في إزالة العقاب (أَوْ نُرَدُّ) أي نرد إلى الدنيا (فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) من الشرك والمعصية (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أي أهلكوها بالعذاب (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) على الأصنام بقولهم : إنها آلهة ، وانها تشفع لنا.
٥٤ ـ لما ذكر سبحانه الكفار وعبادتهم غير الله سبحانه ، احتج عليهم بمقدوراته ومصنوعاته ، ودلّهم بذلك على أنه لا معبود سواه ، فقال مخاطبا لجميع الخلق : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) أي ان سيدكم ومالككم ومنشئكم ومحدثكم هو الله (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ) أي أنشأ اعيانها ، وابدعها لا من شيء ولا على مثال ، ثم امسكها بلا عماد يدعمها (وَالْأَرْضَ) أي وأنشأ الأرض : أوجدها كذلك (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أي في مقدار ستة أيام من أيام الدنيا ، ولا شبهة أنه سبحانه يقدر على الخلق أمثال ذلك في لحظة ولكنه خلقهما في هذه المدة لمصلحة ، وقيل : انه سبحانه علّم خلقه التثبت والرفق في الأمور (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) قيل معناه : ثم قصد إلى خلق العرش (يُغْشِي) أي يلبس (اللَّيْلَ النَّهارَ) يعني يأتي بأحدها بعد الآخر ، فيجعل ظلمة الليل بمنزلة الغشاوة للنهار ، ولم يقل : ويغشي النهار الليل لأن الكلام يدل عليه ، وقد ذكر في موضع آخر : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) أي يتلوه فيدركه سريعا ، يريد أنه يأتي في أثره كما يأتي الشيء في أثر الشيء طالبا له (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) أي مذللات جاريات في مجاريهن بتدبيره وصنعه ، خلقهن لمنافع العباد (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) إنما فصل بين الخلق والأمر لأن فائدتهما مختلفة ، لأنه يريد بالخلق : ان له الاختراع ، وبالأمر : ان له أن يأمر في خلقه بما أحبّ ، ويفعل بهم ما شاء (تَبارَكَ اللهُ) أي تعالى عن صفات المخلوقين والمحدثين (رَبُّ الْعالَمِينَ) أي خالقهم ومالكهم وسيدهم.
٥٥ ـ ٥٦ ـ ثم أمر سبحانه بعد ذكره دلائل التوحيد بدعائه على وجه الخشوع كافة عبيده فقال : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) أي تخشعا وسرا عن الحسن قال : بين دعوة السر ودعوة العلانية سبعون ضعفا وقال : ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت إن كان إلا همسا بينهم وبين ربّهم (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) معناه : لا يحبّ المجاوزين الحد المرسوم في جميع العبادات والدعوات (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها) ومعناه : النهي عن قتل المؤمنين وإضلالهم ، والعمل بالمعاصي في الأرض بعد أن أصلحها الله بالكتب والرسل وقيل : لا تفسدوها بعد اصلاحها بالعدل (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) خوفا من عقابه ، وطمعا في ثوابه (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) معناه : ان انعام الله قريب إلى فاعلي الإحسان وقيل : إن رحمة الله أي ثوابه قريب من المطيعين. والإحسان : هو النفع الذي يستحق به الحمد ، والإساءة : هي الضرر الذي يستحق به الذم.
٥٧ ـ ٥٨ ـ لما اخبر الله سبحانه في الآية المتقدمة بأنه خلق السماوات والأرض وما فيهما من البدائع ، عطف على ذلك بقوله : (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) تعداد النعمة على بريته ، أي يطلقها ويجريها منتشرة في الأرض ، أو محيية للأرض ، أو مبشرة بالغيث (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ) أي حملت (سَحاباً ثِقالاً) بالماء (سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) أي إلى بلد ميت ، وموت البلد : تعفي مزارعه ، ودروس مشاربه لا نبات فيه ولا زرع (فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ) أي فانزلنا بالبلد الماء (فَأَخْرَجْنا بِهِ) أي بهذا الماء المنزل ، أو بهذا البلد (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) يحتمل أن يكون من للتبعيض ،