مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-120-6
ISBN الدورة:
الصفحات: ٤٩٢
مِّن فَضْلِهِ ، قال : أجورهم يدخلهم الجنة ، ويزيدهم من فضله الشفاعة فيمن وجبت لهم النار ممن صنع اليهم المعروف في الدنيا .
ـ وما رواه في الدر المنثور ج ٣ ص ٢٥٦
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ، ثم أمر منادياً ينادي : ألا ليقم أهل المعروف في الدنيا ، فيقومون حتى يقفوا بين يدي الله ، فيقول الله : أنتم أهل المعروف في الدنيا ؟ فيقولون نعم ، فيقول وأنتم أهل المعروف في الآخرة ، فقوموا مع الأنبياء والرسل فاشفعوا لمن أحببتم فأدخلوه الجنة حتى تدخلوا عليهم المعروف في الآخرة كما أدخلتم عليهم المعروف في الدنيا ! .
ـ ويؤيده من مصادرنا ما رواه المجلسي في بحار الأنوار ج ٨ ص ٢٨٨
عن ثواب الأعمال للصدوق ص ١٦٣ قال : أبي ، عن سعد ، عن النهدي ، عن ابن محبوب ، عن علي بن يقطين ، عن أبي الحسن موسى عليهالسلام قال : كان في بني إسرائيل رجلٌ مؤمن وكان له جارٌ كافر فكان يرفق بالمؤمن ويوليه المعروف في الدنيا ، فلما أن مات الكافر بنى الله له بيتاً في النار من طين ، فكان يقيه حرها ويأتيه الرزق من غيرها ، وقيل له : هذا بما كنت تدخل على جارك المؤمن فلان بن فلان من الرفق ، وتوليه من المعروف في الدنيا !
وقال المجلسي : هذا الخبر الحسن الذي لا يقصر عن الصحيح ، يدل على أن بعض أهل النار من الكفار يرفع عنهم العذاب لبعض أعمالهم الحسنة ، فلا يبعد أن يخصص الآيات الدالة على كونهم معذبين فيها لا يخفف عنهم العذاب ، لتأيده بأخبار أخر .
ـ وفي بحار الأنوار ج ٨ ص ٤١ عن ثواب الأعمال أيضاً ص ١٦٧
عن أبي عبد الله عليهالسلام قال : إن المؤمن منكم يوم القيامة ليمر به الرجل له المعرفة
به
في الدنيا وقد أمر به إلى النار والملك ينطلق به ، قال فيقول له : يا فلان أغثني فقد كنت أصنع إليك المعروف في الدنيا وأسعفك في الحاجة تطلبها مني فهل عندك اليوم مكافأة ؟ فيقول المؤمن للملك المؤكل به : خلِّ سبيله ، قال فيسمع الله قول المؤمن فيأمر الملك أن يجيز قول المؤمن ، فيخلي سبيله . انتهى .
هذه الشفافية في الرحمة الإلۤهية وإكرامه تعالى لأنبيائه وعباده المؤمنين . . تتبخر عند قبائل قريش ورواتهم عندما يصلون إلى أسرة النبي صلىاللهعليهوآله !
بل تتحول إلى قسوة وخشونة ينسبونها إلى الله ورسوله ضد هذه الأسرة التي جعل الله مودتها أجراً لتبليغ الإسلام ، لأنه الضمانة الوحيدة لسلامة الإسلام ! !
أحاديث نجت من الرقابة القرشية
مع كل المحاولات المتقدمة بقيت أحاديث عديدة ، منها صحيح عندهم ، استطاعت أن تعبر نقاط التفتيش ، وتنجو من رقابة الثقافة القرشية الحاكمة ، وفيما يلي نماذج منها :
ـ تقدمت رواية الهيثمي في مجمع الزوائد ج ٨ ص ٢١٦ عن عمر وما قاله لصفية عمة النبي وما أجابه به النبي صلىاللهعليهوآله فقد جاء فيها :
قال فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا بلال هجر بالصلاة فهجر بلال بالصلاة ، فصعد المنبر صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ما بال أقوام يزعمون أن قرابتي لا تنفع ؟ ! كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي ! فإنها موصولة في الدنيا والآخرة ! انتهى .
وقد حاولت رواية أن تعتذر عن قول الخليفة عمر هذا باتهام أم هانئ أخت علي عليهالسلام بأنها كانت متبرجة ، فنهاها عمر عن ذلك ، وقال لها ذلك القول ! ولكن الظاهر أن حادثة أم هانئ حادثة أخرى غير حادثة صفية ، وقد كان جواب النبي صلىاللهعليهوآله فيها أيضاً حاسماً :
ـ قال في مجمع الزوائد ج ٩ ص ٢٥٧
عن عبد الرحمن بن أبي رافع أن أم هانئ بنت أبي طالب خرجت متبرجة قد بدا قرطاها ، فقال لها عمر بن الخطاب : إعملي فإن محمداً لا يغني عنك شيئاً ، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بال أقوام يزعمون أن شفاعتي لا تنال أهل بيتي ؟ ! وإن شفاعتي تنال حا وحكم ! ! وحا وحكم قبيلتان . انتهى .
ـ وذكرت مصادرنا كما في بحار الأنوار ج ٩٣ ص ٢١٩
أن عمر قال لها : غطي قرطك فإن قرابتك من رسول الله لا تنفعك شيئاً ! فقالت له : هل رأيت لي قرطاً يا ابن اللخناء ؟ ! ثم دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبرته بذلك وبكت ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله فنادى الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس فقال : ما بال أقوام يزعمون أن قرابتي لا تنفع ! لو قمت المقام المحمود لشفعت في حاء وحكم ! لا يسألني اليوم أحد من أبواه إلا أخبرته ! فقام إليه رجل فقال : من أبي يا رسول الله ؟ فقال : أبوك غير الذي تدعى له ، أبوك فلان بن فلان ! فقام آخر فقال : من أبي يا رسول الله ؟ قال : أبوك الذي تدعى له ! ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله : ما بال الذي يزعم أن قرابتي لا تنفع لا يسألني عن أبيه ؟ فقام إليه عمر فقال : أعوذ بالله يا رسول الله من غضب الله وغضب رسوله ، أعف عني عفا الله عنك . . .
ـ ونقل البيهقي في البعث والنشور ص ٥٩
حادثة ثالثة : عن أبي هريرة قال كانت امرأة من بني هاشم تحت رجل من قريش ، فكان بينه وبينها شيء فقال لها ستعلمين والله أنه لا ينفعك قرابتك من رسول الله ( ص ) شيئاً ! فخرج رسول الله مغضباً فقال : ما بال رجال يزعمون أن قرابتي لا تنفع ! وإني لترجو شفاعتي صدى أو سهلب !
ـ وفي الأنساب للسمعاني ج ١ ص ٣٠
عن أبي هريرة وعمار بن ياسر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أيها الناس ما لي أوذى في أهلي ؟ ! والله إن شفاعتي لتنال حاء وحكم وسلهب وصداء ، تنالها يوم القيامة !
وسلهب في نسب اليمن من دوس . قال ابن إسحاق : هذا مما يصدق نسابة مضر أن هذه القبائل من معد .
ـ وقال الديلمي في فردوس الأخبار ج ٤ ص ٣٩٩ ح ٦٦٨٣
أبو سعيد : ما بال أقوام يزعمون أن رحمي لا تنفع ؟ ! والله إن رحمي لموصولة في الدنيا والآخرة .
ـ وقال ابن الأثير في أسد الغابة ج ١ ص ١٣٤
عن شهر بن حوشب قال أقام فلانٌ ( يقصد معاوية ) خطباء يشتمون علياً رضي الله عنه وأرضاه ويقعون فيه حتى كان آخرهم رجلٌ من الأنصار أو غيرهم يقال له أنيس ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إنكم قد أكثرتم اليوم في سب هذا الرجل وشتمه ، وإني أقسم بالله أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إني لأشفع يوم القيامة لأكثر مما على الأرض من مدر وشجر ، وأقسم بالله ما أحدٌ أوصل لرحمه منه ، أفترون شفاعته تصل اليكم وتعجز عن أهل بيته ؟ ! ورواه في مجمع الزوائد ج ٩ ص ١٧٠ : عن شهر بن حوشب وفيه ( افيرجوها غيره ويقصر عن أهل بيته )
ـ تاريخ المدينة ج ٢ ص ٢٦٤
حدثنا أبو حذيفة ،
قال حدثنا سفيان ، عن أبيه ، عن أبي الضحى ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاء العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنك تركت فينا ضغائن منذ صنعت الذي صنعت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لن يبلغوا الخير ـ أو قال : الإيمان ـ حتى يحبوكم لله ولقرابتي ! أيرجو سؤلهم
شفاعتي
من مراد ، ولا يرجو بنو عبد المطلب شفاعتي ! وروى نحوه في كنز العمال ج ١٣ ص ٥١٢ وص ٥١٤
ـ الدر المنثور ج ٦ ص ٤٠٩
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر وأبي هريرة وعمار بن ياسر رضي الله عنهم قالوا : قدمت درة بنت أبي لهب مهاجرةً ، فقال لها نسوة أنت درة بنت أبي لهب الذي يقول الله تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فخطب فقال : يا أيها الناس ما لي أوذى في أهلي ، فوالله إن شفاعتي لتنال بقرابتي حتى أن حكماً وحاء وصدا وسلهباً تنالها يوم القيامة بقرابتي ! ورواه في كنز العمال ج ١٣ ص ٦٤٤ عن فردوس الديلمي .
ـ مجمع الزوائد ج ١٠ ص ٣٨٠
باب في أول من يشفع لهم : عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أول من أشفع له من أمتي أهل بيتي ، ثم الأقرب فالأقرب من قريش والأنصار . انتهى .
ولو تتبعنا المصادر لوجدنا الكثير من هذه الأحاديث . وهي مليئة بالحقائق والفوائد ، ونكتفي منها بما يلي :
أولاً : أن حديث ( ما لي أؤذى في أهل بيتي ) أصله هنا ، ولكن صار نصه في الصحاح ( ما لي أؤذى في أهلي ) وصار أهله صلىاللهعليهوآله بمعنى زوجته عائشة ، فقد ادعوا أن قصة الإفك التي اتهم فيها المنافقون المؤمنة الطاهرة الغافلة مارية القبطية ، كانت المتهمة فيها عائشة ورضوا هنا أن تكون عائشة من ( المؤمنات الغافلات ) اللواتي ذكرتهم الآية ، لكي تكون البراءة النازلة من السماء لها وليس لمارية ، وادعوا أن قول النبي صلىاللهعليهوآله : ما لي أؤذى في أهلي ، صدر بتلك المناسبة ! وصار المؤذي للنبي صلىاللهعليهوآله علياً بن أبي طالب ، الذي زعموا أنه أشار على النبي صلىاللهعليهوآله بطلاق عائشة !
ثانياً :
أن أذى القرشيين للنبي في آله صلىاللهعليهوآله كان كثيراً متكرراً وقد نصت مصادر
السنيين على عدد من حوادثه كما تقدم في حادثة ( برك على قدميه ) وتقدم هنا : قول فلان من قريش ( كمثل نخلة نبتت في كناسة ) وقول عمر لصفية ، وقوله لأم هانيء وقول ( صهر بني هاشم ) الذي لم يصرحوا باسمه ، وقصة بنت أبي لهب ، وشكوى العباس المتكررة .
كما أن تعدد الإيذاء وتعدد جواب النبي صلىاللهعليهوآله يفهم من تعدد أسماء القبائل الغريبة البعيدة التي ذكرها النبي صلىاللهعليهوآله عمداً ، بما آتاه الله من جوامع الكلم لتبقى أسماؤها ترنُّ في الأذان ويبقى حديثه في الأذهان . . الأمر الذي يدل على أن روح الإيذاء للنبي في آله صلىاللهعليهوآله كانت في القرشيين مرضاً لا عرضاً !
ثالثاً : ينبغي أن يسأل الذين يدافعون عن جميع الصحابة ويقدسونهم ، عن حكم هؤلاء الذين آذوا رسول الله صلىاللهعليهوآله وأغضبوه مراراً في أهل بيته ، فقد ثبت عليهم الحكم الذي نزل به القرآن في حقهم ، ولم يثبت أنهم جددوا إسلامهم وخرجوا من تبعات هذا الحكم .
رابعاً : إن هذه الأحاديث وحدها تكفي للمسلم لأن يعرف أن في الأمر شيئاً كبيراً يتعلق بآل النبي صلىاللهعليهوآله وأنه يجب إعادة النظر في الروايات التي تنفي أن النبي صلىاللهعليهوآله لم يوص لهم ، ولم يجعل لهم حقاً على الأمة ، ولم يعدهم بشفاعة خاصة . . وتكفيه لأن يحتمل أن تكون رواياتهم في أبي طالب من هذا النوع . وهذا الإحتمال كافٍ للتوقف عن تصديقها .
بخلهم على أبي طالب وخديجة وسخاؤهم على غيرهما
من ظلامة الخلافة القرشية أنها بخلت على أبي طالب بكلمة شكر ، في حين تبنت مشركين في مقابله لم يؤمنوا بالنبي صلىاللهعليهوآله فجعلتهم من أهل الجنة ، بل جعلتهم في مرتبة الأنبياء ! ومن أبرز هؤلاء ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل . . والنص التالي يبين بعض الرتب التي أعطوها لهؤلاء في الجنة ، بالمقايسة إلى الرتبة النازلة التي أعطوها لخديجة أم المؤمنين ورتبة الضحضاح لأبي طالب رضوان الله عليهما .
ـ قال الهيثمي في مجمع الزوائد ج ٩ ص ٤١٦
عن جابر بن عبد الله قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن عمه أبي طالب ، هل تنفعه نبوتك ؟ قال : نعم أخرجته من غمرات جهنم إلى ضحضاح منها .
وسئل عن خديجة ، لأنها ماتت قبل الفرائض وأحكام القرآن ، فقال : أبصرتها على نهر من أنهار الجنة في بيت من قصب ، لا صخب فيه ولا نصب .
وسئل عن زيد بن عمرو بن نفيل فقال : يبعث يوم القيامة أمةً وحده ، بيني وبين عيسى عليهالسلام . رواه أبو يعلي وفيه مجالد ، وهذا مما مدح من حديث مجالد ، وبقية رجاله رجال الصحيح .
وعن جابر قال سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيد بن عمرو بن نفيل فقلنا : يا رسول الله إنه كان يستقبل القبلة ويقول ديني دين إبراهيم وإلۤهي إله إبراهيم وكان يصلي ويسجد ؟ قال : ذاك أمة وحده ، يحشر بيني وبين يدي عيسى بن مريم .
وسئل عن ورقة بن نوفل وقيل : يا رسول الله إنه كان يستقبل القبلة ويقول إلۤهي إلۤه زيد وديني دين زيد ، وكان يتوجه ويقول :
رشدت فأنعمت ابن عمرو فإنما |
|
عنيت بتنور من النار حاميا |
بدينك ديناً ليس دين كمثله |
|
وتركك حنَّان الجبال كما هيا |
قال : رأيته يمشي في بطنان الجنة ، عليه حلة من سندس . انتهى .
وإنما جعلوا بيت القصب لخديجة ، لأنها بزعمهم توفيت قبل فرائض الصلاة والصوم والزكاة والحج ، فهي تستحق درجة سفلى في الجنة وبيتاً عادياً من قصب أو سعف النخل . . أما عائشة المحترمة عند دولة الخلافة فهي في الفردوس في قصر من ياقوت ولؤلؤ !
ويتألم المسلم عندما يرى في المصادر الإسلامية افتراءً على أم المؤمنين خديجة يصل الى حد اتهامها بأنها كانت تعبد اللات والعزى وتلح على النبي صلىاللهعليهوآله أن يعبدهما قبل منامه ، فيمتنع عن ذلك ! !
ـ فقد روى أحمد في مسنده ج ٤ ص ٢٢٢ وج ٥ ص ٣٦٢
عن عروة بن الزبير يعني ابن أخت عائشة قال : حدثني جار لخديجة بنت خويلد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول لخديجة : أي خديجة ، والله لا أعبد اللات والعزى ، والله لا أعبد أبداً ! ! قال فتقول خديجة : خل اللات ، خل العزى ، قال كانت صنمهم التي كانوا يعبدون ثم يضطجعون ! ! انتهى .
فكأن مدح عائشة يستلزم ذم ضرتها ، والتي توفيت قبل أن يتزوج النبي بها ! لأن النبي صلىاللهعليهوآله كان يذكرها دائماً بالخير ، ويباهي بها ! !
وأما ورقة المعاصر لأبي طالب أيضاً ، فهو في بطنان الجنة أي في وسطها ، يرفل بالسندس ، مع أنه مات بعد البعثة ولم يسلم ! والسبب في استحقاقه الجنة أنه كان يقول : أنا على دين زيد بن نفيل ! بينما ذكروا أن الدليل على كفر أبي طالب أنه كان يقول : أنا على دين عبد المطلب ! !
وأما زيد بن نفيل فقد عاش سنوات بعد البعثة ولم يسلم ، ورووا عنه أنه نهى المشركين ذات مرة عن تعذيب بلال ، ولكنهم جعلوه في مرتبة نبي لأنه ابن عم الخليفة عمر . . بل هو بزعمهم أتقى من النبي صلىاللهعليهوآله ، لأن النبي كان قبل البعثة مشركاً يذبح للأصنام ويأكل مما ذبح على النصب ، بينما كان زيد على دين إبراهيم لا يذبح للأصنام ولا يأكل إلا ما ذكر اسم الله عليه ، وقد نصح النبي صلىاللهعليهوآله ذات مرة أن لا يأكل مما ذبح على النصب فاقتدى النبي به ! !
إنها الكارثة الفكرية في الأمة . . عندما تفضل حكامها وأقاربهم على نبيها سيد الأنبياء ، وأهل بيته الطاهرين ! ! صلىاللهعليهوآله
ـ قال في مجمع الزوائد ج ٩ ص ٤١٧ : باب ما جاء في زيد بن عمرو بن نفيل . . .
قال فمر زيد بن عمرو
بالنبي صلى الله عليه وسلم وزيد بن حارثة ، وهما يأكلان من سفرة فدعياه فقال : يا بن أخي لا آكل ما ذبح على النصب ، قال فما رؤي النبي
صلى الله عليه وسلم يأكل ما ذبح على النصب من يومه ذلك ، حتى بعث .
قال : وجاء سعيد بن زيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن زيداً كان كما رأيت أو كما بلغك ، فأستغفر له ؟ قال : نعم ، فاستغفروا له فإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده . رواه الطبراني والبزار باختصار عنه ، وفيه المسعودي وقد اختلط ، وبقية رجاله ثقات .
وعن سعيد بن زيد قال : سألت أنا وعمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيد بن عمرو ؟ فقال : يأتي يوم القيامة أمة وحده . رواه ابو يعلي وإسناده حسن .
وعن زيد بن حارثة قال : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً حاراً من أيام مكة وهو مردفي إلى نصب من الأنصاب ! وقد ذبحنا له ( أي للصنم ) شاة فأنضجناها ، قال فلقيه زيد بن عمرو بن نفيل فحيَّا كل واحد منهما صاحبه بتحية الجاهلية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا زيد ما لي أرى قومك قد شنفوا لك ؟ قال : والله يا محمد ذلك لغير نائلة لي منهم ، ولكني خرجت أبتغي هذا الدين حتى أقدم على أحبار فدك ، وجدتهم يعبدون الله ويشركون به ، قال قلت ما هذا الدين الذي أبتغي ، فخرجت حتى أقدم على أحبار الشام ، فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به ، قلت ما هذا الدين الذي أبتغي ، فقال شيخ منهم إنك لتسأل عن دين ما نعلم أحداً يعبد الله به إلا شيخٌ بالحيرة ، قال فخرجت حتى أقدم عليه فلما رآني قال ممن أنت ؟ قلت من أهل بيت الله ، من أهل الشوك والقرظ ، فقال إن الدين الذي تطلب قد ظهر ببلادك قد بعث نبي قد ظهر نجمه ، وجميع من رأيتهم في ضلال ، فلم أحس بشيء بعد يا محمد ! !
قال : وقرب إليه السفرة فقال : ما هذا يا محمد ؟ فقال شاة ذبحناها لنصب من الأنصاب ! فقال : ما كنت لآكل مما لم يذكر اسم الله عليه !
قال زيد بن حارثة : فأتى
النبي صلى الله عليه وسلم البيت فطاف به وأنا معه ، وبين
الصفا والمروة صنمان من نحاس أحدهما يقال له يساف والآخر يقال له نائلة ، وكان المشركون إذا طافوا تمسحوا بهما ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تمسحهما فإنهما رجس ، فقلت في نفسي لأمسنهما حتى أنظر ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد : إنه يبعث أمة وحده . رواه أبو يعلي والبزار والطبراني إلا أنه قال فيه : فأخبرته بالذي خرجت له فقال : كل من رأيت في ضلال وإنك لتسأل عن دين الله وملائكته ، وقد خرج في أرضك نبي أو هو خارج فارجع فصدقه وآمن به . وقال أيضاً فقال زيد إني لا آكل شيئاً ذبح لغير الله ، ورجال أبي يعلي والبزار وأحد أسانيد الطبراني رجال الصحيح غير محمد بن عمرو بن علقمة وهو حسن الحديث .
وعن أسماء بنت أبي بكر قالت : كان زيد بن عمرو بن نفيل في الجاهلية يقف عند الكعبة ويلزق ظهره إلى صفحتها ، ويقول : يا معشر قريش ما على الأرض على دين إبراهيم غيري ، وكان يفدي الموؤودة أن تقتل ، وقال عمرو بن نفيل :
عزلت الجن والجنان عني |
|
كذلك يفعل الجلد الصبور |
رواه الطبراني وإسناده حسن . انتهى .
فقد ثبت عندهم بهذه الأحاديث الصحيحة والحسنة ، أن النبي صلىاللهعليهوآله كان يعبد الأصنام ويذبح لها ! وثبت أن زيد بن عمرو كان موحداً على دين إبراهيم ، وكان ينتظر النبوة ، وكان أولى بها من محمد ، ولكن زيداً الى تاريخ لقائه بالنبي صلىاللهعليهوآله وهو في طريقه الى الصنم لم يحس بالوحي ولعله أحس به بعد ذلك ! !
ـ وقد روت الصحاح افتراءهم على النبي صلىاللهعليهوآله بأنه ذبح للصنم وقصة اللحم الذي كان يأكل منه بزعمهم ويعافه ابن نفيل ! ! فقد رواها البخاري ج ٤ ص ٢٣٢ وأضاف فيها
( ثم قال زيد إني لست
آكل مما تذبحون على أنصابكم ، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه ، وإن زيد بن عمر كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول : الشاة خلقها الله
وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض ثم تذبحونها على غير اسم الله ! ! إنكاراً لذلك وإعظاماً له ! ) انتهى .
وروى نحوها أيضاً في ج ٦ ص ٢٢٥ وكذلك أحمد في ج ١ ص ١٨٩ وج ٢ ص ٦٨ و٨٩ و١٢٧
وعلى هذه الروايات الصحاح والحسان ! يكون زيد بن عمرو بن نفيل أتقى من محمد صلىاللهعليهوآله وأوعى منه ، وأولى بالنبوة منه ، ولكن الحظ جعلها لمحمد صلىاللهعليهوآله .
ولذلك لم يؤمن به زيد عندما بعث لأنه لا يحتاج إلى ذلك !
كما أن ابن عمه عمر يستحق النبوة ولكن الحظ جعلها لمحمد ، فقد نسبوا إلى النبي صلىاللهعليهوآله أنه قال : لو لم أبعث لبعث عمر بن الخطاب ! ! وهذا يعطي الشرعية لكل مناقشات عمر للنبي صلىاللهعليهوآله واعتراضاته عليه ، بل ومخالفاته له ! !
ويلاحظ في رواياتهم عن زيد بن عمرو ، أن عدداً منها عن لسان ولده سعيد وابن عمه عمر ، وأنها تريد التأكيد على أن زيداً العدوي وحده كان على ملة إبراهيم لا عبد المطلب الهاشمي ولا أبو طالب ، ولا حتى النبي صلىاللهعليهوآله ، وهو عملٌ يقصد منه المساس بشخصية النبي وأجداده صلىاللهعليهوآله من أجل تكبير شخصيات مشركة من أقارب الحكام ! !
لكن المتأمل في رواياتهم يجد فيها حقيقة مهمة ، وهي أنهم شهدوا على زيد بن عمرو بن نفيل بأنه لم يسلم ومات كافراً رغم معرفته المزعومة ببعثة النبي صلىاللهعليهوآله ، ولو أنه أسلم لما سألوا النبي صلىاللهعليهوآله عنه ، ولملأوا الكتب بفضائله ومناقبه ! كما ملؤوها بذم أبي طالب وضحضاحه ! !
أهم الادلة على إيمان أبي طالب
تكفلت كتب مستقلة
بإثبات إيمان أبي طالب رضوان الله عليه . . ومن أشهرها كتاب ( أبو طالب مؤمن قريش ) لمؤلفه الشيخ عبد الله الخنيزي الذي صادره الوهابيون وحبسوا مؤلفه ( السعودي ) بسببه ، وحكموا عليه بالإعدام ! ولكن الدولة
السعودية خشيت من العواقب فأقنعت مفتيهم بتخفيف الحكم ، فخففه إلى الحبس والتعزير ! !
وقد كتب علماؤنا عن إيمان أبي طالب بحوثاً مستفيضة في مصادر السيرة والعقائد ، من أهمها ما كتبه المجلسي في البحار ج ٣٥ والأميني في الغدير ج ٧ و ٨ والشيخ نجم الدين العسكري في مقام الإمام علي عليهالسلام والسيد جعفر مرتضى في الصحيح من السيرة ج ٣ ص ٢٢٧ .
ونورد فيما يلي خمسة أدلة على إيمانه مستفادة من المصادر المذكورة وغيرها :
الدليل الأول : النصوص الصريحة الثابتة عندنا عن النبي والأئمة من آله صلىاللهعليهوآله وهم الطاهرون المطهرون الصادقون المصدقون ، غير المتهمين في شهادتهم لآبائهم وأقربائهم وأنفسهم .
منها : عن أمير المؤمنين عليهالسلام أنه قال : والله ما عبد أبي ولا جدي عبد المطلب ولا هاشم ولا عبد مناف ، صنماً قط . قيل له فما كانوا يعبدون ؟ قال : كانوا يصلون إلى البيت على دين إبراهيم متمسكين به . انتهى .
وقال عنه في الغدير ج ٧ ص ٣٨٤ : رواه شيخنا الصدوق بإسناده في كمال الدين ص ١٠٤ والشيخ أبو الفتوح في تفسيره ٤ : ٢١٠ والسيد في البرهان ٣ : ٧٩٥
ومنها : عن أبي عبد الله الصادق عليهالسلام قال : نزل جبرئيل عليهالسلام على النبي صلىاللهعليهوآله فقال : يا محمد إن ربك يقرؤك السلام ويقول : إني قد حرمت النار على صلب أنزلك وبطن حملك وحجر كفلك . فالصلب صلب أبيه عبد الله بن عبد المطلب ، والبطن الذي حملك آمنة بنت وهب ، وأما حجر كفلك فحجر أبي طالب . وزاد في روايةٍ : وفاطمة بنت أسد . انتهى .
وقال عنه في الغدير : روضة الواعظين ص ١٢١ . راجع الكافي لثقة
الإسلام الكليني ص ٢٤٢ ، معاني الأخبار للصدوق ، كتاب الحجة السيد فخار بن معد ص ٨ ، ورواه شيخنا
للمفسر
الكبير أبو الفتوح الرازي في تفسيره ٤ ـ ٢١٠ ، ولفظه : إن الله عز وجل حرم على النار صلباً حملك وبطناً حملك وثدياً أرضعك وحجراً كفلك . . إلخ .
ومنها : ما رواه في مقام الإمام علي ج ٣ ص ١٤٠ : قال السيد الحجة فخار بن معد في كتابه ( الحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب ) ص ١٦ بالإسناد إلى الكراجكي عن رجاله ، عن أبان ، عن محمد بن يونس ، عن أبيه ، عن أبي عبد الله أنه قال : يا يونس ما تقول الناس في أبي طالب ؟ قلت جعلت فداك يقولون : هو في ضحضاح من نار ، وفي رجليه نعلان من نار تغلي منهما أم رأسه ! فقال : كذب أعداء الله ! إن أبا طالب من رفقاء النببين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً .
ومنها : في المصدر المذكور أيضاً ، عن علي بن حسان ، عن عمه عبد الرحمن بن كثير قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : إن الناس يزعمون أن أبا طالب في ضحضاح من نار ؟ فقال : كذبوا ما بهذا نزل جبرئيل على النبي صلىاللهعليهوآله ! قلت وبما نزل ؟ قال : أتى جبرئيل في بعض ما كان عليه فقال : يا محمد إن ربك يقرؤك السلام ويقول لك : إن أصحاب الكهف أسروا الإيمان وأظهروا الشرك فآتاهم الله أجرهم مرتين ، وإن أبا طالب أسر الإيمان وأظهر الشرك فآتاه الله أجره مرتين ، وما خرج من الدنيا حتى أتته البشارة من الله تعالى بالجنة . ثم قال عليهالسلام : كيف يصفونه بهذا وقد نزل جبرئيل ليلة مات أبو طالب فقال : يا محمد أخرج من مكة فما لك بها ناصر بعد أبي طالب !
ومنها : في المصدر المذكور أيضاً عن أبي بصير ليث المرادي قال : قلت لأبي جعفر : سيدي إن الناس يقولون : إن أبا طالب في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه ؟ فقال عليهالسلام : كذبوا ، والله إن إيمان أبي طالب لو وضع في كفةِ ميزان وإيمان هذا الخلق في كفةٍ لرجح إيمان أبي طالب على إيمانهم ، ثم قال : كان والله أمير المؤمنين يأمر أن يحج عن أب النبي وأمه صلىاللهعليهوآله وعن أبي طالب في حياته ، ولقد أوصى في وصيته بالحج عنهم بعد مماته . انتهى .
الدليل الثاني : تصريحات أبي طالب رضي الله عليه بصدق النبي صلىاللهعليهوآله وأنه رسول رب العالمين .
ـ قال السيد جعفر مرتضى في الصحيح من السيرة ج ٣ ص ٢٣٠ :
ويكفي أن نذكر نموذجاً من أشعاره التي عبر عنها ابن أبي الحديد المعتزلي بقوله : إن كل هذه الأشعار قد جاءت مجيء التواتر من حيث مجموعها ( شرح النهج ج ١٤ ص ٧٨ ) ونحن نذكر هنا اثني عشر شاهداً من شعره ، على عدد الأئمة المعصومين من ولده عليه وعليهمالسلام تبركاً وتيمناً ، والشواهد هي :
١ ـ ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً |
|
نبياً كموسي خط في أول الكتب |
٢ ـ نبي أتاه الوحي من عند ربه |
|
ومن قال لا ، يقرع بها سن نادم |
٣ ـ يا شاهد الوحي من عند ربه |
|
إني على دين النبي أحمد |
٤ ـ أنت الرسول رسول الله نعلمه |
|
عليك نزِّل من ذي العزة الكتب |
٥ ـ أنت النبي محمدُ |
|
قرمٌ أغرُّ مُسَوَّدُ |
٦ ـ أو تؤمنوا بكتاب منزل عجبٍ |
|
على نبي كموسى أو كذي النون |
٧ ـ وظلم نبي جاء يدعو إلى الهدى |
|
وأمر أتى من عند ذي العرش قيم |
٨ ـ لقد أكرم الله النبي محمداً |
|
فأكرم خلق الله في الناس أحمد |
٩ ـ وخير بني هاشم أحمدٌ |
|
رسول الالۤه على فترةِ |
١٠ ـ والله لا أخذل النبي ولا |
|
يخذله من بنيَّ ذو حسب |
١١ ـ وقال رحمهالله يخاطب ملك الحبشة ويدعوه إلى الإسلام :
أتعلم ملك الحسن أن محمداً |
|
نبياً كموسى والمسيح ابن مريم |
أتى بالهدى مثل الذي أتيا به |
|
فكلٌّ بأمر الله يهدي ويعصم |
وإنكم تتلوته في كتابكم |
|
بصدقِ حديث لا حديث الترجم |
فلا تجعلوا لله نداً فأسلموا |
|
فإن طريق الحق ليس بمظلم |
١٢ ـ وقال مخاطباً ولده حمزة رحمهالله :
فصبراً أبا يعلي على دين أحمدٍ |
|
وكن مظهر للدين وفقت صابرا |
وحط من أتى بالحق من عند ربه |
|
بصدقٍ وعزمٍ لا تكن حمز كافرا |
فقد سرني أن قلت إنك مؤمنٌ |
|
فكن لرسول الله في الله ناصرا |
وباد قريشاً في الذي قد أتيته |
|
جهاراً وقل ما كان أحمد ساحرا |
وأشعار أبي طالب الناطقة بإيمانه كثيرة ، وقد اقتصرنا منها على هذا القدر لنفسح المجال لذكر لمحة عن سائر ما قيل ويقال في هذا الموضوع . انتهى .
ونضيف إلى ما ذكره صاحب الصحيح ما قاله الطبرسي في الإحتجاج ج ١ ص ٣٤٥ : وقد اشتهر عن عبد الله المأمون أنه كان يقول : أسلم أبو طالب والله بقوله :
نصرت الرسول رسول المليك |
|
ببيض تلالا كلمع البروقِ |
أذب وأحمي رسول الإلۤه |
|
حماية حامٍ عليه شفيق |
وما إن أدبُّ لأعدائه |
|
دبيب البكار حذار الفنيق |
ولكن أزير لهم سامياً |
|
كما زار ليث بغيلٍ مضيق |
وما ذكره أبو الفداء في تاريخه ج ١ ص ١٧٠ قال : ومن شعر أبي طالب مما يدل على أنه كان مصدقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم قوله :
ودعوتني وعلمت أنك صادقٌ |
|
ولقد صدقت وكنت ثم أمينا |
الدليل الثالث : تحليل مقومات شخصية أبي طالب رضياللهعنه وعلاقته بالنبي صلىاللهعليهوآله منذ أن أوصاه به أبوه عبد المطلب وكفله إياه ، ونصرته له من أول بعثته ، وفي أصعب مراحلها . . إلى أن توفي في السنة العاشرة من البعثة . . فإن أي باحث ينظر في ذلك يقتنع بأن نصرته وحمايته للنبي صلىاللهعليهوآله لا يمكن أن تصدر إلا عن مؤمن قوي الإيمان .
بل لا يحتاج الأمر إلى دراسة مقومات شخصيته وكل حياته ، فيكفي دراسة بعض مواقفه لإثبات ذلك .
منها : الموقف الذي رواه في الغدير ج ٧ ص ٣٨٨ : عن الأصبغ بن نباته قال : سمعت أمير المؤمنين علياً عليهالسلام يقول : مرَّ رسول الله صلىاللهعليهوآله بنفرٍ من قريش وقد نحروا جزوراً ، وكانوا يسمونها الفهيرة ويذبحونها على النصب ، فلم يسلِّم عليهم . فلما انتهى إلى دار الندوة قالوا : يمر بنا يتيم أبي طالب فلا يسلم علينا ! فأيكم يأتيه فيفسد عليه مصلاه ؟ فقال عبد الله بن الزبعري السهمي : أنا أفعل ، فأخذ الفرث والدم فانتهى به إلى النبي صلىاللهعليهوآله وهو ساجدٌ فملأ به ثيابه ومظاهره ، فانصرف النبي صلىاللهعليهوآله حتى أتى عمه أبا طالب فقال : يا عم من أنا ؟ فقال : ولم يا ابن أخي ؟ ! فقص عليه القصة فقال : وأين تركتهم ؟ فقال : بالأبطح . فنادى في قومه : يا آل عبد المطلب ! يا آل هاشم ! يا آل عبد مناف ! فأقبلوا إليه من كل مكان ملبين ، فقال : كم أنتم ؟ قالوا : نحن أربعون ، قال : خذوا سلاحكم ، فأخذوا سلاحهم وانطلق بهم حتى انتهى إلى أولئك النفر ، فلما رأوه أرادوا أن يتفرقوا ، فقال لهم : ورب هذه البنية لا يقومن منكم أحد إلا جللته بالسيف ! ثم أتى إلى صفاةٍ كانت بالأبطح فضربها ثلاث ضربات حتى قطعها ثلثة أفهار ، ثم قال : يا محمد سألتني من أنت ؟ ثم أنشأ يقول ويومي بيده إلى النبي صلىاللهعليهوآله :
أنت النبيُّ محمَّدُ |
|
قَرْمٌ أعَزُّ مُسَوَّدُ |
ثم قال : يا محمد أيهم الفاعل بك ؟ فأشار النبي صلىاللهعليهوآله إلى عبد الله بن الزبعري السهمي الشاعر ، فدعاه أبو طالب فوجأ أنفه حتى أدماها ! ثم أمر بالفرث والدم فأمرَّ على رؤس الملأ كلهم ! ثم قال : يا ابن أخ أرضيت ؟
ثم قال : سألتني من أنت ؟ أنت محمد بن عبد الله ثم نسبه إلى آدم عليهالسلام ثم قال : أنت والله أشرفهم حسباً وأرفعهم منصباً !
يا معشر قريش من شاء منكم يتحرك فليفعل أنا الذي تعرفوني !
رواه السيد ابن معد في الحجة ص ١٠٦ وذكر لِدَة هذه القضية
الصفوري في نزهة
المجالس ٢ : ١٢٢ وفي طبع ص ٩١ ، وابن حجة الحموي في ثمرات الأوراق بهامش المستطرف ٢ : ٣ نقلاً عن كتاب الأعلام للقرطبي ١٣
ومنها : الموقف الذي رواه الطبرسي في الإحتجاج ج ١ ص ٣٤٥ قال :
لما رأى المشركون موقف أبي طالب من نصرة الرسول ، وسمعوا أقواله اجتمعوا بينهم ، وقالوا ننافي بني هاشم ونكتب صحيفة ونودعها الكعبة ، أن لا نبايعهم ، ولا نشاريهم ، ولا نحدثهم ، ولا نجتمع معهم في مجمع ، ولا نقضي لهم حاجة ، ولا نقتضيها منهم ، ولا نقتبس منهم ناراً ، حتى يسلِّموا الينا محمداً ، ويخلوا بيننا وبينه أو ينتهي عن تسفيه آبائنا ، وتضليل آلهتنا . وأجمع كفار مكة على ذلك .
فلما بلغ ذلك أبا طالب ، قال يخبرهم باستمراره على مناصرة الرسول ومؤازرته له ، ويحذرهم الحرب ، وينهاهم عن متابعة السفهاء :
ألا أبلغا عني على ذاتِ بينِها |
|
لؤيّاً وخصَّا من لؤيٍّ بني كعبِ |
ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً |
|
نبياً كموسى خُطَّ في أول الكتْبِ |
وأن عليه في العباد محبةً |
|
ولا حيفَ فيمن خصَّهُ الله بالحب |
وأن الذي لفقتم في كتابكم |
|
يكون لكم يوماً كراغية السقب |
أفيقوا أفيقوا قبل أن تُحْفَر الزُّبَى |
|
ويصبح من لم يجنِ ذنباً كذي الذنب |
ولا تتبعوا أمر الغواة وتقطعوا |
|
أواصرنا بعد المودة والقرب |
وتستجلبوا حرباً عواناً وربَّمَا |
|
أمَرَّ على ذاقهُ حَلَبُ الحرب |
فلسنا وبيتِ الله نسلم أحمداً |
|
لعزَّاءَ من عضِّ الزمان ولا حرب |
ولَمَّا تَبِنْ منا ومنكم سوالفٌ |
|
وأيدٍ أبيدت بالمهندة الشهب |
بمعتركٍ ضَنْكٍ ترى كِسَرَ القنا |
|
به نَواً لضباعِ العُرْجِ تعكف كالسرب |
كأن مجال الخيل في حجراته |
|
وغمغمة الأبطال معركة الحرب |
أليس أبونا هاشمٌ شدَّ أزره |
|
وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب |
ورواها في البحار ج ٣٥ ص ١٦٠ وزاد فيها :
ولسنا نملُّ الحرب حتى تملَّنا |
|
ولا نشتكي مما ينوب من النكب |
ولكننا أهل الحفائظ والنهى |
|
إذا طار أرواح الكماة من الرعب |
ومنها : إيمانه بمعجزات النبي وكراماته صلىاللهعليهوآله ، ونظمه إياها شعراً .
ـ قال الطبرسي في الإحتجاج ج ١ ص ٣٤٣ :
روي أن أبا جهل بن هشام جاء إلى رسول الله وهو ساجد وبيده حجر يريد أن يرميه به ، فلما رفع يده لصق الحجر بكفه فلم يستطع ما أراد ، فقال أبو طالب :
أفيقوا بني غالب وانتهوا |
|
عن الغي من بعض ذا المنطق |
وإلا فإني إذن خائفٌ |
|
بوائقَ في داركم تلتقي |
تكون لغيركمُ عبرةً |
|
وربِّ المغارب والمشرق |
كما نال من كان من قبلكم |
|
ثمودٌ وعادٌ وماذا بقي |
غداةَ أتاهم بها صرصرٌ |
|
وناقة ذي العرش قد تستقي |
فحلَّ عليهم بها سَخْطَةٌ |
|
من الله في ضربة الأزرق |
غداة يعضُّ بعرقوبها |
|
حساماً من الهند ذا رونق |
وأعجب من ذاك في أمركم |
|
عجائب في الحجر الملصق |
بكف الذي قام من خبثه |
|
إلى الصابر الصادق المتقي |
فأثبته الله في كفه |
|
على رغمةِ الجائر الأحمق |
أحيمق مخزومكم إذ غوى |
|
لغيِّ الغواةِ ولم يَصْدُقِ |
الدليل الرابع : استدل به سبط ابن الجوزي على إيمان أبي طالب ، ومفاده : أن خصوم علي عليهالسلام من الأمويين والزبيريين وغيرهم ، كانوا
حريصين على انتقاصه بأي عيب ممكن في نفسه وأبيه وأمه وعشيرته ، وقد سجل التاريخ مراسلات علي عليهالسلام ومعاوية ومناظرات أنصارهم ، وقد تضمنت ما ذمهم علي عليهالسلام به وإزراؤه عيهم بكفر
آبائهم وأمهاتهم ، بل سجل التاريخ أن علياً عليهالسلام فاخر معاوية بأبي طالب ، فكتب له في رسالة ( ليس أمية كهاشم ، ولا حرب كعبد المطلب ، ولا أبو سفيان كأبي طالب ، ولا المهاجر كالطليق ، ولا الصريح كاللصيق ) ومع ذلك لم يتكلم معاوية ولا غيره من أعداء علي عليهالسلام بكلمة ذم في أبي طالب ! !
فلو أنه كان مشركاً ومات على الشرك كما يدعون ، لاغتنم أعداء علي هذه النقطة وعيروه بها وشنعوا عليه بها . ولو كان حديث ضحضاح أبي طالب صادراً عن النبي صلىاللهعليهوآله لسمعت أخباره شعراً ونثراً في صفين وبعدها . . !
وهذا يدل على أن أحاديث شرك أبي طالب وأنه في النار والضحضاح ، قد وضعت في عهد الأمويين بعد شهادة علي عليهالسلام !
الدليل الخامس : ترحم النبي صلىاللهعليهوآله على أبي طالب واستغفاره له ، وتسميته عام وفاته ووفاة خديجة رضوان الله عليهما ( عام الحزن ) .
ـ قال الأميني في الغدير ج ٧ ص ٣٧٢
أخرج ابن سعد في طبقاته ١ : ١٠٥ عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي قال : أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بموت أبي طالب فبكى ثم قال : إذهب فاغسله وكفنه وواره ، غفر الله له ورحمه .
وفي لفظ الواقدي : فبكى بكاء شديداً ثم قال : إذهب فاغسله . . إلخ . وأخرجه ابن عساكر كما في أسنى المطالب ص ٢١ والبيهقي في دلائل النبوة . وذكره سبط ابن الجوزي في التذكره ص ٦ وابن أبي الحديد في شرحه ٣ ـ ٣١٤ والحلبي في السيرة ١ ـ ٣٧٣ والسيد زيني دحلان في السيرة هامش الحلبية ١ ـ ٩٠ والبرزنجي في نجاة أبي طالب وصححه كما في أسنى المطالب ص ٣٥ وقال : أخرجه أيضاً أبو داود وابن الجاوود وابن خزيمة وقال : إنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم المشي في جنازته اتقاء من شر سفهاء قريش ، وعدم صلاته لعدم مشروعية صلاة الجنازة يومئذ .
عن الأسلمي وغيره : توفي أبو طالب للنصف من شوال في السنة العاشرة من حين نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتوفيت خديجة بعده بشهر وخمسة أيام ، فاجتمعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها وعلى عمه حزناً شديداً ، حتى سمى ذلك العام عام الحزن . انتهى .
وقد روى الخطيب البغدادي في تاريخه ج ١٣ ص ١٩٦ عن ابن عباس ترحم النبي صلىاللهعليهوآله واستغفاره لأبي طالب بعد موته ، وكذا الذهبي في تاريخ الإسلام ج ١ ص ٢٣٥ ، وروت مصادرنا أحاديث كثيرة في ذلك كما في مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٥٠ عن آخرين وبحار الأنوار ج ١٩ ص ١٥ وص ٢٥ وج ٢٢ ص ٥٣٠
* *
هذا وقد ثبت أن أبا طالب كان على دين عبد المطلب ، وسوف يتضح لك إيمان عبد المطلب ومقامه ، رضوان الله عليهما ، في فصل شفاعة الأنبياء عليهمالسلام .
* *