رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٦

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الاحكام بالدّلائل - ج ١٦

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-278-4
الصفحات: ٦١١

هذا إذا ذهبت يمينه قبل السرقة ، ولو ذهبت بعدها وقبل القطع بها لم يقطع اليسار قولاً واحداً ؛ لتعلق القطع بالذاهبة.

( ويسقط الحدّ بالتوبة قبل ) قيام ( البيّنة ) على السرقة و ( لا ) يسقط ( بعدها ) بلا خلاف في الأوّل على الظاهر ، المصرّح به في بعض العبائر (١) ، بل عليه دعوى الوفاق في المسالك (٢) ، وهو الحجة ؛ مضافاً إلى الأولوية ؛ لسقوط العقوبة الأُخرويّة بها فالدنيويّة أولى.

وللصحيح : « السارق إذا جاء من قبل نفسه تائباً إلى الله تعالى وردّ سرقته على صاحبها فلا قطع عليه » (٣).

والمرسل : في رجل سرق أو شرب الخمر أو زنى ، فلم يعلم بذلك منه ولم يؤخذ حتى تاب وصلح ، فقال : « إذا صلح وعرف منه أمر جميل لم يقم عليه الحدّ » الخبر (٤).

وعلى الأظهر الأشهر في الثاني ، بل قيل (٥) : لا خلاف فيه أيضاً ؛ للأصل ، والنص : « وإذا قامت البينة فليس للإمام أن يعفو » (٦).

خلافاً للحلبيّين (٧) ، فأطلقا جواز عفو الإمام مع التوبة بعد الرفع (٨).

__________________

(١) المفاتيح ٢ : ٩٥.

(٢) المسالك ٢ : ٤٤٧.

(٣) الكافي ٧ : ٢٢٠ / ٨ ، التهذيب ١٠ : ١٢٢ / ٤٨٩ ، الوسائل ٢٨ : ٣٠٢ أبواب حدّ السرقة ب ٣١ ح ١.

(٤) الكافي ٧ : ٢٥٠ / ١ ، التهذيب ١٠ : ١٢٢ / ٤٩٠ ، الوسائل ٢٨ : ٣٦ أبواب مقدّمات الحدود ب ١٦ ح ٣.

(٥) المفاتيح ٢ : ٩٥.

(٦) الفقيه ٤ : ٤٤ / ١٤٨ ، التهذيب ١٠ : ١٢٩ / ٥١٦ ، الإستبصار ٤ : ٢٥٢ / ٩٥٥ ، الوسائل ٢٨ : ٤١ أبواب مقدمات الحدود ب ١٨ ح ٣.

(٧) في غير « س » : للحليَّين ، وما أثبتناه هو الصحيح.

(٨) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٣ ، الكافي في الفقه : ٤١٢.

١٤١

وهو مع شذوذه ، وعدم صراحته غير واضح المستند ، عدا ما ربما يتوهم من إطلاق الصحيح السابق وتاليه ، لكن سياقهما سيّما الثاني ظاهر في التوبة قبل البيّنة ، مع أنّ مقتضاهما تحتّم السقوط لا تخيّر الإمام بينه وبين الحدّ. وكذا الجواب عن الأولوية لو استدلّ بها.

( و ) هل ( يتخيّر الإمام معها ) أي مع التوبة ( بعد الإقرار في الإقامة ) للحدّ وإسقاطه ، أم يتعيّن عليه الأوّل ، أم الثاني؟ أقوال ، مضت إليها الإشارة في بحث تحتّم القطع مع الرجوع بعد الإقرار.

وظهر ثمّة أنّ القول الأوّل مبني ( على رواية فيها ضعف ) سنداً ودلالة ؛ لعدم إيماء فيها إلى رجوع أو توبة بعد الإقرار ، وجبره بالتقييد بهما من جهة الإجماع لا يدفع وهنها الحاصل به في مقام التعارض ، لكنّها معتضدة بدعوى الإجماع على مضمونها في الخلاف والغنية (١) ، لكنّها موهونة بشهرة خلافها بين الأصحاب.

( و ) إن اختلفوا في أنّ ( الأشبه تحتّم الحد ) أو سقوطه ، وقد عرفت رجحانه ولو من جهة الشبهة الناشئة من الخلاف في المسألة.

( ولا يضمن ) الحاكم ولا الحدّاد ( سراية الحدّ ) إلى عضو أو نفس ، أيّ حدٍّ كان حتى التعزير ، فلا دية له مطلقاً ، وفاقاً للنهاية والخلاف والمبسوط والغنية وابن حمزة والحلّي والفاضلين والشهيدين (٢) ، وبالجملة : الأكثر ؛ للأصل ، وآية ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (٣)

__________________

(١) الخلاف ٥ : ٤٤٤ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٣.

(٢) النهاية : ٧٥٥ ، الخلاف ٥ : ٤٩٣ ، المبسوط ٨ : ٦٣ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٢ ، الوسيلة : ٤١٣ ، السرائر ٣ : ٣٦١ ، الشرائع ٤ : ١٧١ ، القواعد ٢ : ٢٦٤ ، اللمعة ( الروضة ٩ ) : ٢١٧ ، المسالك ٢ : ٤٤١.

(٣) التوبة : ٩١.

١٤٢

والصحيح : « أيّما رجل قتله الحدّ والقصاص فلا دية له » (١).

والخبر : « من قتله الحدّ فلا دية له » (٢).

خلافاً للمفيد والاستبصار (٣) في حدّ الآدمي ، فيضمن الإمام دية المحدود على بيت المال ؛ للمباشرة ، والرواية : « من ضربناه حدّا من حدود الله تعالى فمات فلا دية له علينا ، ومن ضربناه حدّا في شي‌ء من حقوق الناس فإنّ ديته علينا » (٤).

وفيهما نظر ، سيّما في مقابلة أدلّة الأكثر.

نعم في الإيضاح دعوى تواتر الرواية (٥) ، ولم تثبت ، فإنّها مروية في كتب الحديث ضعيفاً من طرق الآحاد.

ويستفاد منه أنّ محل الخلاف هو التعزير دون الحدّ ، وصرّح به في التنقيح (٦) ، وربما يظهر أيضاً من الخلاف والمبسوط (٧) ، قال : لأنّه مقدّر فلا خطأ فيه ، بخلاف التعزير فإنّ تقديره مبني على الاجتهاد الذي يجوز فيه الخطأ.

قيل : وهذا يتمّ مع كون الحاكم الذي يقيم الحدود غير المعصوم ، وإلاّ‌

__________________

(١) التهذيب ١٠ : ٢٠٦ / ٨١٣ ، الإستبصار ٤ : ٢٧٨ / ١٠٥٥ ، الوسائل ٢٩ : ٦٥ أبواب قصاص النفس ب ٢٤ ح ٩.

(٢) الكافي ٧ : ٢٩٢ / ٧ ، التهذيب ١٠ : ٢٠٧ / ٨١٩ ، الإستبصار ٤ : ٢٧٩ / ١٠٥٦ ، الوسائل ٢٩ : ٦٣ أبواب القصاص في النفس ب ٢٤ ح ١.

(٣) المفيد في المقنعة : ٧٤٣ ، الإستبصار ٤ : ٢٧٩.

(٤) الكافي ٧ : ٢٩٢ / ١٠ ، التهذيب ١٠ : ٢٠٨ / ٨٢٢ ، الوسائل ٢٩ : ٦٤ أبواب قصاص النفس ب ٢٤ ح ٣ ؛ بتفاوت.

(٥) إيضاح الفوائد ٤ : ٥١٦.

(٦) التنقيح الرائع ٤ : ٣٨٩.

(٧) الخلاف ٥ : ٤٩٣ ، المبسوط ٨ : ٦٣.

١٤٣

لم يفترق الحال بين الحدّ والتعزير ، والمسألة مفروضة فيما هو أعمّ من ذلك (١).

( الخامس : في ) ذكر ( اللواحق ، وفيه ) ثلاث ( مسائل ) :

( الأُولى : إذا سرق اثنان ) فصاعداً ( نصاباً ) واحداً ، أو زائداً مع عدم بلوغ نصيب كل منهما نصاباً ( قال ) المفيد والمرتضى والشيخ ( في النهاية ) (٢) والأتباع أجمع كما في المسالك (٣) : إنّه ( يقطعان ) معاً ، والظاهر أنّه مذهب أكثر القدماء ، بل في الانتصار والغنية (٤) عليه إجماع الإمامية ، وهو الحجة.

مضافاً إلى الرواية المروية في الخلاف ، قال : وروى أصحابنا أنّها إذا بلغت السرقة نصاباً وأخرجوها بأجمعهم وجب عليهم القطع ، ولم يفصّلوا (٥).

لكنّها مرسلة ؛ إذ لم نقف عليها في كتب الحديث ، ولا نقلها ناقل من الأصحاب ، ولا أشار إليها أحد منهم في الباب ، وإنّما احتجّوا لهم بتحقق الموجب للقطع وهو سرقة النصاب وقد صدر عنهما ، فيقطعان ؛ وهو كما ترى.

نعم في الصحيح : « قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في نفر نحروا بعيراً فأكلوه فامتحنوا أيّهم نحر فشهدوا على أنفسهم أنّهم نحروه جميعاً ،

__________________

(١) المسالك ٢ : ٤٤١.

(٢) المفيد في المقنعة : ٨٠٤ ، السيّد المرتضى في الانتصار : ٢٦٤ ، النهاية : ٧١٨.

(٣) المسالك ٢ : ٤٤٧ ، وهو في المهذّب ٢ : ٥٤٠ ، والوسيلة : ٤١٩ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٣.

(٤) الانتصار : ٢٦٤ ، الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٢٣.

(٥) الخلاف ٥ : ٤٢١.

١٤٤

لم يخصّوا أحداً دون أحد ، فقضى عليه‌السلام أن تقطع أيمانهم » (١).

وهو عام من حيث ترك الاستفصال عن بلوغ نصيب كل منهم النصاب وعدمه للصورتين.

( و ) قال الشيخ ( في ) المبسوط و ( الخلاف ) والإسكافي والحلّي (٢) ( اشترط بلوغ نصيب كل واحد نصاباً ) وعليه عامّة متأخّري الأصحاب ، وفي الخلاف عليه الإجماع ، وهو الأوفق بالأصل ؛ لاختصاص ما دلّ على قطع السارق نصاباً بحكم التبادر بصورة انفراده به لا مطلقاً ؛ مضافاً إلى الإجماع المنقول.

لكنّه مع وهنه بعدم موافق له من القدماء عدا الإسكافي ، وهو بالإضافة إلى باقيهم شاذّ ، وكذا الحلّي ، مع أنّه بعد الناقل معارض بمثله ، بل وأرجح منه بالتعدّد ، وعدم ظهور الوهن فيه ، والاعتضاد بالرواية المرسلة المنجبرة بالشهرة القديمة ، وعموم الصحيحة المتقدمة ، لكنّها قضية في واقعة ، والشهرة الجابرة معارضة بالشهرة العظيمة المتأخّرة القريبة من الإجماع ، فلم يبق للقدماء غير الإجماع المنقول المعارض بالمثل ، ورجحان الأوّل بما مرّ يقابل بالأصل المرجِّح لهذا الطرف.

وبالجملة : المسألة محل تردّد ، كما هو ظاهر المتن ، ولكن مقتضاه ترجيح القول الأخير للشبهة الدارئة للحدّ.

( الثانية : لو ) سرق سرقتين موجبتين للقطع ولم يقطع بينهما‌

__________________

(١) الفقيه ٤ : ٤٤ / ١٥٠ ، التهذيب ١٠ : ١٢٩ / ٥١٧ ، الوسائل ٢٨ : ٣٠٤ أبواب حدّ السرقة ب ٣٤ ح ١.

(٢) المبسوط ٨ : ٢٨ ، الخلاف ٥ : ٤٢٠ ؛ حكاه عن الإسكافي في المختلف : ٧٧٢ ، الحلّي في السرائر ٣ : ٤٩٧.

١٤٥

و ( قامت الحجة ) أي البيّنة عليه ( بالسرقة ) الأُولى ( فأمسكت ليقطع ، ثم شهدت عليه بـ ) السرقة ال ( اخرى ، قال ) الصدوق والشيخ ( في النهاية ) والخلاف (١) ( قطعت يده بالأُولى ورجله بالأُخرى ) وادّعى في الخلاف عليه الوفاق ( و ) مع ذلك (٢) ( به رواية ) صحيحة ، وفيها : « ولو أنّ الشهود شهدوا عليه بالسرقة الاولى ثم أمسكوا حتى يقطع ، ثم شهدوا عليه بالسرقة الأخيرة قطعت رجله اليسرى » (٣).

ولكنه رجع عنه في المبسوط (٤) ، وتبعه الحلّي والفاضلان والشهيدان (٥) ، وغيرهم من المتأخّرين (٦) ، وهو الأوفق بالأصل ، مع اختصاص ما دل على تعدّد القطع بتعدّد السرقة بصورة تخلّل القطع بينهما لا مطلقاً.

والإجماع المنقول موهون زيادةً على ندرة القائل به برجوع الناقل عنه إلى خلافه في المبسوط.

وأجاب متأخروا الأصحاب عن الرواية بضعف السند.

وفيه نظر ؛ لاختصاصه بطريق التهذيب ، وإلاّ فهو في الكافي مروي بطريق حسن (٧) قريب من الصحيح ، فطرحه مشكل ، ولكنّ العمل به أيضاً‌

__________________

(١) الصدوق في المقنع : ١٥٠ ، النهاية : ٧١٩ ، الخلاف ٥ : ٤٤١.

(٢) في « ن ». زيادة : وردت.

(٣) الكافي ٧ : ٢٢٤ / ١٢ ، التهذيب ١٠ : ١٠٧ / ٤١٨ ، علل الشرائع : ٥٨٢ / ٢٢ ، الوسائل ٢٨ : ٢٦٣ أبواب حدّ السرقة ب ٩ ح ١.

(٤) المبسوط ٨ : ٣٨.

(٥) الحلّي في السرائر ٣ : ٤٩٤ ، المحقق في الشرائع ٤ : ١٧٨ ، العلاّمة في التحرير ٢ : ٢٣٢ ، الشهيدان في اللمعة والروضة ٩ : ٢٨٩ ، المسالك ٢ : ٢٤٧.

(٦) كالفاضل المقداد في التنقيح ٤ : ٣٩١.

(٧) ليست في « ن ».

١٤٦

لا يخلو عن إشكال في نحو المقام.

( والأولى التمسك بعصمة الدم إلاّ في موضع اليقين ) عملاً بالنص المتواتر بدفع الحدّ بالشبهات.

( الثالثة : قطع السارق موقوف ) عندنا ( على مرافعة المسروق منه ) له إلى الإمام تغليباً لحق الناس فيه ( فلو لم يرافعه ) إليه ( لم يرفعه الإمام ) ولم يقطعه وإن قامت عليه البيّنة حسبة (١) أو أقرّ بها مرّتين ، وكذا لو علم بسرقته ، كما في الخبر : « الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب خمراً أن يقيم عليه الحدّ ، ولا يحتاج إلى بيّنة مع نظره ؛ لأنّه أمين الله في خلقه ، وإذا نظر إلى رجل يسرق فالواجب عليه أن يزبره وينهاه ويمضي ويدعه » قال : وكيف ذاك؟ قال : « لأنّ الحق إذا كان لله تعالى فالواجب على الإمام إقامته ، وإذا كان للناس فهو للناس » (٢).

ولو وهبه المالك العينَ بعد السرقة ، أو عفا عن القطع قبل المرافعة سقط القطع ( و ) إن كان ( لو رافعه لم يسقط ) عنه ( الحدّ ) مطلقاً ( ولو ) عفا عنه أو ( وهبه ) لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المروي في الصحيح (٣) والحسن (٤) وغيرهما (٥) لصفوان بن أُميّة حين سُرِقَ رداؤه فقبض السارق‌

__________________

(١) ليست في « ن ».

(٢) الكافي ٧ : ٢٦٢ / ١٥ ، التهذيب ١٠ : ٤٤ / ١٥٧ ، الإستبصار ٤ : ٢١٦ / ٨٠٩ ، الوسائل ٢٨ : ٥٧ أبواب مقدّمات الحدود ب ٣٢ ح ٣ ، في « ح » و « ب » : يزجره ، بدل : يزبره ، وهما بمعنى واحد.

(٣) الكافي ٧ : ٢٥١ / ٢ ، التهذيب ١٠ : ١٢٣ / ٤٩٤ ، الإستبصار ٤ : ٢٥١ / ٩٥٢ ، الوسائل ٢٨ : ٣٩ أبواب مقدمات الحدود ب ١٧ ح ٢.

(٤) الكافي ٧ : ٢٥٢ / ٣ ، التهذيب ١٠ : ١٢٤ / ٤٩٥ ، الإستبصار ٤ : ٢٥١ / ٩٥٣ ، الوسائل ٢٨ : ٣٩ أبواب مقدمات الحدود ب ١٧ ذيل الحديث ٢.

(٥) دعائم الإسلام ٢ : ٤٤٤ / ١٥٤٩ ، المستدرك ١٨ : ٢١ أبواب مقدمات الحدود ب ١٥ ح ١.

١٤٧

وقدّمه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم وهبه : « ألاّ كان ذلك قبل أن ينتهي به إليّ ».

وللموثّق : « من أخذ سارقاً فعفا عنه فذاك له ، فإذا رفع إلى الإمام قطعه ، فإن قال الذي سرق منه : أنا أهب له ، لم يدعه الإمام حتى يقطعه إذا رفعه إليه ، وإنّما الهبة قبل أن يرفع إلى الإمام ، وذاك قول الله عزَّ وجلَّ ( وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ ) (١) فإذا انتهى إلى الإمام فليس لأحدٍ أن يتركه » (٢).

وفي الصحيح : « لا يعفى عن الحدود التي لله تعالى دون الإمام ، فأمّا ما كان من حقوق الناس فلا بأس أن يعفى عنه دون الإمام » (٣).

وفي الخبر : « ولا يشفعنّ في حدّ إذا بلغ الإمام ، فإنّه لا يملكه ، واشفع فيما لم يبلغ الإمام إذا رأيت الدم » (٤) كما في نسخة ، وبدّل الدم بـ « الندم » في أُخرى.

__________________

(١) التوبة : ١١٢.

(٢) الكافي ٧ : ٢٥١ / ١ ، التهذيب ١٠ : ١٢٣ / ٤٩٣ ، الإستبصار ٤ : ٢٥١ / ٩٥١ ، الوسائل ٢٨ : ٣٩ أبواب مقدّمات الحدود ب ١٧ ح ٣.

(٣) الكافي ٧ : ٢٥٢ / ٤ ، الفقيه ٤ : ٥٢ / ١٨٥ ، التهذيب ١٠ : ١٢٤ / ٤٩٦ ، الوسائل ٢٨ : ٤٠ أبواب مقدمات الحدود ب ١٨ ح ١.

(٤) الكافي ٧ : ٢٥٤ / ٣ ، التهذيب ١٠ : ١٢٤ / ٤٩٨ ، الوسائل ٢٨ : ٤٣ أبواب مقدمات الحدود ب ٢٠ ح ٤.

١٤٨

( الفصل السادس )

( في ) بيان حدّ ( المحارب )

( وهو كلّ مجرِّدٍ سلاحاً ) كالسيف أو غيره كالحجر ونحوه ( في برٍّ أو بحرٍ ) مصرٍ أو غيره ( ليلاً أو نهاراً لإخافة السابلة ) والمتردّدين من المسلمين مطلقاً ( وإن لم يكن ) المحارب ( من أهلها ) أي أهل الإخافة ، بأن كان ضعيفاً عنها ، ولا من أهل الفتنة ، ولا ذكراً ( على الأشبه ) الأقوى ، وعليه عامّة متأخّري أصحابنا ، وفي كنز العرفان نسبه إلى الفقهاء (١) ، مشعراً بدعوى الإجماع عليه.

لعموم الآية : ( إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ. إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (٢).

وشموله للإناث وإن كان فيه نوع غموض ، بناءً على أنّ الضمير للذكور ودخول الإناث فيهم مجاز ، إلاّ أنّ العموم لهنّ جاء من قبل النصوص ، ففي الصحيح : « من شهر السلاح في مصر من الأمصار » ‌

__________________

(١) كنز العرفان ٢ : ٣٥١.

(٢) المائدة : ٣٣ ٣٤.

١٤٩

الحديث (١). و « مَنْ » عامّ حقيقة للذكور والإناث وأهل الريبة والإخافة وغيرهم.

خلافاً للشيخين ، فاشترطا كونه من أهل الريبة (٢).

وللإسكافي (٣) ، فاشترط الذكورة بما مرّ. وضعفه قد ظهر.

وأمّا الشيخان فلعلّهما استندا إلى مفهوم الصحيح وغيره : « من حمل السلاح باللّيل فهو محارب ، إلاّ أن يكون رجلاً ليس من أهل الريبة » (٤).

قيل : ولأنّه المتيقن والحدود تدرأ بالشبهات (٥).

ويضعّف بأنّ البحث على تقدير وجود السبب أعني المحاربة فيتحقق المسبّب.

ويدلُّ على اشتراط قصد الإخافة في المحاربة مضافاً إلى الاتفاق عليه على الظاهر إلاّ من نادر (٦) ، مع عدم صدقها عرفاً إلاّ به المروي في قرب الإسناد : عن رجل شهر إلى صاحبه بالرمح والسكين ، فقال : « إن كان يلعب فلا بأس » (٧).

وعلى عدم اشتراط السلاح من نحو السيف : القوي : في رجل أقبل بنار فأشعلها في دار قوم فاحترقت واحترق متاعهم ، أنّه يغرم قيمة الدار وما‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٢٤٨ / ١٢ ، التهذيب ١٠ : ١٣٢ / ٥٢٤ ، الإستبصار ٤ : ٢٥٧ / ٩٧٢ ، الوسائل ٢٨ : ٣٠٧ أبواب حدّ المحارب ب ١ ح ١.

(٢) المفيد في المقنعة : ٨٠٤ ، الطوسي في النهاية : ٧٢٠.

(٣) حكاه عنه في المختلف : ٧٧٩.

(٤) الكافي ٧ : ٢٤٦ / ٦ ، الفقيه ٤ : ٤٨ / ١٦٨ ، التهذيب ١٠ : ١٣٤ / ٥٣٠ ، الوسائل ٢٨ : ٣١٣ أبواب حدّ المحارب ب ٢ ح ١.

(٥) انظر المسالك ٢ : ٤٤٩.

(٦) صفحة ١٥٠ هامش ١.

(٧) قرب الإسناد : ٢٥٨ / ١٠١٩ ، الوسائل ٢٨ : ٣١٥ أبواب حدّ المحارب ب ٢ ح ٤.

١٥٠

فيها ، ثم يقتل (١).

مضافاً إلى صدق المحاربة بكلّ ما يتحقق به الإخافة ولو حجراً أو غيره.

وربما يفهم من الروضة عدم اشتراط قصد الإخافة وأنّ به قولاً (٢).

وهو مع ضعفه وشذوذه لم أجده ، مع أنّه اشترطه في المسالك (٣) من دون خلاف فيه يذكره.

( ويثبت ذلك بالإقرار ) من أهله ( ولو مرّة ، أو بشهادة عدلين ) بلا إشكال ولا خلاف أجده إلاّ من الديلمي والمختلف (٤) ، حيث حكي عنهما القول بأنّ كلّ حدٍّ يثبت بشهادة عدلين يعتبر فيه الإقرار مرّتين.

ولا دليل على الكلّية ، مع عموم : « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » (٥) خرج منه ما اشترط فيه التكرار بدليل خارج ، فيبقى غيره على العموم.

اللهم إلاّ أن يستند إلى الاستقراء ، وفحوى ما دلّ على اعتبار التكرار في نحو السرقة وغيرها ممّا هو أضعف حدّا فهنا أولى ، فتأمّل جدّاً.

( ولو شهد بعض اللصوص على بعض ) أو على غيرهم ، أو لهما ( لم تقبل ) شهادته قطعاً ؛ لفسقه المانع عن قبولها.

( وكذا لو شهد بعض المأخوذين لبعض ) منهم على القاطع عليهم الطريق مطلقاً ، على الأشهر الأقوى ؛ للتهمة ، وبعض المعتبرة : عن رفقة‌

__________________

(١) الفقيه ٤ : ١٢٠ / ٤١٩ ، التهذيب ١٠ : ٢٣١ / ٩١٢ ، الوسائل ٢٨ : ٣١٥ أبواب حدّ المحارب ب ٣ ح ١.

(٢) الروضة ٩ : ٢٩٢.

(٣) المسالك ٢ : ٤٤٩.

(٤) الديلمي في المراسم : ٢٥٩ ، المختلف : ٧٢٧.

(٥) عوالي اللئلئ ١ : ٢٢٣ / ١٠٤.

١٥١

كانوا في طريق قطع عليهم الطريق فأخذوا اللصوص ، فشهد بعضهم لبعض؟ فقال : « لا تقبل شهادتهم إلاّ بإقرار اللصوص ، أو بشهادة من غيرهم عليهم » (١).

وقيل بالقبول لو لم يتعرّض لما أُخذ منه ؛ لوجود العدالة المانعة من التهجّم على غير الواقع ، ومنع التهمة المانعة ، بل هو كشهادة بعض غرماء المديون لبعض ، وشهادة المشهود لهما بوصية من تركة للشاهدين بوصية منها أيضاً (٢).

وهو على تقدير تسليمه اجتهاد في مقابلة النص المعتبر ولو بعمل الأكثر ، بل الأشهر كما صرّح به بعض من تأخّر (٣) ، فلا يعبأ به.

نعم لو لم يكن الشاهد مأخوذاً احتمل قبول شهادته ؛ لعدم التهمة ، مع خروجه عن مورد الفتوى والرواية ؛ لظهورهما ولو بحكم التبادر في صورة كونه مأخوذاً ، وبالقبول هنا صرّح جمع (٤) من غير أن يذكروا خلافاً.

( وحدّه القتل أو الصلب أو القطع مخالفاً ) أي قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى كما يقطعان في السرقة ، وصرّح به جماعة من الأصحاب (٥) ، ويستفاد من بعض أخبار الباب (٦).

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٩٤ / ٢ ، الفقيه ٣ : ٢٥ / ٦٨ ، التهذيب ٦ : ٢٤٦ / ٦٢٥ ، الوسائل ٢٧ : ٣٦٩ كتاب الشهادات ب ٢٧ ح ٢.

(٢) القائل هو الشهيد في الدروس ٢ : ١٢٧ ، والتعليل موجود في المسالك ٢ : ٤٠٥.

(٣) ملاذ الأخيار ١٠ : ٩٢.

(٤) منهم المحقق في الشرائع ٤ : ١٨ ، العلاّمة في القواعد ٢ : ٢٧٢ ، الفاضل الهندي في كشف اللثام ٢ : ٤٣١ ، المجلسي في ملاذ الأخيار ١٠ : ٩٢.

(٥) منهم العلاّمة في الإرشاد ٢ : ١٨٦ ، الشهيد في اللمعة ( الروضة ٩ ) : ٢٩٤ ، الفاضل المقداد في كنز العرفان ٢ : ٣٥٢ ، الفاضل الجواد في مسالك الأفهام ٤ : ٢١٠.

(٦) انظر الوسائل ٢٨ : ٣٠٩ أبواب حد المحارب ب ١ الأحاديث ٤ ، ٧ ، ٨ ، ١١.

١٥٢

( أو النفي ) من مصره إلى مصرٍ آخر ، ثم إلى آخر ، وهكذا إلى أن يتوب ، أو يموت.

والأصل في هذه الأُمور بعد الكتاب : الإجماع والسنّة المستفيضة.

( وللأصحاب اختلاف ) في أنّها هل على التخيير ، أو الترتيب؟ فـ ( قال المفيد ) والديلمي والحلّي والصدوق في صريح الهداية وظاهر المقنع (١) كما حكي ( بالتخيير ) وعليه أكثر المتأخّرين ، ومنهم الماتن في الشرائع (٢) وهنا ؛ لقوله : ( وهو الوجه ).

لظاهر الآية ، بناءً على أنّ الأصل في « أو » التخيير ، مع التصريح في الصحاح بأنّها له في القرآن حيث وقع (٣) ، ومنها في خصوص هذه الآية أنّ « ذلك إلى الإمام أن يفعل ما يشاء » (٤).

وفي الصحيح (٥) والموثق (٦) : « ذلك إلى الإمام ، إن شاء قطع ، وإن شاء صلب ، وإن شاء نفى ، وإن شاء قتل » قلت : النفي إلى أين؟ قال : « ينفى من مصرٍ إلى مصرٍ آخر ».

والموثق الوارد في شأن نزول الآية صريح في التخيير ، وجواز‌

__________________

(١) المفيد في المقنعة : ٨٠٤ ، الديلمي في المراسم : ٢٥١ ، الحلّي في السرائر ٣ : ٥٠٥ ، الهداية : ٧٧ ، المقنع : ١٥٢.

(٢) الشرائع ٤ : ١٨٠.

(٣) الكافي ٤ : ٣٥٨ / ٢ ، التهذيب ٥ : ٣٣٣ / ١١٤٧ ، الإستبصار ٢ : ١٩٥ / ٦٥٦ ، الوسائل ١٣ : ١٦٥ أبواب بقية كفارات الإحرام ب ١٤ ح ١.

(٤) الكافي ٧ : ٢٤٦ / ٥ ، التهذيب ١٠ : ١٣٣ / ٥٢٩ ، الوسائل ٢٨ : ٣٠٨ أبواب حدّ المحارب ب ١ ح ٢‌

(٥) الكافي ٧ : ٢٤٥ / ٣ ، المقنع : ١٥٢ ، الوسائل ٢٨ : ٣٠٨ أبواب حدّ المحارب ب ١ ح ٣.

(٦) تفسير العيّاشي ١ : ٣١٥ / ٩٣ ، الوسائل ٢٨ : ٣١٢ أبواب حدّ المحارب ب ١ ح ٩.

١٥٣

الاكتفاء بقطع المحارب خاصّة دون قتله ولو قَتَل ، فقد دلّ على قطع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوماً من بني ضبّة وقد قتلوا ثلاثة ممّن كان في إبل الصدقة مقتصراً عليه (١).

( وقال الشيخ ) والإسكافي والتقي وابن زهرة وأتباع الشيخ كما في نكت الإرشاد والمسالك (٢) ( بالترتيب ) قال في النكت : وادّعوا عليه الإجماع ، وهو ظاهر المصنف في التلخيص.

أقول : ونسب إلى الأكثر (٣) ، ولكن اختلفوا في كيفيته ، ففي النهاية والمهذّب وفقه القرآن للراوندي (٤) أنّه ( يقتل إن قتل ، ولو عفا وليّ الدم قتل حدّا ) لا قصاصاً.

( ولو قتل وأخذ المال استعيد منه ) عينه أو بدله ( وقطعت يده اليمنى ورجله اليسرى ، ثم قتل وصلب ).

( وإن أخذ المال ولم يقتل قطع مخالفاً ونُفي ).

( ولو جرح ولم يأخذ المال اقتصّ منه ونُفي ).

( ولو ) اقتصر على ( شهر السلاح مخيفاً نُفي لا غير ).

وفي التبيان والمبسوط والخلاف (٥) : إن قَتَلَ قُتِلَ ، وإن قَتَلَ وأخذ المال قُتِلَ وصُلب ، وإن اقتصر على أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف ، وإن اقتصر على الإخافة فإنّما عليه النفي.

__________________

(١) الكافي ٧ : ٢٤٥ / ١ ، التهذيب ١٠ : ١٣٤ / ٥٣٣ ، الوسائل ٢٨ : ٣١٠ أبواب حدّ المحارب ب ١ ح ٧.

(٢) الشيخ في النهاية : ٧٢٠ ، حكاه عن الإسكافي في المختلف : ٧٧٨ ، التقي في الكافي : ٢٥٢ ، ابن زهرة في الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٨٤ ، غاية المراد ٤ : ٢٧٧ ، المسالك ٢ : ٤٤٩.

(٣) كشف اللثام ٢ : ٤٣١.

(٤) النهاية : ٧٢٠ ، المهذّب ٢ : ٥٥٣ ، فقه القرآن ١ : ٣٦٦.

(٥) التبيان ٣ : ٥٠٤ ، المبسوط ٨ : ٤٨ ، الخلاف ٥ : ٤٥٨.

١٥٤

وفي المبسوط والخلاف (١) أنّه ينفى على الأخيرين.

وفي المبسوط (٢) أنّه يتحتّم عليه القتل إذا قتل لأخذ المال ، وأمّا إن قتل لغيره فالقود واجب غير متحتّم ، أي يجوز لولي المقتول العفو مجاناً وعلى مال.

وفي الوسيلة : لم يخل إمّا جنى جناية أو لم يجن ، فإذا جنى جناية لم يخل إمّا جنى في المحاربة أو في غيرها ، فإن جنى في المحاربة لم يجز العفو عنه ولا الصلح على مال ، وإن جنى في غير المحاربة جاز فيه ذلك ، وإن لم يجن وأخاف ونُفي عن البلد وعلى هذا حتى يتوب ، وإن جنى وجرح اقتصّ منه ونُفى عن البلد ، وإن أخذ المال قطع يده ورجله من خلاف ونُفي ، وإن قَتَلَ وغرضه في إظهار السلاح القتل كان ولي الدم مخيّراً بين القود والعفو والدية ، وإن كان غرضه المال كان قتله حتماً وصلب بعد القتل ، وإن قطع اليد ولم يأخذ المال قطع ونُفي ، وإن جرح وقتل اقتصّ منه ثم قتل وصلب ، وإن جرح وقطع وأخذ المال جرح وقطع للقصاص أوّلاً إن كان قطع اليد اليسرى ، ثم قطع يده اليمنى لأخذه المال ، ولم يوال بين القطعين ، وإن كان قطع اليمنى قطعت يمناه قصاصاً ورجله اليسرى لأخذ المال (٣). انتهى.

ولم أجد حجّة على شي‌ء من هذه الكيفيّات من النصوص ، وإن دلّ أكثرها على الترتيب في الجملة ، لكن شي‌ء منها لا يوافق شيئاً منها ، فهي شاذّة ، مع ضعف أسانيدها جملة ، ولذا اعترضها الماتن وجماعة (٤) بأنّها‌

__________________

(١) المبسوط ٨ : ٤٨ ، الخلاف ٥ : ٤٥٨.

(٢) المبسوط ٨ : ٤٨.

(٣) الوسيلة : ٢٠٦.

(٤) الشرائع ٤ : ١٨١ ، المسالك ٢ : ٤٤٩ ، تلخيص الخلاف ٣ : ٢٥٨ ، المفاتيح ٢ : ١٠٠ ، انظر مجمع الفائدة ١٣ : ٢٩٤.

١٥٥

لا تنفكّ من ضعف في إسناد ، أو اضطراب في متن ، أو قصور في دلالة ، فالأولى التمسك بظاهر الآية.

وهو حسن لولا الشهرة القديمة الظاهرة والمحكية في النكت وغيره (١) ، وحكاية الإجماع المتقدمة الجابرة لضعف الروايات ، مع مخالفتها لما عليه أكثر العامّة كما في النكت ويستفاد من بعضها ، ولذا حمل الشيخ (٢) الأخبار المخيِّرة على التقية.

واختلاف الروايات في كيفية الترتيب إنّما يضعّف إثبات كيفية خاصّة منها ، لا أصله في مقابلة القول بالتخيير بعد اتفاقها عليه.

مع أنّ من جملة ما يدل عليه بحسب السند صحيح ، وفيه : سأل الصادق عليه‌السلام رجل عن الآية ، فقال : « ذاك إلى الإمام ، يفعل ما يشاء » قال : قلت : فمفوّض ذلك إليه؟ قال : « لا ، ولكن نحو (٣) الجناية » (٤).

ومنه يظهر سهولة حمل الصحيح السابق (٥) المخيِّر على الترتيب ، كما لا يخفى على المنصف اللبيب ، لكن ينافيه الخبر الوارد في شأن النزول لكنّه قاصر السند عن الصحة ، فالقول بالترتيب أقرب إلى الترجيح.

ولكن يبقى الكلام في الكيفية ، هل هي على ما في النهاية (٦) ، أو غيرها من كتب الجماعة؟ وعدم المرجّح مع ضعف آحاد النصوص يقتضي‌

__________________

(١) غاية المراد ٤ : ٢٧٨ ، انظر مرآة العقول ٢٣ : ٣٨٤.

(٢) الإستبصار ٤ : ٢٥٧.

(٣) في « ح » و « س » ، و « ن » والتهذيب : بحق.

(٤) الكافي ٧ : ٢٤٦ / ٥ ، التهذيب ١٠ : ١٣٣ / ٥٢٩ ، الوسائل ٢٨ : ٣٠٨ أبواب حدّ المحارب ب ١ ح ٢.

(٥) في ص ١٥٢.

(٦) راجع ص ١٥٣.

١٥٦

التوقف فيها ، وإن كان ما في النهاية لعلّه (١) أقرب وأولى ؛ لشهرتها وقبول النصوص التنزيل عليها جمعاً.

وعلى التخيير هل هو مطلق حتى في صورة ما إذا قَتَل المحارب ، فللإمام فيها أيضاً الاقتصار على النفي مثلاً ، كما هو ظاهر المتن وغيره؟ أم يتعيّن فيها اختيار القتل ، كما صرّح به المفيد وكثير (٢)؟ وجهان ، أجودهما : الثاني ، لكن قصاصاً لا حدّا ، فلو عفا ولي الدم أو كان المقتول ممّن لا يقتصّ له من القاتل سقط القتل قصاصاً وثبت حدّا ، مخيّراً بينه وبين باقي الأفراد.

ولعلّه إلى هذا نظر شيخنا في الروضة حيث تنظّر فيما أطلقه الجماعة من تعيين القتل في تلك الصورة ، فقال بعد نقل القول بالتخيير ـ : نعم ، لو قتل المحارب تعيّن قتله ولم يكتف بغيره من الحدود ، سواء قتل مكافئاً أم لا ، وسواء عفا الولّي أم لا ، على ما ذكره جماعة من الأصحاب ، وفي بعض أفراده نظر (٣). انتهى.

ولكن الأحوط ما ذكروه ، بل لعلّه المعيّن كما في الصحيح.

( ولو تاب قبل القدرة عليه سقطت ) عنه ( العقوبة ، ولو تاب بعد ذلك لم تسقط ) بلا خلاف كما في نظائره ، ويدلُّ على الحكمين معاً هنا الآية ، صريحاً في الأوّل ومفهوماً في الثاني ، ونحوها بعض النصوص (٤).

__________________

(١) ليست في « ب ».

(٢) المفيد في المقنعة : ٨٠٥ ، الحلّي في السرائر ٣ : ٥٠٥ ، والعلاّمة في المختلف : ٧٧٩ ، والفاضل الجواد في مسالك الأفهام ٤ : ٢١٢.

(٣) الروضة ٩ : ٢٩٦.

(٤) الكافي ٧ : ٢٤٨ / ١٣ ، التهذيب ١٠ : ١٣٥ / ٥٣٥ ، الوسائل ٢٨ : ٣١٠ أبواب حد المحارب ب ١ ح ٦.

١٥٧

وأيضاً إنّ توبته قبل القدرة عليه بعيدة عن التهمة ، بخلافها بعد ذلك ، فإنّه متّهم بقصد الدفع ، مضافاً فيه إلى استصحاب لزوم الحدّ.

( ولم يسقط ) بالتوبة ما يتعلق به من ( حقوق الناس ) كالقتل والجرح والمال في شي‌ء من الحالين ، بلا خلاف ولا إشكال ؛ إذا لا مدخل للتوبة فيه ، بل يتوقف على إسقاط المستحق.

( ويصلب المحارب حيّاً ) إلى أن يموت ( على القول بالتخيير ) واختاره الإمام ؛ لأنّه أحد أفراد الحدّ وقسيم للقتل ، وهو يقتضي كونه حيّاً.

( ومقتولاً على القول الآخر ) المفصِّل ؛ لأنّ صلبه على هذا القول على تقدير قتله وأخذه المال ، وقد تقدم أنّه يقتل أوّلاً ثم يصلب.

( ولا ) يجوز أن ( يترك ) المصلوب ( على خشبته أكثر من ثلاثة أيّام ) من حين صلبه ولو ملفقة.

والأصل فيه بعد الإجماع الظاهر ، المصرّح به في الخلاف (١) النصوص ، منها القويّان ، أحدهما النبوي قولاً : « لا تدعوا المصلوب بعد ثلاثة أيّام حتى ينزل فيدفن » (٢).

ونحوه الثاني المرتضوي فعلاً : « صلب رجلاً بالحيرة ثلاثة أيّام ، ثم أنزله يوم الرابع وصلّى عليه ودفنه » (٣).

وفي الصادقي : « المصلوب ينزل عن الخشبة بعد ثلاثة أيّام ويغسل ويدفن ، ولا يجوز صلبه أكثر من ثلاثة أيّام » (٤).

__________________

(١) الخلاف ٥ : ٤٦٣.

(٢) الكافي ٧ : ٢٦٨ / ٣٩ ، الوسائل ٢٨ : ٣١٩ أبواب حدّ المحارب ب ٥ ح ٢.

(٣) الكافي ٧ : ٢٤٦ / ٧ ، الفقيه ٤ : ٤٨ / ١٦٧ ، التهذيب ١٠ : ١٣٥ / ٥٣٤ ، الوسائل ٢٨ : ٣١٨ أبواب حدّ المحارب ب ٥ ح ١.

(٤) الفقيه ٤ : ٤٨ / ١٦٦ ، الوسائل ٢٨ : ٣١٩ أبواب حدّ المحارب ب ٥ ح ٣.

١٥٨

وللعامة قول بتركه حتى يسيل صديداً (١).

قيل : والظاهر أنّ اللّيالي غير معتبرة ، نعم تدخل اللّيلتان المتوسّطتان تبعاً للأيام ؛ لتوقفها عليهما ، فلو صُلِب أوّل النهار وجب إنزاله عشية الثالث ، ويحتمل اعتبار ثلاثة أيّام بلياليها بناءً على دخولها في مفهومها (٢).

والأحوط الأوّل بناءً على عدم تحتّم الصلب ثلاثة وحرمته بعدها.

( وينزل ) بعد ذلك ( ويغسل ) ويحنّط ( على القول بصلبه حيّاً ) وكذا على غيره إن لم يؤمر بالاغتسال قبل قتله ، وإن أُمِرَ به قبله أو قبل الصلب سقط وجوب غسله كما في نظائره.

والفرق بين القولين على ما يفهم من ظاهر (٣) الماتن هنا وفي الشرائع والفاضل في القواعد (٤) وجوب تقديم الغسل على الثاني ، وعدمه على الأوّل. ووجهه غير واضح ، ولذا سوّى بين القولين جماعة (٥).

( و ) كيف كان يجب أن ( يكفّن ويصلّى عليه ويدفن ) إذا كان مسلماً ، بلا خلاف منّا ، كما في النصوص المتقدّمة.

قيل : وللعامّة قول بأنّه لا يغسل ولا يصلّى عليه (٦).

( و ) حيث ( ينفى المحارب ) اختياراً أو حتماً ينفى بما هو الظاهر من معناه ، المصرّح به في كلام الأصحاب ، مدّعياً بعضهم (٧) الإجماع عليه‌

__________________

(١) حكاه في الخلاف عن ابن أبي هريرة ٥ : ٤٦٣ ، وهو في المجموع ٢٠ : ١٠٥.

(٢) الروضة ٩ : ٣٠١.

(٣) ليست في « ب » و « س ».

(٤) الشرائع ٤ : ١٨٢ ، القواعد ٢ : ٢٧٢.

(٥) منهم الشهيد في الدروس ٢ : ٦١ ، والشهيد الثاني في المسالك ٢ : ٤٥٠ ، وصاحب المفاتيح ٢ : ١٠١.

(٦) حكاه في كشف اللثام ٢ : ٤٣٢ ، انظر المجموع ٢٠ : ١٠٩.

(٧) انظر الخلاف ٥ : ٤٦١.

١٥٩

وأكثر أخبار الباب ، وهو أن يخرج ( عن بلده ) إلى غيره ( ويكتب ) إلى كلّ بلدٍ يأوي إليه ( بالمنع عن مؤاكلته ) ومشاربته ( ومجالسته ، ومعاملته حتى يتوب ) فإن لم يتب استمرّ النفي إلى أن يموت ، ونفيه عن الأرض كناية عن ذلك.

وفي رواية أنّ معناه إيداعه الحبس (١) ، كما عليه بعض العامّة (٢) ، وادّعى عليه الإجماع في الغنية (٣) ، لكن على التخيير بينه وبين المعنى المتقدّم.

وفي اخرى أنّ معناه رميه في البحر ليكون عدلاً للقتل والصلب والقطع (٤).

قيل : وينبغي حملها على ما إذا كان المحارب كافراً أو مرتدّاً عن الدين فيكون الإمام مخيّراً بين قتله بأيّ نحوٍ من الأنحاء الأربعة شاء ، وأمّا إذا كان جانياً (٥) مسلماً غير مرتدّ عن الدين فإنّما يعاقبه الإمام على نحو جنايته ، ويكون معنى النفي ما سبق (٦). وفيه نظر.

( واللصّ ) بالكسر واحد اللصوص ، وهو السارق ، وبالضم لغة ( محارب ) كما في الخبرين : « اللصّ محارب لله تعالى ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاقتله ، فما دخل عليك فعليّ » (٧).

__________________

(١) تفسير العيّاشي ١ : ٣١٤ / ٩١ ، الوسائل ٢٨ : ٣١١ أبواب حدّ المحارب ب ١ ح ٨.

(٢) وهو أبو حنيفة. أحكام القرآن لابن العربي ٢ : ٦٠٠ ، المغني لابن قدامة ١٠ : ٣٠٧ ، والشرح الكبير ١٠ : ٣٠٩.

(٣) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٥٨٤.

(٤) الكافي ٧ : ٢٤٧ / ١٠ ، الوسائل ٢٨ : ٣١٧ أبواب حدّ المحارب ب ٤ ح ٥.

(٥) في « س » : خائناً.

(٦) مفاتيح الشرائع ٢ : ١٠٠.

(٧) التهذيب ١٠ : ١٣٥ ، ١٣٦ / ٥٣٦ ، ٥٣٨ ، الوسائل ٢٨ : ٣٢٠ أبواب حدّ المحارب ب ٧ ح ١ ، ٢.

١٦٠