العقائد الإسلاميّة - ج ٣

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية

العقائد الإسلاميّة - ج ٣

المؤلف:

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-120-6
ISBN الدورة:
964-319-117-6

الصفحات: ٤٩٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

رسول الله على الصدقات ، فأتى علي بن أبي طالب ونحن على تلك الحال فقال لهما : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستعمل منكم أحداً على الصدقة ، قال عبد المطلب : فانطلقت أنا والفضل حتى أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لنا : إن هذه الصدقة إنما هي أوساخ الناس ، وإنها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد !

ـ وفي صحيح مسلم ج ٣ ص ١١٨

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد ، إنما هي أوساخ الناس . . . وقال أيضاً : ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أدعوا لي محمية بن جزء ، وهو رجل من بني أسد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمله على الأخماس . انتهى .

ونحوه في سنن أبي داود ج ٢ ص ٢٨ ومسند أحمد ج ٤ ص ١٦٦ والبيهقي في سننه ج ٧ ص ٣١ ـ وشبهه في ج ٦ ص ٣٣٨

وروى إحدى رواياته الحاكم في المستدرك ج ٣ ص ٤٨٤ وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه . وروى نحوه في كنز العمال ج ٦ ص ٤٥٨ بعدة روايات .

ومعنى قوله ادعوا لي محمية : أدعوا لي المسؤول عن الأخماس التي هي شرعاً لبني عبد المطلب ، حتى أعطي هؤلاء منها . وهو يدل على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله نفذ في حياته الحكم الشرعي في الخمس ، وجعل له مسؤولاً هو محمية بن جزء ، ولكن ذلك انتهى بوفاته ، ولم يبق له أثرٌ عند خلفاء قريش !

*       *

وقد يشكل على هذا التشريع الإسلامي : بأنه قد أسس الطبقية في المجتمع الإسلامي ، وجعل أسرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من بني هاشم وعبد المطلب ، أسرة مميزة اجتماعياً ومالياً ، بل ومترفعة على غيرها ، فهي لا تأكل من أموال بيت المال التي تتجمع من الزكوات والضرائب لأنها أوساخ الناس ، بل لها ماليتها الخاصة في موارد الدولة .

٤٢١
 &

وقد اختلف الفقهاء في موارد مالية بني عبد المطلب هذه ، فحصرها فقهاء الخلافة القرشية بغنائم الحرب وجعلوا خمسها لذوي قربى النبي من بني هاشم . . وعممها فقهاء الشيعة لكل ما يغنم في الحرب والكسب ، مما زاد على مصارف المسلم السنوية . . فقد يقال إن هذه الأموال تشكل ميزانية دولة ، فكيف يجعلها الله تعالى لاسرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ !

والجواب : أولاً ، أن الخمس ليس لأغنياء بني هاشم ، بل هو مختص بفقرائهم المؤمنين .

وثانياً ، إن الإهتمام بالفقراء من أسر الأنبياء والنابغين أمر حضاري ، فلو أن مجلس العموم البريطاني مثلاً أقرَّ قانوناً بإعطاء أبناء آينشتاين من أموال الدولة ما يكفي لمعيشة فقراءهم ، بسبب أنهم من ذرية عالم نابغ ، ويؤمل أن ينبغ منهم آخرون . . لرأى فيه المعترضون على الخمس الإسلامي عملاً عصرياً صحيحاً ، واهتماماً جيداً من دولة متحضرة !

فما هو الإشكال في أن تهتم الشريعة الخاتمة بذرية سيد الأنبياء وأسرته صلى‌الله‌عليه‌وآله وتجعل لهم ميزانية من أزكى الموارد ، لمن كان منهم مؤمناً محتاجاً .

وثالثاً ، إن الذي يشكل على تشريع الخمس لآل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عليه أن يرجع إلى القرآن ليرى ما هو أعظم من الخمس ، فإن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الوحيد من بين الأنبياء الذي أوجب الله تعالى على أمته إعطاءه أجراً على تبليغ الرسالة ، وجعل هذا الاجر : مودة آله فقال ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ ) ولذا أفتى كل فقهاء المذاهب بنفاق الناصبي الذي يكره آل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأفتى بعضهم بكفره !

إن المتأمل في آيات القرآن وتاريخ الأديان ، لا مفر له من القول بأن الله تعالى من الأصل قد اختار الأنبياء وأسرهم لتبليغ الدين الإلۤهي ، وإقامة الحكم به في المجتمعات البشرية . فالأسرة المختارة أساسٌ في نظام الدين الإلۤهي ، ولكنها أسرة

٤٢٢
 &

مصطفاة من الله العليم بشخصيات عباده ، الحكيم في اختيار أنبيائه وأوليائه . . لا كالأسر التي يختارها الناس بأهوائهم ، أو بعلمهم المحدود ، أو الأسر التي تتسلط بالقوة وتفرض نفسها على الناس !

قال الله تعالى : إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ . ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ آل عمران ٣٣ ـ ٣٤

ـ وقال عن جمهرة أسر الأنبياء :

ـ وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم .

ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحاً هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين . وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين . وإسماعيل واليسع ويونس ولوطاً وكلا فضلنا على العالمين . ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون .

أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَـٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ . الأنعام ـ ٨٣ ـ ٨٩

ـ وقال عن دعاء زكريا بالذرية الطيبة :

هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ . آل عمران ـ ٣٨

ـ وقال عن ذرية نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله وكثرتهم :

وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ

٤٢٣
 &

لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ . الرعد ٣٧ ـ ٣٨

ـ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ . الكوثر ١ ـ ٣

ـ وقال عن دعاء الملائكة للذريات المؤمنة :

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ . رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . غافر ٧ ـ ٩

ـ وقال عن نظام الذرية والأسر في الآخرة أيضاً :

وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَـٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ . الرعد ـ ٢٢ ـ ٢٤

ـ مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ . وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ . الطور ٢٠ ـ ٢١ انتهى .

فنظام الأسرة والذرية نظام طبيعي في بني آدم ، وقد أقره الله تعالى واستفاد منه في الدين الإلۤهي .

وإذا كانت البشرية قد عانت الويلات والمآسي وأنواع الظلم والإضطهاد من نظام الأسر الفاسدة المتجبرة . . فإن ذلك يرجع إلى فساد تلك الأسر ولا يصح أن يكون سبباً لرفض بنية الأسرة وفكرتها . . فهذه البنية تختزن إيجابيات كبرى لحمل الرسالة واستمرارها كما أن فيها خطر سلبيات كبرى أيضاً وأن تتحول إلى ملك عضوض . .

٤٢٤
 &

وقد تحدث القرآن عن الأجيال التي فسدت من أسر الأنبياء وأتباعهم فقال تعالى :

أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَـٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا . فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا . إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا . مريم ٥٨ ـ ٦٠

لكن عندما يختار الله تعالى أسرة كأسرة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله ويصطفيها فليس معناه أنه يختار كل أفرادها على علاتهم بل معناه أنه يختارها بصورة عامة بسبب علمه بأنه سيوجد منها أفراد معصومون يختارهم لهداية الأمة وقيادتها .

ولو فكرت فيما نقلته الصحاح من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث الثقلين ( ولقد أخبرني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ) لما وجدت له معنى إلا أن الله تعالى أخبر نبيه بأنه سيكون من عترته شخص معصوم يواصل خط نبوته في كل عصر إلى يوم القيامة ! فالاختيار لبني عبد المطلب كليٌّ عام لأنهم معدن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعدن الأئمة من عترته عليهم‌السلام ولأنهم الأفضل بالمقايسة مع غيرهم من الأسر ، فهي أقلهم سلبيات وأكثرهم إيجابيات . . وهو اختيار ترافقه تشريعات حازمة شرعها الله تعالى بشأنهم تتلخص بما يلي :

ـ أن المودة والإحترام لجميع بني هاشم ، بشرط الإسلام والإيمان .

ـ أن الخمس لفقرائهم المؤمنين بمقدار كفايتهم وتمشية أمور معيشتهم .

ـ أن وجوب الإطاعة فقط لأولي الأمر المعصومين منهم عليهم‌السلام الذين هم الأئمة الإثنا عشر لا غير . . وقد تقدم في الفصل الثامن تفسير آية المصطفين الذين أورثهم الله الكتاب بعد نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنهم محصورون في ذرية فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، وأن الصالحين منهم ثلاثة أنواع : سابق بالخيرات وهم الائمة عليهم‌السلام ومقتصد وظالم لنفسه .

٤٢٥
 &

ومن الأمور الطريفة أن الذين ينتقدون الشيعة لتمسكهم بمودة أهل البيت وولايتهم عليهم‌السلام ويقولون إن مذهب التشيع مذهب أسري ، ينسون أنهم أسريون أكثر منا ! فنحن نعتقد أن الخلافة في هذه الأمة إلى يوم القيامة مخصوصة في ذرية النبي عملاً بنصه صلى‌الله‌عليه‌وآله . . بينما هم يقولون إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم ينص على أحد ، وبعضهم يقول إنه على أن الخلافة في قريش إلى يوم القيامة ، لأنهم قبيلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فنحن أسريون بالنص ، وهم قبليون بغير نص ، أو بنص !

ونطاق ولائنا نحن لبني هاشم وعبد المطلب بصورة عامة ، ولاثني عشر إماماً منهم بصورة خاصة . . بينما نطاق ولائهم لبضع وعشرين قبيلة ، هم مجموعة قبائل قريش ، ومنهم أئمة الشرك ، والكفر ، والنفاق !

وقد روينا ورووا أن علياً عليه‌السلام بعد أن فرغ من مراسم تغسيل النبي والصلاة عليه ودفنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بلغه أن بعض زعماء قريش ذهبوا الى السقيفة حيث كان رئيس الأنصار مريضاً ، واحتجوا على الأنصار بأنهم قوم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعشيرته وأولى منهم بسلطانه ! فقال علي عليه‌السلام فيما قال : احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة ! !

وغرضنا هنا أن نوضح أن جميع المسلمين ما عدا من شذ قد أجمعوا على أن نظام الحكم في الإسلام بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إما أن يكون أسرياً مخصوصاً بعترته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو قبلياً مخصوصاً بقبائل قريش الثلاث والعشرين أو الخمس والعشرين .

فنحن نقول إنه نظامٌ أسري بالنص واختيار الله تعالى كما قال ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ ) ، والسنة يقولون إنه نظامٌ قبلي باختيار الناس لكن من داخل قريش ، ولا يجب أن يكون الحاكم عندهم من أسرة النبي عليه‌السلام ، بل لعله يستحبون أن يكون من غيرها !

ومن الأحاديث والنصوص الدالة على إيمان عبد المطلب :

ما ثبت في الحديث والتاريخ من كرامات بل معجزات لعبد المطلب ، في حملة أبرهة لهدم الكعبة تدل على توحيده وإيمانه ويقينه ، وعلى أنه كان يعرف أن الله

٤٢٦
 &

تعالى سيرسل عليهم طيراً أبابيل ، وكان يرسل بعض أولاده إلى الجبل لينظروا هل جاء سرب الطيور من قبل البحر !

ورووا كذلك مخاطبته للفيل وجواب الفيل له بالإشارة بأنه لن يدخل إلى محيط الكعبة . . . إلى آخر ما اتفق عليه المؤرخون والمحدثون مما لا يمكن أن يصدر إلا عن ولي مقرب !

ومن هذه الأحاديث والنصوص :

ما دل على الكرامة التي أكرمه الله بها بأن أعاد نبع زمزم على يده وما رافق ذلك من آيات فقد كان الله تعالى أكرم بهذا النبع جده اسماعيل وأمه هاجر ثم نضب وعفي على مر الزمن حتى أعاده الله تعالى على يد عبد المطلب عن طريق الرؤيا الصادقة التي لا تكون إلا للأنبياء والأوصياء وكبار الأولياء .

ومن هذه الأحاديث والنصوص :

ما دل على معرفته بنبوة حفيده صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واهتمامه الخاص به ورعايته المميزة له في طفولته وصباه ، وتوصيته به إلى أرشد أبنائه أبي طالب ، وإخباره إياه بأمره . . . إلى آخر ما اتفق عليه المؤرخون والمحدثون ، مما لا يمكن أن يصدر إلا عن ولي مقرب !

ومن هذه الأحاديث والنصوص :

ما دل على المكانة الدينية التي كانت لعبد المطلب في قلوب قبائل العرب وجماهيرها والتي لم يكن لأحد مثلها حتى لرؤساء قبائلهم . . . كل ذلك مع حسد قريش له وعمل رؤسائها للحط من مكانته خاصة بنو عبد الدار أصحاب لواء قريش الذين قادوا معركة بدر وبنو المغيرة الذين كان يرأسهم أبو جهل وبنو أمية الذين كان يرأسهم صخر .

وقد نصت مصادر التاريخ على هذه المكانة وأن طابعها كان تقديساً دينياً غير وثني بل مرتبطاً بالكعبة وزمزم وإسماعيل وإبراهيم عليهم‌السلام . ويلاحظ ذلك من مواقف

٤٢٧
 &

عقلاء العرب وأصحاب الأذهان الحرة منهم واحترامهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله باعتباره ابن عبد المطلب لأن عبد المطلب عندهم وارث أمجاد اسماعيل وإبراهيم وبركتهما !

ـ روى النسائي في سننه ج ٤ ص ١٢٤

عن أبي هريرة قال بينما النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه ( إذ ) جاء رجل من أهل البادية قال : أيكم ابن عبد المطلب

قالوا : هذا الامغر المرتفق . قال حمزة : الأمغر الأبيض مشرب حمرة .

فقال : إني سائلك فمشتد عليك في المسألة .

قال : سل عما بدا لك .

قال : أسألك بربك ورب من قبلك ورب من بعدك آلله أرسلك .

قال : اللهم نعم .

قال : فأنشدك به آلله أمرك أن تصلي خمس صلوات في كل يوم وليلة .

قال : اللهم نعم .

قال : فأنشدك به آلله أمرك أن تأخذ من أموال أغنيائنا فترده على فقرائنا .

قال : اللهم نعم .

قال : فأنشدك به آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من إثني عشر شهراً .

قال : اللهم نعم .

قال : فأنشدك به آلله أمرك أن يحج هذا البيت من استطاع إليه سبيلا .

قال : اللهم نعم .

فقال : فإني آمنت وصدقت وأنا ضمام بن ثعلبة . انتهى .

ورواه البخاري مختصراً في صحيحه ج ١ ص ٢٣ وأبو داود في سننه ج ١ ص ١١٧ ـ ١١٨ ويفهم من هذا النص أن لعبد المطلب وأولاده مكانة خاصة في قلوب المتفكرين من العرب . .

بل يشير النص التالي في صحيح البخاري إلى أن أولاد بني عبد المطلب لهم

٤٢٨
 &

مميزات نورانية خاصة . ففي ج ٥ ص ١٤٠ : أن علي بن أبي طالب رضي‌الله‌عنه خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجعه الذي توفي فيه فقال الناس : يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أصبح بحمد الله بارئاً فأخذ بيده عباس بن عبد المطلب فقال له : أنت والله بعد ثلاث عبد العصا وإني والله لأرى رسول الله صلى الله عليه وسلم سوف يتوفى من وجعه هذا إني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت . . . ! ! ورواه البخاري أيضاً في ج ٧ ص ١٣٦

ومن هذه الأحاديث والنصوص :

ما دل على العاطفة النبوية الجياشة التي كانت تفيض من قلب نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله على بني هاشم وبني عبد المطلب وذريتهما وأحاديث ذلك كثيرة صحيحة مليئة بالدلالات لمن تأملها وجرد ذهنه عن ستار التلقين القرشي ضد عبد المطلب .

قال البخاري في صحيحه ج ٢ ص ٢٠٤

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة استقبله أغيلمة بني عبد المطلب فحمل واحداً بين يديه وآخر خلفه . . ورواه في ج ٧ ص ٦٧

فهل كانت هذه العاطفة النبوية والحفاوة المحمدية بأطفال كافرين ! أم بأطفال آباؤهم طلقاء أسلموا لتوهم تحت السيف !

كلا بل كانت عاطفة على غصون شجرة مباركة يحملون إرث أجدادهم الأنبياء والأوصياء ، ولم يظهر منهم إلى الآن انحراف عنها ! !

وروى البخاري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تعمد في حجة الوداع أن يوعي الأمة على ظلم قريش للنبوة ، ولكل بني هاشم وعبد المطلب !

ـ قال البخاري في ج ٢ ص ١٥٨

عن أبي هريرة رضي‌الله‌عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم من الغد يوم النحر وهو

٤٢٩
 &

بمنى : نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر . يعني بذلك المحصب ، وذلك أن قريشاً وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب أو بني المطلب ، أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم . انتهى .

ثم لاحظ ذلك التعبير النبوي المليء بالعاطفة والحنان والإيمان بنوعية أبناء عبد المطلب المميزة حيث قال صلى‌الله‌عليه‌وآله كما حديث الكافي الآتي ( فما ظنكم يا بني عبد المطلب إذا أخذت بحلقة باب الجنة أتروني مؤثراً عليكم غيركم ! ) .

ـ ويؤيده ما رواه ابن شبة في تاريخ المدينة ج ٢ ص ٢٦٤ قال :

حدثنا أبو حذيفة قال حدثنا سفيان عن أبيه عن أبي الضحى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاء العباس رضي‌الله‌عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنك تركت فينا ضغائن منذ صنعت الذي صنعت ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لن يبلغوا الخير أو قال الإيمان حتى يحبوكم لله ولقرابتي أيرجو سؤلهم شفاعتي عن مراد ولا يرجو بنو عبد المطلب شفاعتي انتهى . وروى نحوه غيره .

ومن هذه الأحاديث :

ما دل على أن أولاده سادة أهل الجنة هم بنو عبد المطلب السبعة من بني عبد المطلب ! فقد روى ابن ماجة في سننه ج ٢ ص ١٣٦٨ : حدثنا هدية بن عبد الوهاب ثنا سعد بن عبد الحميد بن جعفر عن علي بن زياد اليمامي عن عكرمة بن عمار عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : نحن ولد عبد المطلب سادة أهل الجنة : أنا وحمزة وعلي وجعفر والحسن والحسين والمهدي . انتهى . وهو حديث صحيح عند إخواننا السنة وقد أوردنا مصادره وطرقه العديدة في معجم أحاديث الإمام المهدي عليه‌السلام فزادت على مئة مصدر . وصحح العديد منها علماء الجرح والتعديل .

*       *

٤٣٠
 &

إن المجموعة الواحدة من هذه النصوص تكفي الباحث السوي الذهن ، لأن يعيد النظر في الأحكام التي أصدرتها الخلافة القرشية وفقهاؤها على عبد المطلب . . ! فكيف بهذه المجموعات الثمانية مجتمعة ، ومثلها معها !

وإذا انهار البناء القرشي ضد عبد المطلب ، انهارت الجدران القرشية الأخرى وانكشفت محاصرتهم الجديدة لبني هاشم وبني عبد المطلب . . التي أحكموها أكثر من محاصرتهم لهم في شعب أبيطالب ، لأنهم فعلوها هذه المرة باسم الإسلام فطالت قروناً ، وعمت أجيالاً ، إلا من رحم ربك من أصحاب البصائر !

عبد المطلب عليه سيماء الأنبياء وبهاء الملوك

اتفقت أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام على أن عبد المطلب رضوان الله عليه مؤمن بالله الواحد الأحد على ملة جده إبراهيم ولي من أولياء الله ملهم بواسطة الملائكة والرؤية الصادقة . . بل يحتمل الناظر في هذه الأحاديث أن عبد المطلب كان من الأنبياء وأنه كان مأموراً أن يعبد ربه على دين إبراهيم ويأمر أولاده بذلك .

ـ وقد روت ذلك مصادرنا وبعض مصادر السنيين قال السيوطي في الدر المنثور ج ٥ ص ٩٨ :

وأخرج ابن أبي عمر العدني في مسنده والبزار وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن مجاهد في قوله : وتقلبك في الساجدين قال : من نبي إلى نبي حتى أخرجت نبياً . انتهى .

ـ قال المجلسي في بحار الأنوار ج ٣١ ص ١٥٥

روي عن جعفر بن محمد عليه‌السلام أنه قال : يبعث الله عبد المطلب يوم القيامة وعليه سيماء الأنبياء وبهاء الملوك .

ـ وروى الكليني في الكافي ج ٤ ص ٥٨

عن أحمد بن إدريس عن محمد بن عبد الجبار ومحمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان جميعاً عن صفوان بن يحيى عن عيص بن القاسم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال :

٤٣١
 &

إن أناساً من بني هاشم أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فسألوه أن يستعملهم على صدقات المواشي وقالوا : يكون لنا هذا السهم الذي جعله الله للعاملين عليها فنحن أولى به فقال رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله الله : يا بني عبد المطلب إن الصدقة لا تحل لي ولا لكم ولكني قد وعدت الشفاعة ـ ثم قال أبو عبد الله عليه‌السلام : والله لقد وعدها ـ فما ظنكم يا بني عبد المطلب إذا أخذت بحلقة باب الجنة أتروني مؤثرا عليكم غيركم !

ثم قال : إن الجن والإنس يجلسون يوم القيمة في صعيد واحد فإذا طال بهم الموقف طلبوا الشفاعة فيقولون : إلى من فيأتون نوحا فيسألونه الشفاعة فيقول : ههيات قد رفعت حاجتي فيقولون إلى من فيقال : إلى إبراهيم فيأتون إلى إبراهيم فيسألونه الشفاعة فيقول : هيهات قد رفعت حاجتي فيقولون إلى من فيقال : إيتوا موسى فيأتونه فيسألونه الشفاعة فيقول : هيهات قد رفعت حاجتي فيقولون : إلى من فيقال : إيتوا عيسى فيأتونه ويسألونه الشفاعة فيقول : هيهات قد رفعت حاجتي فيقولون : إلى من فيقال إيتوا محمداً فيأتونه فيسألونه الشفاعة فيقوم مدلاً حتى يأتي باب الجنة فيأخذ بحلقة الباب ثم يقرعه فيقال : من هذا ؟ فيقول : أحمد فيرحبون ويفتحون الباب فإذا نظر إلى الجنة خر ساجداً يمجد ربه ويعظمه فيأتيه ملك فيقول : إرفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع فيرفع رأسه فيدخل من باب الجنة فيخر ساجداً ويمجد ربه ويعظمه فيأتيه ملك فيقول : إرفع رأسك وسل تعط وأشفع تشفع فيقوم فما يسأل شيئاً إلا أعطاه إياه .

ورواه في تهذيب الأحكام ج ٤ ص ٥٨ وتفسير العياشي ج ٢ ص ٩٣ وتفسير نور الثقلين ج ٢ ص ٢٣٥ ووسائل الشيعة ج ٦ ص ١٨٥ ومستدرك الوسائل ج ٧ ص ١١٩ وتفسير نور الثقلين ج ٣ ص ٢١٠

هذا وقد تكفلت مصادر الحديث والتفسير عندنا بإثبات إيمان عبد المطلب وجميع آباء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد وافقنا على ذلك عدد من العلماء السنيين منهم السيوطي والفخر الرازي والشعراني . . وغيرهم .

٤٣٢
 &

آراء شيعية مخالفة للمشهور في الذبيحين

رأي الشيخ الصدوق بأن إسحاق ذبيح أيضاً !

ـ من لا يحضره الفقيه ج ٢ ص ٢٣٠ : وسئل الصادق عليه‌السلام عن الذبيح من كان فقال : إسماعيل عليه‌السلام لأن الله عز وجل ذكر قصته في كتابه ثم قال : وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين .

وقد اختلفت الروايات في الذبيح فمنها ما ورد بأنه إسماعيل ومنها ما ورد بأنه إسحاق ولا سبيل إلى رد الأخبار متى صح طرقها وكان الذبيح إسماعيل لكن إسحاق لما ولد بعد ذلك تمنى أن يكون هو الذي امر أبوه بذبحه وكان يصبر لأمر الله عز وجل ويسلم له كصبر أخيه وتسليمه فينال بذلك درجته في الثواب فعلم الله عز وجل ذلك من قبله فسماه بين ملائكته ذبيحاً لتمنيه لذلك وقد ذكرت إسناد ذلك في كتاب النبوة متصلاً بالصادق عليه‌السلام . انتهى .

ـ وقال الجزائري في هامش تفسير القمي ج ١ ص ٣٥١

قال جدي السيد الجزائري رحمه‌الله في قصص الأنبياء : اختلف علماء الإسلام في تعيين الذبيح هل هو إسماعيل أو إسحاق فذهبت الطائفة المحقة من أصحابنا وجماعة من العامة إلى أنه اسماعيل والأخبار الصحيحة دالة عليه مع دلالة غيرها من الآيات ودلائل العقل . وذهبت طائفة من الجمهور إلى أنه إسحاق وبه أخبار واردة من الطرفين وطريق تأويلها إما أن تحمل على التقية وأما حملها على ما قاله الصدوق صار ذبيحاً بالنية والتمني . . . حمل رحمه‌الله قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ( أنا ابن الذبيحين ) على ذلك .

أقول : إن بعض الروايات المعتبرة كرواية هذا التفسير وغيره آب عن الحمل فإنها مصرحة بذبح إسحاق حقيقة لا مجازاً وفداه بكبش فعليه لا مجال إلى ما ذهب إليه الصدوق رحمه‌الله من الحمل فإما أن تحمل هذه الروايات كما قال جدي رحمه‌الله على التقية أو على تعدد الواقعة . انتهى .

٤٣٣
 &

ملاحظة : إن الشيخ الصدوق رحمه‌الله صحت عنده رواية أن الذبيح هو إسماعيل ورواية أنه إسحاق بالمجاز وصحت عنده رواية نذر عبد المطلب ذبح ولده عبد الله وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ( أنا ابن الذبيحين ) ففسره بأنه ابن الذبيحين من وجهين : أي من جهة عبد الله واسماعيل ومن جهة اسماعيل وإسحاق . وقد صرح بذلك في آخر كلامه في الخصال . ولكن كلامه جاء متداخلاً فالتبس الأمر على الجزائري وعلى الغفاري وتصوراً أنه يفسره بالوجه الثاني فقط ويرفض الوجه الأول !

وروايته التي استند عليها في أن إسحاق ذبيح مجازي رواية عامية من نوع روايات معاصره الحاكم النيسابوري . ولو صحت لتعين ترجيح الموافق لمذهب أهل البيت عليهم‌السلام على الموافق لليهود والنواصب . أو حملها كما ذكر السيد الجزائري على التقية من الحكام خاصة أن المسألة كانت مطروحة في دار الخلافة في المدينة وفي قصور الخلافة في الشام كما رأيت من رواياتها .

محاولة أحد المعاصرين تفسير الذبيحين بإسماعيل وإسحاق

ـ من لا يحضره الفقيه ج ٣ ص ٨٩

روى حماد بن عيسى عمن أخبره عن حريز عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : أول من سوهم عليه مريم بنت عمران وهو قول الله عز وجل : وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ والسهام ستة ثم استهموا في يونس عليه‌السلام لما ركب مع القوم فوقعت السفينة في اللجة فاستهموا فوقع السهم على يونس ثلاث مرات قال : فمضى يونس عليه‌السلام إلى صدر السفينة فإذا الحوت فاتح فاه فرمى نفسه .

ثم كان عند عبد المطلب تسعة بنين فنذر في العاشر إن رزقه الله غلاماً أن يذبحه فلما ولد عبد الله لم يكن يقدر أن يذبحه ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في صلبه فجاء بعشر من الإبل فساهم عليها وعلى عبد الله فخرجت السهام على عبد الله فزاد عشراً فلم تزل السهام تخرج على عبد الله ويزيد عشراً فلما أن خرجت مائة خرجت السهام على

٤٣٤
 &

الإبل فقال عبد المطلب : ما أنصفت ربي فأعاد السهام ثلاثاً فخرجت على الإبل فقال : الآن علمت أن ربي قد رضي فنحرها . انتهى .

ـ وقال الأستاذ علي أكبر غفاري في تعليقه على هذا الحديث :

جاءت هذه القصة في كثير من كتب الحديث من الطريقين ، واشتهرت بين الناس وأرسلها جماعة من المؤلفين إرسال المسلمات ، ونقلوها في مصنفاتهم دون أي نكير ، وهي كما ترى تضمنت أمراً غريباً بل منكراً لا يجوز أن ينسب إلى أحد من أوساط الناس والسذج منهم ، فضلاً عن مثل عبد المطلب الذي كان من الأصفياء وهو في العقل والكياسة والفطنة على حد يكاد أن لا يدانيه أحد من معاصريه ، وقد يفتخر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع مقامه السامي بكونه من أحفاده وذراريه ويباهي به القوم ويقول :

أنا النبي لا كَذِبْ

أنا ابن عبد المطلب

وفي الكافي روايات تدل على عظمته وجلالته وكمال إيمانه وعقله ودرايته ، ورئاسته في قومه ، ففي المجلد الأول منه ص ٤٤٦ في الصحيح عن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : يحشر عبد المطلب يوم القيامة أمة وحده ، عليه سيماء الأنبياء وهيبة الملوك . يعني إذا حشر الناس فوجاً فوجاً يحشر هو وحده ، لأنه كان في زمانه منفرداً بدين الحق من بين قومه ، كما قاله العلامة المجلسي رحمه‌الله . وفي حديث آخر رواه الكليني أيضاً مسنداً عن الصادق عليه‌السلام قال : يبعث عبد المطلب أمة وحده عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء ، وذلك أنه أول من قال بالبداء .

وفي الحسن كالصحيح عن رفاعة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كان عبد المطلب يفرش له بفناء الكعبة لا يفرش لأحد غيره ، وكان له ولد يقومون على رأسه فيمنعون من دنا منه . . . إلى أمثالها الكثير الطيب كلها تدل على كمال إيمانه وعقله وحصافة رأيه . . وإن أردت أن تحيط بذلك خبراً فانظر إلى تاريخ اليعقوبي المتوفى في أواخر القرن الثالث ، وما ذكر من سننه التي سنها وجاء بها الإسلام مثل تحريمه الخمر ، والزنا ، ووضع الحد عليه ، وقطع يد السارق ، ونفي ذوات الرايات ، ونهيه عن قتل

٤٣٥
 &

المؤودة ، ونكاح المحارم ، وإتيان البيوت من ظهورها ، وطواف البيت عرياناً وحكمه بوجوب الوفاء بالنذر ، وتعظيم الأشهر الحرم ، وبالمباهلة بمائة إبل في الدية . ثم تأمل كيفية سلوكه مع أبرهة صاحب الفيل في تلك الغائلة المهلكة المهدمة ، كيف حفظ بحسن تدبيره وسديد رأيه قومه ودماءهم وأموالهم من الدمار والبوار ، دون أي مؤونة ، وقال : أنا رب الإبل ولهذا البيت رب يمنعه ، مع أن الواقعة موحشة بحيث تضطرب في أمثالها قلوب أكثر السائسين .

فإذا كان الأمر كذلك فكيف يصح أن يقال : إنه نذر أن يذبح سليله وثمرة مهجته وقرة عينه قربة إلى الله سبحانه ، وأن يتقرب بفعل منهي عنه في جميع الشرايع ، والقتل من أشنع الأمور وأقبحها ، والعقل مستقل بقبحه بل يعده من أعظم الجنايات ، مضافاً إلى كل ذلك أن النذر بذبح الولد قرباناً للمعبود من سنن الوثنيين والصابئين ، وقد ذكره الله تعالى في جملة ما شنع به على المشركين ، وقال في كتابه العزيز بعد نقل جمل من بدعهم ومفتريانهم : وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ . الأنعام ـ ١٣٧

وهذا غير مسألة الوأد المعروف الذي كان بنو تميم من العرب يعلمون به ، فإن المفهوم من ظاهر لفظ الأولاد أعم من المذكور منهم والبنات ، والوأد مخصوص بالبنات ، وأيضاً غير قتلهم أولادهم من إملاق أو خشيته ، بل هو عنوان آخر يفعلونه على سبيل التقرب إلى الآلهة .

فإن قيل : لعله كان مأموراً من جانب الله سبحانه كما كان جده إبراهيم عليه‌السلام مأموراً ؟ قلنا : هذا التوجيه مخالف لظاهر الروايات ، فإنه صرح في جميعها بأنه نذر مضافاً إلى أنه لو كان مأموراً فلا محيص له عنه ويجب عليه أن يفعله كما أمر ، فكيف فداه بالإبل ولم لم يقل في جواب من منعه كما في الروايات : إني مأمور بذلك .

وبالجملة في طرق هذه القصة وما شاكلها مثل خبر ( أنا ابن الذبيحين ) رواه

٤٣٦
 &

جماعة كانوا ضعفاء أو مجهولين أو مهملين ، أو على غير مذهبنا مثل أحمد بن سعيد الهمداني المعروف بابن عقدة ، وهو زيدي جارودي أو أحمد بن الحسن القطان ، وهو شيخ من أصحاب الحديث عامي ويروي عنه المؤلف في كتبه بدون أن يردفه بالترضية ، مع أن دأبه أن يتبع مشايخه بها إن كانوا إمامية ، وكذا محمد بن جعفر بن بطة الذي ضعفه ابن الوليد وقال : كان مخلطاً فيما يسنده ، وهكذا عبد الله بن داهر الأحمري وهو ضعيف كما في الخلاصة والنجاشي ، وأبو قتادة ووكيع بن الجراح وهما من رجال العامة ورواتهم ولا يحتج بحديثهم إذا كان مخالفاً لأصول المذهب ، وإن كانوا يسندون خبرهم إلى أئمة أهل البيت عليهم‌السلام .

وإنك إذا تتبعت أسانيد هذه القصة وما شابهها ما شككت في أنها من مفتعلات القصاصين ومخترعاتهم نقلها المحدثون من العامة لجرح عبد المطلب ونسبة الشرك والعياذ بالله إليه ، رغماً للإمامية حيث أنهم نزهوا آباء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن دنس الشرك .

ويؤيد ذلك أن كثيراً من قدماء مفسريهم كالزمخشري والفخر الرازي والنيشابوري وأضرابهم ، والمتأخرين كالمراغي وسيد قطب وزمرة كبيرة منهم ، نقلوا هذه القصة أو أشاروا إليها عند تفسير قوله تعالى : وَكَذَٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ ، وجعلوا عبد المطلب مصداقاً للآية انتصاراً لمذهبهم الباطل في اعتقاد الشرك في آباء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأجداده .

قال العلامة المجلسي رحمه‌الله : اتفقت الإمامية رضوان الله عليهم على أن والدي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وكل أجداده إلى آدم عليه‌السلام كانوا مسلمين بل كانوا من الصديقين إما أنبياء مرسلين أو أوصياء معصومين ثم نقل عن الفخر الرازي أنه قال : قالت الشيعة إن أحداً من آباء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وأجداده ما كان كافراً . ثم قال : نقلت ذلك عن إمامهم الرازي ليعلم أن اتفاق الشيعة على ذلك كان معلوماً بحيث اشتهر بين المخالفين .

وإن قيل : لا ملازمة بين هذا النذر وبين الشرك ، ويمكن أن يقال إن نذر عبد المطلب كان لله ، وأما المشركون فنذروا لآلهتهم .

٤٣٧
 &

قلت : ظاهر الآية أن النذر بذبح الولد من سنن المشركين دون الموحدين ، فالناذر إما مشرك أو تابع لسنن الشرك وجلَّت ساحة عبد المطلب أن يكون مشركاً والعياذ بالله أو تابعاً لسنن المشركين ، والإصرار بتصحيح أمثال هذه القصص مع نكارتها كثيراً ما يكون من الغفلة عما جنته يد الإفتعال .

ثم اعلم أن المصنف رضوان الله تعالى عليه لم يحتج بهذا الخبر في حكم من الأحكام ، إنما أورده في هذا الكتاب طرداً للباب ، ويكون مراده جواز القرعة فقط وهو ظاهر من الخبر . انتهى .

ثم كرر الأستاذ الغفاري رأيه في ج ٤ ص ٣٦٨ فقال :

قال المصنف رحمه‌الله في الخصال ( ص ٢٧ باب الإثنين ) قد اختلفت الروايات في الذبيح ، فمنها ما ورد بأنه اسماعيل لكن اسحاق لما ولد بعد ذلك تمنى أن يكون هو الذي أمر أبوه بذبحه فكان يصبر لأمر الله ويسلم له كصبر أخيه وتسليمه ، فينال بذلك درجته في الثواب ، فعلم الله عز وجل ذلك من قلبه فسماه بين الملائكة ذبيحاً ، لتمنيه لذلك . انتهى .

أقول : على هذا فالمراد بالذبيحين إسماعيل وإسحاق : أحدهما ذبيح بالحقيقة والآخر ذبيح بالمجاز ، مع أن كليهما لم يذبحا بعد . وتقدم فيه كلام ج ٣ ص ٨٩ والإشكال بأن إسحاق كان عما له دون أب ممنوع لأن إطلاق الأب على العم شايع ، وفي رواية سليمان بن مهران عن الصادق عليه‌السلام في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا ابن الذبيحين يريد بذلك العم ، لأن قد سماه الله عز وجل أبا في قوله : أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ . وكان اسماعيل عم يعقوب فسماه الله في هذه الموضع أباً ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : العم والد . فعلى هذا الأصل أيضاً يطرد قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : أنا ابن الذبيحين أحدهما ذبيح بالحقيقة والآخر ذبيح بالمجاز . انتهى .

٤٣٨
 &

ـ والجواب على ما ذكره الأستاذ الغفاري :

أولاً : أن الرواية التي استدل بها الصدوق على أن اسحاق ذبيحٌ أيضاً مجازاً ، عامية ضعيفة ، وقد ضعف سندها الأستاذ الغفاري نفسه من حيث لا يدري كما سترى !

ثم إن إطلاق العم على الأب في اللغة وإن كان أمراً شائعاً ، ولكن لا ينطبق على قول القائل ( أنا ابن فلان ) مفتخراً أو مباهياً ، لأن المتبادر منه الإفتخار بعمود نسبه من آبائه وأن منهم ذبيحين قربانين لله تعالى ، لا من أعمامه ، وإلا لقال : أنا من قوم فيهم ذبيحان أو من آل إبراهيم آل الذبيحين .

كما أن إطلاق اسم الذبيح المجازي على إسحاق أيضاً ضعيف لغةً ، لأن كلمة ( الذبيح ) لا تصدق إلا على من قصدوا ذبحه لله تعالى قصداً عملياً حقيقياً ورضي به ، ولو كان يكفي لإطلاقها مجازاً أن الشخص قد أحب ذلك ونواه كما في إسحاق ، لصح أن تطلق على كل آباء النبي أو جلهم ، بل على كثير من المؤمنين ، لأن أكثر الأنبياء والأوصياء والمؤمنين يحبون مقام إسماعيل وينوون أن لو كانوا مكانه لقبلوا بما قبل به .

فارتكاب المجاز في معنى الإبن وجعله العم ، ثم ارتكاب المجاز في الذبيح وجعله من يحب أن يكون ذبيحاً . . خلاف الظاهر جداً ، وهو يكاد يفرغ الكلمة من هدفها بل من معناها !

ثانياً : لعل الغفاري لم يطلع على تاريخ القربان لله تعالى في الشرائع الإلۤهية السابقة ، فقد كان عامة الناس يقدمون قرابين من الأنعام ، وكان من المشروع أن يقدم كبار المؤمنين أحد أولاده قرباناً لله تعالى ، وعلى أساسه كان منام إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وآله . . ولم يثبت نسخ هذا التشريع قبل الإسلام .

فالمشركون لم يخترعوا القربان لأوثانهم ، وإنما أخذوه من الأديان وجعلوه لآلهتهم المزعومة بدل الله تعالى . وما عابه الله تعالى عليهم من قتلهم أولادهم وتقديمهم إياهم قرابين لآلهتهم ، إنما عاب فيه شركهم وتقربهم للأوثان .

٤٣٩
 &

ثالثاً : إن وجود عبد المطلب في مجتمع وثني يتقرب إلى الأصنام بالقرابين وقد يذبح أحدهم ولده قرباناً لصنمه . . وإعلان عبد المطلب أنه على ملة أبيه إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإحيائه عدداً من سننها ، وما جرى في عهده من حفظ الله تعالى لكعبة إبراهيم في حادثة الفيل ، وإعادة ماء زمزم المفقود على يده . . . كل ذلك يساعد على فهم نذر عبد المطلب أنه إذا رزقه الله عشرة أولاد أن يذبح أحدهم قرباناً لله تعالى على ملة إبراهيم ، ويجعل هذا النذر أمراً طبيعياً مشروعاً في ذلك الوقت ، بل دعوةً لعَبَدَة الأصنام أن يعبدوا رب البيت رب إبراهيم ، ويقدموا له قرابينهم ، ولا يقدموها لأصنامهم .

أما لماذا نذر عبد المطلب ذلك ، ولماذا عزم على تنفيذ نذره جدياً فشاور أولاده فأطاعوه ، وأقرع بينهم فرست القرعة على عبد الله ، وقال لأبيه كما قال إسماعيل . . ثم كيف تحلل من عبد المطلب من نذره بطريقة القرعة بين ذبح ولده أو نحر الإبل . . فهي إشكالات واردة . وجوابها : أنها واردة على شريعتنا لا على شريعة إبراهيم وعبد المطلب . وهي واردة عندنا لعدم معرفتنا بتفاصيل الحادث وبالمستند الشرعي الذي استند عليه عبد المطلب في نذره وطريقة وفائه به .

ولكن معرفتنا بشخصية عبد المطلب وإيمانه العميق ، تكفي للقول بأنه لم يكن يقدم على نذره ثم على التحلل منه بالقرعة إلا بحجة بينة من ربه تعالى .

ويكفينا لإثبات هذه الصفة في شخصيته ، حادثتا زمزم والفيل حيث ظهر للناس على نحو اليقين أنه كان يتلقى أوامره من ربه عز وجل !

فما المانع أن تكون قصة نذر ولده من هذه الإلهامات ، خاصة أن الولد الذي رست عليه القرعة هو والد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي أعطاه الله تعالى ما أعطى جده إسماعيل من شرف الرضا بأن يذبحه أبوه قرباناً لله تعالى ، ثم فداه الله بطريقة ألهمها لأبيه ليعطيه شرف أبوة سيد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله .

هذا ، وقد روى الدكتور شوقي ضيف في تاريخ الأدب العربي ص ٤١ ط دار

٤٤٠