٦٦ ـ ٧٠ ـ ثم عطف سبحانه على ما تقدم من دلائل التوحيد ، وعجائب الصنعة ، وبدائع الحكمة بقوله (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ) يعني الإبل والبقر والغنم (لَعِبْرَةً) أي لعظة واعتبارا ودلالة على قدرة الله تعالى (نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً) روى الكلبي عن ابن عباس قال : إذا استقر العلف في الكرش صار أسفله فرثا ، وأعلاه دما ، ووسطه لبنا ، فيجري الدم في العروق ، واللبن في الضرع ، ويبقى الفرث كما هو ، فذلك قوله : (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً) لا يشوبه الدم ولا الفرث (سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) أي جائزا في حلوقهم ، والكبد مسلطة على هذه الأصناف فيقسمها على الوجه الذي اقتضاها التدبير الإلهي (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً) قيل : معناه : ولكم عبرة فيما أخرج الله لكم من ثمرات النخيل والأعناب (وَرِزْقاً حَسَناً) والرزق الحسن ما أحل منهما كالخل والزبيب والرب والرطب والتمر (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي دلالة ظاهرة (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) عن الله تعالى ذلك ، ويتفكرون فيه. بيّن الله سبحانه بذلك انكم تستخرجون من الثمرات عصيرا يخرج من قشر قد اختلط به ، فكذلك الله يستخلص ما تبدد من الميت مما هو مختلط به من التراب (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) أي جعل ذلك في غرائزها بما يخفى مثله عن غيرها عن الحسن ؛ قال أبو عبيدة : الوحي في كلام العرب على وجوه ، منها : وحي النبوة ، ومنها : الإلهام ، ومنها : الإشارة ، ومنها : الكتاب ، ومنها : الاسرار ، فوحي النبوة في قوله : (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ) ، والالهام في قوله : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) ، (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) ، والإشارة في قوله : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا) ، قال مجاهد : معناه. أشار إليهم ، والاسرار في قوله يوحي بعضهم إلى بعض والمعنى : ان الله تعالى الهم النحل اتخاذ المنازل والمساكن والأوكار والبيوت في الجبال والشجر وغير ذلك (أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً) للعسل ولا يقدر على مثلها أحد (وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) أي ومن الكرم لأنه الذي يعرش ويتخذ منه العريش والمعنى : ما يبني الناس لها من خلاياها التي تعسّل فيها لولا إلهام الله إياها ما كانت تأوي إلى ما بني لها من بيوتها (ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي من أنواع الثمرات من أي ثمرة شئت (فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ) أي فادخلي سبل ربك التي جعلها الله لك (ذُلُلاً) اي مذللة موطأة للسلوك ، واسعة يمكن سلوكها (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) وهو العسل فإن الوانه مختلفة لأن منه ما هو شديد البياض ومنه ما هو أصفر ، ومنه ما يضرب إلى الحمرة ، وذلك ان النحل تتناول ألوانا مختلفة من النبات والزهر فيجعلها الله تعالى عسلا على ألوان مختلفة يخرج من بطونها إلّا انها تلقيه من أفواهها كالريق الذي يخرج من فم إبن آدم (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) من الأدواء (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) معناه : ان فيما ذكرناه من بدائع صنع الله تعالى دلالة بينة لمن تفكر فيه. ثم بيّن نعمته علينا في خلقنا واخراجنا من العدم إلى الوجود فقال (وَاللهُ خَلَقَكُمْ) أي أوجدكم وأنعم عليكم بضروب النعم الدينية والدنيوية (ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) أي يميتكم (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أي أدون العمر وأوضعه ، أي يبقيه حتى يصير إلى حال الهرم والخوف فيظهر النقصان في جوارحه وحواسه وعقله (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) أي ليرجع إلى حال الطفولية بنسيان من كان علمه لأجل الكبر ، فكأنه لا يعلم شيئا مما كان علمه (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بمصالح عباده (قَدِيرٌ) على ما يشاء من تدبيرهم.
٧١ ـ ٧٤ ـ ثم عدد سبحانه نعمة منه أخرى فقال (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ) فوسع على واحد ، وقتر على آخر على ما توجبه الحكمة (فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي