قوله تعالى : (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً).
تأكيد الى أنّ غلف القلوب إنّما كان من صنع أنفسهم لا من صنع الله تعالى وخلقته ، إلّا بالمعنى الّذي تقدّم من أنّ كثرة ارتكاب المعاصي والآثام والتمادي في الكفر والطغيان يوجبان إعراض الله تعالى عنها ، فيطبع الله تعالى أعمالهم فيها ، فتصير قاسية لا تقبل الحقّ ، فلم يخلق الله تعالى قلوبهم مغشية بالغشاء ، وإلّا فلا يؤمن منهم أحد أبدا ، فيكون إيمان بعضهم ولو كانوا قليلين دليلا على أنّ الغشاء على القلوب إنّما حصل من أعمالهم.
وممّا ذكرنا يعرف معنى الاستثناء في المقام ، وقد أتى به لإثبات هذه الجهة ولنفي الإلجاء الّذي يستفاد من ظاهر كلامهم ، فيرجع المعنى الى أنّهم بكفرهم وقتلهم الأنبياء وارتكابهم سيئات الأعمال وتوغّلهم في العصيان قد أفسدت أخلاقهم حتّى انطبعت تلك الآثار السيئة على قلوبهم ، فلا يؤمنون لأنّ قلوبهم في غشاء صنعوه بأنفسهم ، إلّا من هداه الله تعالى ولم يصل الى هذه المرتبة من الطغيان ، فيقبل الحقّ ويهتدي بنور الإيمان ، وقد ذكر المفسّرون في المقام أقوالا كثيرة ذكرنا جملة منها في أمثاله فراجع.
وذكر بعضهم أنّ المراد من الآية الشريفة : لا يؤمن إلّا إيمانا قليلا ، وهو الإيمان بموسى عليهالسلام ، ولكن ذلك باطل ؛ لأنّ الإيمان القليل بالمعنى الّذي ذكر لا اعتبار به عند القرآن كما عرفت في صدر هذه الآيات المباركة.
كما أنّ ظاهر هذه الآية الكريمة أنّها في صدد ذكر كلتا الطائفتين الكافرتين اللتين طبع على قلوبهم ، والمؤمنين الّذين هم ليسوا كذلك.
قوله تعالى : (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً).
نوع آخر من الكفر الّذي ارتكبوه وهو الكفر بعيسى عليهالسلام ونسبة الفحشاء الى مريم العذراء الطاهرة ، والبهتان : الكذب الّذي يبهت من يقال فيه ويدهشه ويحيّره ، وهو من أقبح الكذب.
وإنّما وصف هذا البهتان بكونه عظيما إمّا لكونه قد نسب الى من كانت