ومهما يكن ، فإنّ كلام الإمام عليهالسلام يبدو واضحا قاطعا للعذر ، وهو غير متّهم في موقفه من الزهد والتواضع ، وما الى ذلك مما يراد استغلاله من قبل المشعوذين ، لإغراء العوام ، وإغواء الجهّال.
إنّ فيه تحذيرا من علماء السوء ، المتزيّين بزيّ أهل الصلاح ، والمتظاهرين بالورع والتقى ، ولكنهم يبطنون الخبث والمكر ، والدليل على ذلك ارتباطهم الوثيق بأهل الدنيا والرئاسات الباطلة ، من الحكّام والولاة وأصحاب الأموال.
وسيأتي الحديث عن موقفه من أعوان الظلمة في الفصل الخامس.
إن الواقعيّة التي التزمها الإمام زين العابدين عليهالسلام في حياة الزهد والعبادة ، كما اتفتحت له بها قلوب الناس الطيّبين ، فكذلك اقتحم بها على الظالمين أبراجهم ، وقصورهم ، فملأ أثوابهم خيفة ورهبة ، كما غشّى عيونهم وأفكارهم بما رأوه عليه من المظهر الزاهد ، والاشتغال بالعبادة.
ولقد قرأنا في حديث مسلم بن عقبة ـ سفّاح الحرّة ـ لمّا طلب الإمام ، فأكرمه ، وقد كان مغتاظا عليه ، يبرأ منه ومن آبائه ، فلمّا رآه ـ وقد اشرف عليه ـ اُرعب مسلم بن عقبة ، وقام له ، وأقعده الى جانبه!
فقيل لمسلم : رايناك تسبّ هذا الغلام وسلفه ، فلما اُتي به إليك رفعت منزلته؟
فقال : ما كان ذلك لرأي منّي ، لقد مليء قلبي منه رعبا (١).
وسنقرأ في حديث عبدالملك بن مروان ، لمّا جلب الإمام مقيّدا مغلولا من المدينة الى الشام ، فلمّا دخل عليه الإمام عليهالسلام بصورة مفاجئة قال لعبد الملك : ما أنا وأنت؟
قال عبد الملك : قلت : أقم عندي.
فقال الإمام : لا اُحبّ ، ثم خرج.
قال عبدالملك : فوالله ، لقد امتلأ ثوبي منه خيفة (٢).
__________________
(١) مروج الذهب ( ٣ : ٨٠ ) وانظر ما مضى ص (٧١) الفصل الأول.
(٢) تاريخ دمشق ( الحديث ٤٢ ) ومختصره لابن منظور ( ١٧ : ٤ ـ ٢٣٥ ).