به ب ٩ ح ٥.

(٢) المبسوط ٧ : ٢٢٣.

(٣) المبسوط ٧ : ٢٢٣.

(٤) انظر كشف اللثام ٢ : ٤٦٢.

(٥) التنقيح ٤ : ٤٤٢ ، وهو في المبسوط ٧ : ٢٢٣.

(٦) الخلاف ٥ : ٣١٢.

(٧) السرائر ٣ : ٣٣٨.

(٨) قال به الفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٤٦٢.

٢٩٢

ما قدّمنا في اعتباره في أصل القسامة.

خلافاً للمحكي عن المبسوط (١) ، فاختار الثاني ، وحجته غير واضحة ، سيّما في مقابلة تلك الأدلّة.

( فما كانت ديته دية النفس كالأنف واللسان ) ونحوهما ( فالأشهر ) كما هنا وفي غيره ( أنّ ) عدد ( القسامة ستّة رجال ) وهو خيرة الشيخ وأتباعه (٢) ، وفي الغنية (٣) الإجماع عليه ، وهو الحجة.

مضافاً إلى المعتبرة المروية في الكتب الثلاثة ، وفيها الصحيح وغيره ، فيما أفتى به أمير المؤمنين عليه‌السلام في الديات ، ومن جملته في القسامة : « جعل على العمد خمسين رجلاً ، وجعل في النفس على الخطأ خمسة وعشرين رجلاً ، وعلى ما بلغت ديته من الجوارح (٤) ألف دينار ستّة نفر ، فما كان دون ذلك فبحسابه من ستّة نفر » الحديث (٥).

خلافاً للديلمي والحلّي (٦) ، فساويا بين النفس والأعضاء في اعتبار الخمسين ، أو خمسة وعشرين إن قلنا بها في الخطاء ، وإلاّ فالخمسين مطلقا ، وحكاه الثاني عن المفيد أيضاً ، واختاره أكثر المتأخّرين جدّاً ، لكن لم يذكروا الخمسة وعشرين في الخطأ ، بل ذكروا الخمسين مطلقا ، وفي‌

__________________

(١) حكاه عنه في كشف اللثام ٢ : ٤٦٢ ، وهو في المبسوط ٧ : ٢٢٣.

(٢) الشيخ في المبسوط ٧ : ٢٢٣ ، وتبعه ابن حمزة في الوسيلة : ٤٦٠ ، والقاضي في المهذب ٢ : ٥٠١.

(٣) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٥.

(٤) كذا ، وفي الكافي والوسائل : الجروح.

(٥) الكافي ٧ : ٣٦٢ / ٩ ، التهذيب ١٠ : ١٦٩ / ٦٦٨ ، الوسائل ٢٩ : ١٥٩ أبواب دعوى القتل وما يثبت به ب ١١ ح ٢.

(٦) المراسم : ٢٤٨ ، السرائر ٣ : ٣٤٠.

٢٩٣

المسالك وغيره (١) أنّه مذهب الأكثر بقول مطلق ، وفي غيرهما (٢) أنّه المشهور.

وحجتهم غير واضحة ، عدا مخالفة القَسامة للأصل ، كما تقدّم إليه الإشارة ، فيقتصر فيما خالفه على المتيقن من الفتوى والرواية ، وليس سوى الخمسين لا الستّة.

وهو حسن لولا ما مرّ من المعتبرة المتضمّنة للصحيح على المختار ، والحسن القريب منه على المشهور ، وكلاهما حجة على الأشهر الأظهر ، سيّما مع التأيّد بغيره ولو ضعف ، مع احتمال جبر ضعفه بالشهرة القديمة المحكيّة وحكاية الإجماع المتقدمة.

مع أنّها بنفسها حجة مستقلة ، لأنّ الشهرة المخالفة إنّما هي من المتأخرين خاصّة ، فلا تؤثّر في وهنها ؛ لأنّها سابقة ، وخروج نحو الديلمي والحلّي والمفيد على تقدير خروجه لا يؤثّر الوهن فيها بلا شبهة.

مع أنّ عمدة المتأخّرين وهو الفاضل قد احتاط بهذا القول في التحرير (٣) ، مشعراً باختياره الأوّل أو التردّد فيه وفي الثاني ، وفيه المختلف (٤) رجع عنه وصرّح باختياره الأوّل ، وإن نسبه في الإيضاح وغيره في غيره (٥) إلى الثاني ، لكنه وهم ، وإلى المختار ذهب الخال العلاّمة المجلسي والمقدّس الأردبيلي (٦) عليهما الرحمة.

__________________

(١) المسالك ٢ : ٤٧٤ ، مفاتيح الشرائع ٢ : ١٢٤.

(٢) غاية المراد ٤ : ٤٣١.

(٣) التحرير ٢ : ٢٥٣.

(٤) المختلف : ٧٨٩.

(٥) الإيضاح ٤ : ٦١٥ ، كنز الفوائد ٣ : ٧١٥.

(٦) ملاذ الأخيار ١٦ : ٣٤٥ ، مجمع الفائدة ١٤ : ١٩٣ ١٩٦.

٢٩٤

وعليه ( يقسم كل منهم ) أي من الستة رجال ( يميناً ، ومع عدمهم ) أو امتناعهم مطلقا ( يحلف الوليّ ) للدم ومن يوافقه إن كان ( ستّة أيمان ) (١) ( ولو لم يكن له قسامة ، أو امتنع ) الوليّ من الحلف وغيره ( أُحلف المنكر ) إن شاء ( مع قومه ستّة ) أيمان.

( ولو لم يكن له قوم ) أو امتنعوا كلاًّ أو بعضاً يحصل به العدد ( حلف هو ) أي المنكر ( الستّة ) أيمان.

( و ) فيـ ( ما كانت ديته دون دية النفس ) فيحلف ( بحساب الستّة ) ففي اليد الواحدة ثلاثة أيمان ، وفي الإصبع الواحدة يمين واحدة ، وكذا الجرح إن كان فيه ثلث الدية كانت فيه يمينان ، وهكذا.

وكذلك على القول الثاني ، لكن يبدّل فيه الستّة بالخمسين ، والثلاثة بالخمس وعشرين ، والواحدة بالخمس ، وهكذا.

ولا دليل لاعتبار نسبة الأقلّ إلى الأكثر على هذا القول كما ذكره المقدّس الأردبيلي (٢) رحمه‌الله مضعفاً له به عدا عدم الخلاف فيه الظاهر بلوغه حدّ الإجماع ، وحاصله الإجماع على اعتبارها ، وإن اختلفوا في الأكثر الذي ينسب إليه ، أهو ستّة ، أم خمسون؟

وهذا الإجماع لعلّه يؤيّد تلك المعتبرة ؛ لأنّها هي المتكفّلة لاعتبار النسبة ، واستنادهم في اعتبارها إلى دليل غيرها مع عدم ظهوره بعيد في الغاية.

__________________

(١) في « ح » زيادة : وقيل : خمسون يميناً احتياطاً.

(٢) مجمع الفائدة ١٤ : ١٩٤.

٢٩٥

( القول في (١) الاستيفاء ) أي استيفاء القصاص

اعلم أنّ ( قتل العمد يوجب القصاص ) بالأصالة ( ولا تثبت الدية فيه إلاّ صلحاً ، ولا تخيير للوليّ ) بينهما ، على الأشهر الأقوى ، بل عليه عامّة متأخّري أصحابنا ، وفي ظاهر الخلاف والمبسوط وصريح السرائر والغنية (٢) أنّ عليه إجماع الإمامية ، وهو الحجّة.

مضافاً إلى الآيات الكثيرة والسنّة المتواترة بإثبات القود ، وليس في أكثرها التخيير بينه وبين الدية ، فإثباته لمخالفته الأصل يحتاج إلى دلالة هي في المقام مفقودة ، كما ستعرفه.

مضافاً إلى خصوص المعتبرة ، منها الصحيح : « من قتل مؤمناً متعمّداً قيد به ، إلاّ أن يرضى أولياء المقتول أن يقبلوا الدية ، فإن رضوا بالدية وأحبّ ذلك القاتل فالدية اثنا عشر ألفاً » الحديث (٣).

خلافاً للإسكافي ، فيتخيّر الوليّ بين القصاص والعفو وأخذ الدية ، قال : ولو شاء الوليّ أخذ الدية وامتنع القاتل من ذلك وبذل نفسه للقود كان الخيار إلى الوليّ (٤). وهو أيضاً ظاهر العماني ، حيث قال : فإن عفا الأولياء عن القود لم يقتل ، وكان عليه الدية لهم جميعاً (٥).

__________________

(١) في المختصر المطبوع زيادة : كيفيّة.

(٢) الخلاف ٥ : ١٧٨ ، المبسوط ٧ : ٥٢ ، السرائر ٣ : ٣٢٤ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦١٩.

(٣) التهذيب : ١٠ : ١٥٩ / ٦٣٨ ، الإستبصار ٤ : ٢٦١ / ٩٨٠ ، الوسائل ٢٩ : ١٩٦ أبواب ديات النفس ب ١ ح ٩.

(٤) حكاه عنه في المختلف : ٧٨٣.

(٥) حكاه عنه في المختلف : ٧٨٤.

٢٩٦

وهذا القول شاذّ ، ومستنده غير واضح ، عدا ما استدل له من النبويين ، في أحدهما : « من قتل له قتيل فهو بخير النظرين ، إمّا أن يفادي ، وإمّا أن يقتل » (١).

وفي الثاني : « من أُصيب بدم أو خَبل » والخَبل : الجراح « فهو بالخيار بين إحدى ثلاث ، إمّا أن يقتصّ ، أو يأخذ العقل ، أو يعفو » (٢).

والخاصّيّ ، وفيه : « العمد هو القود ، أو رضاء وليّ المقتول » (٣).

وأنّ فيه إسقاط بعض الحق ، فليس للجاني الامتناع منه كإبراء بعض الدين.

وأنّ الرضاء بالدية ذريعة إلى حفظ نفس الجاني الواجب عليه.

وفي الجميع نظر ؛ لقصور الروايات سنداً ، بل ودلالةً ؛ إذ ليس فيها إلاّ الخيار بين الثلاثة في الجملة ، لا كليةً حتى لو لم يرض الجاني بالدية لكان له الخيار في أخذها ، وإنّما غايتها الإطلاق الغير المنصرف إلى هذه الصورة ، فإنّ الغالب رضاء الجاني بالدية مطلقاً ، سيّما مع اختيار الوليّ لها ، فإنّ النفس عزيزة.

مع احتمالها الحمل على التقية ؛ لكونها مذهب الشافعي وأحمد وجماعة من العامّة ، على ما حكاه عنهم بعض الأجلّة ، قال بعد نقل الخلاف عنهم : فأوجبوا الدية بالعفو وإن لم يرض الجاني (٤).

ويضعّف الثاني بمنع كون قبول الدية إسقاط حق ، بل معاوضة صرفة‌

__________________

(١) مسند أحمد ٢ : ٢٣٨ ، صحيح البخاري ١ : ٣٩ ، سنن البيهقي ٨ : ٥٢.

(٢) مسند أحمد ٤ : ٣١ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٨٧٦ / ٢٦٢٤ ، سنن البيهقي ٨ : ٥٢.

(٣) التهذيب ١٠ : ١٥٨ / ٦٣٤ ، الإستبصار ٤ : ٢٥٨ / ٩٧٤ ، الوسائل ٢٩ : ١٩٨ أبواب ديات النفس ب ١ ح ١٣.

(٤) كشف اللثام ٢ : ٤٦٦.

٢٩٧

يحتاج إلى مراضاة الطرفين ، كما لو أبرأ الدين أو بعضه بعوض من غير جنسه.

والثالث بعد تسليمه لا يفيد ثبوت الخيار للوليّ وتسلّطه على أخذ الدية من الجاني ، وإن كان بذلها واجباً عليه ، فإنّ لكل تكليفاً ، وتكليف أحدهما وهو الجاني لا يغيّر حكم الآخر وهو الوليّ من حرمة تسلّطه على صاحبه.

ولعلّه لذا أنّ الشهيدين في اللمعتين (١) مع اختيارهما المختار مالا إلى وجوب بذل الدية على الجاني مع قدرته عليه لو طلبها الوليّ ، ولم ينسب ثانيهما إلى الإسكافي سوى هذا ، ولكن عبارته المحكية صريحة فيما نسبه الأصحاب إليه ، حتى هو في المسالك (٢) ممّا قدّمنا إليه الإشارة (٣) ، هذا.

مع أنّ هذه الأدلّة لا تكافئ شيئاً ممّا قدّمناه ، وسيّما الإجماعات المحكية حدّ الاستفاضة ، المعتضدة بالشهرة العظيمة التي كادت تكون إجماعاً ، بل لعلّها (٤) إجماع في الحقيقة ، ولا يقدح فيه خروج القديمين ؛ لمعلومية نسبهما المانعة عن القدح في الحجية.

مضافاً إلى الأصل وما بعده من المعتبرة ، وإن لم يكن في المطلوب صريحة ، فإنّ محل الدلالة فيها اشتراط رضا الجاني ببذل الدية ، وهو يحتمل الورود مورد الغالب ، وهو حصول رضاه كما عرفته ، فلا عبرة بمفهومه ، كما قرر في محلّه ومرّ غير مرّة.

__________________

(١) اللمعة والروضة البهية ١٠ : ٩٠.

(٢) المسالك ٢ : ٤٧٦.

(٣) راجع ص ٢٩٥.

(٤) ليست في « ن ».

٢٩٨

ويتفرّع على المختار أنّه إذا طلب الوليّ المال تخيّر الجاني بين دفعه وتسليم نفسه للقود.

وأنّه لو عفا عليه لم يصحّ عفوه بدون رضا القاتل ؛ لأنّ حقه ليس هو المال ، وعفوه لم يقع مطلقاً.

وأنّه لو عفا كذلك سقط القود ولم تلزم الدية ؛ لأنّها ليست واجبة له بالأصالة أو أحد أفراد الحقّ المخيّر حتى يوجب إسقاط أحدهما بقاء الآخر.

( ولا ) يجوز أن ( يقضي ) الحاكم ( بالقصاص ما لم يتيقّن التلف بالجناية ) فإن اشتبه اقتصر على القصاص في الجناية إن أمكن ، دون النفس ، فإذا قطع الجاني يد شخص مثلاً فمات المجني عليه بعد ذلك ولم يعلم استناد موته إلى الجناية فلا يقتل الجاني إلاّ بعد تيقّن حصول الموت بالجناية ، ومع الاشتباه يقتصر على قطع اليد دون القتل ، ووجهه واضح.

والمراد باليقين ما يعمّ اليقين الشرعي الحاصل من نحو الإقرار والشهادة ، هذا بالنسبة إلى الحاكم ، وأمّا بالنسبة إلى الشهود ووليّ الدم إذا أراد قتل الجاني حيث يجوز له فلا بُدَّ من العلم الواقعي.

( وللوليّ الواحد المبادرة بالقصاص ) بنفسه بعد تيقّنه بثبوته ، من دون توقّف على شي‌ء ، وفاقاً لأحد قولي المبسوط (١) ، وعليه أكثر المتأخرين ، بل عامّتهم ؛ لأنّه كالأخذ بالشفعة وسائر الحقوق ؛ ولعموم ( فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً ) (٢) ونحوه من الأدلّة الدالّة على جواز اقتصاص‌

__________________

(١) المبسوط ٧ : ٥٦.

(٢) الإسراء : ٣٣.

٢٩٩

الوليّ من الجاني بتعمده الجناية ، من دون دلالة فيها على توقّفه على شي‌ء ولا إشارة.

( وقيل ) كما عن الخلاف وموضع آخر من المبسوط والمقنعة والمهذّب والكافي (١) : إنّه ( يتوقف على إذن الحاكم ) ويحرم بدونه وإن لم يضمن أرشاً ولا دية (٢) ، وعليه الفاضل في القواعد (٣). ولعلّه الظاهر من الغنية ، فإنّ فيها : ولا يستقيد إلاّ سلطان الإسلام أو من يأذن له في ذلك ، وهو وليّ من ليس له وليّ من أهله إلى أن قال ـ : بلا خلاف بين أصحابنا في ذلك كلّه (٤).

وظاهره دعوى الإجماع عليه كالشيخ في الخلاف (٥) ، فإن تمّ فهو الحجّة ، لا ما يقال لهم : من أنّه يحتاج في إثبات القصاص واستيفائه إلى النظر والاجتهاد ؛ لاختلاف الناس في شرائطه وفي كيفيّة الاستيفاء ، لخطر أمر الدماء.

فإنّ مفاده عدم الجواز مع عدم العلم بثبوت القصاص باحتمال الاختلاف في النظر والاجتهاد ، ونحن نقول به ، لكنّه خارج عن محل النزاع ؛ إذ هو كما عرفت تيقّن الوليّ بثبوت القصاص ، وهو غير متوقّف على إذن الحاكم بالاقتصاص ؛ لحصوله بمجرّد حكمه به ، بل ومن دونه أيضاً لو كان الوليّ عارفاً بثبوت القصاص في واقعته عند مجتهده ، أو مطلقاً‌

__________________

(١) الخلاف ٥ : ٢٠٥ ، المبسوط ٧ : ١٠٠ ، المقنعة : ٧٦٠ ، المهذّب ٢ : ٤٨٥ ، الكافي : ٣٨٣.

(٢) في « ن » زيادة : لو فعل.

(٣) القواعد ٢ : ٢٩٩.

(٤) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٠.

(٥) الخلاف ٥ : ٢٠٥.

٣٠٠