والمأوى. ثم خاطب سبحانه جميع المكلفين فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) قال الأخفش : إن قيل : فأين المثل الذي ذكر الله في قوله : (ضُرِبَ مَثَلٌ)؟ قيل : ليس ها هنا مثل ، والمعنى ان الله قال ضرب لي مثل ، أي شبه في الأوثان ثم قال : فاستمعوا لهذا المثل الذي جعلوه مثلي ، وقال القتيبي : هاهنا مثل لأنه : ضرب مثل هؤلاء الذين يعبدون الأصنام بمن عبد من لا يخلق ذبابا وقيل معناه : أثبت حديثا يتعجب منه ، فاستمعوا له لتقفوا على جهل الكفار من قولك : ضربت خيمة ، أي نصبتها واثبتها وقيل معناه : جعل ذلك كالشيء اللازم الثابت من قولك : ضرب السلطان الجزية على أهل الذمة (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) يعني الأصنام ، وكان ثلاثمائة وستين صنما حول الكعبة (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) في صغره وقلّته (وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً) مما عليهم. قال ابن عباس : كانوا يطلون أصنامهم بالزعفران فيجف فيأتي الذباب فيختلسه (لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) أي لا يقدرون على استنقاذه منه (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) الطالب الذباب ، والمطلوب الصنم عن ابن عباس وروي عنه على العكس من هذا وهو : أن الطالب الصنم ، والمطلوب الذباب ، فعلى هذا يكون معناه : ضعف السالب والمسلوب. وقيل : ان معناه راجع إلى العابد والمعبود ، أي جهل العابد والمعبود ، وقهر العابد والمعبود ، عن الضحاك وهو معنى قول السدي : الطالب : الذي يطلب إلى هذا الصنم بالتقرب إليه ، والصنم المطلوب إليه (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي ما عظموه حق عظمته حيث جعلوا هؤلاء الأصنام شركاء له عن الحسن والفراء وقيل : معناه ما عرفوه حقّ معرفته عن الأخفش وقيل : ما وصفوه حق صفته عن قطرب (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي قادر لا يقدر أحد على مغالبته (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) يعني جبرائيل وميكائيل (وَمِنَ النَّاسِ) يعني النبيين (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) سميع بأقوالهم ، بصير بضمائرهم وأفعالهم.
٧٦ ـ ٧٨ ـ لما وصف الله سبحانه نفسه بأنه سميع بصير عقّبه بقوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) يعني ما بين أيدي الخلائق من القيامة وأحوالها ، وما يكون في مستقبل أحوالهم (وَما خَلْفَهُمْ) أي وما يخلفونه من دنياهم وقيل : يعلم ما بين أيديهم : أي أول أعمالهم ، وما خلفهم آخر أعمالهم (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) يوم القيامة فلا يكون لأحد أمر ولا نهي. ثم خاطب سبحانه المؤمنين فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) أي صلّوا (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) بفعل ما تعبدكم به من العبادات (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) قال ابن عباس : يريد صلة الرحم ، ومكارم الأخلاق ومعناه : لا تقتصروا على فعل الصلاة والواجبات من العبادات وافعلوا غيرها من أنواع البر من اغاثة الملهوف ، وإعانة الضعيف ، وبرّ الوالدين وما جانسها (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي لكي تفلحوا وتسعدوا (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) أكثر المفسرين حملوا الجهاد هاهنا على جميع أعمال الطاعة وقالوا : حق الجهاد أن يكون بنيّة صادقة خالصة لله تعالى وقال السدي هو أن يطاع فلا يعصى (هُوَ اجْتَباكُمْ) أي اختاركم واصطفاكم لدينه (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي من ضيق لا مخرج منه ولا مخلص من عقابه ، بل جعل التوبة والكفارات وردّ المظالم مخلصا من الذنوب ، فليس في دين الإسلام ما لا سبيل إلى الخلاص من العقاب به ، فلا عذر لأحد في ترك الإستعداد للقيامة. وقيل معناه : ان الله سبحانه لم يضيّق عليهم أمر الدين ، فلن يكلّفكم ما لا تطيقون ، بل كلف دون الوسع ، فلا عذر لكم في تركه وقيل : انه يعني الرخص عند الضرورات كالقصر والتيمم وأكل الميتة ، عن الكلبي ومقاتل ، واختاره الزجاج (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) أي دينه ، لأن ملة إبراهيم داخلة في ملة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم وإنّما سمّاه أبا للجميع لأن حرمته على المسلمين كحرمة الوالد على الولد كما قال : (وَأَزْواجُهُ