حاملةً أنواع المأكولات ، عملاً بالعادات العرفيّة والشرعيّة من باب استحباب تفطير الصائم ، أضف إلى ذلك فقرات السهرة المختلفة التي تستمرّ حتى السحور ، وكنّا نسعى للحصول على وجبة السحور الدسمة التي تمنحنا طاقة التحمّل حتى الظهر ، وبذلك نكون قد صمنا «صوم العصافير» ، ولم يخطر ببالي أن صمت «صوم العصافير» إلاّ نادراً ..
كلّ شيء كان يبدو كبيراً واسعاً شاهقاً في عيوننا ، ولعلّ السبب يعود إلى كون الطفل الصغير يرى الأشياء قياساً إلى صغره ، فتبدو له أكبر وأوسع وأشهق ممّا هي عليه ، وقد اتّضح لي الأمر جليّاً بعد ما سافرت إلى العراق عام السقوط ; إذ وجدت الأشياء والأبنية والشوارع في مدينتي صغيرة ومنخفضة وضيّقة ، فذاك شارع الحبوبي الذي كنت أتهيّب عبوره وجدته مجرّد شارع ضيّق لا يتجاوز عرضه الأمتار القليلة ، كما وجدت بيتنا منخفض الارتفاع بخلاف ما كنت أراه سابقاً عالياً شاهقاً ، أمّا شارع محلّتنا القديمة «محلّة الجامع» فكان بعيوننا من الوسع بحيث نقيم فيه مباريات كرة القدم ، بينما وجدته حالياً ـ وهو ذاته لم يتغيّر ـ مجرّد فرع من الفروع الضيّقة ..
وهكذا كانت طموحاتنا وأمانينا صغيرة كصغرنا ، أمّا قلوبنا فكانت كبيرة جدّاً ، لا تفهم معنى الحقد والزعل وكلّ الأشياء الرديئة التي تعلّمناها في الكبر ورست آثارها على صفحات قلوبنا التي ما كانت تحمل في طفولتها إلاّ الحبّ والوفاء والجمال ..