عن أمارة المفسدة ، وموضوع الحظر عند الحاظرين هو التصرّف في مال الغير بدون إذن صاحبه ، بزعمهم أنّ العقل يحكم على هذا الموضوع بالحظر ، فإذا ورد في مورد رخصة من الشرع خرج المورد عن هذا الموضوع بسبب انتفاء قيد عدم الإذن.
إلاّ أن يقال : إنّ الحكم الظاهري ما تعلّق بفعل المكلّف لاندراجه تحت عنوان عامّ محكوم عليه بذلك الحكم وإن لم يؤخذ فيه الجهل بالحكم الواقعي ، ولكنّه خلاف المصطلح ، مع أنّه يستلزم كون كثير من الأحكام الواقعيّة أحكاما ظاهريّة ، لمكان تعلّقها بأفعال المكلّفين على هذا الوجه.
وبما بيّنّاه اندفع ما أورده بعض الفضلاء على بعض الأعلام في تنزيله مقالة المبيح والحاظر على إرادة الحكم الواقعي ، بأنّه : « قد تبيّن لغير المصوّبة منهما بعد ملاحظة الشرع فساد كلّ من المقالتين ، فكان اللازم لهم ترك النزاع ، وإلاّ لعاد محصّله إلى أنّ أيّ الجهلين المركّبين يلحق الفعل قبل ملاحظة الشرع؟ وهو لا يشبه بنزاع أهل العلم » (١) فإنّ خروج مورد عن موضوع حكم إلى موضوع حكم آخر ليس من انكشاف خطأ حكم العقل ، ولا من تبدّل حكم بحكم آخر مع اتّحادهما ، فتبيّن فساد كلّ من المقالتين بعد ملاحظة الشرع موضع منع ، وقضيّة تعدّد موضوعي الحكمين عدم ارتباط المقام بالتصويب كما زعمه الفاضل المذكور ، فلا يعود النزاع إلى ما ذكر من لحوق أيّ الجهلين بالفعل ، بل النزاع في لحوق أيّ الحكمين الواقعيّين عقلا بالأفعال الغير الضروريّة المشتملة على المنفعة الخالية عن أمارة المفسدة.
وبجميع ما قرّرناه ظهر الفرق بين أصل الإباحة وأصل البراءة ، من حيث إنّ مفاد الأوّل حكم واقعي ومفاد الثاني حكم ظاهري ، ولزمه فرق آخر وهو كون الأوّل من الاصول الاجتهاديّة الناظرة إلى الواقع ، والثاني من الاصول الفقاهيّة الّتي لا نظر فيها إلى الواقع المتكفّلة لبيان كيفيّة العمل.
لا يقال : فائدة الفرق بين الاجتهاد والفقاهة إنّما تظهر في صلاحية المعارضة وعدمها ، وهذه الفائدة هاهنا منتفية ، لأنّه إذا ورد في الشرع تحريم بعض المنافع كالغناء مثلا فكما أنّ أصل البراءة لا يصلح لمعارضة دليل التحريم فكذلك أصل الإباحة ، فإنّ عدم المعارضة في نحو الصورة المفروضة إنّما هو لخروج المورد عن موضوع الأصل ، وهو المنفعة الخالية عن أمارة المفسدة ، لكون دليل التحريم الوارد فيه أمارة للمفسدة ، وإلاّ فلو فرض الدليل
__________________
(١) الفصول : ٣٤٥.