العقائد الإسلاميّة - ج ٣

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية

العقائد الإسلاميّة - ج ٣

المؤلف:

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-120-6
ISBN الدورة:
964-319-117-6

الصفحات: ٤٩٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

الآراء والإحتمالات والروايات المتناقضة فيها ، ليضيعوا بذلك مناقب عترة نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله ! ومما حشده المفسرون هنا :

ـ ما رواه السيوطي في الدر المنثور ج ٥ ص ٩٦ قال :

ـ وأخرج عبد بن حميد عن قتادة رضي‌الله‌عنه : وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ، قال ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم نادى على الصفا بأفخاذ عشيرته فخذاً فخذاً يدعوهم إلى الله فقال في ذلك المشركون : لقد بات هذا الرجل يهوت منذ الليلة .

قال وقال الحسن رضي‌الله‌عنه : جمع نبي الله صلى الله عليه وسلم أهل بيته قبل موته فقال : ألا إن لي عملي ولكم عملكم ، ألا إني لا أغني عنكم من الله شيئاً ، ألا إن أوليائي منكم المتقون ، ألا لا أعرفنكم يوم القيامة تأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم ، ويأتي الناس يحملون الآخرة . يا صفية بنت عبد المطلب يا فاطمة بنت محمد إعملا فإني لا أغني عنكما من الله شيئاً . انتهى .

أما رواية قتادة فإن النداء على الصفا يناسب المرحلة العامة التي أمر النبي فيها أن يصدع بالدعوة لكل الناس . . أما إنذار عشيرته الخاصين الذين كان عدد رجالهم أربعين نفراً فيناسبه أن يدعوهم إلى طعام ويحدثهم كما ورد في الروايات المعقولة .

وأما رواية قتادة عن الحسن البصري إن صحت فلا علاقة لها بالموضوع ، لأنها عند وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله والآية نزلت في أول بعثته !

ومع أن الحسن البصري غلامٌ فارسي ، فهو مع قبائل قريش وحساسيتها ضد أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويريد أن يقول بهذه الرواية إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يخاف من حرص ابنته فاطمة وعمته صفية وعترته على الدنيا ، ولذلك جمعهم وحذرهم !

ـ وقال في الدر المنثور ج ٥ ص ٩٦

وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا بني هاشم ويا صفية عمة رسول الله ، إنى لا أغني عنكم من الله شيئاً ، إياكم أن يأتي

٣٠١
 &

الناس يحملون الآخرة وتأتون أنتم تحملون الدنيا ، وإنكم تردون على الحوض ذات الشمال وذات اليمين ، فيقول القائل منكم يا رسول الله أنا فلان ابن فلان ، فأعرف الحسب وأنكر الوصف ، فإياكم أن يأتي أحدكم يوم القيامة وهو يحمل على ظهره فرساً ذات حمحمة ، أو بعيراً له رغاء ، أو شاة لها ثغاء ، أو يحمل قشعاً من أدم ، فيختلجون من دوني ، ويقال لي إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ! فطيبوا نفساً وإياكم أن ترجعوا القهقري من بعدي !

قال عكرمة رضي‌الله‌عنه : إنما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القول حيث أنزل الله عليه : وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ . انتهى .

ومع أن عكرمة غلامٌ لابن عباس الهاشمي ، لكنه معروفٌ ببغضه لعترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى أنه انضم إلى الخوارج . وهو بهذا التفسير يقول إن علياً وفاطمة وعترة النبي انحرفوا بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ورجعوا بعده القهقرى ! لأنهم عارضوا خلافة قريش ولم يطيبوا نفساً عن الخلافة لقريش ، ولذلك سوف يمنعون من ورود الحوض ، ولا تنالهم شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

لقد أخذ عكرمة عبارات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله التي روت الصحاح أنه قالها عن صحابته الذين يرتدون من بعده ويمنعون من ورود حوضه يوم القيامة ، وجعلها لعشيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الأقربين ، ثم ادعى عكرمة أن النبي كان يعرف هذا الإنحراف من أول يوم أمره الله تعالى أن ينذر عشيرته الأقربين !

وقد روى السيوطي نفس مضمون عكرمة عن أبي أمامة أيضاً .

ـ ثم قال في الدر المنثور ج ٥ ص ٩٧

وأخرج ابن مردويه وابن عساكر والديلمي عن عبد الواحد الدمشقي قال : رأيت أبا الدرداء يحدث الناس ويفتيهم وولده وأهل بيته جلوس في جانب الدار يتحدثون ، فقيل له : يا أبا الدرداء ما بال الناس يرغبون فيما عندك من العلم وأهل

٣٠٢
 &

بيتك جلوس لاهين ؟ ! فقال : إني سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن أزهد الناس في الأنبياء وأشدهم عليهم الأقربون ! وذلك فيما أنزل الله : وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ . . إلى آخر الآية . انتهى .

فهؤلاء الرواة الشاميون يريدون أن يقولوا على لسان أبي الدرداء : إن أولاد النبي وعترته صلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا لاهين عن علمه كأولاد أبي الدرداء ! وإن بني هاشم كانوا أشد الناس على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد كذبوه وأرادوا قتله ، وحاصروه في شعب بني أمية ! ! لكن القرشيين حموه من بني هاشم ، وتحملوا معه الحصار أربع سنوات ، فحق لهم أن يرثوه ويحكموا من بعده ، خاصة آل أبي سفيان الكرام ! !

*       *

ويطول بنا الكلام إذا أردنا أن ننقد كل ما رووه في تفسير هذه الآية ، وكيف جردوا عترة النبي وعشيرته الأقربين صلى‌الله‌عليه‌وآله من كل فضيلة ، وحرموهم من كل امتياز أعطاهم إياه الله تعالى ورسوله !

ولكنا نشير هنا إلى أن الرواة خلطوا عن عمدٍ وبعضهم عن جهل بين أربع حوادث :

الأولى : نزول الآية وبداية إنذار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لبني عبد المطلب بدعوتهم إلى طعام .

والثانية : مرحلة الإنذار العام عندما صعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على الصفا في المرحلة الثانية من الدعوة ، ونادى وا صباحاه ، وبدأ يدعو قريشاً والعالم .

والثالثة : عندما دخل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مكة فاتحاً ، وخضع له أبو سفيان وبقية أئمة الكفر من قريش ، وأحس بعض بنو عبد المطلب بالنصر والفخر ، وامتلأت قلوب القرشيين حسداً لهم ، وتفكيراً في مرحلة ما بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

والرابعة : في مرض وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما شكى له بنو هاشم ما يحسونه من خطر قبائل قريش عليهم من بعده وتحالفهم على إبعادهم .

وإليك أهم ما بقي من روايات السيوطي المخلوطة في تفسير آية الأقربين :

٣٠٣
 &

ـ قال في الدر المنثور ج ٥ ص ٩٦

وأخرج ابن مردويه عن البراء قال لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم : وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ، صعد النبي صلى الله عليه وسلم ربوةً من جبل فنادى : يا صباحاه ، فاجتمعوا فحذرهم وأنذرهم ، ثم قال : لا أملك لكم من الله شيئاً ، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك من الله شيئاً . انتهى .

ـ وأخرج مسدد ومسلم والنسائي وابن جرير والبغوي في معجمه والباوردي والطحاوي وأبو عوانة وابن قانع والطبراني وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن قبيصة بن مخارق وزفير بن عمرو قالا : لما نزلت : وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربوة من جبل فعلا أعلاها حجراً ثم قال : يا بني عبد مناف إني نذير لكم ، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله فخشي أن يسبقوه إلى أهله ، فجعل يهتف يا صباحاه يا صباحاه ، أُتيتم أُتيتم .

ـ وأخرج عبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن مردويه عن أبي موسى الأشعري قال : لما نزلت : وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ، وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم اصبعيه في أذنيه ورفع صوته وقال : يا بني عبد مناف يا صباحاه .

ـ وأخرج ابن مردويه عن الزبير بن العوام قال : لما نزلت وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ، صاح على أبي قبيس : يا آل عبد مناف إني نذير فجاءته قريش فحذرهم وأنذرهم .

ـ وأخرج سعيد بن منصور والبخاري وابن مردويه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما نزلت وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ، ورهطك منهم المخلصين خرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى صعد على الصفا فنادى : يا صباحاه فقالوا : من هذا الذي يهتف قالوا محمد فاجتمعوا إليه فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو فجاء أبو لهب وقريش فقال :

٣٠٤
 &

أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي ؟

قالوا : نعم ما جربنا عليك إلا صدقاً .

قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد .

فقال أبو لهب : تباً لك سائر اليوم ، ألهذا جمعتنا ؟ ! فنزلت : تبت يدا أبي لهب وتب . انتهى .

فهذه الروايات تناسب بداية مرحلة الدعوة العامة كما أشرنا ، وقد جعلوها لمرحلة الدعوة الخاصة ببني هاشم ، وذكروا فيها فاطمة الزهراء عليها‌السلام قبل ولادتها ! !

ـ أما الرواية اليتيمة المعقولة التي رواها السيوطي فهي حديث الدار المعروف . .

ـ قال في الدر المنثور ج ٥ ص ٩٧

وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي في الدلائل من طرق عن علي رضي‌الله‌عنه قال : لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم : وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ، دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت بذلك ذرعاً ، وعرفت أني مهما أبادؤهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره ، فصمتُّ عليها حتى جاء جبريل فقال : يا محمد إنك إن لم تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك ، فاصنع لي صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة واجعل لنا عِسَّاً من لبن ، ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغ ما أمرت به ، ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم له ، وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه ، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب ، فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعت لهم فجئت به ، فلما وضعته تناول النبي صلى الله عليه وسلم بضعة من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة ، ثم قال : كلوا بسم الله ، فأكل القوم حتى نهلوا عنه ، ما ترى إلا آثار أصابعهم ! والله إن كان الرجل الواحد ليأكل ما قدمت لجميعهم !

٣٠٥
 &

ثم قال : إسق القوم يا علي ، فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا جميعاً ، وأيم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله !

فلما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال : لقد سحركم صاحبكم ! فتفرق القوم ولم يكلمهم النبي صلى الله عليه وسلم .

فلما كان الغد قال : يا علي إن هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول فتفرق القوم قبل أن أكلمهم ، فعد لنا بمثل الذي صنعت بالأمس من الطعام والشراب ، ثم اجمعهم لي ففعلت ، ثم جمعتهم ثم دعاني بالطعام فقربته ففعل كما فعل بالأمس ، فأكلوا وشربوا حتى نهلوا ، ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال :

يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم أحداً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به ، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه ، فأيكم يوازرني على أمري هذا ؟ فقلت وأنا أحدثهم سناً : إنه أنا ، فقام القوم يضحكون . انتهى .

ورواها السيوطي بسند آخر عن ابن مردويه عن البراء بن عازب ، قال : لما نزلت هذه الآية : وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلاً ، منهم العشرة يأكلون المسنة ويشربون العس . . . الخ . انتهى .

ـ وقد روى المحدثون ومؤرخو السيرة هذا الحديث ، لكن السيوطي بتره هنا ولم يذكر بقية كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله . . وهو أسلوب دَأَبَ رواة خلافة قريش على ارتكابه ضد عترة النبي وأسرته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والسبب في ذلك أن بقية الحديث تقول إن الله أمر رسوله من ذلك اليوم أن يختار وزيراً وخليفة من عشيرته الأقربين !

ـ قال الأميني في الغدير ج ١ ص ٢٠٧

وها نحن نذكر لفظ الطبري بنصه حتى يتبين الرشد من الغي ، قال في تاريخه ج ٢ ص ٢١٧ من الطبعة الأولى : إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة ، وقد أمرني الله تعالى

٣٠٦
 &

أن أدعوكم إليه ، فأيكم يوازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟

قال : فأحجم القوم عنها جميعاً ، وقلت وإني لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً ، وأحمشهم ساقاً : أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه . فأخذ برقبتي ثم قال : إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا .

قال : فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع ! !

ـ وقال الأميني في ج ٢ ص ٢٧٩

وبهذا اللفظ أخرجه أبو جعفر الإسكافي المتكلم المعتزلي البغدادي المتوفى ٢٤٠ في كتابه نقض العثمانية وقال : إنه روي في الخبر الصحيح .

ورواه الفقيه برهان الدين في ( أنباء نجباء الأبناء ) ص ٤٦ ـ ٤٨ وابن الأثير في الكامل ٢ ص ٢٤ وأبو الفداء عماد الدين الدمشقي في تاريخه ج ١ ص ١١٦ وشهاب الدين الخفاجي في شرح الشفا للقاضي عياض ج ٣ ص ٣٧ ( وبتر آخره ) وقال : ذكر في دلايل البيهقي وغيره بسند صحيح . والخازن علاء الدين البغدادي في تفسيره ص ٣٩٠ والحافظ السيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه ج ٦ ص ٣٩٢ نقلا عن الطبري وفي ص ٣٩٧ عن الحفاظ الستة : ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي . وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ٣ ص ٢٥٤ . انتهى .

ثم شكا صاحب الغدير من تحريف الذين حرفوا الحديث لإرضاء قريش ، ومنهم الطبري الذي رواه في تفسيره بنفس سنده المتقدم في تاريخه ، ولكن أبهم كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حق علي رضي‌الله‌عنه فقال : ثم قال : إن هذا أخي وكذا وكذا . وتبعه على ذلك ابن كثير في البداية والنهاية ٣ ص ٤٠ وفي تفسيره ٣ ص ٣٥١

ـ وقال في مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ٣٠٥ وما بعدها :

وأما بيعة العشيرة ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : بعثت إلى أهل بيتي خاصة ، وإلى الناس عامة وهذا النص النبوي هو أصح تفسير لقوله تعالى : وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ .

٣٠٧
 &

وقد ذكر في المناقب أن السيد الحميري نظم هذه المنقبة لبني هاشم فقال :

وقيل له أنذر عشيرتك الألى

وهم من شبابٍ أربعين وشيبِ

فقال لهم إني رسول اليكم

ولست أراني عندكم بكذوب

وقد جئتكم من عند ربٍ مهيمن

جزيل العطايا للجزيل وهوب

فأيكم يقفوا مقالي فأمسكوا

فقال ألا من ناطق فمجيبي

ففاز بها منهم عليٌّ وسادهم

وما ذاك من عاداته بغريب

وله أيضاً :

ويوم قال له جبريل قد علموا

أنذر عشيرتك الأدنين إن بصروا

فقام يدعوهم من دون أمته

فما تخلف عنه منهم بشر

فمنهم آكلٌ في مجلس جذعاً

وشاربٌ مثل عس وهو مختفر

فصدهم عن نواحي قصعة شبعاً

فيها من الحب صاع فوقه الوزر

فقال يا قوم إن الله أرسلني

اليكم فأجيبوا الله وادَّكِروا

فأيكم يجتبي قولي ويؤمن بي

إني نبي رسول فانبرى غُدَرُ

فقال تباً أتدعونا لتلفتنا

عن ديننا ثم قام القوم فانشمروا

من الذي قال منهم وهو أحدثهم

سناً وخيرهم في الذكر إذ سطروا

آمنت بالله . . قد أعطيتَ نافلةً

لم يعطها أحد جنٌّ ولا بشر

وإن ما قلته حقٌّ وإنهم

إن لم يجيبوا فقد خانوا وقد خسروا

ففاز قدماً بها والله أكرمه

فكان سباق غاياتٍ إذا ابتدروا

وقال دعبل :

سقياً لبيعة أحمد ووصيه

أعني الإمام ولينا المحسودا

أعني الذي نصر النبي محمداً

قبل البرية ناشياً ووليدا

أعني الذي كشف الكروب ولم يكن

في الحرب عند لقائها رعديدا

أعني الموحد قبل كل موحدٍ

لا عابداً وثناً ولا جلمودا

٣٠٨
 &

ـ وقال في هامش بحار الأنوار ج ٣٢ ص ٢٧٢

وناهيك من ذلك مؤاخاته مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأمر من الله عز وجل في بدء الإسلام حين نزل قوله تعالى : وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ . . .

راجع تاريخ الطبري ٢ ـ ٣٢١ كامل ابن الأثير ٢ ـ ٢٤ تاريخ أبي الفداء ١ ـ ١١٦ والنهج الحديدي ٣ ـ ٢٥٤ مسند الإمام ابن حنبل ١ ـ ١٥٩ جمع الجوامع ترتيبه ٦ ـ ٤٠٨ كنز العمال ٦ ـ ٤٠١ .

وهذه المؤاخاة مع أنها كانت بأمر الله عز وجل إنما تحققت بصورة البيعة والمعاهدة ( الحلف ) ولم يكن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يأخذ أخاً ووزيراً وصاحباً وخليفة غيره ولا لعلي أن يقصر في مؤازرته ونصرته والنصح له ولدينه كمؤازرة هارون لموسى على ما حكاه الله عز وجل في القرآن الكريم . ولذلك ترى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين يؤاخي بعد ذلك المجلس بين المهاجرين بمكة فيؤاخي بين كل رجل وشقيقه وشكله : يؤاخي بين عمر وأبي بكر ، وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف ، وبين الزبير وعبد الله بن مسعود ، وبين عبيدة بن الحارث وبلال ، وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وقاص ، وبين أبي عبيدة بن الجراح وسالم مولى أبي حذيفة ، وبين حمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة الكلبي ( راجع سيرة ابن هشام ١ ـ ٥٠٤ المحبر ٧١ ـ ٧٠ البلاذري ١ / ٢٧٠ )

يقول لعلي عليه‌السلام : والذي بعثني بالحق نبياً ما أخرتك إلا لنفسي فأنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ، وأنت أخي ووارثي وأنت معي في قصري في الجنة . ثم قال له : وإذا ذاكرك أحد فقل : أنا عبد الله وأخو رسوله ، ولا يدعيها بعدي إلا كاذب مفتر ( الرياض النضرة ٢ ـ ١٦٨ منتخب كنز العمال ٥ ـ ٤٥ و ٤٦ ) .

ولذلك نفسه تراه صلى‌الله‌عليه‌وآله حينما عرض نفسه على القبائل فلم يرفعوا إليه رؤسهم ثم عرض نفسه على بني عامر بن صعصعة قال رجل منهم يقال له بيحرة بن فراس بن

٣٠٩
 &

عبد الله بن سلمة الخير بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة : والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب ثم قال لرسول الله : أرأيت إن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال : الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء ! قال فقال له : أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا ؟ ! لا حاجة لنا بأمرك ، فأبوا عليه ( راجع سيرة ابن هشام ١ ـ ٤٢٤ الروض الأنف ١ ـ ٢٦٤ بهجة المحافل ١ ـ ١٢٨ سيرة زيني دحلان ١ ـ ٣٠٢ السيرة الحلبية ٢ ـ ٣ ) . فلولا أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كان تعاهد مع علي عليه‌السلام بالخلافة والوصاية بأمر من الله عز وجل ، قبل ذلك لَمَا ردهم بهذا الكلام المؤيس ، وهو بحاجة ماسة من ( . . ) نصرة أمثالهم . انتهى .

*       *

وختاماً فإن ما أوردناه يكفي لإثبات أن قبائل قريش كانت قبل الإسلام تحسد قبيلة بني هاشم حسداً إلى العظم ، وأنها بعد إسلامها وخضوعها للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ابن بني هاشم ! لم تشف من هذا المرض ، بل انتقل حسدها وحساسيتها إلى عشيرة النبي وعترته من أهل بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله واتفقوا عزلهم سياسياً بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وعلى هذا الأساس يجب على المؤمن والباحث أن يكون حذراً في تصديق أحاديث المصادر القرشية في هذا الموضوع ، وفي كل ما يتعلق ببني هاشم . . ومن ذلك الأحاديث التي تنفي وعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله لأسرته بالشفاعة الخاصة في الآخرة . .

أغرب شفاعة اخترعها القرشيون لرئيس بني هاشم

ـ كل مطلع على سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يعرف أن عمه أبا طالب كان حاميه وناصره ، وأنه بحمايته ونصرته استطاع أن يصدع بدعوته ، وبحكمة أبي طالب ونفوذه المعنوي وقف الهاشميون في وجه قريش إلى جانب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وصمدوا في حصار الشعب أربع سنوات ، وبإخلاصه واستماتته في الدفاع عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أفشل الله أكثر خطط

٣١٠
 &

قريش في إهانة النبي وقتله .

ـ ويعرف أن أبا طالب له ديوان شعر نقلته مصادر السيرة والتاريخ وكله في تأييد النبي والإيمان به وفي ذم قادة المشركين الذين وقفوا ضده . . وأن رواة الخلافة القرشية لو وجدوا بيتين من الشعر لشخصية قرشية يحبونها من المعاصرين لأبي طالب لطبلوا بأحدهما وزمروا بالآخر واستخرجوا منهما عشرين دليلاً على إيمانه .

ـ ويتفق فقهاء المذاهب أن القاضي إذا شك في إسلام شخص متوفى ، يكفيه لإثبات إسلامه إقراره أو شهادة شاهدين عاديين بأنه كان مسلماً . . ولكن إثبات إسلام أبي طالب لا يكفي له عندهم إقراراته الصريحة ، ولا ألوف الشهود !

ـ ثم إن أهل البيت أدرى بما فيه والأبناء أعرف بآبائهم ، وإن علياً وأبناءه الصادقين المصدقين الطاهرين المطهرين بنص القرآن ، قد شهدوا بأن أبا طالب كان مسلماً مؤمناً يكتم إيمانه ، وأن مَثَلَه مثَلُ مؤمن آل فرعون . . ولكن ذلك لم يكف أيضاً في نظر قريش لإثبات إسلام أبي طالب !

ـ والسبب في كل هذا التشدد والتعنت أن قريشاً لا تريد إعطاء هذا الوسام لأبي طالب ، وعندها لذلك مبررات عديدة :

أولاً : أبو طالب بن عبد المطلب ، هو رئيس بني هاشم وزعيم قريش بعد أبيه عبد المطلب . وإذا أعطي هذا الوسام فإن أولاده أولى بملك ابن عمهم النبي محمد ! صلى‌الله‌عليه‌وآله . . ولا إخالك تقول هنا إن هذا منطق قبلي غير إسلامي ، فإن نظام الخلافة الإسلامي إنما قام على أساس القبلية ، وإنما كانت حجة عمر وأبي بكر في السقيفة قرابتهما القبلية من محمد وأنه من قريش وقريش أولى بسلطانه !

فالمنطق الذي حكم بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقامت عليه خلافة قريش هو المنطق القبلي وقد كان هو المنطق العام الحاكم عند الجميع ! لا يستثنى منه إلا منطق النص الذي قال به أهل البيت عليهم‌السلام وشيعتهم ، ولم يصغ لهم أحدٌ إلا الأقلُّون عدداً !

٣١١
 &

ثانياً : إن شعر أبي طالب رضوان الله عليه ما زال يرنُّ في آذان قادة قريش ! !وفيه لهم من التوبيخ والتعنيف لهم ، ووصفهم بالحسد والبغي والجحود والكفر وقطيعة الرحم ، والحقارة . . وأسوأ الصفات ! ! فالإعتراف بإسلامه إعطاء شعره الصفة لشعره الذي نشر به غسيل قريش !

ثالثاً : إن أبا طالب والد علي ، وعلي يطالب بخلافة النبي بالنص ، وهو المعارض الأول لأن تكون خلافة محمد لكل قريش تدور بين قبائلها بقاعدة من غلب ! وهذه المعارضة ذنبٌ يجب أن يدفع ثمنه عليٌّ وأولاده وأبوه أبو طالب !

والظاهر أن أكبر ذنب لأبي طالب عندهم أنه والد علي . . فلو كان والد معاوية لأحبته قريش وقالت عنه إنه أسلم وحسن إسلامه ، وشملته شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقد غفرت قريش لأبي سفيان ما لم يغفره الله ورسوله ، ونسيت أنه إمام الكفر ، ومحزب الأحزاب ، والعدو اللدود الذي لم يلق سلاحه في وجه الإسلام إلا مكرهاً ، ولم يسلم إلا مكرهاً ! بل غفرت له قولته عندما وصلت الخلافة إلى بني أمية ( تلقفوها يا بني أمية تلقُّفَ الكرة ، فوالذي يحلف به أبو سفيان ما من جنة ولا نار ) !

لهذه الأسباب وغيرها صدر حكم قريش بحق أبي طالب بأن حمايته للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ودفاعه عنه وتحمله الشدائد من أجله واتصالاته بالقبائل ورسائله إليهم وإلى النجاشي وعمله الدائب من أجل تمكين النبي من نشر دعوته . . كل ذلك كان عصبيةً هاشميةً فقط ، وأنه مات كافراً وليس له أي حق في وراثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وليس لأولاده أي امتياز بسبب حماية أبيهم للنبي ، بل هم من قريش وقريش هي التي ترث سلطان محمد ! وقد قال عمر للأنصار في السقيفة : نحن قومه وعشيرته فمن ذا ينازعنا سلطان محمد ؟ !

ـ إنسجاماً مع هذه الثقافة تجد في مصادر السنيين أعجب الأحاديث عن أبي

٣١٢
 &

طالب ، ولعل أعجبها على الإطلاق حديث شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لهذا العم الذي أحبه ورباه وحماه وفداه بنفسه وأولاده . . فشفع له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ووضعه في مكان من جهنم يغلي منه دماغه !

ـ قال البخاري في ج ٧ ص ٢٠٣

عن أبي سعيد الخدري رضي‌الله‌عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر عنده عمه أبو طالب ، فقال : لعله تنفعه شفاعتي يوم القيامة فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ كعبيه يغلي منه أم دماغه ! !

ورواه في ج ٤ ص ٢٠٢ وروى نحوه أحمد في ج ١ ص ٢٩٠ وص ٢٩٥ وص ٢٠٦ وص ٢٠٧ وج ٣ ص ٩ وص ٥٠ وص ٥٥ والحاكم في ج ٤ ص ٥٨٢ والبيهقي في البعث والنشور ص ٥٩ والذهبي في تاريخ الإسلام ج ١ ص ٢٣٤ وغيره من مصادرهم . وقال ابن الأثير في النهاية ج ٣ ص ١٣ : ضحضاح : الضحضاح : في الأصل مارق من الماء على وجه الأرض وما يبلغ الكعبين فاستعاره للنار .

ـ وقال البخاري في ج ٤ ص ٢٤٧

باب قصة أبي طالب . حدثنا مسدد ، حدثنا يحيى ، عن سفيان ، حدثنا عبد الملك ، حدثنا عبد الله بن الحرث ، قال حدثنا العباس بن عبد المطلب رضي‌الله‌عنه : قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ما أغنيت عن عمك فوالله كان يحوطك ويغضب لك ؟ قال : هو في ضحضاح من نار ، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار ! !

ورواه في ج ٧ ص ١٢١ وص ٢٠٣ ورواه مسلم ج ١ ص ١٣٥ ورواه أحمد في ج ١ ص ٢٠٦ و ٢٠٧ و ٢١٠ وج ٣ ص ٥٠ و ٥٥ قال : عن عباس بن عبد المطلب قال : يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه قد كان يحوطك ويغضب لك ! قال : نعم هو في ضحضاح من النار لولا ذلك لكان في الدرك الأسفل من النار . انتهى .

فهذه الرواية تريد بيان التأثير الكبير لشفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لعمه وأن أبا طالب

٣١٣
 &

بالأساس يستحق الدرك الأسفل من النار مثل أبي لهب وأبي جهل وفراعنة قريش الذين كذبوا النبي وأرادوا قتله ، والذين نص الله تعالى على طغيانهم وعقابهم ! فحماة الأنبياء في منطق هذه الأحاديث مثل أعدائهم ، بل أسوأ حالاً منهم !

وقد رووا أن أبا طالب كان في طمطام من النار فخفف الله عنه ! وطمطام النار هو وسطها الملتهب !

ـ قال في مجمع الزوائد ج ١ ص ١١٨ عن لسان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : وقد وجدت عمي أبا طالب في طمطام من النار فأخرجه الله لمكانه مني وإحسانه الي فجعله في ضحضاح من النار . انتهى .

لقد تحير علماء ثقافة قريش في هذا النوع من الشفاعة المخترعة ، لأن الشفاعة إما أن يأذن بها الله تعالى لرسوله فيخلص المشفوع له من النار ويدخله الجنة ، وإما أن لا يأذن بها فيبقى الشخص في مكانه في النار . . وما ذكرته أحاديث الضحضاح ليس بشفاعة ! ولكنهم ابتكروا له اسماً خاصاً وهو شفاعة التخفيف والنقل من الدرك الأسفل من النار إلى مستنقع من النار وضحضاحها !

ـ قال القسطلاني في إرشاد الساري ج ٩ ص ٣٢٨

الشفاعات كما قال عياض خمسة ، وقد زاد سادسة هي التخفيف عن أبي طالب . انتهى .

ثم احتاط القسطلاني لئلا يقال كيف تسمون الضحضاح شفاعة ؟ فقال هي شفاعة مجازية وليست حقيقية !

ـ قال في إرشاد الساري ج ٩ ص ٣٢٤ : إن أبا طالب لما بالغ في إكرام النبي ( ص ) والذب عنه ، جوزي بالتخفيف ، وأطلق على ذلك شفاعة ! انتهى .

وهكذا بالغ النبي بزعم رواة قريش في إكرام عمه كما بالغ عمه في إكرامه ! !

على أن مقصود القرشيين من رواية الضحضاح قد يكون تشديد العذاب على أبي

٣١٤
 &

طالب لا تخفيفه ، فيكون ما تصوره النووي من المبالغة في إكرام أبي طالب مبالغةً في عذابه ! فقد روت مصادر الثقافة القرشية أن العذاب في الضحضاح أشد من بقيتها !

قال السيوطي في الدر المنثور ج ٤ ص ١٢٧

وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في الآية قال : إن أهل النار إذا جزعوا من حرها استغاثوا بضحضاح في النار ، فإذا أتوه تلقَّاهم عقارب كأنهن البغال الدهم ، وأفاع كأنهن البخاتي ، فضربنهم ، فذلك الزيادة !

بماذا يفسرون قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سأبلها ببلالها

لم يقنع حديث الضحضاح المسلمين بعدم شمول شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لعمه الحبيب أبي طالب ، خاصةً أن رواة الضحضاح رووا أن أبا طالب له رحم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأن النبي وعد أنه سيبلها ببلالها ، فهل لهذا الوعد تفسيرٌ إلا الشفاعة ؟ وهل يسمى وضع أبي طالب في ضحضاح من نار بلالاً من النبي لرحمه ؟ !

والطريف أن البخاري نقل حديثاً عن عمرو بن العاص ( وزير معاوية ) تبرأ فيه النبي من آل أبي طالب وأعلن قطع الولاية والرحم بينه وبينهم ! وفي نفس الحديث وعدٌ من النبي أن يبل رحمهم ببلالها ! !

ـ قال البخاري في ج ٧ ص ٧٣ : الرحم شجنة فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته . باب يبل الرحم ببلالها . عن قيس بن أبي حازم أن عمرو بن العاص قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم جهاراً غير سر يقول : إن آل ( أبي طالب ) قال عمر وفي كتاب محمد بن جعفر بياض ، ليسوا بأوليائي إنما وليي الله وصالح المؤمنين . زاد عنبسة بن عبد الواحد عن بيان عن قيس عن عمرو بن العاص قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم : ولكن لهم رحمٌ أبلها ببلاها ، يعني أصلها بصلتها . قال أبو عبد الله ( أي البخاري ) ببلاها كذا وقع وببلالها أجود وأصح وببلاها لا أعرف له وجهاً . وروى نحوه مسلم في ج ١ ص ١٣٣ والترمذي ج ٥ ص ١٩ والنسائي ج ٦ ص ٢٤٨ ـ ٢٥٠ وأحمد ج ٢ ص ٣٦٠ وص ٥١٩

٣١٥
 &

وفي بعض رواياتهم توجه الوعد النبوي إلى أبي طالب خاصة ، كما في كنز العمال ج ١٢ ص ١٥٢ : إن لأبي طالب عندي رحماً سأبلها ببلالها ( ابن عساكر عن عمرو ابن العاص ) . وراجع كنز العمال ج ١٦ ص ١٠ وج ١٢ ص ٤٢

ومعنى بلال الرحم : صلتها حتى ترضى . قال الجوهري في الصحاح ج ٤ ص ١٦٣٩ : ويقال أيضاً : في سقائك بلال أي ماء . . . ومنه قولهم : إنضحوا الرحم ببلالها أي صلوها بصلتها وندوها . . . ويقال أيضاً : لا تبلك عندي بلال مثال قطام قالت ليلى الأخيلية :

فلا وأبيك يا ابن أبي عقيل

تبلك بعدها عندي بلال

وقال في الصحاح ج ٥ ص ١٩٢٩ : والرحم أيضاً : القرابة والرحم بالكسر مثله .

قال الأعشى : أما لطالب نعمة يممتها

ووصال رحم قد بردت بلالها

وقال في الدرجات الرفيعة ص ٥١٤ :

إن المكارم أصبحت لهفانةً

حرَّى وأنت بلالها وبليلها

وإذا المكارم ذللت أو ضللت

يوماً فأنت دلالها ودليلها

ـ وقال ابن الأثير في البداية والنهاية ج ٣ ص ٥١ : سأبلها ببلائها : وفي البيهقي ببلالها : معناه سأصلها . شبهت قطيعة الرحم بالحرارة ووصلها بإطفاء الحرارة ببرودة . ومنه بلوا أرحامكم : أي صلوها . انتهى .

والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما استعمل هذا التعبير ووعد هذا الوعد كان يعرف أن معنى بلال الرحم عند العرب إكرام القريب بسخاء حتى يرضى وفوق الرضا ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله أفصح من نطق بالضاد ، وأعرف الناس بمعانيها .

لهذا يبقى السؤال للبخاري وكافة علماء الخلافة القرشية : إذا وعد نبي أسرته وأهل بيته بأنه سيصل رحمهم ويرضيهم ، فكيف تتعقلون أنه يجعل عمه العزيز عليه منهم الذي له عليه فضل خاص ، في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه ؟ !

٣١٦
 &

ضحضاح النور لا ضحضاح النار

لعل الراوي الأساسي لحديث ضحضاح النار هو المغيرة بن شعبة الثقفي ، ثم أخذه عنه الآخرون ، أو نسب إليهم . . وسبب إسلام المغيرة أنه كان في سفر في تجارة مع عدد من رفقائه الثقفيين من أهل الطائف ، فغدر بهم وقتلهم جميعاً وسرق أموالهم ، وفر إلى المدينة و . . . أسلم ! وهو معروف بدهائه وفساد أخلاقه ، وبغضه لعلي عليه‌السلام وبني هاشم ، وتاريخه مدونٌ معروف !

ولا يبعد أن يكون أخذ تعبير ( الضحضاح ) من حديث ضحضاح النور الذي ورد في حق أهل البيت عليهم‌السلام فجعله ضحضاح نار لأبي طالب !

ـ فقد روى الشيخ الطوسي في الغيبة ص ١٤٧ قال : وأخبرنا جماعة عن التلعكبري ، عن أبي علي أحمد بن علي الرازي الأيادي قال : أخبرني الحسين بن علي ، عن علي بن سنان الموصلي العدل ، عن أحمد بن محمد الخليلي ، عن محمد بن صالح الهمداني ، عن سليمان بن أحمد ، عن زياد بن مسلم ، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن سلام قال : سمعت أبا سلمى راعي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : سمعت ليلة أسريَ بي إلى السماء قال العزيز جل ثناؤه : آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه . قلت : والمؤمنون . قال : صدقت يا محمد . . . إني اطلعت على الأرض اطلاعة فاخترتك منها فشققت لك إسماً من أسمائي فلا أذكر في موضع إلا وذكرت معي ، فأنا المحمود وأنت محمد ، ثم اطلعت الثانية فاخترت منها علياً وشققت له اسماً من أسمائي فأنا الأعلى وهو علي . يا محمد إني خلقتك وخلقت علياً وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ولده أشباح نور من نوري ، وعرضت ولايتكم على السماوات وأهلها وعلى الأرضين ومن فيهن ، فمن قبل ولايتكم كان عندي من المقربين ومن جحدها كان عندي من الكفار الضالين .

يا محمد لو أن عبداً عبدني حتى ينقطع أو يصير كالشن البالي ، ثم أتاني جاحداً لولايتكم ما غفرت له حتى يقر بولايتكم .

٣١٧
 &

يا محمد تحب أن تراهم ؟ قلت : نعم يا رب قال التفت عن يمين العرش فالتفتُّ فإذا أنا بأشباح علي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة كلهم حتى بلغ المهدي ، في ضحضاح من نور قيام يصلون والمهدي في وسطهم كأنه كوكب دري ، فقال لي : يا محمد هؤلاء الحجج ، وهو الثائر من عترتك ، فوعزتي وجلالي إنه حجةٌ واجبة لأوليائي منتقمٌ من أعدائي . انتهى .

ورواه فرات الكوفي في تفسيره ص ٧٤ عن الإمام الباقر عليه‌السلام وقال في هامشه : وأخرجه الحمويني في الفرائد ٢ ـ ٥٧١ ط ١ والخوارزمي في مقتله والطوسي في الغيبة وصاحب المقتضب كما في البرهان بأسانيدهم إلى أبي سلمى راعي إبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال سمعته يقول . . . ( مثله تقريباً ) . وأخرج صدره القاضي أبو جعفر الكوفي في المناقب ح ١٣٠ وأورده بكامله مع تاليه العلامة المجلسي في البحار ٣٧ ـ ٨٢ انتهى . ورواه ابن شاذان في المنقبة السابعة عشرة من مناقب علي عليه‌السلام . ورواه المجلسي في بحار الأنوار ج ١٥ ص ٢٤٧ وج ١٨ ج ١٨ ص ٢٩٧ وج ٢٦ ص ٣٠١

محاولتهم التخلص من الوعد النبوي لبني هاشم

وجد المفسرون للثقافة القرشية أن أحسن طريقة للتخلص من الوعد النبوي الذي انتشرت روايته في الناس ، أن يبعدوه عن الآخرة كلياً ، ويقولوا إنه ليس وعداً بالشفاعة !

ـ قال ابن الأثير في النهاية ج ١ ص ١٥٣ : سأبلها ببلالها : أي أصلكم في الدنيا ولا أغني عنكم من الله شيئاً ، والبلال جمع بلل . انتهى .

ولكن ذلك لا يصح :

أولاً ، لأنه ورد في سياق حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الآخرة وإنقاذ النفس من النار فالأصل أن يكون هذا استثناء متصلاً من موضوع الحديث ومصبه ، لا من خارجه !

وثانياً ، أن الحديث في مقام نفع نسبه وسببه صلى‌الله‌عليه‌وآله في الآخرة وقد صح عند

٣١٨
 &

الجميع أنه النسب الوحيد الذي لا ينقطع يوم القيامة . وتقدمت روايته عن عمر أن النبي : قال : ما بال أقوام يزعمون أن قرابتي لا تنفع ؟ ! كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي ، فإنها موصولة في الدنيا والآخرة !

وثالثاً ، لم يكن النبي يملك دنياً عند نزول أمره تعالى : وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ، حتى يعد أقاربه بها ، بل لا معنى لوعده إياهم في ذلك الوقت حتى بالشفاعة في الآخرة ، لأنه في مرحلة عرض الإسلام عليهم . . وهذا مما يضعف الرواية بأن هذا الوعد النبوي صدر عند نزول الآية .

ورابعاً ، أنهم رووا هذا الحديث بشأن أبي طالب بعد وفاته كما تقدم في كنز العمال عن ابن عساكر وغيره ، فهل وعده النبي بأن يعطيه مالاً بعد وفاته ! أم وعد بأن يعطي ذريته ثروة فلم يعطهم وتركهم فقراء !

وخامساً ، رووا في نفس هذا الوعد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله خاطب كل قريش ووعدهم ببلال الرحم ، فإن قالوا إنه وعدٌ بإعطائهم مالاً في الدنيا دون الآخرة ، لزم أن لا تشمل شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أحداً من قريش أبداً ! ، فهل يلتزمون بذلك !

ـ قال النووي في المجموع ج ١٥ ص ٣٥٦

وأخرج الشيخان عن أبي هريرة واللفظ لمسلم ( لما نزلت هذه الآية : وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فاجتمعوا ، فعم وخص فقال : يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد مناف أنقذي أنفسكم من النار ، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار ، فإني لا أملك لكم من الله شيئاً ، غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها ) وفي هذا دليل على أن كل من ناداهم النبي صلى الله عليه وسلم يطلق عليهم لفظ الأقربين ، لأنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ممتثلاً لقوله تعالى : وَأَنذِرْ

٣١٩
 &

عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ، وهو دليل على صحة ما ذهب إليه الشافعي رضي‌الله‌عنه من دخول النساء لذكره فاطمة ، ودخول الكفار . انتهى .

وسادساً ، رووا أحاديث عديدة صرحت بالوعد النبوي بالشفاعة في الآخرة ، كالذي رواه الحاكم في ج ٣ ص ٥٦٨ ورواه مجمع الزوائد ج ١ ص ٨٨ وكنز العمال ج ١٢ ص ٤١ : والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدهم حتى يحبكم لحبي ! أيرجون أن يدخلوا الجنة بشفاعتي ولا يرجوها بنو عبد المطلب ؟ ! انتهى .

بل روى في كنز العمال ج ١٢ ص ١٠٠ أن شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مخصوصةٌ بمن أحب أهل بيته ، قال : شفاعتي لأمتي ، من أحب أهل بيتي وهم شيعتي ! انتهى .

وبذلك يتضح أن محاولة إبعاد وعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لبني هاشم عن الشفاعة . . محاولة مردودة ، بل مشبوهة .

عمل المعروف ينجي الكفار من النار إلا أبا طالب

ـ روى ابن ماجة في سننه ج ٢ ص ٤٩٦

عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يُصَفُّ الناس يوم القيامة صفوفاً ، وقال ابن نمير أهل الجنة ، فيمر الرجل من أهل النار على الرجل فيقول : يا فلان أما تذكر يوم استسقيت فسقيتك شربة ؟ قال فيشفع له . ويمر الرجل فيقول : أما تذكر يوم ناولتك طهوراً ؟ فيشفع له . قال ابن نمير ويقول : يا فلان أما تذكر يوم بعثتني في حاجة كذا وكذا فذهبت لك ؟ فيشفع له . انتهى .

والرجل من ( أهل النار ) يعني الكافر أو يشمل الكافر الذي قدم خدمة ولو صغيرة للمسلم . . فإذا كانت مكانة المسلم العادي كبيرة عند الله تعالى بحيث يشفِّعه في من قدم له خدمة ولو بسيطة ، فكيف بخدمات أبي طالب لأفضل الخلق صلى‌الله‌عليه‌وآله !

ويؤيد حديث ابن ماجة ما رواه السيوطي في الدر المنثور ج ٢ ص ٢٤٩ : عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم

٣٢٠