العقائد الإسلاميّة - ج ٣

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية

العقائد الإسلاميّة - ج ٣

المؤلف:

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-120-6
ISBN الدورة:
964-319-117-6

الصفحات: ٤٩٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

مِّن فَضْلِهِ ، قال : أجورهم يدخلهم الجنة ، ويزيدهم من فضله الشفاعة فيمن وجبت لهم النار ممن صنع اليهم المعروف في الدنيا .

ـ وما رواه في الدر المنثور ج ٣ ص ٢٥٦

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ، ثم أمر منادياً ينادي : ألا ليقم أهل المعروف في الدنيا ، فيقومون حتى يقفوا بين يدي الله ، فيقول الله : أنتم أهل المعروف في الدنيا ؟ فيقولون نعم ، فيقول وأنتم أهل المعروف في الآخرة ، فقوموا مع الأنبياء والرسل فاشفعوا لمن أحببتم فأدخلوه الجنة حتى تدخلوا عليهم المعروف في الآخرة كما أدخلتم عليهم المعروف في الدنيا ! .

ـ ويؤيده من مصادرنا ما رواه المجلسي في بحار الأنوار ج ٨ ص ٢٨٨

عن ثواب الأعمال للصدوق ص ١٦٣ قال : أبي ، عن سعد ، عن النهدي ، عن ابن محبوب ، عن علي بن يقطين ، عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام قال : كان في بني إسرائيل رجلٌ مؤمن وكان له جارٌ كافر فكان يرفق بالمؤمن ويوليه المعروف في الدنيا ، فلما أن مات الكافر بنى الله له بيتاً في النار من طين ، فكان يقيه حرها ويأتيه الرزق من غيرها ، وقيل له : هذا بما كنت تدخل على جارك المؤمن فلان بن فلان من الرفق ، وتوليه من المعروف في الدنيا !

وقال المجلسي : هذا الخبر الحسن الذي لا يقصر عن الصحيح ، يدل على أن بعض أهل النار من الكفار يرفع عنهم العذاب لبعض أعمالهم الحسنة ، فلا يبعد أن يخصص الآيات الدالة على كونهم معذبين فيها لا يخفف عنهم العذاب ، لتأيده بأخبار أخر .

ـ وفي بحار الأنوار ج ٨ ص ٤١ عن ثواب الأعمال أيضاً ص ١٦٧

عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن المؤمن منكم يوم القيامة ليمر به الرجل له المعرفة به

٣٢١
 &

في الدنيا وقد أمر به إلى النار والملك ينطلق به ، قال فيقول له : يا فلان أغثني فقد كنت أصنع إليك المعروف في الدنيا وأسعفك في الحاجة تطلبها مني فهل عندك اليوم مكافأة ؟ فيقول المؤمن للملك المؤكل به : خلِّ سبيله ، قال فيسمع الله قول المؤمن فيأمر الملك أن يجيز قول المؤمن ، فيخلي سبيله . انتهى .

هذه الشفافية في الرحمة الإلۤهية وإكرامه تعالى لأنبيائه وعباده المؤمنين . . تتبخر عند قبائل قريش ورواتهم عندما يصلون إلى أسرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله !

بل تتحول إلى قسوة وخشونة ينسبونها إلى الله ورسوله ضد هذه الأسرة التي جعل الله مودتها أجراً لتبليغ الإسلام ، لأنه الضمانة الوحيدة لسلامة الإسلام ! !

أحاديث نجت من الرقابة القرشية

مع كل المحاولات المتقدمة بقيت أحاديث عديدة ، منها صحيح عندهم ، استطاعت أن تعبر نقاط التفتيش ، وتنجو من رقابة الثقافة القرشية الحاكمة ، وفيما يلي نماذج منها :

ـ تقدمت رواية الهيثمي في مجمع الزوائد ج ٨ ص ٢١٦ عن عمر وما قاله لصفية عمة النبي وما أجابه به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد جاء فيها :

قال فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا بلال هجر بالصلاة فهجر بلال بالصلاة ، فصعد المنبر صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ما بال أقوام يزعمون أن قرابتي لا تنفع ؟ ! كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي ! فإنها موصولة في الدنيا والآخرة ! انتهى .

وقد حاولت رواية أن تعتذر عن قول الخليفة عمر هذا باتهام أم هانئ أخت علي عليه‌السلام بأنها كانت متبرجة ، فنهاها عمر عن ذلك ، وقال لها ذلك القول ! ولكن الظاهر أن حادثة أم هانئ حادثة أخرى غير حادثة صفية ، وقد كان جواب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيها أيضاً حاسماً :

٣٢٢
 &

ـ قال في مجمع الزوائد ج ٩ ص ٢٥٧

عن عبد الرحمن بن أبي رافع أن أم هانئ بنت أبي طالب خرجت متبرجة قد بدا قرطاها ، فقال لها عمر بن الخطاب : إعملي فإن محمداً لا يغني عنك شيئاً ، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بال أقوام يزعمون أن شفاعتي لا تنال أهل بيتي ؟ ! وإن شفاعتي تنال حا وحكم ! ! وحا وحكم قبيلتان . انتهى .

ـ وذكرت مصادرنا كما في بحار الأنوار ج ٩٣ ص ٢١٩

أن عمر قال لها : غطي قرطك فإن قرابتك من رسول الله لا تنفعك شيئاً ! فقالت له : هل رأيت لي قرطاً يا ابن اللخناء ؟ ! ثم دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبرته بذلك وبكت ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله فنادى الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس فقال : ما بال أقوام يزعمون أن قرابتي لا تنفع ! لو قمت المقام المحمود لشفعت في حاء وحكم ! لا يسألني اليوم أحد من أبواه إلا أخبرته ! فقام إليه رجل فقال : من أبي يا رسول الله ؟ فقال : أبوك غير الذي تدعى له ، أبوك فلان بن فلان ! فقام آخر فقال : من أبي يا رسول الله ؟ قال : أبوك الذي تدعى له ! ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله : ما بال الذي يزعم أن قرابتي لا تنفع لا يسألني عن أبيه ؟ فقام إليه عمر فقال : أعوذ بالله يا رسول الله من غضب الله وغضب رسوله ، أعف عني عفا الله عنك . . .

ـ ونقل البيهقي في البعث والنشور ص ٥٩

حادثة ثالثة : عن أبي هريرة قال كانت امرأة من بني هاشم تحت رجل من قريش ، فكان بينه وبينها شيء فقال لها ستعلمين والله أنه لا ينفعك قرابتك من رسول الله ( ص ) شيئاً ! فخرج رسول الله مغضباً فقال : ما بال رجال يزعمون أن قرابتي لا تنفع ! وإني لترجو شفاعتي صدى أو سهلب !

٣٢٣
 &

ـ وفي الأنساب للسمعاني ج ١ ص ٣٠

عن أبي هريرة وعمار بن ياسر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أيها الناس ما لي أوذى في أهلي ؟ ! والله إن شفاعتي لتنال حاء وحكم وسلهب وصداء ، تنالها يوم القيامة !

وسلهب في نسب اليمن من دوس . قال ابن إسحاق : هذا مما يصدق نسابة مضر أن هذه القبائل من معد .

ـ وقال الديلمي في فردوس الأخبار ج ٤ ص ٣٩٩ ح ٦٦٨٣

أبو سعيد : ما بال أقوام يزعمون أن رحمي لا تنفع ؟ ! والله إن رحمي لموصولة في الدنيا والآخرة .

ـ وقال ابن الأثير في أسد الغابة ج ١ ص ١٣٤

عن شهر بن حوشب قال أقام فلانٌ ( يقصد معاوية ) خطباء يشتمون علياً رضي الله عنه وأرضاه ويقعون فيه حتى كان آخرهم رجلٌ من الأنصار أو غيرهم يقال له أنيس ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إنكم قد أكثرتم اليوم في سب هذا الرجل وشتمه ، وإني أقسم بالله أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إني لأشفع يوم القيامة لأكثر مما على الأرض من مدر وشجر ، وأقسم بالله ما أحدٌ أوصل لرحمه منه ، أفترون شفاعته تصل اليكم وتعجز عن أهل بيته ؟ ! ورواه في مجمع الزوائد ج ٩ ص ١٧٠ : عن شهر بن حوشب وفيه ( افيرجوها غيره ويقصر عن أهل بيته )

ـ تاريخ المدينة ج ٢ ص ٢٦٤

حدثنا أبو حذيفة ، قال حدثنا سفيان ، عن أبيه ، عن أبي الضحى ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاء العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنك تركت فينا ضغائن منذ صنعت الذي صنعت . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لن يبلغوا الخير ـ أو قال : الإيمان ـ حتى يحبوكم لله ولقرابتي ! أيرجو سؤلهم شفاعتي

٣٢٤
 &

من مراد ، ولا يرجو بنو عبد المطلب شفاعتي ! وروى نحوه في كنز العمال ج ١٣ ص ٥١٢ وص ٥١٤

ـ الدر المنثور ج ٦ ص ٤٠٩

وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر وأبي هريرة وعمار بن ياسر رضي الله عنهم قالوا : قدمت درة بنت أبي لهب مهاجرةً ، فقال لها نسوة أنت درة بنت أبي لهب الذي يقول الله تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فخطب فقال : يا أيها الناس ما لي أوذى في أهلي ، فوالله إن شفاعتي لتنال بقرابتي حتى أن حكماً وحاء وصدا وسلهباً تنالها يوم القيامة بقرابتي ! ورواه في كنز العمال ج ١٣ ص ٦٤٤ عن فردوس الديلمي .

ـ مجمع الزوائد ج ١٠ ص ٣٨٠

باب في أول من يشفع لهم : عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أول من أشفع له من أمتي أهل بيتي ، ثم الأقرب فالأقرب من قريش والأنصار . انتهى .

ولو تتبعنا المصادر لوجدنا الكثير من هذه الأحاديث . وهي مليئة بالحقائق والفوائد ، ونكتفي منها بما يلي :

أولاً : أن حديث ( ما لي أؤذى في أهل بيتي ) أصله هنا ، ولكن صار نصه في الصحاح ( ما لي أؤذى في أهلي ) وصار أهله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمعنى زوجته عائشة ، فقد ادعوا أن قصة الإفك التي اتهم فيها المنافقون المؤمنة الطاهرة الغافلة مارية القبطية ، كانت المتهمة فيها عائشة ورضوا هنا أن تكون عائشة من ( المؤمنات الغافلات ) اللواتي ذكرتهم الآية ، لكي تكون البراءة النازلة من السماء لها وليس لمارية ، وادعوا أن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما لي أؤذى في أهلي ، صدر بتلك المناسبة ! وصار المؤذي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله علياً بن أبي طالب ، الذي زعموا أنه أشار على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بطلاق عائشة !

ثانياً : أن أذى القرشيين للنبي في آله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان كثيراً متكرراً وقد نصت مصادر

٣٢٥
 &

السنيين على عدد من حوادثه كما تقدم في حادثة ( برك على قدميه ) وتقدم هنا : قول فلان من قريش ( كمثل نخلة نبتت في كناسة ) وقول عمر لصفية ، وقوله لأم هانيء وقول ( صهر بني هاشم ) الذي لم يصرحوا باسمه ، وقصة بنت أبي لهب ، وشكوى العباس المتكررة .

كما أن تعدد الإيذاء وتعدد جواب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يفهم من تعدد أسماء القبائل الغريبة البعيدة التي ذكرها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عمداً ، بما آتاه الله من جوامع الكلم لتبقى أسماؤها ترنُّ في الأذان ويبقى حديثه في الأذهان . . الأمر الذي يدل على أن روح الإيذاء للنبي في آله صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت في القرشيين مرضاً لا عرضاً !

ثالثاً : ينبغي أن يسأل الذين يدافعون عن جميع الصحابة ويقدسونهم ، عن حكم هؤلاء الذين آذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأغضبوه مراراً في أهل بيته ، فقد ثبت عليهم الحكم الذي نزل به القرآن في حقهم ، ولم يثبت أنهم جددوا إسلامهم وخرجوا من تبعات هذا الحكم .

رابعاً : إن هذه الأحاديث وحدها تكفي للمسلم لأن يعرف أن في الأمر شيئاً كبيراً يتعلق بآل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنه يجب إعادة النظر في الروايات التي تنفي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يوص لهم ، ولم يجعل لهم حقاً على الأمة ، ولم يعدهم بشفاعة خاصة . . وتكفيه لأن يحتمل أن تكون رواياتهم في أبي طالب من هذا النوع . وهذا الإحتمال كافٍ للتوقف عن تصديقها .

بخلهم على أبي طالب وخديجة وسخاؤهم على غيرهما

من ظلامة الخلافة القرشية أنها بخلت على أبي طالب بكلمة شكر ، في حين تبنت مشركين في مقابله لم يؤمنوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فجعلتهم من أهل الجنة ، بل جعلتهم في مرتبة الأنبياء ! ومن أبرز هؤلاء ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل . . والنص التالي يبين بعض الرتب التي أعطوها لهؤلاء في الجنة ، بالمقايسة إلى الرتبة النازلة التي أعطوها لخديجة أم المؤمنين ورتبة الضحضاح لأبي طالب رضوان الله عليهما .

٣٢٦
 &

ـ قال الهيثمي في مجمع الزوائد ج ٩ ص ٤١٦

عن جابر بن عبد الله قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن عمه أبي طالب ، هل تنفعه نبوتك ؟ قال : نعم أخرجته من غمرات جهنم إلى ضحضاح منها .

وسئل عن خديجة ، لأنها ماتت قبل الفرائض وأحكام القرآن ، فقال : أبصرتها على نهر من أنهار الجنة في بيت من قصب ، لا صخب فيه ولا نصب .

وسئل عن زيد بن عمرو بن نفيل فقال : يبعث يوم القيامة أمةً وحده ، بيني وبين عيسى عليه‌السلام . رواه أبو يعلي وفيه مجالد ، وهذا مما مدح من حديث مجالد ، وبقية رجاله رجال الصحيح .

وعن جابر قال سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيد بن عمرو بن نفيل فقلنا : يا رسول الله إنه كان يستقبل القبلة ويقول ديني دين إبراهيم وإلۤهي إله إبراهيم وكان يصلي ويسجد ؟ قال : ذاك أمة وحده ، يحشر بيني وبين يدي عيسى بن مريم .

وسئل عن ورقة بن نوفل وقيل : يا رسول الله إنه كان يستقبل القبلة ويقول إلۤهي إلۤه زيد وديني دين زيد ، وكان يتوجه ويقول :

رشدت فأنعمت ابن عمرو فإنما

عنيت بتنور من النار حاميا

بدينك ديناً ليس دين كمثله

وتركك حنَّان الجبال كما هيا

قال : رأيته يمشي في بطنان الجنة ، عليه حلة من سندس . انتهى .

وإنما جعلوا بيت القصب لخديجة ، لأنها بزعمهم توفيت قبل فرائض الصلاة والصوم والزكاة والحج ، فهي تستحق درجة سفلى في الجنة وبيتاً عادياً من قصب أو سعف النخل . . أما عائشة المحترمة عند دولة الخلافة فهي في الفردوس في قصر من ياقوت ولؤلؤ !

ويتألم المسلم عندما يرى في المصادر الإسلامية افتراءً على أم المؤمنين خديجة يصل الى حد اتهامها بأنها كانت تعبد اللات والعزى وتلح على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يعبدهما قبل منامه ، فيمتنع عن ذلك ! !

٣٢٧
 &

ـ فقد روى أحمد في مسنده ج ٤ ص ٢٢٢ وج ٥ ص ٣٦٢

عن عروة بن الزبير يعني ابن أخت عائشة قال : حدثني جار لخديجة بنت خويلد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول لخديجة : أي خديجة ، والله لا أعبد اللات والعزى ، والله لا أعبد أبداً ! ! قال فتقول خديجة : خل اللات ، خل العزى ، قال كانت صنمهم التي كانوا يعبدون ثم يضطجعون ! ! انتهى .

فكأن مدح عائشة يستلزم ذم ضرتها ، والتي توفيت قبل أن يتزوج النبي بها ! لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يذكرها دائماً بالخير ، ويباهي بها ! !

وأما ورقة المعاصر لأبي طالب أيضاً ، فهو في بطنان الجنة أي في وسطها ، يرفل بالسندس ، مع أنه مات بعد البعثة ولم يسلم ! والسبب في استحقاقه الجنة أنه كان يقول : أنا على دين زيد بن نفيل ! بينما ذكروا أن الدليل على كفر أبي طالب أنه كان يقول : أنا على دين عبد المطلب ! !

وأما زيد بن نفيل فقد عاش سنوات بعد البعثة ولم يسلم ، ورووا عنه أنه نهى المشركين ذات مرة عن تعذيب بلال ، ولكنهم جعلوه في مرتبة نبي لأنه ابن عم الخليفة عمر . . بل هو بزعمهم أتقى من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأن النبي كان قبل البعثة مشركاً يذبح للأصنام ويأكل مما ذبح على النصب ، بينما كان زيد على دين إبراهيم لا يذبح للأصنام ولا يأكل إلا ما ذكر اسم الله عليه ، وقد نصح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ذات مرة أن لا يأكل مما ذبح على النصب فاقتدى النبي به ! !

إنها الكارثة الفكرية في الأمة . . عندما تفضل حكامها وأقاربهم على نبيها سيد الأنبياء ، وأهل بيته الطاهرين ! ! صلى‌الله‌عليه‌وآله

ـ قال في مجمع الزوائد ج ٩ ص ٤١٧ : باب ما جاء في زيد بن عمرو بن نفيل . . .

قال فمر زيد بن عمرو بالنبي صلى الله عليه وسلم وزيد بن حارثة ، وهما يأكلان من سفرة فدعياه فقال : يا بن أخي لا آكل ما ذبح على النصب ، قال فما رؤي النبي

٣٢٨
 &

صلى الله عليه وسلم يأكل ما ذبح على النصب من يومه ذلك ، حتى بعث .

قال : وجاء سعيد بن زيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن زيداً كان كما رأيت أو كما بلغك ، فأستغفر له ؟ قال : نعم ، فاستغفروا له فإنه يبعث يوم القيامة أمة وحده . رواه الطبراني والبزار باختصار عنه ، وفيه المسعودي وقد اختلط ، وبقية رجاله ثقات .

وعن سعيد بن زيد قال : سألت أنا وعمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيد بن عمرو ؟ فقال : يأتي يوم القيامة أمة وحده . رواه ابو يعلي وإسناده حسن .

وعن زيد بن حارثة قال : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً حاراً من أيام مكة وهو مردفي إلى نصب من الأنصاب ! وقد ذبحنا له ( أي للصنم ) شاة فأنضجناها ، قال فلقيه زيد بن عمرو بن نفيل فحيَّا كل واحد منهما صاحبه بتحية الجاهلية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا زيد ما لي أرى قومك قد شنفوا لك ؟ قال : والله يا محمد ذلك لغير نائلة لي منهم ، ولكني خرجت أبتغي هذا الدين حتى أقدم على أحبار فدك ، وجدتهم يعبدون الله ويشركون به ، قال قلت ما هذا الدين الذي أبتغي ، فخرجت حتى أقدم على أحبار الشام ، فوجدتهم يعبدون الله ويشركون به ، قلت ما هذا الدين الذي أبتغي ، فقال شيخ منهم إنك لتسأل عن دين ما نعلم أحداً يعبد الله به إلا شيخٌ بالحيرة ، قال فخرجت حتى أقدم عليه فلما رآني قال ممن أنت ؟ قلت من أهل بيت الله ، من أهل الشوك والقرظ ، فقال إن الدين الذي تطلب قد ظهر ببلادك قد بعث نبي قد ظهر نجمه ، وجميع من رأيتهم في ضلال ، فلم أحس بشيء بعد يا محمد ! !

قال : وقرب إليه السفرة فقال : ما هذا يا محمد ؟ فقال شاة ذبحناها لنصب من الأنصاب ! فقال : ما كنت لآكل مما لم يذكر اسم الله عليه !

قال زيد بن حارثة : فأتى النبي صلى الله عليه وسلم البيت فطاف به وأنا معه ، وبين

٣٢٩
 &

الصفا والمروة صنمان من نحاس أحدهما يقال له يساف والآخر يقال له نائلة ، وكان المشركون إذا طافوا تمسحوا بهما ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تمسحهما فإنهما رجس ، فقلت في نفسي لأمسنهما حتى أنظر ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد : إنه يبعث أمة وحده . رواه أبو يعلي والبزار والطبراني إلا أنه قال فيه : فأخبرته بالذي خرجت له فقال : كل من رأيت في ضلال وإنك لتسأل عن دين الله وملائكته ، وقد خرج في أرضك نبي أو هو خارج فارجع فصدقه وآمن به . وقال أيضاً فقال زيد إني لا آكل شيئاً ذبح لغير الله ، ورجال أبي يعلي والبزار وأحد أسانيد الطبراني رجال الصحيح غير محمد بن عمرو بن علقمة وهو حسن الحديث .

وعن أسماء بنت أبي بكر قالت : كان زيد بن عمرو بن نفيل في الجاهلية يقف عند الكعبة ويلزق ظهره إلى صفحتها ، ويقول : يا معشر قريش ما على الأرض على دين إبراهيم غيري ، وكان يفدي الموؤودة أن تقتل ، وقال عمرو بن نفيل :

عزلت الجن والجنان عني

كذلك يفعل الجلد الصبور

رواه الطبراني وإسناده حسن . انتهى .

فقد ثبت عندهم بهذه الأحاديث الصحيحة والحسنة ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعبد الأصنام ويذبح لها ! وثبت أن زيد بن عمرو كان موحداً على دين إبراهيم ، وكان ينتظر النبوة ، وكان أولى بها من محمد ، ولكن زيداً الى تاريخ لقائه بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في طريقه الى الصنم لم يحس بالوحي ولعله أحس به بعد ذلك ! !

ـ وقد روت الصحاح افتراءهم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنه ذبح للصنم وقصة اللحم الذي كان يأكل منه بزعمهم ويعافه ابن نفيل ! ! فقد رواها البخاري ج ٤ ص ٢٣٢ وأضاف فيها

( ثم قال زيد إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه ، وإن زيد بن عمر كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول : الشاة خلقها الله

٣٣٠
 &

وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض ثم تذبحونها على غير اسم الله ! ! إنكاراً لذلك وإعظاماً له ! ) انتهى .

وروى نحوها أيضاً في ج ٦ ص ٢٢٥ وكذلك أحمد في ج ١ ص ١٨٩ وج ٢ ص ٦٨ و٨٩ و١٢٧

وعلى هذه الروايات الصحاح والحسان ! يكون زيد بن عمرو بن نفيل أتقى من محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوعى منه ، وأولى بالنبوة منه ، ولكن الحظ جعلها لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ولذلك لم يؤمن به زيد عندما بعث لأنه لا يحتاج إلى ذلك !

كما أن ابن عمه عمر يستحق النبوة ولكن الحظ جعلها لمحمد ، فقد نسبوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال : لو لم أبعث لبعث عمر بن الخطاب ! ! وهذا يعطي الشرعية لكل مناقشات عمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله واعتراضاته عليه ، بل ومخالفاته له ! !

ويلاحظ في رواياتهم عن زيد بن عمرو ، أن عدداً منها عن لسان ولده سعيد وابن عمه عمر ، وأنها تريد التأكيد على أن زيداً العدوي وحده كان على ملة إبراهيم لا عبد المطلب الهاشمي ولا أبو طالب ، ولا حتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو عملٌ يقصد منه المساس بشخصية النبي وأجداده صلى‌الله‌عليه‌وآله من أجل تكبير شخصيات مشركة من أقارب الحكام ! !

لكن المتأمل في رواياتهم يجد فيها حقيقة مهمة ، وهي أنهم شهدوا على زيد بن عمرو بن نفيل بأنه لم يسلم ومات كافراً رغم معرفته المزعومة ببعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولو أنه أسلم لما سألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عنه ، ولملأوا الكتب بفضائله ومناقبه ! كما ملؤوها بذم أبي طالب وضحضاحه ! !

أهم الادلة على إيمان أبي طالب

تكفلت كتب مستقلة بإثبات إيمان أبي طالب رضوان الله عليه . . ومن أشهرها كتاب ( أبو طالب مؤمن قريش ) لمؤلفه الشيخ عبد الله الخنيزي الذي صادره الوهابيون وحبسوا مؤلفه ( السعودي ) بسببه ، وحكموا عليه بالإعدام ! ولكن الدولة

٣٣١
 &

السعودية خشيت من العواقب فأقنعت مفتيهم بتخفيف الحكم ، فخففه إلى الحبس والتعزير ! !

وقد كتب علماؤنا عن إيمان أبي طالب بحوثاً مستفيضة في مصادر السيرة والعقائد ، من أهمها ما كتبه المجلسي في البحار ج ٣٥ والأميني في الغدير ج ٧ و ٨ والشيخ نجم الدين العسكري في مقام الإمام علي عليه‌السلام والسيد جعفر مرتضى في الصحيح من السيرة ج ٣ ص ٢٢٧ .

ونورد فيما يلي خمسة أدلة على إيمانه مستفادة من المصادر المذكورة وغيرها :

الدليل الأول : النصوص الصريحة الثابتة عندنا عن النبي والأئمة من آله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهم الطاهرون المطهرون الصادقون المصدقون ، غير المتهمين في شهادتهم لآبائهم وأقربائهم وأنفسهم .

منها : عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : والله ما عبد أبي ولا جدي عبد المطلب ولا هاشم ولا عبد مناف ، صنماً قط . قيل له فما كانوا يعبدون ؟ قال : كانوا يصلون إلى البيت على دين إبراهيم متمسكين به . انتهى .

وقال عنه في الغدير ج ٧ ص ٣٨٤ : رواه شيخنا الصدوق بإسناده في كمال الدين ص ١٠٤ والشيخ أبو الفتوح في تفسيره ٤ : ٢١٠ والسيد في البرهان ٣ : ٧٩٥

ومنها : عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام قال : نزل جبرئيل عليه‌السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : يا محمد إن ربك يقرؤك السلام ويقول : إني قد حرمت النار على صلب أنزلك وبطن حملك وحجر كفلك . فالصلب صلب أبيه عبد الله بن عبد المطلب ، والبطن الذي حملك آمنة بنت وهب ، وأما حجر كفلك فحجر أبي طالب . وزاد في روايةٍ : وفاطمة بنت أسد . انتهى .

وقال عنه في الغدير : روضة الواعظين ص ١٢١ . راجع الكافي لثقة الإسلام الكليني ص ٢٤٢ ، معاني الأخبار للصدوق ، كتاب الحجة السيد فخار بن معد ص ٨ ، ورواه شيخنا للمفسر

٣٣٢
 &

الكبير أبو الفتوح الرازي في تفسيره ٤ ـ ٢١٠ ، ولفظه : إن الله عز وجل حرم على النار صلباً حملك وبطناً حملك وثدياً أرضعك وحجراً كفلك . . إلخ .

ومنها : ما رواه في مقام الإمام علي ج ٣ ص ١٤٠ : قال السيد الحجة فخار بن معد في كتابه ( الحجة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب ) ص ١٦ بالإسناد إلى الكراجكي عن رجاله ، عن أبان ، عن محمد بن يونس ، عن أبيه ، عن أبي عبد الله أنه قال : يا يونس ما تقول الناس في أبي طالب ؟ قلت جعلت فداك يقولون : هو في ضحضاح من نار ، وفي رجليه نعلان من نار تغلي منهما أم رأسه ! فقال : كذب أعداء الله ! إن أبا طالب من رفقاء النببين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً .

ومنها : في المصدر المذكور أيضاً ، عن علي بن حسان ، عن عمه عبد الرحمن بن كثير قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إن الناس يزعمون أن أبا طالب في ضحضاح من نار ؟ فقال : كذبوا ما بهذا نزل جبرئيل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ! قلت وبما نزل ؟ قال : أتى جبرئيل في بعض ما كان عليه فقال : يا محمد إن ربك يقرؤك السلام ويقول لك : إن أصحاب الكهف أسروا الإيمان وأظهروا الشرك فآتاهم الله أجرهم مرتين ، وإن أبا طالب أسر الإيمان وأظهر الشرك فآتاه الله أجره مرتين ، وما خرج من الدنيا حتى أتته البشارة من الله تعالى بالجنة . ثم قال عليه‌السلام : كيف يصفونه بهذا وقد نزل جبرئيل ليلة مات أبو طالب فقال : يا محمد أخرج من مكة فما لك بها ناصر بعد أبي طالب !

ومنها : في المصدر المذكور أيضاً عن أبي بصير ليث المرادي قال : قلت لأبي جعفر : سيدي إن الناس يقولون : إن أبا طالب في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه ؟ فقال عليه‌السلام : كذبوا ، والله إن إيمان أبي طالب لو وضع في كفةِ ميزان وإيمان هذا الخلق في كفةٍ لرجح إيمان أبي طالب على إيمانهم ، ثم قال : كان والله أمير المؤمنين يأمر أن يحج عن أب النبي وأمه صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن أبي طالب في حياته ، ولقد أوصى في وصيته بالحج عنهم بعد مماته . انتهى .

٣٣٣
 &

الدليل الثاني : تصريحات أبي طالب رضي الله عليه بصدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنه رسول رب العالمين .

ـ قال السيد جعفر مرتضى في الصحيح من السيرة ج ٣ ص ٢٣٠ :

ويكفي أن نذكر نموذجاً من أشعاره التي عبر عنها ابن أبي الحديد المعتزلي بقوله : إن كل هذه الأشعار قد جاءت مجيء التواتر من حيث مجموعها ( شرح النهج ج ١٤ ص ٧٨ ) ونحن نذكر هنا اثني عشر شاهداً من شعره ، على عدد الأئمة المعصومين من ولده عليه وعليهم‌السلام تبركاً وتيمناً ، والشواهد هي :

١ ـ ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً

نبياً كموسي خط في أول الكتب

٢ ـ نبي أتاه الوحي من عند ربه

ومن قال لا ، يقرع بها سن نادم

٣ ـ يا شاهد الوحي من عند ربه

إني على دين النبي أحمد

٤ ـ أنت الرسول رسول الله نعلمه

عليك نزِّل من ذي العزة الكتب

٥ ـ أنت النبي محمدُ

قرمٌ أغرُّ مُسَوَّدُ

٦ ـ أو تؤمنوا بكتاب منزل عجبٍ

على نبي كموسى أو كذي النون

٧ ـ وظلم نبي جاء يدعو إلى الهدى

وأمر أتى من عند ذي العرش قيم

٨ ـ لقد أكرم الله النبي محمداً

فأكرم خلق الله في الناس أحمد

٩ ـ وخير بني هاشم أحمدٌ

رسول الالۤه على فترةِ

١٠ ـ والله لا أخذل النبي ولا

يخذله من بنيَّ ذو حسب

١١ ـ وقال رحمه‌الله يخاطب ملك الحبشة ويدعوه إلى الإسلام :

أتعلم ملك الحسن أن محمداً

نبياً كموسى والمسيح ابن مريم

أتى بالهدى مثل الذي أتيا به

فكلٌّ بأمر الله يهدي ويعصم

وإنكم تتلوته في كتابكم

بصدقِ حديث لا حديث الترجم

فلا تجعلوا لله نداً فأسلموا

فإن طريق الحق ليس بمظلم

٣٣٤
 &

١٢ ـ وقال مخاطباً ولده حمزة رحمه‌الله :

فصبراً أبا يعلي على دين أحمدٍ

وكن مظهر للدين وفقت صابرا

وحط من أتى بالحق من عند ربه

بصدقٍ وعزمٍ لا تكن حمز كافرا

فقد سرني أن قلت إنك مؤمنٌ

فكن لرسول الله في الله ناصرا

وباد قريشاً في الذي قد أتيته

جهاراً وقل ما كان أحمد ساحرا

وأشعار أبي طالب الناطقة بإيمانه كثيرة ، وقد اقتصرنا منها على هذا القدر لنفسح المجال لذكر لمحة عن سائر ما قيل ويقال في هذا الموضوع . انتهى .

ونضيف إلى ما ذكره صاحب الصحيح ما قاله الطبرسي في الإحتجاج ج ١ ص ٣٤٥ : وقد اشتهر عن عبد الله المأمون أنه كان يقول : أسلم أبو طالب والله بقوله :

نصرت الرسول رسول المليك

ببيض تلالا كلمع البروقِ

أذب وأحمي رسول الإلۤه

حماية حامٍ عليه شفيق

وما إن أدبُّ لأعدائه

دبيب البكار حذار الفنيق

ولكن أزير لهم سامياً

كما زار ليث بغيلٍ مضيق

وما ذكره أبو الفداء في تاريخه ج ١ ص ١٧٠ قال : ومن شعر أبي طالب مما يدل على أنه كان مصدقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم قوله :

ودعوتني وعلمت أنك صادقٌ

ولقد صدقت وكنت ثم أمينا

الدليل الثالث : تحليل مقومات شخصية أبي طالب رضي‌الله‌عنه وعلاقته بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله منذ أن أوصاه به أبوه عبد المطلب وكفله إياه ، ونصرته له من أول بعثته ، وفي أصعب مراحلها . . إلى أن توفي في السنة العاشرة من البعثة . . فإن أي باحث ينظر في ذلك يقتنع بأن نصرته وحمايته للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يمكن أن تصدر إلا عن مؤمن قوي الإيمان .

بل لا يحتاج الأمر إلى دراسة مقومات شخصيته وكل حياته ، فيكفي دراسة بعض مواقفه لإثبات ذلك .

٣٣٥
 &

منها : الموقف الذي رواه في الغدير ج ٧ ص ٣٨٨ : عن الأصبغ بن نباته قال : سمعت أمير المؤمنين علياً عليه‌السلام يقول : مرَّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بنفرٍ من قريش وقد نحروا جزوراً ، وكانوا يسمونها الفهيرة ويذبحونها على النصب ، فلم يسلِّم عليهم . فلما انتهى إلى دار الندوة قالوا : يمر بنا يتيم أبي طالب فلا يسلم علينا ! فأيكم يأتيه فيفسد عليه مصلاه ؟ فقال عبد الله بن الزبعري السهمي : أنا أفعل ، فأخذ الفرث والدم فانتهى به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو ساجدٌ فملأ به ثيابه ومظاهره ، فانصرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى أتى عمه أبا طالب فقال : يا عم من أنا ؟ فقال : ولم يا ابن أخي ؟ ! فقص عليه القصة فقال : وأين تركتهم ؟ فقال : بالأبطح . فنادى في قومه : يا آل عبد المطلب ! يا آل هاشم ! يا آل عبد مناف ! فأقبلوا إليه من كل مكان ملبين ، فقال : كم أنتم ؟ قالوا : نحن أربعون ، قال : خذوا سلاحكم ، فأخذوا سلاحهم وانطلق بهم حتى انتهى إلى أولئك النفر ، فلما رأوه أرادوا أن يتفرقوا ، فقال لهم : ورب هذه البنية لا يقومن منكم أحد إلا جللته بالسيف ! ثم أتى إلى صفاةٍ كانت بالأبطح فضربها ثلاث ضربات حتى قطعها ثلثة أفهار ، ثم قال : يا محمد سألتني من أنت ؟ ثم أنشأ يقول ويومي بيده إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله :

أنت النبيُّ محمَّدُ

قَرْمٌ أعَزُّ مُسَوَّدُ

ثم قال : يا محمد أيهم الفاعل بك ؟ فأشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى عبد الله بن الزبعري السهمي الشاعر ، فدعاه أبو طالب فوجأ أنفه حتى أدماها ! ثم أمر بالفرث والدم فأمرَّ على رؤس الملأ كلهم ! ثم قال : يا ابن أخ أرضيت ؟

ثم قال : سألتني من أنت ؟ أنت محمد بن عبد الله ثم نسبه إلى آدم عليه‌السلام ثم قال : أنت والله أشرفهم حسباً وأرفعهم منصباً !

يا معشر قريش من شاء منكم يتحرك فليفعل أنا الذي تعرفوني !

رواه السيد ابن معد في الحجة ص ١٠٦ وذكر لِدَة هذه القضية الصفوري في نزهة

٣٣٦
 &

المجالس ٢ : ١٢٢ وفي طبع ص ٩١ ، وابن حجة الحموي في ثمرات الأوراق بهامش المستطرف ٢ : ٣ نقلاً عن كتاب الأعلام للقرطبي ١٣

ومنها : الموقف الذي رواه الطبرسي في الإحتجاج ج ١ ص ٣٤٥ قال :

لما رأى المشركون موقف أبي طالب من نصرة الرسول ، وسمعوا أقواله اجتمعوا بينهم ، وقالوا ننافي بني هاشم ونكتب صحيفة ونودعها الكعبة ، أن لا نبايعهم ، ولا نشاريهم ، ولا نحدثهم ، ولا نجتمع معهم في مجمع ، ولا نقضي لهم حاجة ، ولا نقتضيها منهم ، ولا نقتبس منهم ناراً ، حتى يسلِّموا الينا محمداً ، ويخلوا بيننا وبينه أو ينتهي عن تسفيه آبائنا ، وتضليل آلهتنا . وأجمع كفار مكة على ذلك .

فلما بلغ ذلك أبا طالب ، قال يخبرهم باستمراره على مناصرة الرسول ومؤازرته له ، ويحذرهم الحرب ، وينهاهم عن متابعة السفهاء :

ألا أبلغا عني على ذاتِ بينِها

لؤيّاً وخصَّا من لؤيٍّ بني كعبِ

ألم تعلموا أنا وجدنا محمداً

نبياً كموسى خُطَّ في أول الكتْبِ

وأن عليه في العباد محبةً

ولا حيفَ فيمن خصَّهُ الله بالحب

وأن الذي لفقتم في كتابكم

يكون لكم يوماً كراغية السقب

أفيقوا أفيقوا قبل أن تُحْفَر الزُّبَى

ويصبح من لم يجنِ ذنباً كذي الذنب

ولا تتبعوا أمر الغواة وتقطعوا

أواصرنا بعد المودة والقرب

وتستجلبوا حرباً عواناً وربَّمَا

أمَرَّ على ذاقهُ حَلَبُ الحرب

فلسنا وبيتِ الله نسلم أحمداً

لعزَّاءَ من عضِّ الزمان ولا حرب

ولَمَّا تَبِنْ منا ومنكم سوالفٌ

وأيدٍ أبيدت بالمهندة الشهب

بمعتركٍ ضَنْكٍ ترى كِسَرَ القنا

به نَواً لضباعِ العُرْجِ تعكف كالسرب

كأن مجال الخيل في حجراته

وغمغمة الأبطال معركة الحرب

أليس أبونا هاشمٌ شدَّ أزره

وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب

٣٣٧
 &

ورواها في البحار ج ٣٥ ص ١٦٠ وزاد فيها :

ولسنا نملُّ الحرب حتى تملَّنا

ولا نشتكي مما ينوب من النكب

ولكننا أهل الحفائظ والنهى

إذا طار أرواح الكماة من الرعب

ومنها : إيمانه بمعجزات النبي وكراماته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونظمه إياها شعراً .

ـ قال الطبرسي في الإحتجاج ج ١ ص ٣٤٣ :

روي أن أبا جهل بن هشام جاء إلى رسول الله وهو ساجد وبيده حجر يريد أن يرميه به ، فلما رفع يده لصق الحجر بكفه فلم يستطع ما أراد ، فقال أبو طالب :

أفيقوا بني غالب وانتهوا

عن الغي من بعض ذا المنطق

وإلا فإني إذن خائفٌ

بوائقَ في داركم تلتقي

تكون لغيركمُ عبرةً

وربِّ المغارب والمشرق

كما نال من كان من قبلكم

ثمودٌ وعادٌ وماذا بقي

غداةَ أتاهم بها صرصرٌ

وناقة ذي العرش قد تستقي

فحلَّ عليهم بها سَخْطَةٌ

من الله في ضربة الأزرق

غداة يعضُّ بعرقوبها

حساماً من الهند ذا رونق

وأعجب من ذاك في أمركم

عجائب في الحجر الملصق

بكف الذي قام من خبثه

إلى الصابر الصادق المتقي

فأثبته الله في كفه

على رغمةِ الجائر الأحمق

أحيمق مخزومكم إذ غوى

لغيِّ الغواةِ ولم يَصْدُقِ

الدليل الرابع : استدل به سبط ابن الجوزي على إيمان أبي طالب ، ومفاده : أن خصوم علي عليه‌السلام من الأمويين والزبيريين وغيرهم ، كانوا حريصين على انتقاصه بأي عيب ممكن في نفسه وأبيه وأمه وعشيرته ، وقد سجل التاريخ مراسلات علي عليه‌السلام ومعاوية ومناظرات أنصارهم ، وقد تضمنت ما ذمهم علي عليه‌السلام به وإزراؤه عيهم بكفر

٣٣٨
 &

آبائهم وأمهاتهم ، بل سجل التاريخ أن علياً عليه‌السلام فاخر معاوية بأبي طالب ، فكتب له في رسالة ( ليس أمية كهاشم ، ولا حرب كعبد المطلب ، ولا أبو سفيان كأبي طالب ، ولا المهاجر كالطليق ، ولا الصريح كاللصيق ) ومع ذلك لم يتكلم معاوية ولا غيره من أعداء علي عليه‌السلام بكلمة ذم في أبي طالب ! !

فلو أنه كان مشركاً ومات على الشرك كما يدعون ، لاغتنم أعداء علي هذه النقطة وعيروه بها وشنعوا عليه بها . ولو كان حديث ضحضاح أبي طالب صادراً عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لسمعت أخباره شعراً ونثراً في صفين وبعدها . . !

وهذا يدل على أن أحاديث شرك أبي طالب وأنه في النار والضحضاح ، قد وضعت في عهد الأمويين بعد شهادة علي عليه‌السلام !

الدليل الخامس : ترحم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على أبي طالب واستغفاره له ، وتسميته عام وفاته ووفاة خديجة رضوان الله عليهما ( عام الحزن ) .

ـ قال الأميني في الغدير ج ٧ ص ٣٧٢

أخرج ابن سعد في طبقاته ١ : ١٠٥ عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي قال : أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بموت أبي طالب فبكى ثم قال : إذهب فاغسله وكفنه وواره ، غفر الله له ورحمه .

وفي لفظ الواقدي : فبكى بكاء شديداً ثم قال : إذهب فاغسله . . إلخ . وأخرجه ابن عساكر كما في أسنى المطالب ص ٢١ والبيهقي في دلائل النبوة . وذكره سبط ابن الجوزي في التذكره ص ٦ وابن أبي الحديد في شرحه ٣ ـ ٣١٤ والحلبي في السيرة ١ ـ ٣٧٣ والسيد زيني دحلان في السيرة هامش الحلبية ١ ـ ٩٠ والبرزنجي في نجاة أبي طالب وصححه كما في أسنى المطالب ص ٣٥ وقال : أخرجه أيضاً أبو داود وابن الجاوود وابن خزيمة وقال : إنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم المشي في جنازته اتقاء من شر سفهاء قريش ، وعدم صلاته لعدم مشروعية صلاة الجنازة يومئذ .

٣٣٩
 &

عن الأسلمي وغيره : توفي أبو طالب للنصف من شوال في السنة العاشرة من حين نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتوفيت خديجة بعده بشهر وخمسة أيام ، فاجتمعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها وعلى عمه حزناً شديداً ، حتى سمى ذلك العام عام الحزن . انتهى .

وقد روى الخطيب البغدادي في تاريخه ج ١٣ ص ١٩٦ عن ابن عباس ترحم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله واستغفاره لأبي طالب بعد موته ، وكذا الذهبي في تاريخ الإسلام ج ١ ص ٢٣٥ ، وروت مصادرنا أحاديث كثيرة في ذلك كما في مناقب آل أبي طالب ج ١ ص ١٥٠ عن آخرين وبحار الأنوار ج ١٩ ص ١٥ وص ٢٥ وج ٢٢ ص ٥٣٠

*       *

هذا وقد ثبت أن أبا طالب كان على دين عبد المطلب ، وسوف يتضح لك إيمان عبد المطلب ومقامه ، رضوان الله عليهما ، في فصل شفاعة الأنبياء عليهم‌السلام .

*       *

٣٤٠