الفكريّة لا يقطع ولا يبتّ ، أي لا يتوهّم يقيناً ولا يعرف أمناً ، وإنّما هو في تعايش دائم مع المشكلة ، ولذا فهو يقيم على طرق التناقض ، ويقف على حدّ السؤال أو على شفا الفجوة ..
ليس الفكر مجرّد تذكّر نتماهى به مع أصل أوّل أو مع نموذج كامل .. ولا هو مجرّد طوبى نتخيّل عبرها ما يجب أن يكون ، أو ما نأمل أن يقع .. وإنّما هو رهان لأن نكون على غير ما نحن عليه ، بتغيير علاقتنا بذواتنا وبالواقع في آن .. والرهان هو علاقة بالحاضر ، كما هو علاقة بالمستقبل والماضي ، إنّه تشخيص للواقع ، يوظّف الماضي من أجل إبقاء الحاضر راهناً دوماً ، بفتحه على المستقبل ، أي على المجهول واللامتوقّع ، وذلك بإقامة «علاقة نقدية» مع الحاضر ومع الذات وفقاً لصياغة ميشال فوكو ، علاقة تتيح للواحد أن يفكّر في ما لم يكن ممكناً التفكير فيه ، أو أن يفعل ما لم يكن بالمستطاع فعله .. وهكذا فالفكر هو علاقة بالحاضر عبر الماضي باتّجاه المستقبل ، تسمح للمرء بأن يصير على غير ما هو عليه ، فيما هو ينخرط في واقعة ويحيا زمنه ..
ولا يمكن لهذه الصيرورة أن تتحقّق إلاّ إذا مورس التفكير كتوليفة بين الحسّاسيّة الفائقة والفهم الخارق والخيال الخلاّق ... بكلام آخر : ليس الفكر المنتج الفعّال وقوعاً في فخّ الهوية ، ولا هو رجم بالغيب ، وإنّما هو صنع حقائق تفرض نفسها ، أو تشكيل واقع يترك أثره في المستقبل ، كما هو شأن كلّ حدث هامّ وخطير .. ولا شكّ أنّ محور التفكير هو العلاقة بما يحدث .. من لا يحيا زمنه أو لا يحسن التعاطي مع حاضره يتعلّق