العقائد الإسلاميّة - ج ٣

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية

العقائد الإسلاميّة - ج ٣

المؤلف:

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-120-6
ISBN الدورة:
964-319-117-6

الصفحات: ٤٩٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

الفصل العاشر ولادة المذاهب المنحرفة من أفكار توسيع الشفاعة

عمل اليهود على إسقاط المحرمات من الأديان

كان اليهود أسبق الأمم إلى تحريف قانون العقوبة الإلۤهي ، فقد أسقطوا المحرمات عن أنفسهم تجاه الأمم الأخرى ، وخففوا قانون العقوبة الإلۤهي وشوشوه بالنسبة الى الجرائم الأخرى التي يرتكبونها !

ومن الطبيعي أن يسرى ذلك إلى عقيدتهم بالله تعالى ، فصوروه بأنه قاسٍ عصبيُّ المزاج ، ولذا فإن عقوباته شديدة وغير منطقية ! وذلك واضح لمن قرأ صفحات قليلة من توراتهم .

وقد أخذ المسيحيون هذه الثقافة من اليهود ، وما زالوا . . وقد سمعت أن من المسائل الفكرية المطروحة أخيراً عند الكتاب الغربيين ، خاصةً في فرنسا ، موضوع : هل يجب أن يكون في الدين الإلۤهي محرماتٍ ، أم لا . .

٣٤١
 &

ذلك أن اليهود والكتاب المتأثرين بهم يريدون من الكنيسة المسيحية أن تقدم ديناً بلا محرمات ، وتفتي بأن المهم هو الإيمان الذي هو أمرٌ في القلب ، مهما كان عمل الناس !

وهذا بالضبط هو مذهب المرجئة الذي زرعه اليهود في عقائد المسلمين ، عن طريق بعض الصحابة !

أما زارعوه الجدد فليسوا كعب الأحبار ولا وهب بن منبه ، بل هم ذراري النصارى واليهود الصرحاء ! والمزروع فيهم ليسوا صحابة ، بل هم ذراري المسلمين المتغربين !

إخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بظهور المرجئة والقدرية وتحذيره منهم

روت مصادر السنة والشيعة تنبؤ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بظهور المرجئة والقدرية في أمته وتحذيره من خطرهم ، وأنهم لا تنالهم شفاعته ، لأنهم يحرفون الإسلام ويشوشون أمر الأمة من بعده .

ـ فقد روى الهيثمي في مجمع الزوائد ج ٧ ص ٢٠٧ :

عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صنفان من أمتي لا يردا عليَّ الحوض ولا يدخلان الجنة ، القدرية والمرجئة . رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح غير هارون بن موسى الفروي وهو ثقة . انتهى . وروى الترمذي شبيهاً به في ج ٣ ص ٣٠٨

ـ ورواه في كنز العمال ج ١ ص ١١٩ عن حلية الأولياء لأبي نعيم عن أنس ، وعن مسند الطيالسي ، عن واثلة عن جابر . وروى نحوه في ج ١ ص ٣٦٢ عن السلفي في انتخاب حديث القراء عن علي . ورواه ابن حبان في كتاب المجروحين ج ٢ ص ١١٢ عن عكرمة .

ـ وفي مجمع الزوائد ج ٧ ص ٢٠٣

عن معاذ بن جبل قال قال رسول الله صلى عليه وسلم : ما بعث الله نبياً قط إلا وفي أمته قدرية ومرجئة يشوشون عليه أمر أمته . ألا وإن الله قد لعن القدرية

٣٤٢
 &

والمرجئة على لسان سبعين نبياً . رواه الطبراني وفيه بقية بن الوليد وهو لين ويزيد بن حصين لم أعرفه . انتهى .

ورواه ابن حبان عن أبي هريرة في كتاب المجروحين ج ١ ص ٣٦٢ وفيه ( امته من بعده . . سبعين نبياً أنا آخرهم )

ـ وفي كتاب الخصال للصدوق ص ٧٢

أخبرني الخليل بن أحمد قال : أخبرنا ابن منيع قال : حدثنا الحسن بن عرفة قال : حدثنا علي بن ثابت عن إسماعيل بن أبي إسحاق ، عن ابن أبي ليلى ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب : المرجئة والقدرية . انتهى .

ورواه في ثواب الأعمال ص ٢١٢ . وقال في صحيفة الرضا ص ٢٧٨ : وبإسناده قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب : المرجئة والقدرية . رواه في ثواب الأعمال : ٢٥٢ ح ٣ بالإسناد رقم ١٠ عنه البحار : ٥ ـ ١١٨ ح ٥٢ . ورواه الشيخ حسن بن سليمان في المختصر : ١٣٥ بالإسناد رقم ٥٧ والكراجكي في كنزه : ٥١ بالإسناد رقم ١٤ عنه البحار : ٥ ـ ٧ ح ٨ . ورواه الصدوق في الخصال : ١ ـ ٧٢ ح ١١٠ بإسناده عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عنه البحار : ٥ ـ ٧ ح ٧ .

ـ وفي دعائم الإسلام ج ٢ ص ٥١١

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : لا تجوز شهادة أهل الأهواء على المؤمنين ، قال أبو جعفر عليه‌السلام : لا تجوز شهادة حروري ، ولا قدري ومرجئ ، ولا أموي ، ولا ناصب ، ولا فاسق ، يعني من باين بذلك وظهرت عداوته ونصبه ، فأما من كتم ذلك وأسره فظهر منه الخير وكان عدلاً في مذهبه ، جازت شهادته وعلى هذا العمل .

تعريف المرجئة ومذهبهم

ـ قال النووي فيشرح مسلم ج ١ جزء ١ ص ٢١٨

قال القاضي عياض : اختلف الناس فيمن عصى الله من أهل الشهادتين فقالت

٣٤٣
 &

المرجئة : لا تضره المعصية ، وقالت الخوارج : تضره ويكفر بها ، وقالت المعتزلة : يخلد في النار ، وقالت الأشعرية : بل هو مؤمن .

ـ شرح المواقف ج ٤ جزء ٨ ص ٣١٢

في أن الله تعالى يعفو عن الكبائر . الإجماع منعقد على أنه تعالى عفوٌّ ، وأن عفوه ليس في حق الكافر بل في حق المؤمنين ، فقالت المعتزلة : هو عفوٌّ عن الصغائر قبل التوبة ، وعن الكبائر بعدها . وقالت المرجئة : عفو عن الصغائر والكبائر مطلقاً ! !

ـ تفسير الرازي ج ١٦ جزء ٣١ ص ٢٠٣

قوله تعالى ( لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى ) إن المرجئة يتمسكون بهذه الآية في أنه لا وعيد إلا على الكفار ! قال القاضي : ولا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها ، ويدل على ذلك ثلاثة أوجه : أحدها أنه يقتضي أن لا يدخل النار إلا الأشقى الذي كذب وتولى . . . وثانيهما أن هذا إغراء بالمعاصي . . . وثالثهما . . . معلوم من حال الفاسق أنه ليس بأتقى . . . الخ .

ـ وقال في هامش بحار الأنوار ج ٨ ص ٣٦٤

الوعيدية : فرقة من الخوارج يكفِّرون أصحاب الكبائر ، والكبيرة عندهم كفرٌ يخرج به عن الملة ، ويقابلهم المرجئة وهم يقولون : إنه لا يضر مع الإيمان معصية ، كما لا ينفع مع الكفر طاعة ، وليس العمل على مذهبهم ، وإن كان من الإيمان . فعليه معنى الإرجاء تأخير العمل عن النية والعقد .

ـ وروى في الكافي ج ١ ص ٤٠٣

محمد بن الحسن ، عن بعض أصحابنا ، عن علي بن الحكم ، عن الحكم بن مسكين ، عن رجل من قريش من أهل مكة قال : قال سفيان الثوري : إذهب بنا إلى جعفر بن محمد ، قال فذهبت معه إليه فوجدناه قد ركب دابته ، فقال له سفيان : يا أبا عبد الله حدثنا بحديث خطبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مسجد الخيف ، قال : دعني حتى

٣٤٤
 &

أذهب في حاجتى فإني قد ركبت فإذا جئت حدثتك ، فقال : أسألك بقرابتك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لما حدثتني ، قال : فنزل فقال له سفيان : مر لي بدواة وقرطاس حتى أثبته ، فدعا به ثم قال : أكتب : بسم الله الرحمن الرحيم . خطبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في مسجد الخيف : نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها ، وبلغها من لم تبلغه .

يا أيها الناس ليبلغ الشاهد الغائب ، فرب حامل فقه ليس بفقيه ، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، ثلاث لا يغلُّ عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله ، والنصيحة لأئمة المسلمين ، واللزوم لجماعتهم ، فإن دعوتهم محيطةٌ من ورائهم ، المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم ، وهم يد على من سواهم ، يسعى بذمتهم أدناهم .

فكتبه سفيان ثم عرضه عليه ، وركب أبو عبد الله عليه‌السلام . وجئت أنا وسفيان ، فلما كنا في بعض الطريق قال لي : كما أنت حتى أنظر في هذا الحديث ، قلت له : قد والله ألزم أبو عبد الله رقبتك شيئاً لا يذهب من رقبتك أبداً !

فقال : وأي شيء ذلك ؟

فقلت له : ثلاث لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم : إخلاص العمل لله ، قد عرفناه ، والنصيحة لأئمة المسلمين ، من هؤلاء الأئمة الذين يجب علينا نصيحتهم ؟ معاوية بن أبي سفيان ويزيد بن معاوية ومروان بن الحكم ؟ وكل من لا تجوز الصلاة خلفهم ؟ ! وقوله : واللزوم لجماعتهم ، فأي الجماعة ؟ مرجئ يقول : من لم يصل ولم يصم ولم يغتسل من جنابة وهدم الكعبة ونكح أمه فهو على إيمان جبرئيل وميكائيل ؟ ! أو قدري يقول : لا يكون ما شاء الله عز وجل ويكون ما شاء إبليس ؟ ! أو حروري يتبرأ من علي بن أبي طالب ويشهد عليه بالكفر ؟ ! أو جهمي يقول إنما هي معرفة الله وحده ليس الإيمان شيء غيرها ؟ !

قال : ويحك وأي شيء يقولون ؟ !

فقلت يقولون : إن علي بن أبي طالب والله الإمام الذي وجب علينا نصيحته ، ولزوم جماعتهم : أهل بيته . قال : فأخذ الكتاب فخرَّقه ، ثم قال . لا تخبر بها أحداً .

٣٤٥
 &

المرجئة ولدوا من عهد الخليفة عمر

رأينا كيف وسعت دولة الخلافة القرشية شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى شملت كل من يشهد بالتوحيد فقط ولو لم يشهد بالنبوة . .

ثم وسعتها إلى جميع الخلق ، كما تقدم من رواياتهم وكلام ابن تيمية .

ثم استغنت عن شفاعة الأنبياء جميعاً ، وأوجبت الجنة بأعمال وكلمات بسيطة .

ثم استغنت عن كل ذلك ، وقالت بفناء النار ونقل أهلها إلى الجنة ! !

ولعل الخليفة عمر وكعب الأحبار رائدي هذه الأفكار ومن تابعهم عليها لم يلتفتوا إلى خطورتها الزائدة ، وأنها تمثل مشروعاً خطيراً لإسقاط كل المحرمات وتعويم الإيمان ، في أمة نهضت بالإسلام والإيمان وأخذت تفتح بلاد الإمبراطورية الفارسية والرومانية ، بلداً بعد آخر . . وهي بأمسِّ الحاجة إلى حفظ شخصية جنودها وجديتهم ، وعدم التساهل في مفاهيم إيمانهم .

على أي حال فالذي وقع في حياة الأمة ، أن هذه الأفكار بمساعدة فكرة الجبر وأن الله تعالى قد فرغ من الأمر وكتب كل شيء وانتهى الأمر ولا بداء . . سرعان ما أثمرت مذهبين عقائديين مواليين للسلطة هما : المرجئة والقدرية ، وقد تبنتهما السلطة وأيدت علماءهما وهيأت لهم الظروف لنشر أفكارهم في الأمة .

ويتلخص مذهب المرجئة بمقولتهم المشهورة ( الإيمان لا تضر معه معصية ) فالإيمان عندهم مجرد القول بالشهادتين ، وبذلك يضمن الإنسان دخول الجنة مهما كان عمله ! !

ويتلخص مذهب القدرية أو الجبرية : بأن مسؤولية الإنسان عن أعماله وجرائمه محدودة أو منتفية ، لأن الخير والشر من الله تعالى ، وكل شيء مكتوب ومقدر منه تعالى ! !

ومن الواضح أن هذين المذهبين هما نفس الأفكار والأحاديث التي رأيناها في

٣٤٦
 &

توسيع الشفاعة وتوسيع دخول الجنة ، لكن بصيغة ( ممذهبة ) .

كما أن أحدهما مكمل للآخر في تخفيف مسؤولية الإنسان ، لأن جوهرهما واحد وهو ( تعويم ) قانون العقوبة الإلۤهي ، بل تطمين الناس بأنه قد تم شطبه ! !

وقد مر معنا في بحث توسيعات الشفاعة ما رواه السيوطي في الدر المنثور ج ٢ ص ١١٦ عن البيهقي ، وادعاؤهم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعمر : يا عمر إنك لا تسأل عن أعمال الناس ، ولكن تسأل عن الفطرة ! وهذا نفس ما يقوله المرجئة !

ـ وفي سنن الترمذي ج ٣ ص ٨٧

أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سمع ذات يوم رجلاً يقول : الله أكبر الله أكبر ، فقال : على الفطرة . فقال : أشهد أن لا إله إلا الله ، قال : خرجت من النار ! انتهى . ونحوه في صحيح مسلم ج ٢ ص ٤ ومسند أحمد ج ٣ ص ٢٤١ وكنز العمال ج ٨ ص ٣٦٦

بل وجدنا نفس تعبير ( الإيمان لا تضر معه خطيئة ) في عدة روايات في مسند أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص ج ٢ ص ١٧٠ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من لقي الله لا يشرك به شيئاً لم تضره معه خطيئة ! انتهى .

وقال عنه في مجمع الزوائد ج ١ ص ١٩ : رواه أحمد والطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح ما خلا التابعي فإنه لم يسم ، ورواه الطبراني فجعله من رواية مسروق عن عبد الله بن عمرو . وقال في كنز العمال ج ١ ص ٨١ إنه صحح ! انتهى .

ومصدر ابن عمرو إما أن يكون الخليفة عمر ، وإما أن يكون أخذه من أحاديث ( العِدْلَيْن ) أي الكيسين الكبيرين اللذين أخذهما بعد معركة اليرموك من الشام من رايات اليهود وكتبهم ، وكان يحدث المسلمين منهما ! !

أول من تصدى لمذهب المرجئة علي عليه‌السلام

ـ روى الصدوق في علل الشرائع ج ٢ ص ٦٠٢

حدثنا الحسين بن أحمد رحمه‌الله عن أبيه عن محمد بن أحمد قال : حدثنا أبو عبد الله

٣٤٧
 &

الرازي ، عن علي بن سليمان بن راشد ، بإسناده رفعه إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : يحشر المرجئة عمياناً ، إمامهم أعمى ، فيقول بعض من يراهم من غير أمتنا : ما تكون أمة محمد إلا عمياناً ! فأقول لهم : ليسوا من أمة محمد ، لأنهم بدَّلوا فبدل ما بهم ، وغيَّروا فغير ما بهم .

ـ وروى في الخصال ص ٦١١

حدثنا أبي رضي‌الله‌عنه قال : حدثنا سعد بن عبد الله قال : حدثني محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني ، عن القاسم بن يحيى ، عن جده الحسن بن راشد ، عن أبي بصير ومحمد بن مسلم ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : حدثني أبي عن جدي عن آبائه عليهم‌السلام أن أمير المؤمنين عليه‌السلام علم أصحابه في مجلس واحد أربع مائة باب مما يصلح للمسلم في دينه ودنياه .

قال عليه‌السلام : إن الحجامة تصحح البدن وتشد العقل ، والطيب في الشارب من أخلاق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكرامة الكاتبين ، والسواك من مرضات الله عز وجل وسنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومطيبة للفم ، والدهن يلين البشرة ويزيد في الدماغ ويسهل مجاري الماء ويذهب بالقشف ويسفر اللون ، وغسل الرأس يذهب بالدرن وينفي القذاء ، والمضمضة والإستنشاق سنة وطهور للفم والأنف ، والسعوط مصحة للرأس وتنقية للبدن وسائر أوجاع الرأس ، والنورة نشرة وطهور للجسد ، واستجادة الحذاء وقاية للبدن وعون على الطهور والصلاة . وتقليم الأظفار يمنع الداء الأعظم . . . الخ .

وهو حديث طويل فيه تعليمات هامة دينية ودنيوية ، وقد جاء فيه عن المرجئة : علموا صبيانكم ما ينفعهم الله به ، لا تغلب عليهم المرجئة برأيها . . . انتهى .

وقال في هامشه : قال العلامة المجلسي رحمه‌الله : إعلم أن أصل هذا الخبر في غاية الوثاقة والإعتبار على طريقة القدماء ، وإن لم يكن صحيحاً بزعم المتأخرين ، واعتمد عليه الكليني رحمه‌الله وذكر أكثر أجزائه متفرقة في أبواب الكافي ، وكذا غيره من أكابر المحدثين .

٣٤٨
 &

أقول : عدم صحة السند عند المتأخرين لمقام القاسم بن يحيى ، والظاهر أن أصل الرواية في كتابه ، قال الشيخ في الفهرست : القاسم بن يحيى الراشدي له كتاب فيه آداب أمير المؤمنين عليه‌السلام ، والراشدي نسبة إلى جده الحسن بن راشد البغدادي مولى المنصور الدوانيقي الذي كان وزيراً للمهدي وموسى وهارون الرشيد . قال ابن الغضائري : ضعيف . وقال البهبهاني في التعليقة : لا وثوق بتضعيف ابن الغضائري إياه ، ورواية الأجلة سيما مثل أحمد بن محمد بن عيسى عنه تشير إلى الإعتماد عليه ، بل الوثاقة وكثرة رواياته والإفتاء بمضمونها يؤيده . ويؤيد فساد كلام ابن الغضائري في المقام ، عدم تضعيف شيخ من المشايخ العظام الماهرين بأحوال الرجال إياه ، وعدم طعن من أحد ممن ذكره في ترجمته وترجمة جده وغيرها ، والعلامة رحمه‌الله تبع ابن الغضائري بناء على جواز عثوره على ما لم يعثروا عليه ، وفيه ما فيه . انتهى . ورواه ابن شعبة الحراني مرسلاً في تحف العقول ص ١٠٤

ـ هذا وقد صرح القاضي النعماني المغربي المتوفى سنة ٣٦٣ بأن اسم المرجئة أول ما أطلق على المتخلفين عن بيعة علي عليه‌السلام ونصرته على الفئة الباغية ، وهو يدل على أن بعض الصحابة تمسكوا بفكرة كعب وعمر التي تكتفي لدخول الجنة بالتوحيد بدون عمل ، فيكون مذهب المرجئة قد تمت ولادته بعد وفاة عمر بقليل وفي حياة كعب الأحبار !

ـ قال القاضي النعماني في شرح الأخبار ج ٢ ص ٨٢

فأما المتخلفون عن الجهاد مع علي صلوات الله عليه ، وقتال من نكث بيعته ومن حاربه وناصبه ، فإنه تخلف عنه في ذلك من المعروفين من الصحابة : سعد بن أبي وقاص وكان أحد الستة الذين سماهم عمر للشورى ، وعبد الله بن عمر بن الخطاب ، ومحمد بن سلمة ، واقتدى بهم جماعة فقعدوا بقعودهم عنه ، ولم يشهدوا شيئاً من حروبه معه ولا مع من حاربه . وهذه الفرقة هم أصل المرجئة وبهم اقتدوا ، وذهب إلى ذلك من رأيهم جماعة من الناس وصوبوهم فيه وذهبوا إلى ما ذهبوا إليه ، فقالوا

٣٤٩
 &

في الفريقين في علي عليه‌السلام ومن قاتل معه وفي الذين حاربوه وناصبوه ومن قتل من الفريقين : إنهم يخافون عليهم العذاب ويرجون لهم الخلاص والثواب ، ولم يقطعوا عليهم بغير ذلك وتخلفوا عنهم . والإرجاء في اللغة التأخير فسموا مرجئة لتأخيرهم القول فيهم ، وتأخرهم عنهم ولم يقطعوا عليهم بثواب ولا عقاب ، لأنهم زعموا أنهم كلهم موحدون ولا عذاب عندهم على من قال : لا إله إلا الله ، فقدموا المقال وأخروا الأعمال فكان هذا أصل الإرجاء ثم تفرق أهله فرقاً إلى اليوم يزيدون على ذلك من القول وينقصون . انتهى .

ـ وقال في شرح الأخبار ج ١ ص ٣٦٥

ثم هذه الفرق التي ذكرناها تتشعب ويحدث في أهلها الإختلاف إلى اليوم وأصلها ست فرق : شيعة وعامة وخوارج ومعتزلة ومرجئة وحشوية .

فالشيعة : هم شيعة علي صلوات الله عليه القائلون بإمامته ، وهم أقدم الفرق وأصلها الذي تفرعت عنه ، ورسول الله صلوات الله عليه وآله سماها بهذا الإسم . وقال : شيعة عليٍّ هم الفائزون . وقال لعلي عليه‌السلام : أنت وشيعتك . . في آثار كثيرة رويت عنه . وسنذكر في هذا الكتاب ما يجري ذكره إن شاء الله تعالى . وغير ذلك من الفرق محدثةٌ أحدثت بعد النبي صلوات الله عليه وآله . انتهى .

*       *

ويدل النصان التاليان على وجود المرجئة على شكل مذهب متكامل في عصر الإمام الباقر عليه‌السلام المتوفى سنة ٩٤ هجرية ، أي في الجيل الأول من التابعين بعد الصحابة مباشرة .

ـ قال الصدوق في ثواب الأعمال ص ٢١٣

وحدثني محمد بن موسى بن المتوكل قال : حدثني محمد بن جعفر قال : حدثني أحمد بن محمد العاصمي قال : حدثني علي بن عاصم الهمداني ، عن

٣٥٠
 &

محمد بن عبد الرحمن المحرري ، عن يحيى بن سالم ، عن محمد بن سلمة ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : ما الليل بالليل ولا النهار بالنهار أشبه من المرجئة باليهود ، ولا من القدرية بالنصرانية .

ـ وفي علل الشرائع ج ٢ ص ٥٢٨

وبهذا الإسناد عن محمد بن أحمد ، عن ابن عيسى ، عن عثمان بن سعيد قال : حدثنا عبد الكريم الهمداني ، عن أبي ثمامة قال : دخلت على أبي جعفر عليه‌السلام وقلت له : جعلت فداك إني رجل أريد أن ألازم مكة وعليَّ دينٌ للمرجئة فما تقول ؟ قال : قال إرجع ( وأد ) دينك وانظر أن تلقى الله تعالى وليس عليك دين ، فإن المؤمن لا يخون . انتهى .

*       *

أما في عصر الإمام الصادق عليه‌السلام وما بعده فقد كان للمرجئة وجودٌ واسع وصولةٌ ، وانتشر مذهبهم حتى شمل أكثر الرواة وعلماء الدولة . . كما اتسع تصدي أهل البيت عليهم‌السلام لأفكارهم ، ففي دعائم الإسلام للقاضي النعمان ج ١ ص ٣ قال : روينا عن جعفر بن محمد أنه قال : الإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان ، وهذا الذي لا يصح غيره ، لا كما زعمت المرجئة أن الإيمان قولٌ بلا عمل ، ولا كالذي قالت الجماعة من العامة إن الإيمان قولٌ وعملٌ فقط ، وكيف يكون ما قالت المرجئة إنه قول بلا عمل وهم والأمة مجمعون على أن من ترك العمل بفريضة من فرائض الله عز وجل التي افترضها على عباده منكراً لها أنه كافر حلال الدم ما كان مصراً على ذلك ، وإن أقر بالله ووحده وصدق رسوله بلسانه ، إلا أنه يقول هذه الفريضة ليست مما جاء به ، وقد قال الله عز وجل : وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ، فأخرجهم من الإيمان بمنعهم الزكاة ، وبذلك استحل القوم أجمعون بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دماء بني حنيفة وسبي ذراريهم ، وسموهم أهل الردة إذ منعوهم الزكاة . انتهى .

٣٥١
 &

ـ قال الكليني في الكافي ج ٢ ص ٤٠

محمد بن الحسن ، عن بعض أصحابنا ، عن الأشعث بن محمد ، عن محمد بن حفص بن خارجة قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : وسأله رجل عن قول المرجئة في الكفر والإيمان ، وقال إنهم يحتجون علينا ويقولون كما أن الكافر عندنا هو الكافر عند الله ، فكذلك نجد المؤمن إذا أقر بإيمانه أنه عند الله مؤمن ! فقال : سبحان الله وكيف يستوي هذان ؟ ! والكفر إقرارٌ من العبد ، فلا يكلف بعد إقراره ببينة ، والإيمان دعوى لا يجوز إلا ببينة ، وبينته عمله ونيته ، فإذا اتفقا فالعبد عند الله مؤمن . والكفر موجود بكل جهة من هذه الجهات الثلاث من نيةٍ أو قولٍ أو عملٍ ، والأحكام تجري على القول والعمل ، فما أكثر من يشهد له المؤمنون بالإيمان ويجري عليه أحكام المؤمنين وهو عند الله كافر ، وقد أصاب من أجرى عليه أحكام المؤمنين بظاهر قوله وعمله .

ـ وقال في الإيضاح ص ٤٤

ومنهم المرجئة الذين يروي عنهم أعلامهم مثل إبراهيم النخعي وإبراهيم بن يزيد التيمي ، ومن دونهما مثل سفيان الثوري وابن المبارك ووكيع وهشام وعلي بن عاصم ، عن رجالهم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب : القدرية والمرجئة . فقيل له : ما المرجئة قالوا : الذين يقولون : الإيمان قول بلا عمل . وأصل ما هم عليه أنهم يدينون بأن أحدهم لو ذبح أباه وأمه وابنه وبنته وأخاه وأخته وأحرقهم بالنار أو زنى أو سرق أو قتل النفس التي حرم الله أو أحرق المصاحف أو هدم الكعبة أو نبش القبور أو أتى أي كبيرة نهى الله عنها . . أن ذلك لا يفسد عليه إيمانه ولا يخرجه منه ، وأنه إذا أقر بلسانه بالشهادتين أنه مستكمل الإيمان إيمانه كإيمان جبرئيل وميكائيل صلى الله عليهما ، فعل ما فعل وارتكب ما ارتكب ما نهى الله عنه !

ويحتجون بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أمرنا أن نقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله .

٣٥٢
 &

وهذا قبل أن يفرض سائر الفرائض وهو منسوخ . وقد روى محمد بن الفضل ، عن أبيه ، عن المغيرة بن سعيد ، عن أبيه ، عن مقسم ، عن سعيد بن جبير قال : المرجئة يهود هذه الأمة . وقد نسخ احتجاجهم قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حين قال : بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم شهر رمضان .

كان المرجئة خداماً لبني أمية ومبررين لجرائمهم

ـ الكافي ج ٢ ص ٤٠٩

محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن مروك بن عبيد ، عن رجل ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لعن الله القدرية ، لعن الله الخوارج ، لعن الله المرجئة ، لعن الله المرجئة . قال قلت : لعنت هؤلاء مرة مرة ولعنت هؤلاء مرتين !

قال : إن هؤلاء يقولون : إن قتلتنا مؤمنون ! فدماؤنا متلطخة بثيابهم إلى يوم القيامة ، إن الله حكى عن قوم في كتابه : لن نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين . . قال كان بين القاتلين والقائلين خمسمائة عام فألزمهم الله القتل برضاهم ما فعلوا . انتهى .

ومعنى كلام الإمام الصادق عليه‌السلام : أن المرجئة زعموا أن قتلة الإمام الحسين عليه‌السلام مؤمنون من أهل الجنة ولا يعاقبون على جريمتهم ! وبذلك صار المرجئة شركاء لبني أمية في الجريمة ، لأن من رضي بعمل قوم فقد شركهم فيه !

ويدل النص التالي على أن المرجئة كانوا يجادلون المعارضين لبني أمية ليأخذوا عليهم مستمسكاً للخليفة لكي يضطهدهم !

ـ وقال الكليني في الكافي ج ٨ ص ٢٧٠

عن عبد الحميد بن أبي العلاء قال : دخلت المسجد الحرام فرأيت مولى لأبي عبد الله عليه‌السلام فملت إليه لأسأله عن أبي عبد الله ، فإذا أنا بأبي عبد الله ساجداً فانتظرته طويلاً فطال سجوده عليَّ ، فقمت وصليت ركعات وانصرفت وهو بعد ساجد ،

٣٥٣
 &

فسألت مولاه متى سجد ؟ فقال : قبل أن تأتينا ، فلما سمع كلامي رفع رأسه ثم قال : أبا محمد أدن مني فدنوت منه فسلمت عليه ، فسمع صوتاً خلفه فقال : ما هذه الأصوات المرتفعة ؟ فقلت : هؤلاء قوم من المرجئة والقدرية والمعتزلة ، فقال : إن القوم يريدوني فقم بنا ، فقمت معه فلما أن رأوه نهضوا نحوه فقال لهم : كفوا أنفسكم عني ولا تؤذوني وتعرضوني للسلطان ، فإني لست بمفتٍ لكم ، ثم أخذ بيدي وتركهم ومضى ، فلما خرج من المسجد قال لي يا أبا محمد والله لو أن إبليس سجد لله عز ذكره بعد المعصية والتكبر عمر الدنيا ما نفعه ذلك ولا قبله الله عز ذكره ما لم يسجد لآدم ، كما أمره الله عز وجل أن يسجد له .

وكذلك هذه الأمة العاصية المفتونة بعد نبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد تركهم الإمام الذي نصبه نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم فلن يقبل الله تبارك وتعالى لهم عملاً ، ولن يرفع لهم حسنة حتى يأتوا الله عز وجل من حيث أمرهم ، ويتولوا الإمام الذي أمروا بولايته ويدخلوا من الباب الذي فتحه الله عز وجل ورسوله لهم .

يا أبا محمد إن الله افترض على أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله خمس فرائض : الصلاة والزكاة والصيام والحج وولايتنا ، فرخص لهم في أشياء من الفرائض الأربعة ، ولم يرخص لأحد من المسلمين في ترك ولايتنا ، لا والله ما فيها رخصة .

تورُّط أصحاب المذاهب الأربعة في الإرجاء

للمرجئة في المذاهب الأربعة وفي الصحاح الستة مكانةٌ محترمةٌ حتى أن بعض أئمة المذاهب أنفسهم اتهموا بأنهم مرجئة . . قال في هامش كتاب المجروحين ج ٣ ص٦٣ : هناك تعليقات كثيرة على المخطوطة هاجمت ابن حبان لتحامله على أبي حنيفة ، ومما هوجم من أجله والد أبي حنيفه بأنه كان خبازاً واعتبر المعلق ذلك غيبة تخرج عن حد الرأي في المحدث .

ونشير هنا إلى أن جد أبي حنيفة كان أحد أمراء بلاد الأفغان ( مرزبان ) واختلفت أقوال حفيده في مسألة أسر جده ثم عتقه ، قال أحدهما : والله ما وقع لنا رقٌّ قط .

٣٥٤
 &

يراجع الإمام الأعظم : اتهام أبي حنيفة بالإرجاء وأنه داعية إلى البدع ، غير مقبول من ابن حبان ومن شاركه هذا القول على إطلاقه ، ونلخص القول في ذلك بما جاء في كتاب اللكنوي ( الرفع والتكميل ١٥٤ ) :

جملة التفرقة بين اعتقاد أهل السنة وبين اعتقاد المرجئة : أن المرجئة يكتفون في الإيمان بمعرفة الله ونحوه ويجعلون ما سوى الإيمان من الطاعات وما سوى الكفر من المعاصي غير مضرة ولا نافعة ويتشبثون بظاهر حديث : من قال لا إله إلا الله دخل الجنة .

وأهل السنة يقولون : لا تكفي في الإيمان المعرفة ، بل لا بد من التصديق الإختياري مع الإقرار اللساني ، وأن الطاعات مفيدة والمعاصي مضرة مع الإيمان توصل صاحبها إلى دار الخسران .

والذي يجب علمه على العالم المشتغل بكتب التواريخ وأسماء الرجال أن ( يعرف أن ) الإرجاء يطلق على قسمين : أحدهما الإرجاء الذي هو ضلال . وثانيهما الإرجاء الذي ليس بضلال ، ولا يكون صاحبه عن أهل السنة والجماعة خارجاً .

ولهذا ذكروا أن المرجئة فرقتان : مرجئة الضلالة ، ومرجئة أهل السنة . وأبو حنيفة وتلامذته وشيوخه وغيره من الرواة الإثبات إنما عدوا من مرجئة أهل السنة لا من مرجئة الضلالة .

ثم يقول أيضاً في ختام مناقشته لهذا الموضوع ١٦١ : وخلاصة المرام في هذا المقام أن الإرجاء : قد يطلق على أهل السنة والجماعة من مخالفيهم المعتزلة الزاعمين بالخلود الناري لصاحب الكبيرة ، وقد يطلق على الأئمة القائلين بأن الأعمال ليست بداخلة في الإيمان وبعدم الزيادة فيه والنقصان ـ وهو مذهب أبي حنيفه وأتباعه ـ من جانب المحدثين القائلين بالزيادة والنقصان وبدخول الأعمال في الإيمان . وهذا النزاع وإن كان لفظياً كما حققه المحققون من الأولين والآخرين لكنه لما طال وآل الأمر إلى بسط كلام الفريقين من المتقدمين والمتأخرين ، أدى

٣٥٥
 &

ذلك إلى أن أطلقوا الإرجاء على مخالفيهم وشنعوا بذلك عليهم ، وهو ليس بطعن في الحقيقه ، على ما لا يخفى على مهرة الشريعة .

أقول : إذا عرفت هذا علمت أن قول ابن حبان في إطلاقه الإرجاء على أبي حنيفة وأصحابه فيه اتهام غير محدد وتعمية تضلل الباحث ، وهو يقصد إلى ذلك قصداً ما كان يجدر به أن يقع في مثل ذلك . انتهى .

ولا كلام لنا في دفاعهم عن نسب أبي حنيفة وحسبه ، فقد كان على أتباعه أن يجعلوه من ملوك الأفاغنة وأبناء المرازبة أو الأكاسرة ، حتى يواجهوا به مذهب أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ونسبهم الشامخ من عَلْيَا قريشٍ وذروة بني هاشم . .

ولكنا نسأل : من أين جاؤوا بهذا التقسيم للمرجئة إلى مرجئة من أهل السنة ومرجئة ضلالة ، وحكموا بأن أبا حنيفة من النوع الجيد لا الردئ . . ! فما هو الفرق العلمي والعقائدي بين هذين النوعين حتى نقبل الجيد ونترك الردئ ؟ !

وهل يكفي التخلص اللفظي من مذهب المرجئة بمثل قول اللكنوي المتقدم بأن مذهب أهل السنة ( ان الطاعات مفيدة والمعاصي مضرة مع الإيمان توصل صاحبها إلى دار الخسران ) مع أن الإحاديث التي تشبث بها المرجئة على حد تعبيره ثابتة وصحيحة عندهم !

*       *

تورُّط أصحاب الصحاح الستة في الإرجاء

أما إذا نظرت إلى الصحاح فيأخذك العجب عندما تجد نسبةً كبيرةً من رواتها المحترمين مرجئة ! ! وهو موضوع يحتاج إلى دراسة مستقلة ولا يتسع المجال لأكثر من إشارة إلى بعضهم :

فمنهم : الفأفاء ، وهو رأس في المرجئة متعصب لبني أمية مبغض لعلي عليه‌السلام بل مبغض للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ! وكان يقرأ لخلفاء بني أمية القصائد في هجاء النبي ! وقد قتله

٣٥٦
 &

العباسيون في ثورتهم . . ومع ذلك فهو معتمدٌ عند ابن المديني شيخ البخاري ويقول عنه قتل مظلوماً ، ومعتمدٌ عند البخاري فقد روى عنه في الأدب المفرد وكذلك عند مسلم والنسائي وابن ماجة والترمذي وأبي داود ! قال في تهذيب التهذيب ج ٣ ص ٨٣ : خالد بن سلمة بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي أبو سلمة ، ويقال أبو المقسم المعروف بالفأفاء الكوفي ، أصله حجازي ، روى عن عبد الله البهي وعيسى وموسى ابني طلحة بن عبيد الله ، وسعيد بن المسيب وأبي بردة بن أبي موسى والشعبي وغيرهم . وعنه أولاده عكرمة ومحمد وعبد الرحمن ، والسفيانان ، وشعبة ، ومسعر ، وزائدة ، وزكرياء بن أبي زائدة وابنه يحيى بن زكرياء ، وحماد بن زيد ، وغيرهم . . وحدث عنه عمرو بن دينار ، ويحيى بن سعيد الأنصاري ، وهما أكبر منه .

قال البخاري عن ابن المديني له نحو عشرة أحاديث .

وقال أحمد وابن معين وابن المديني ثقة ، وكذا قال ابن عمار ويعقوب بن شيبة والنسائي .

وقال أبو حاتم شيخ يكتب حديثه .

وقال ابن عدي : هو في عداد من يجمع حديثه ، ولا أرى بروايته بأساً .

وذكره ابن حبان في الثقات .

وقال ابن سعد : هرب من الكوفة إلى واسط لما ظهرت دعوة بني العباس ، فقتل مع ابن هبيرة .

وقال محمد بن حميد عن جرير : كان الفأفأ رأساً في المرجئة ، وكان يبغض علياً .

وقال يعقوب بن شيبة : يقال إن بعض الخلفاء قطع لسانه ثم قتله ، ذكره علي بن المديني يوماً فقال : قتل مظلوماً .

وقال أبو داود عن الحسن بن علي الخلال : سمعت يزيد بن هارون يقول دخلت المسودة واسط سنة ١٣٢ فنادى مناديهم بواسط : الناس آمنون إلا ثلاثة : العوام بن حوشب ، وعمر بن ذر ، وخالد بن سلمة المخزومي . فأما خالد فقتل ، وأما العوام

٣٥٧
 &

فهرب وكان يحرض على قتالهم ، وكان عمر بن ذر يقص بهم ويحرض على قتالهم عندنا بواسط . له عند مسلم حديث واحد .

قلت : وقع في صحيح البخاري ضمناً حيث قال في الحيض وقالت عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه ، فإن مسلماً أخرجه من طريق خالد بن سلمة .

هذا وذكر ابن المديني في العلل الكبرى أن الفأفاء لم يسمع من عبد الله بن عمر ، وذكر ابن عائشة : أنه كان ينشد بني مروان الأشعار التي هجي بها المصطفى صلى الله عليه وسلم ! ! . انتهى .

ومنهم : الحماني ، الذي روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة . . قال في تهذيب التهذيب ج ٦ ص ١٠٩ : عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني أبو يحيى الكوفي ولقبه بشمين . أصله خوارزمي . روى عن يزيد بن أبي بردة ، والأعمش ، والسفيانين ، وأبي حنيفة وجماعة . وعنه أبو بكر ومحمد بن خلف الحدادي ، والحسن بن علي الخلال ، وأحمد بن عمر الوكيعي ، وأبو كريب ، وموسى بن عبد الرحمن المسروقي ، وأبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة ، وسفيان بن وكيع ، والحسين بن يزيد الكوفي ، ومحمد بن عبد بن ثعلبة ، ويحيى بن موسى خت ، وعمرو بن علي الفلاس ، وأبو سعيد الأشج ، والحسن بن علي بن عفان العامري ، وغيرهم . قال ابن معين : ثقة .

وقال أبو داود : كان داعية في الإرجاء ! !

وقال النسائي : ليس بقوي ، وقال في موضع آخر : ثقة ، وذكره ابن حبان في الثقات . وقال ابن عدي : هو وابنه ممن يكتب حديثه . قال هارون الحمال مات سنة اثنتين ومائتين . قلت : وفيها أرخه ابن قانع وزاد في جمادى الأولى وهو ثقة .

وقال ابن سعد وأحمد : كان ضعيفاً . وقال العجلي : كوفي ضعيف الحديث مرجئ .

وقال البرقي : قال ابن معين : كان ثقة ، ولكنه ضعيف العقل ! . انتهى .

٣٥٨
 &

ومنهم : شعيب بن اسحاق مولى بني أمية الذي روى عنه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة . . قال في تهذيب التهذيب ج ٤ ص ٣٠٤ : شعيب بن إسحاق بن عبد الرحمن بن عبد الله بن راشد الدمشقي الأموي ، مولى رملة بنت عثمان ، أصله من البصرة . روى عن أبيه وأبي حنيفة وتمذهب له ، وابن جريج والأوزاعي ، وسعيد بن أبي عروبة ، وعبيد الله بن عمرو ، وهشام بن عروة ، والثوري وغيرهم . وعنه ابن ابنه عبد الرحمن بن عبد الصمد بن شعيب ، وداود بن رشيد ، والحكم بن موسى ، وأبو النضر الفراديسي ، وعمرو بن عون ، وإبراهيم بن موسى الرازي ، وإسحاق بن راهويه ، وسويد بن سعيد ، وأبو كريب محمد بن العلاء ، وهشام بن عمار ، وغيرهم .

وحدث عنه الليث بن سعد ، وهو في عداد شيوخه .

قال أبو طالب عن أحمد : ثقة ما أصح حديثه وأوثقه .

وقال أبو داود : ثقة وهو مرجئ ، سمعت أحمد يقول : سمع من سعيد بن أبي عروبة بآخر رمق .

وقال هشام بن عمار عن شعيب : سمعت من سعيد سنة ١٤٤ .

وقال ابن معين ودحيم والنسائي : ثقة .

وقال أبو حاتم : صدوق .

وقال الوليد بن مسلم : رأيت الأوزاعي يقربه ويدنيه .

قال دحيم : ولد سنة ١٨ ومات سنة ١٨٩ وكذا أرخه ابن مصفى وزاد في رجب وفيها أرخه غير واحد . ووقع في الكمال سنة ٩٨ وهو وهم .

قلت : وفي سنة ٨٩ أرخه ابن حبان في الثقات ، ونقل أبو الوليد الباجي عن أبي حاتم قال : شعيب ابن اسحاق ثقة مأمون . انتهى .

ومنهم : الغنوي الذي روى عنه مسلم والأربعة . . قال في تهذيب التهذيب ج ١ ص ٤١١ : بشير بن المهاجر الغنوي الكوفي ، رأى أنس بن مالك ، وروى عن عبد الله

٣٥٩
 &

بن بريدة والحسن البصري وعكرمة وغيرهم . وعنه ابن المبارك ، ووكيع ، وابن نمير ، والثوري ، وجعفر بن عون ، وأبو نعيم ، وخلاد بن يحيى ، وغيرهم . . . . وقال العجلي : كوفي ثقة ، وقال العقيلي : مرجئ متهم متكلم فيه . وقال الساجي : منكر الحديث عنده . انتهى .

*       *

وقد سجل ابن شاذان هذا التناقض على أصحاب الصحاح فقال في الإيضاح ص ٥٠٢ : ومن جهة أخرى تروون عن المرجئة ويروون عنكم وتروون عن القدرية ويروون عنكم وتروون عن الجهمية ويروون عنكم فتقبلون منهم بعض أقاويلهم وتردون عليهم بعضها ، فلا الحق أنتم منه على ثقة ، ولا الباطل أنتم منه على يقين وأنتم عند أنفسكم أهل السنة والجماعة . . .

حب المستشرقين للمرجئة وحزنهم عليهم

قال الدكتور حسن إبراهيم في كتابه تاريخ الإسلام ج ١ ص ٤١٦ عن المرجئة :

وهي طائفة المرجئة التي ظهرت في دمشق حاضرة الأمويين بتأثير بعض العوامل المسيحية خلال النصف الثاني من القرن الأول الهجري .

وقد سميت هذه الطائفة المرجئة من الإرجاء هو التأخير ، لأنهم يرجئون الحكم على العصاة من المسلمين إلى يوم البعث . كما يتحرجون عن إدانة أي مسلم مهما كانت الذنوب التي اقترفها . . . .

وهؤلاء هم في الحقيقة كتلة المسلمين التي رضيت حكم بني أمية ، مخالفين في ذلك الشيعة والخوراج . ومع هذا فإنهم يتفقون في العقيدة إلى حد ما مع طائفة المحافظين وهي أهل السنة ، وإن كانوا ـ كما يرى فون كريمر ـ قد ألانوا من شدة عقائد هؤلاء السنيين باعتقادهم ( أنه لا يخلد مسلم مؤمن في النار ) وعلى العموم

٣٦٠