بَعْدَ إِيمانِهِمْ) معناه : كيف يسلك الله بهم سبيل المهتدين بالإثابة لهم والثناء عليهم وقد كفروا بعد إيمانهم (وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌ) عطف على قوله بعد إيمانهم وتقديره : بعد أن آمنوا وشهدوا أن الرسول حق (وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) أي البراهين والحجج (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) أي لا يسلك بالقوم الظالمين مسلك المهتدين ، ولا يثيبهم ولا يهديهم إلى طريق الجنة (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ) على أعمالهم (أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ) وهي إبعاده إياهم من رحمته ومغفرته (وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) هي دعاء عليهم باللعنة وبأن يبعدهم الله من رحمته (خالِدِينَ فِيها) أي في اللعنة لخلودهم فيما استحقوا باللعنة وهو العذاب (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) لا يسهل عليهم (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أي ولا يمهلون للتوبة ، ولا يؤخر عنهم العذاب من وقت إلى وقت آخر ، وإنما نفى انظارهم للتوبة والإنابة لما علم من حالهم أنهم لا ينيبون كما قال : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) أي تابوا من الكفر ، ورجعوا إلى الإيمان ، وأصلحوا ضمائرهم ، وعزموا على أن يثبتوا على الإسلام (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر ذنوبهم (رَحِيمٌ) يوجب الجنة لهم وذكر المغفرة دليل على ان إساقط العقاب بالتوبة تفضل منه سبحانه ، وان ما لا يجوز المؤاخذة به أصلا لا يجوز تعليقه بالمغفرة ، وان ما يعلق بالمغفرة ما يكون له المؤاخذة به.
٩٠ ـ لما تقدّم ذكر التوبة المقبولة عقّبه الله بما لا يقبل منها فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) نزلت في أهل الكتاب الذي آمنوا برسول الله صلىاللهعليهوآله قبل مبعثه ثم كفروا به بعد مبعثه ، فهم كلما نزلت آية كفروا بها فازدادوا كفرا إلى كفرهم (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) لأنها لم تقع على وجه الإخلاص ، ويدل عليه قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) ، ولو حقّقوا التوبة لكانوا مهتدين ، وقيل : لن تقبل توبتهم عند رؤية اليأس لأنها تكون في حال الإلجاء ، ومعناه : أنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت والمعاينة ، عن الحسن وقتادة والجبائي ، وقيل : لأنها أظهرت الإسلام تورية فاطلع الله تعالى رسوله على سرائرهم عن ابن عباس ، وقد دلّ السمع على وجوب قبول التوبة إذا حصلت شرائطها وعليه إجماع الأمة (أُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) عن الحق والصواب وقيل : الهالكون المعذبون.
٩١ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) أي على كفرهم (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) أي مقدار ما يملأ الأرض من الذهب (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) بذله عوضا ومعناه : أن الكافر الذي يعتقد الكفر وإن أظهر الإيمان لا ينفعه الإنفاق ، بمعنى أنه لا يوجب له الثواب ، وقيل معناه : لا يقبل منه في الآخرة لو وجد إليه السبيل. قال قتادة : يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له : أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا لكنت تفتدي به؟ فيقول : نعم ، فيقال له : لقد سئلت أيسر من ذلك فلم تفعل.(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) قد ذكرنا معناه.
٩٢ ـ (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) أي لن تدركوا بر الله تعالى بأهل طاعته وقيل معناه : لن تكونوا أبرارا ، أي صالحين أتقياء (حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) أي حتى تنفقوا المال ، وإنّما كنّى بهذا اللفظ عن المال لأن جميع الناس يحبون المال وقيل معناه : ما تحبّون من نفائس أموالكم دون ارذالها ، كقوله تعالى : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ) وقيل : هو الزكاة الواجبة وما فرضه الله في الأموال ، عن ابن عباس والحسن ، وقيل : هو جميع ما ينفقه المرء في سبيل الخيرات ، عن مجاهد (وَما