أخذتهم بما تحمى إيمانهم به ، فحاطتهم بعبادات وألزمتهم بواجبات ، والناس لا يمضون فيما يجدّ عليهم خرسا لا ينطقون ، وعميا لا ينظرون ، وغفلا لا يتدبّرون ، بل هم عن كل ما يعرض لهم سائلون ، والوحى يتابعهم فى كل ما يستفسرون عنه ، إذ به تمام الرسالة.
ثم إن هذه الدعوة السماوية بدأت جهادا وعاشت جهادا ، أملته الأيام وتمخضت عنه الأعوام ، وهو وإن كان فى علم السماء قبل أن يقع لكنّه كان على علم الناس جديدا لم يقع ، وكان لا بد أن يلقونه مع زمانه وأوانه.
ثم ما أكثر ما أخذ الناس وأعطوا فى ظلّ الدعوة لتثبت أركانها فى نفوسهم ، وهذا ـ وإن كان فى علم السماء قبل أن يقع ـ لكنّه كان على حياة الناس جديدا لم يقع ، وكان لا بد أن يلقنوا بيانه مع زمانه وأوانه.
وهكذا لم تكن الرسالة كلمة ساعتها ، وإنما كانت كلمات أعوام ثمانية عشر ، وكانت هذه الكلمات كلها فى علم السماء وفى اللوح المحفوظ ، ولكنها نزلت إلى علم الناس مع زمانها وأوانها.
لهذا نزل القرآن منجّما.
ولقد خال المشركون أن دعوة الرسول إليهم كلمة ، وأن صفحته معهم صفحة ، وفاتهم أن الدعوة معها خطوات ، وأن هذه الخطوات معها جديد على علمهم لا على علم السماء ، وما أحوجهم مع كل جديد إلى بيان ، ومن أجل هذا الذى فاتهم استنكروا أن ينزل القرآن منجّما وقالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) (١) ، وكان جواب السماء عليهم : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) (٢) أى : جعلنا بعضه فى إثر بعض ، منه ما نزل ابتداء ، ومنه ما نزل فى عقب واقعة أو سؤال ، ليكون فى تتابعه مع الأحداث ، وما تثيره من شكوك ، ما يردّ النفوس إلى طمأنينة ، والأفئدة إلى ثبات.
وإنك لو تتبّعت أسباب النّزول فى القرآن ومواقع الآيات لتبينت أن رسالة الرسول لم تكن جملة واحدة ليكون القرآن جملة واحدة ، بل كانت أحداثا متلاحقة تقتضى كلمات متلاحقة.
فلقد نزلت آية الظّهار فى سلمة بن صخر ، ونزلت آية اللّعان فى شأن هلال بن أمية ، ونزلت آية حدّ القذف فى رماة عائشة ، ونزلت آية القبلة بعد الهجرة وبعد أن استقبل المسلمون بيت المقدس بضعة
__________________
(١) الفرقان : ٣٢.
(٢) الفرقان : ٣٢.