العقائد الإسلاميّة - ج ٣

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية

العقائد الإسلاميّة - ج ٣

المؤلف:

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-120-6
ISBN الدورة:
964-319-117-6

الصفحات: ٤٩٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة
 &

العقائد الإسلاميّة الجزء الثالث ـ مركز المصطفى للدراسات الإسلاميّة

١
 &

العقائد الإسلاميّة الجزء الثالث ـ مركز المصطفى للدراسات الإسلاميّة

٢
 &



مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم السلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين

وبعد ، فهذا هو المجلد الثالث من كتاب العقائد الإسلامية وقد اشتمل على أكثر مسائل الشفاعة ، وعددٍ من البحوث النافعة فيها .

ونظراً لأهمية مسائل الشفاعة ، فقد حاولنا استقصاء الآراء فيها ، وتعرضنا أحياناً لآراء غير المسلمين .

وسوف ترى أن هذه العقيدة الربانية من أكبر النعم الالۤهية السابغة على العباد ، وتلاحظ ما تعرضت له من تحريفات كبيرة بعد الأنبياء عليهم‌السلام خدمةً لأغراضٍ سياسية وثقافية ، بعيدةٍ عن الدين الالۤهي ! !

وقد ساعد على ذلك أنها من عقائد الغيب والآخرة غير المنظورة ،التي يسهل على المحرفين التحريف فيها ، ويصعب كشف عملهم .

نسأله تعالى أن يجعلنا من المشمولين بشفاعة سيد المرسلين ، وآله الطيبين الطاهرين ، وأن يصلي عليهم أجمعين .

مركز المصطفى للدراسات الإسلامية

علي الكوراني العاملي

٣
 &

العقائد الإسلاميّة الجزء الثالث ـ مركز المصطفى للدراسات الإسلاميّة

٤
 &

الباب الثالث في مسائل الشفاعة

٥
 &

العقائد الإسلاميّة الجزء الثالث ـ مركز المصطفى للدراسات الإسلاميّة

٦
 &

الفصل الأول تعريف الشفاعة وتاريخها

موقع الشفاعة من الرحمة الإلۤهية

الرحمة الإلۤهية وسعت كل شيء ، ولا يمكن للبشر أن يحصوا أعدادها . . ولا أنواعها . . لكن نشير إلى ستة أنواع كبرى منها ، ليتضح موقع الشفاعة من بينها .

النوع الأول : التوبة ، التي تمحو السيئات .

النوع الثاني : أن السيئة بواحدة والحسنة بعشرة .

النوع الثالث : أن نية الحسنة تكتب ، ونية السيئة لا تكتب .

النوع الرابع : أن الحسنات يذهبن السيئات .

النوع الخامس : أنواع الرحمة الإلۤهية الخاصة بالآخرة .

النوع السادس : الشفاعة ، وهي نوع من الوساطة الى الله تعالى من وليٍّ مقربٍ عنده ليغفر لمذنب ويسامحه .

٧
 &

شبهة حول أصل الشفاعة

يدور في ذهن البعض سؤال عن أصل الشفاعة مفاده : أن رحمة الله تعالى ومغفرته وسعت وتسع كل شيء ، وهي تتم بشكل مباشر ، فلماذا يجعلها الله تعالى تحتاج إلى واسطة عباده مثل الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام ؟

والجواب : أن الرحمة الإلۤهية المباشرة في الدنيا والآخرة أنواع كثيرة لا تحصى ، ولا يمنع أن يكون منها رحمة غير مباشرة جعلها الله تعالى مرتبطة بالدعاء والشفاعة لمصالح يعلمها سبحانه ، كأن يريد رحمة عدد كبير من عباده بالشفاعة ، ويُظهر كرامة أنبيائه وأوليائه عنده . .

فالشفاعة من ناحية عقلية لا مانع منها ولا إشكال فيها ، نعم ، لا تثبت إلا بدليل ، وفي الحدود والدائرة التي يدل عليها الدليل .

مثال لتقريب فهم عقيدة الشفاعة

يمكن تقريب الشفاعة إلى الذهن بأنها ( قاعدة الإستفادة من الدرجات الإضافية ) كأن يقال للطالب الذي حصل على معدل عال : يمكنك أن تستفيد من النمرات الإضافية على معدل النجاح فتعطيها إلى أصدقائك ، الأقرب فالأقرب من النجاح . .

ولنفرض أن الإنسان يحتاج للنجاة من النار ودخول الجنة إلى ٥١ درجة ( من رجحت حسناته على سيئاته ) فالذي بلغ عمله ٤٠٠ درجة مثلاً يسمح له أن يوزع ٣٤٩ درجة على أعزائه ، ولكن ضمن شروط ، مثل أن يكونوا من أقربائه القريبين ، وأن يكون عند أحدهم ثلاثين درجة فما فوق ، وذلك لتحقيق أفضل استفادة وأوسعها من هذه الدرجات الإضافية .

وقد نصت بعض الأحاديث عن الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام على أن شفاعة المؤمن تكون على قدر عمله ، ففي مناقب آل أبي طالب ج ٢ ص ١٥ عن الإمام الباقر عليه‌السلام

٨
 &

في قوله تعالى : وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً . . الآية ، قال : ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآلهوعلي عليه‌السلام يقوم على كوم قد علا الخلايق فيشفع ثم يقول : يا علي إشفع ، فيشفع الرجل في القبيلة ، ويشفع الرجل لأهل البيت ويشفع الرجل للرجلين على قدر عمله . فذلك المقام المحمود . انتهى . وورد شبيه به في مصادر السنة أيضاً .

وعلى هذا ، فالشفاعة مقننة بقوانين دقيقة حكيمة مثل كل الأعمال الإلۤهية الدقيقة والحكيمة ، وليست كما يتصوره البعض من نوع الوساطات والمحسوبيات والمنسوبيات الدنيوية .

وبما أن درجات الملائكة والأنبياء والأوصياء صلوات الله عليهم ودرجات المؤمنين متفاوتة ، وأعظمهم عملاً وأعلاهم درجةً نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله فليس غريباً أن يكون أعظمهم شفاعة عند الله تعالى .

وبما أن سيئات الناس تتفاوت دركاتها ويصل بعضها إلى تحت الصفر بألوف الدرجات مثلاً . . فإن الذين تشملهم الشفاعة هم الأقرب إلى النجاح والأفضل من مجموع المسيئين ، وقد وردت في شروطهم عدة أحاديث ، منها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ( إن أدناكم مني وأوجبكم عليَّ شفاعةً : أصدقكم حديثاً ، وأعظمكم أمانةً ، وأحسنكم خلقاً ، وأقربكم من الناس ) . مستدرك الوسائل ج ١١ ص ١٧١

ـ قال أبو الصلاح الحلبي في الكافي ص ٤٩٧

إن قيل : فإذا كانت الإثابة والمعاقبة مختصتين به تعالى ، فكيف يصح لكم ما تذهبون إليه من الحوض واللواء والوقوف على الأعراف ، وقسمة النار وإدخال بعض إليها وإخراج بعض منها ، مع كون ذلك ثواباً وعقاباً ؟

قيل : لا شبهة في اختصاص أمور الآخرة أجمع به تعالى ، غير أنه تعالى ردَّها أو ردَّ منها إلى المصطفين من خلقه : رسول الله وأمير المؤمنين والأئمة من آلهما صلوات الله عليهم ، فأوردوها عن أمره وأصدروها . كما يضاف تعذيب أهل النار وتنزيل أهل الجنة حاصلاً بالملائكة المأذون لهم فيه . . . وليس لأحد أن يقول : فأي

٩
 &

ميزة لهم بتولي هذه الأمور على غيرهم في الفضل وهي موقوفة على إذنه تعالى ، لأن الآخرة لما كانت أفضل الدارين بكونها دار الجزاء وغاية المستحقين ، وجعل الله سبحانه إلى هؤلاء المصطفين أفضل منازله وأسنى درجاته من اللواء والحوض والشفاعة وقسمة النار ، دل على تخصصهم من الفضل بما لا مشارك لهم فيه .

محاولات المستشرقين التشكيك في الشفاعة

وقد حاول بعضهم الإشكال على قانون الشفاعة في الإسلام فتصوره أو صوره بأنه من نوع الوساطات الدنيوية المخالفة للعدالة ، التي يفعلها الناس عند الحكام الظلمة لمن يحبونه من المجرمين . . وقد مدح جولد تسيهر في كتابه مذاهب التفسير الإسلامي ص ١٩٢ المعتزلة وزعم أنهم لم يقبلوا الشفاعة لأنها تنافي العدالة ، قال : والمعتزلة . . لا يريدون التسليم بقبول الشفاعة على وجه أساسي حتى لمحمد ذلك بأنه يتعارض مع اقتناعهم بالعدل الإلۤهية المطلق . انتهى .

ولكن لا يمكن لعاقلٍ أن يدعي بأن زيادة الرحمة الإلۤهية والمغفرة للمذنبين بأسبابٍ متعددة ، أمرٌ يتنافى مع العدالة الإلۤهية ! !

ثم إن الذي نفاه المعتزلة هو شمول الشفاعة لأهل الكبائر ، ولم ينفوا الشفاعة لمرتكبي المعاصي الصغائر ، كما سيأتي في محله .

على أن تسيهر اليهودي نفسه يعتقد بالشفاعة التي يزعمها اليهود لكل بني إسرائيل دون سواهم من البشر ، ولا يراها منافية للعدالة الإلۤهية ، فلا معنى لمدحه المعتزلة بأنهم يرفضون الشفاعة لأنهم طلاب مساواة !

تهافت منطق الوهابيين في الشفاعة والإستشفاع

والأعجب من المستشرقين الوهابيون . . حيث يتوسعون في الشفاعة فيجعلونها تشمل اليهود والنصارى وجميع الخلق ، على حد تعبير ابن تيمية ، قال في مجموعة رسائله ج ١ ص ١٠ : أجمع المسلمون على أن النبي ( ص ) يشفع للخلق يوم القيامة

١٠
 &

بعد أن يسأله الناس ذلك وبعد أن يأذن الله في الشفاعة . ثم أهل السنة والجماعة متفقون على ما اتفقت عليه الصحابة . . . أنه يشفع لأهل الكبائر ، ويشفع أيضاً لعموم الخلق . انتهى .

ولكنهم في نفس الوقت يحرّمون الإستشفاع والتوسل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ويعتبرونه شركاً ، مع أن هو الإستشفاع طلب شفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الله تعالى في الآخرة ، أو في أمر من أمور الدنيا !

إن التناسب بين الإعتقاد بسعة الشفاعة في الآخرة يقتضي تجويز الإستشفاع بأهلها في الدنيا !

وبتعبير آخر : إن تحريم الإستشفاع والتوسل في الدنيا ، يناسبه إنكار الشفاعة في الآخرة ، لا القول بسعتها لجميع الخلق !

وقد التفت إلى ضرورة هذا التناسب بعض المتأثرين بالفكر الوهابي في تحريم التوسل والإستشفاع ، فأنكر شفاعة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله بمعناها المعروف ، وفسرها بتفسير شاذٍّ جعل منها أمراً شكلياً بعيداً عن أفعال الله تعالى .

قال فيما قال : إن الشفاعة هي كرامة من الله لبعض عباده فيما يريد أن يظهره من فضلهم في الآخرة فيشفعهم في من يريد المغفرة له ورفع درجته عنده ، لتكون المسألة في الشكل واسطة في النتائج التي يتمثل فيها العفو الإلۤهي الرباني ، تماماً كما لو كان النبي السبب أو الولي هو الواسطة .

إلى أن قال : وفي ضوء ذلك لا معنى للتقرب للأنبياء والأولياء ليحصل الناس على شفاعتهم ، لأنهم لا يملكون من أمرها شيئاً بالمعنى الذاتي المستقل . بل الله هو المالك لذلك كله على جميع المستويات ، فهو الذي يأذن لهم بذلك في مواقع محددة ليس لهم أن يتجاوزوها . الأمر الذي يفرض التقرب إلى الله في أن يجعلنا ممن يأذن لهم بالشفاعة له . انتهى .

ولم يصرح صاحب هذا القول بحرمة طلب الشفاعة من الأنبياء والأولياء عليهم‌السلام ،

١١
 &

ولكن محمد ابن عبد الوهاب صرح بذلك ، واعتبر طلب الشفاعة منهم عليهم‌السلام شركاً ! قال ( فالشفاعة كلها لله فاطلبها منه ، وقل : اللهم لا تحرمني شفاعته اللهم شفعه فيَّ . وأمثال هذا .

فإن قال : النبي ( ص ) أعطي الشفاعة ، وأنا أطلب مما أعطاه الله .

فالجواب : أن الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن هذا ، وقال : فلا تدعوا مع الله أحداً . .  . . الخ . ) .

وقد قسم ابن عبد الوهاب الشفاعة الى شفاعة منفية ، وهي التي ( تطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله ) وشفاعة مثبتة ، وهي ( التي تطلب من الله الشافع المكرم بالشفاعة . . . الخ . ) انتهى .

والجواب الكلي على هذه المقولة أنها دعوى بدون دليل ، نشأت من سوء الفهم لمعنى الشفاعة ، ومعنى طلبها من الشافع ، ومعنى الإستشفاع والتوسل الى الله تعالى بالنبي وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأوليائه المقربين ! فافترضت فيها معانٍ لا توجد فيها ! !

والجواب عنها بشيء من التفصيل ، أنها تتضمن شبهتين ينبغي التفكيك بينهما :

فالشبهة الأولى حول الشفاعة ، ومفادها أن آيات الشفاعة وأحاديثها ، يجب أن تحمل على المجاز ، لأن الشفاعة فيها أمرٌ شكلي لا حقيقي !

ولم يذكر صاحب هذه الشبهة دليلاً على لزوم ترك المعنى الحقيقي وحمل نصوص الشفاعة على المجاز ، بل لم نجد أحداً من الوهابيين ذكر ذلك . . نعم ذكر محمد رشيد رضا إشكال بعضهم على ذلك وأجاب عنه بما قد يفهم منه أن الشفاعة أمرٌ شكلي !

ـ قال في تفسير المنار ج ٨ ص ١٣ :

فإن قيل : أليس الشفعاء يؤثرون في إرادته تعالى ، فيحملونه على العفو عن المشفوع لهم والمغفرة لهم ؟

قلنا : كلا إن المخلوق لا يقدر على التأثير في صفات الخالق الأزلية الكاملة . . . .

١٢
 &

فيكون ذلك إظهار كرامةٍ وجاهٍ لهم عنده ، لا إحداث تأثير الحادث في صفات القديم وسلطانٍ له عليها ، تعالى الله عن ذلك . انتهى .

ومفاد هذه الشبهة أن القول بالشفاعة الحقيقية يستلزم أن تكون إرادة الخالق متأثرة بإرادة المخلوق ، وهو محال ، فلا بد من القول بأن الشفاعة شكلية ! !

وكذلك القول بتعليق بعض أفعاله تعالى على طلب أنبيائه وأوليائه منه ، مثل الرزق ، والشفاء ، والمغفرة ، والنجاة من النار وإدخال الجنة . . لا بد أن يكون شكلياً ، لأن الحقيقي منه محال .

والجواب عنها : أن أصحاب هذه الشبهة أخطأوا في تخيلهم أن تعليق الله تعالى لمغفرته أو عطائه على طلب مخلوقٍ ، معناه تأثير المخلوق في إرادته سبحانه وتعالى ! فإن تعليق الإرادة على شىء ممكنٌ بالوجدان ، ولا محذور فيه ، لأنه بذاته فعلٌ إرادي وتأكيدٌ للإرادة لا سلبها ، أو جعلها متأثرة بفعل آخر ، أو شىء آخر . . لقد تصور هؤلاء أن الشفاعة من الله ، إذا أعطيت لأحدٍ تصير شفاعةً من دون الله تعالى ، فوقعوا في هذه الشبهة !

أما إذا قالوا إن ذلك ممكنٌ ولكن الله تعالى لا يفعله لأنه لا يجوز له ، فلا دليل لهم عليه من عقلٍ ، ولا قول الله تعالى ولا قول رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

وإن كانوا يمنعونه من عند أنفسهم ، فهو تعدٍّ على الله تعالى ، وتحديدٌ لصلاحيات من لا يسأل عما يفعل ، وهم يسألون !

ثم إن اللغة تأبى عليهم ما قالوه ، فآيات الشفاعة وأحاديثها ظاهرة في الشفاعة الحقيقية لا الشكلية ، ولا يمكنهم صرفها عن ظاهرها !

والشبهة الثانية حول الإستشفاع بالنبي وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي الشبهة التي يكررها ابن تيمية والوهابيون ، وهي غير شبهة الشفاعة وإن كانت مرتبطة بها .

ومفادها أن طلب الشفاعة حتى ممن ثبت أن الله تعالى أعطاهم إياها حرامٌ ، لأنه شركٌ بالله ، وادعاءٌ لهؤلاء المخلوقين بأنهم يملكون الشفاعة من دون الله تعالى ! !

١٣
 &

وقد استدل ابن عبد الوهاب على ذلك بآيات النهي عن اتخاذ شريك مع الله كقوله تعالى ( فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ) .

والجواب عنها : أنه ثبت من القرآن والسنة أن كثيراً من الأفعال الإلۤهية تتم بواسطة الملائكة ، وليس في ذلك أي شركٍ لهم مع الله تعالى ، لا في ملكه ، ولا في أمره ، بل هم عبادٌ مكرمون مطيعون . ولا مانع من العقل أو النقل أن يجعل الله تعالى أنواعاً من أفعاله وعطائه بواسطة الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام أو يجعلها معلقةً على طلبهم منه !

ولا يصح التفريق بين الأمرين والقول بأن ذلك إن كان بواسطة الملائكة فهو إيمان لأنهم لا يصيرون شركاء ، أما إن كان بواسطة غيرهم فيصيرون شركاء لله تعالى ! أو القول بأن تعليق العطاء الإلۤهي على طلب الأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام شراكةٌ لله تعالى وشركٌ به ، لكن شراكة الملائكة لله تعالى والشرك بهم لا بأس به ! !

نقول لأصحاب هذه الشبهة : إقرؤوا قول الله تعالى : وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا . الفتح ـ ٤

وقوله تعالى : وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا . الفتح ـ ٧

وقوله تعالى : وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ . المدثر ـ ٣١

ثم نقول لهم : نحن وأنتم لا يحق لنا أن نقسم رحمة الله تعالى أو نحصرها ، أو نحصر طرقها ، أو نضع له لائحة فتاوى لما يجوز له أن يفعله وما لا يجوز !

ومعرفتنا ومعرفتكم بما يمكن له تعالى أن يفعله وما لا يمكن ، إنما جاءت مما دلنا عليه العقل دلالةً قطعية ، أو دلنا عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

والعقل لا يرى مانعاً في أن يربط الله تعالى أفعاله بطلب ملائكته أو أوليائه ، فيجعلهم أدوات رحمته ، ووسائط فيضه ، ووسائل عطائه . . وذلك لا يعني تشريكهم في ألوهيته ، بل هم عباده المكرمون المطيعون ، ووسائله وأدواته التي يرحم بها عباده .

هذا من ناحية نظرية . . وأما من ناحية الوقوع والثبوت ، فقد دل الدليل على أن أنظمة الفعل الإلۤهي وقوانينه واسعةٌ ومعقدةٌ ، ودل على أنه تعالى جعل كثيراً من

١٤
 &

عطائه ـ إن لم يكن كله ـ عن طريق خِيَرِةِ عباده من الملائكة والأنبياء والأوصياء عليهم‌السلام ودل الدليل على جواز الإستشفاع والتوسل بنبينا وآله صلى‌الله‌عليه‌وآله والطلب من الله تعالى بحقهم وحرمتهم وواسطتهم ، سواءً في ذلك أمور الدنيا والآخرة . .

ودل الدليل على أن موتهم عليهم‌السلام ليس كموت غيرهم ، وأن حرمتهم أمواتاً كحرمتهم أحياء صلوات الله عليهم .

وقد قال تعالى في آخر سورة أنزلها من كتابه : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ . المائدة ـ ٣٥ ولا فرق في أصحاب الوسيلة إلى الله تعالى بين الملائكة وغيرهم ، بل التوسل بنبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله أفضل وأرجى من التوسل بالملائكة ، لأنه أفضل مقاماً عند الله منهم .

وسيأتي ذلك في بحث التوسل والإستشفاع ، إن شاء الله تعالى . ويأتي أنه يجوز لنا أن نطلب العطاء الإلۤهي المعلق على شفاعة الأنبياء والأولياء ، أو غير المعلق ، منهم أنفسهم عليهم‌السلام ولا يعتبر ذلك شركاً ، بل هو طلبٌ من الله تعالى .

وأن حكم التوسل بالأنبياء والأولياء والإستشفاع بهم إلى الله تعالى ، لا يختلف بين الأموات منهم والأحياء عليهم‌السلام . . الى آخر المسائل التي خالف فيها الوهابيون عامة المسلمين .

ـ وقد أجاب السيد جعفر مرتضى في كتابه خلفيات مأساة الزهراء ٣ ص ٢١٩ على الشبهتين المذكورتين ، ومما قاله :

١ ـ إن الكل يعلم : أن لا أحد يدعو محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله أو علياً عليه‌السلام أو أي نبي أو ولي كوجودات منفصلة عن الله تعالى ومستقلة عنه بالتأثير ، ولم تحدث في كل هذا التاريخ الطويل أن تكونت ذهنية شرك عند الشيعة نتيجة لذلك فضلاً عن غيرهم .

٢ ـ إننا نوضح معنى الشفاعة في ضمن النقاط التالية :

أ ـ إن الإنسان المذنب قد لا يجد في نفسه الأهلية أو الشجاعة لمخاطبة ذلك الذي أحسن إليه وأجرم هو في حقه ، أو هكذا ينبغي أن يكون شعوره في مواقع

١٥
 &

كهذه ، فيوسط له من يحل مشكلته معه ممن لا يرد هذا المحسن طلبهم ولا يخيب مسألتهم . .

ب ـ إن الله إنما يريد المغفرة للعبد المذنب بعد شفاعة الشفيع له . . ولم تكن تلك الإرادة لتتعلق بالمغفرة لولا تحقق الشفاعة . . فلو أن الشفيع لم يبادر إلى الشفاعة لكان العذاب قد نال ذلك العبد المذنب .

وهذا كما لو صدر من أحد أولادك ذنب فتبادر إلى عقوبته ، فإذا وقف في وجهك من يعز عليك وتشفع به فإنك تعفو عنه إكراماً له ، وإن لم يفعل ذلك كما لو لم يكن حاضراً مثلاً فإنك ستمضي عقوبتك في ذلك الولد المذنب لا محالة . . فالشفاعة على هذا سبب في العفو أو جزء سببه له .

إذن فليس صحيحاً ما يقوله البعض من أن الله تعالى له قد تعلقت إرادته بالمغفرة للعبد قبل الشفاعة بحيث تكون المغفرة له حاصلة على كل حال ، ثم يكرم الله نبيه ويقول له : هذا العبد أريد أن أغفر له فتعال وتشفع إلي فيه . .

ج ـ إذا كان الشخص المذنب قد أقام علاقة طيبة مع ذلك الشافع وتودد إليه ورأى منه سلوكاً حسناً واستقامة وانقياداً ، فإن الشافع يرى أن من اللائق المبادرة إلى مساعدته في حل مشكلته أما إذا كان قد أغضبه وأساء إليه أو تعامل معه بصورة لا توحي بالثقة ولا تشير إلى الإستقامة ، فإنه لا يبادر إلى مساعدته ولا يلتفت إليه . . فسلوك المشفوع له أثر كبير في مبادرة الشافع إلى الشفاعة .

د ـ وحين يكون الشفيع لا يريد شيئاً لنفسه من ذلك الشخص ولا من غيره ويكون ما يرضيه هو ما يرضي الله سبحانه فإن تقديم الصدقات والقربات للفقراء والإهتمام بما يرضى الشافع ، هو في الواقع إثباتات عملية على أن ذلك المذنب راغبٌ في تصحيح خطئه وتدارك ما فاته ، وهو براهين وإثباتات على أنه قد التزم جادة الإستقامة وندم على ما فرط منه ، فإذا قدم مالاً للفقراء أو أطعم أو ذبح شاة وفرقها على المحتاجين ، فإن ذلك لا يكون رشوةً للنبي أو الولي . . وهو يعلم أن النبي

١٦
 &

والولي لا يأخذ ذلك لنفسه بل يعود نفعه إلى الفقراء والمحتاجين أو يستثمر في سبيل الله وفي نشر الدين والباذل إنما يبذل ذلك رغبة في الحصول على رضا الشافع الذي رضاه رضا الله .

هـ ـ أما إذا أدار ذلك المذنب ظهره للنبي والوصي ولم يلمس الشافع منه أنه يتحرق لتحصيل العفو والرضا عنه ، ويقرع كل باب ويتوسل بكل ما من شأنه أن يحل هذا الاشكال ، ويبادر إلى العمل بكل ما يعلم أنه يرضي سيده عنه ، فإنه لا يشفع له ولا كرامة . .

و ـ ومن الواضح : أن من يكون جرمه هائلاً وعظيماً فإن إمكانية وفرص الإقدام على الشفاعة له تتضاءل وتضعف . . فلا يضع النبي والوصي نفسه في مواضع كهذه ولا يرضى الله سبحانه له ذلك . كما أن من يدير ظهره لأولياء الله ولا يهتم لرضاهم ولا يزعجه سخطهم فإنه لا يستحق شفاعتهم قطعاً ، لأن الإهتمام بهم وبرضاهم جزء من عبادته تعالى ومن المقربات إليه وموجبات رضاه . . فالتوسل إليهم والفوز بمحبتهم وبرضاهم سبيل نجاةٍ وطريق هدى وسلامةٍ وسعادة .

ز ـ إن من الواضح أن المجرم لا يمكن أن يتشفع في مجرم مثله ، وأن المقصر لا يتشفع بنظيره ، لأن الشفاعة مقامٌ عظيمٌ وكرامةٌ إلۤهية فلا يقبل الله سبحانه شفاعة كل أحد ، بل الذين يشفعون هم أناسٌ مخصصون بكرامة الله سبحانه لأنهم يستحقونها . .

ح ـ قد ظهر مما تقدم : أن إرادة الله لم تكن قد تعلقت بالمغفرة للمذنب قبل الشفاعة لتكون شفاعة النبي أو الوصي بعدها ـ بالشكل ـ ومن دون أن يكون لها تسبيب حقيقي . . بل هناك تسبيب حقيقي للشفاعة ، فإنها هي سبب المغفرة وهي سبب إرادة الله بأن يغفر لذلك المذنب ولو لم يقم الشافع بها لم يغفر الله لذلك المذنب .

ولولا ذلك فإنه لا يبقى معنى للشفاعة . . ولا يكون العفو إكراماً للشافع واستجابة له . انتهى .

١٧
 &

تعريف الشفاعة في اللغة

ـ قال الخليل في كتاب العين ج ١ ص ٢٦٠

الشافع : الطالب لغيره ، وتقول استشفعت بفلان فتشفع لي إليه فشفعه فيَّ . والإسم : الشفاعة . واسم الطالب : الشفيع . قال :

زعمت معاشر أنني مستشفع

لما خرجت أزوره أقلامها

أي : زعموا أني أستشفع ( بأقلامهم ) أي بكتبهم إلى الممدوح ، لا بل إني أستغني عن كتب المعاشر بنفسي عند الملك . والشفعة في الدار ونحوها معروفة يقضى لصاحبها . والشافع : المعين ، يقال فلان يشفع لي بالعداوة ، أي يعين علي ويضادني قال النابغة : أتاك امرؤ مستعلن شنآنه له من عدوٍّ مثل ذلك شافع أي : معين . وقال الأحوص : بأنَّ من لامَنِي لأصْرمها كانوا علينا بلومهم شفعوا أي : أعانوا .

ـ وقال الراغب في المفردات ص ٢٦٣

الشفع : ضم الشيء إلى مثله ويقال للمشفوع شفع . والشفع والوتر : قيل الشفع المخلوقات من حيث إنها مركبات كما قال : ومن كل شيء خلقنا زوجين . والوتر هو الله من حيث إن له الوحدة من كل وجه .

وقيل : الشفع يوم النحر من حيث إن له نظيراً يليه ، والوتر يوم عرفة . وقيل الشفع ولد آدم والوتر آدم لأنه لا عن والد .

والشفاعة : الإنضمام إلى آخر ناصراً له وسائلاً عنه ، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى حرمة ومرتبة إلى من هو أدنى . ومنه الشفاعة في القيامة قال ( لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا . لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن . لا تغني شفاعتهم شيئاً . ولا يشفعون إلا لمن ارتضى . فما تنفعهم شفاعة الشافعين ، أي لا يشفع لهم . ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة . من حميم ولا شفيع . من يشفع شفاعة حسنة . ومن يشفع شفاعة سيئة ، أي من انضم إلى غيره وعاونه وصار شفعاً له أو شفعياً في فعل الخير والشر فعاونه وقواه وشاركه في نفعه وضره .

١٨
 &

وقيل الشفاعة هاهنا أن يشرع الإنسان للآخر طريق خير أو طريق شر فيقتدي به ، فصار كأنه شفع له وذلك كما قال عليه‌السلام : من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها ، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها ، أي إثمها وإثم من عمل بها وقوله : ما من شفيع إلا من بعد إذنه ، أي يدبر الاَمر وحده لا ثاني له في فصل الأمر إلا أن يأذن للمدبرات والمقسمات من الملائكة فيفعلون ما يفعلونه بعد إذنه . واستشفعت بفلان على فلان فتشفع لي ، وشفعه أجاب شفاعته ، ومنه قوله عليه‌السلام : القرآن شافع مشفع .

والشفعة : هو طلب مبيع في شركته بما بيع به ليضمه إلى ملكه ، وهو من الشفع وقال عليه‌السلام : إذا وقعت الحدود فلا شفعة .

ـ وقال في المفردات ص ٤٣٦

وأما قوله : من يشفع شفاعة حسنة إلى قوله : يكن له كِفْلٌ منها ، فإن الكفل ههنا ليس بمعنى الأول بل هو مستعار من الكفل وهو الشيء الردي .

ـ وقال الزبيدي في تاج العروس ج ٥ ص ٢٦٠

وشفعته فيه تشفيعاً حين شفع كمنع شفاعة ، أي قبلت شفاعته ، كما في العباب قال حاتم يخاطب النعمان :

فَكَكْتَ عديّاً كلها من إسارها

فأفضلْ وشفعني بقيسِ بن جُحْدرِ

وفي حديث الحدود : إذا بلغ الحد السلطان فلعن الله الشافع والمشفع .

وفي حديث أبي مسعود رضي‌الله‌عنه : القرآن شافع مشفع وماحل مصدق ، أي من اتبعه وعمل بما فيه فهو شافع له مقبول الشفاعة من العفو عن فرطاته ، ومن ترك العمل به ندم على إساءته وصدق عليه فيما يرفع من مساويه ، فالمشفع الذي يقبل الشفاعة .

والمشفع الذي تقبل شفاعته ، ومنه حديث الشفاعة : إشفع تشفع ، واستشفعه إلينا ، وعبارة الصحاح واستشفعه إلى فلان أي سأله أن يشفع له إليه ، وأنشد الصاغاني للأعشى :

تقول بنتي وقد قربت مرتحلاً

يا رب جنِّب أبي الأوصاب والوجعا

١٩
 &

واستشفعت من سراة الحي ذا شرفٍ

فقد عصاها أبوها والذي شفعا

يريد والذي أعان وطلب الشفاعة فيها . وأنشد أبو ليلى :

زعمت معاشر أنني مستشفعٌ

لما خرجت أزوره أقلامها

قال زعموا أني أستشفع بأقلامهم في الممدوح أي بكتبهم .

ومما يستدرك عليه الشفيع من الأعداد ما كان زوجاً ، والشفع ما شفع به سمى بالمصدر ، وجمعه شفاع ، قال كثير :

وأخو الإباءة إذ رأى خلانه

تلي شفاعاً حوله كالإذخر

شبههم بالإذخر لأنه لا يكاد ينبت إلا زوجاً زوجاً . وشاة شفوع كشافع ويقال هذه شاة الشافع كقولهم صلاة الأولى ومسجد الجامع .

وهكذا روى في الحديث الذي تقدم عن سعر بن ديسم رضي‌الله‌عنه ، وشاة مشفع كمكرم ترضع كل بهيمة ، عن ابن الأعرابي . وتشفع إليه في فلان : طلب الشفاعة ، نقله الجوهري . وتشفعه أيضاً مطاوع استشفع به كما في المفردات . وتشفع صار شافعي المذهب وهذه مولدة .

والشفاعة ذكرها المصنف ولم يفسرها وهي كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره . وشفع اليه في معنى طلب إليه . وقال الراغب : الشفع ضم الشيء الى مثله ، والشفاعة الإنضمام إلى آخر ناصراً له وسائلاً عنه وأكثر ما تستعمل في انضمام من هو أعلى مرتبة إلى من هو أدنى ومنه الشفاعة في القيامة . وقال غيره : الشفاعة التجاوز عن الذنوب والجرائم . وقال ابن القطاع : الشفاعة المطالبة بوسيلة أو ذمام .

تعريف الشفاعة عند المتكلمين

ـ قال الشريف المرتضى في رسائله ج ١ ص ١٥٠

وحقيقة الشفاعة وفائدتها : طلب إسقاط العقاب عن مستحقه ، وإنما تستعمل في طلب إيصال المنافع مجازاً وتوسعاً ، ولا خلاف في أن طلب إسقاط الضرر والعقاب يكون شفاعة على الحقيقة .

٢٠