بالمستقبل تعلّقاً طوباويّاً ، أو يتعامل مع الماضي تعاملاً اُصوليّاً ، وكلاهما خطر ومدمّر ، كلاهما يؤول إلى العزلة أو ينتج الضعف والهشاشة ..
ويقول أيضاً في «نقد الحقيقة» ص ٢٠ ، ١١٤ :
صحيح أنّ العقل مضطرّ بحكم بنيته نفسها إلى الانتهاء إلى مبادئ أوّليّة يبدأ بها ، أو إلى الوقوف على اُسس يبني عليها ، لكنّ مصير الفكر أن يكتشف مع كلّ محاولة أنّ الأوّليّات ليست اُولى وأنّ الاُسس مؤسَّسة بدورها وأ نّها تحتاج إلى السؤال والفحص .. هذا هو قدر الفكر ، إنّه يشتغل ، أي يوضّح ويبيّن بما ينمّ عن الوضوح والبيان ، أو بما ليس واضحاً بيّناً بذاته ، أو بما يحتاج أبداً إلى إيضاح وتبيان ، ولنقل ـ الأحرى ـ بما يحتاج إلى تفسير وتأويل .. إنّ الفكر يتأمّل ذاته فيما هو ينظر في موضوعاته ، أي أنّه يفكّر في مبادئه وبها في الآن نفسه .. ومبادئ الفكر وإن كانت تستعصي على الوضوح والتميّز بسبب من ذلك ، أيّ تفكير فيها إلاّ بها ، فهي لا تخرج بالكليّة عن فلك الفكر ; إذ لا معرفة اُولى .. ولهذا فالمهمّة التي يضطلع بها الفكر هي التنقيب عمّا يؤسّس الاُسس ، والبحث عن القبليات التي تسبق القَبْل ، والحفر في طبقات الأقوال عن بداهاتها التي لم تُقَل ، والضرب في ظلمات الأشياء عمّا غاب عنها وانتسى .. والمفكّر كلّما ضرب في ظلمة كشف وأضاء ، وكلّما حفر في طبقة ارتقى درجة في معارج المعرفة ، وكلّما بحث عن مسبق حقّق سبقاً وفتح إمكاناً لم يكن ممكناً ، وكلّما نقّب عن أصل أعاد التأسيس واستأنف الوضع ..